ستايسي أبرامز... «نجمة سوداء» صاعدة في الحياة السياسية الأميركية

خطابها التحفيزي للسود والملوّنين شبهه البعض بخطاب ترمب الموجّه للبيض

ستايسي أبرامز... «نجمة سوداء» صاعدة في الحياة السياسية الأميركية
TT

ستايسي أبرامز... «نجمة سوداء» صاعدة في الحياة السياسية الأميركية

ستايسي أبرامز... «نجمة سوداء» صاعدة في الحياة السياسية الأميركية

يجمع العديد من الكتّاب والسياسيين والخبراء على أن فوز الرئيس الأميركي المنتخب جو بايدن بولاية جورجيا، ونجاح الديمقراطيين بتحويل هذه الولاية الجنوبية المحافظة للمرة الأولى منذ أكثر من ثلاثة عقود إلى ولاية «زرقاء»، يعود إلى الدور الذي لعبته ستايسي أبرامز... «النجمة السوداء» الصاعدة في الحياة السياسية الأميركية.
أبرامز ليست سياسية تقليدية، لكنها أيضاً ليست من التيار اليساري المتشدّد، على الرغم من إعلان السيناتور التقدمي بيرني ساندرز دعمه لها «في صفوف ثورتنا»، عندما ترشحت لمنصب حاكم ولاية جورجيا عام 2018 خلال الانتخابات التمهيدية للحزب الديمقراطي، ضد منافستها ستايسي إيفانز. وهي عندما فازت بترشيح الحزب الديمقراطي، كانت أول امرأة سوداء في الولايات المتحدة تحظى بترشيح حزب رئيس لمنصب حاكم ولاية. ثم في فبراير (شباط) 2019 أصبحت أول امرأة سوداء تلقي خطاب الرد على خطاب الرئيس السنوي عن «حالة الاتحاد». وبينما يتوقع على نطاق واسع أن تترشح أبرامز مرة أخرى لمنصب الحاكم عام 2022، فهي اليوم واحدة من أكثر السياسيين الأميركيين نفوذاً مع أنها لا تشغل أي منصب سياسي رسمي حالياً.
تكاد تجمع أراء المراقبين للمشهد السياسي الأميركي على أنه للسياسية والناشطة السوداء ستايسي أبرامز يجب أن ينسب الفضل في إعادة بناء القاعدة السياسية والشعبية للحزب الديمقراطي، ليس فقط على مستوى ولاية جورجيا، بل أيضاً على مستوى الولايات المتحدة. فأبرامز، المحامية التي نشأت وتربّت في بيت متدين، لعبت دوراً قيادياً في حث الناخبين السود واللاتينيين والآسيويين على الإقبال والمشاركة في الحملات الانتخابية والتصويت. وهذا ما انعكس في مطلع نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي فوزاً غير مسبوق للمرشح الرئاسي جو بايدن بأكبر تصويت شعبي فاق 81 مليون صوت، وبأعلى نسبة تصويت بين السود فاقت ما حظي به الرئيس السابق باراك أوباما. ثم، في 5 يناير (كانون الثاني) الحالي، في قلب المعادلة بجورجيا، حيث انتزع المرشحان الديمقراطيان القس رافاييل وارنوك وجون أوسوف مقعدي الولاية في مجلسي الشيوخ، إثر تغلبهما على شاغلي المقعدين الجمهوريين السيناتورة كيلي لفلر والسيناتور ديفيد برديو.
- قضايا الناس العاديين وحقوقهم السياسية
صحيح قد يجادل البعض بأن الفضل لا يعود فقط إلى جهود أبرامز وحدها، بل لجهود كثرة من النساء السود الأخريات اللواتي بذلن جهوداً تنظيمية استمرت عقوداً لتغيير ناخبي الولاية. لكن الصحيح أيضاً، أن أبرامز كانت الوجه الأكثر حضوراً في الحملة التي حضت الناخبين على المشاركة في التصويت.
وكما فعل القس جيسي جاكسون قبل بضعة عقود، خاضت أبرامز بشجاعة معارك كبيرة لإعادة حقوق التسجيل للناخبين الذين حُرموا من حق التصويت، سواءً داخل ولايتها أو على المستوى الوطني، في مواجهة جهود الجمهوريين الذين خاضوا ونجحوا لسنوات عدة في تقليص عدد الناخبين من غير البيض. وحقاً، كان وجهها الأكثر حضوراً في الإعلانات التلفزيونية الأخيرة، للتنبيه من ضرورة معالجة أي أخطاء في التسجيل قد تؤدي إلى حرمان الناخبين من حق الإدلاء بأصواتهم، مناشدة: «لا تنتظر»... «تصويتك له القدرة على تحديد مستقبل جورجيا وبلدنا. حان الوقت للتأكد من أن صوتك مسموع».
أبرامز، زعيمة الأقلية السابقة في مجلس نواب ولاية جورجيا، خاضت منذ البداية معاركها السياسية واضعة نصب أعينها تعزيز الليبرالية الاجتماعية، التي هي نقيض «النيو - ليبرالية القومية» التي تتبنى مقولات تفوّق العرق الأبيض والعداء للمهاجرين والتمييز ضد السود والملونين والأقليات. وهي معارك كان بالإمكان العثور عليها بسهولة إبان عهد الرئيس المنتهية ولايته دونالد ترمب، الذي كان لا يتردد في وصف من ينادي بالليبرالية الاجتماعية السائدة في عدد من البلدان الأوروبية... بأنه «شيوعي».
لقد دأبت أبرامز على تبنّي المطالبات المعيشية للمواطن العادي بضرورة توسيع قاعدة الاستفادة من خدمات الدولة وتعزيز الضمانات الاجتماعية وزيادة الضرائب على ذوي الدخل المرتفع، وإشراك المزيد من الشرائح والطبقات الاجتماعية في الحياة السياسية. وهو ما وضعها في مواجهة دعاة النيو - ليبرالية القومية اليمينية المؤمنة بانتهاج الولايات المتحدة نظام اقتصاد حر متفلت من أي ضوابط، وخفض الضرائب على الأغنياء والشركات، وفرض قيود غايتها عملياً تقليص حجم المشاركة السياسية للأقليات، في ظل إشكالية حقيقية جراء آليات معقدة موروثة من نظام فصل عنصري قديم في ولايات الجنوب الأميركي. وليلة الثلاثاء 5 يناير الحالي، وبعد بدء ظهور نتائج انتخابات الإعادة على مقعدي مجلس الشيوخ في ولاية جورجيا، التي نقلت المقعدين من الجمهوريين إلى الديمقراطيين - ومعهما السيطرة على المجلس - أشادت أبرامز بالآلاف من المنظمين والمتطوعين والمجموعات. منوهة بأنهم «ساعدوا في إعادة بناء الحزب الديمقراطي في الولاية من تحت الركام»، يوم كانت لا تزال زعيمة الأقلية في برلمان الولاية عام 2011.
هذا، ورغم خسارة أبرامز انتخابات حاكم جورجيا عام 2018، أمام منافسها الجمهوري بريان كيمب بنحو 55 ألف صوت، فإنها تمكنت من بناء شبكة جيدة التمويل من المنظمات التي سلطت الضوء على قضية «قمع الناخبين». وينسب لها الفضل في إلهام ما يقدر بنحو 800 ألف ناخب على التسجيل مجدداً، مع العلم، أن كيمب، الذي كان يومذاك أمين الولاية، كان في موقع مسؤول عن الانتخابات وتسجيل الناخبين. وبالفعل، ألغى مكتبه بين عامي 2012 و2018 تسجيل أكثر من 1.4 مليون ناخب، مع ما يقرب من 700 ألف إلغاء عام 2017 وحده. بل في ليلة واحدة فقط في يوليو (تموز) 2017، ألغي تسجيل نصف مليون ناخب معظمهم من ناخبي الحزب الديمقراطي والسود. حتى أن صحيفة «أتلانتا جورنال كونستيتيوشن» المرموقة نقلت عن خبراء الانتخابات، إن هذا «قد يمثل أكبر حرمان جماعي من حق التصويت في تاريخ الولايات المتحدة».
أيضاً، أشرف كيمب على عمليات شطب الناخبين بعد ثمانية أشهر من إعلان ترشحه لمنصب الحاكم. وبحلول أوائل أكتوبر (تشرين الأول) 2018، جمّد أكثر من 53 ألف طلب تسجيل ناخبين من قبل مكتبه، بينهم أكثر من 75 في المائة من الأقليات، بحجة أن الناخبين المؤهلين للتصويت يجب أن يثبتوا أنهم ما زالوا يعيشون في الولاية. وحسب تحقيقات استقصائية، فإنه من بين 534 ألف ناخب جورجي، ألغي تسجيلهم بين عامي 2016 و2017، كان لا يزال أكثر من 334 ألفاً يعيشون في الأماكن المسجلين فيها.
- إيمان بالنمو الديمغرافي والتنوّع
جين جوردان، عضو مجلس الشيوخ الحلي في جورجيا، وهي ديمقراطية، قالت إن أبرامز علّمتها خسارتها، بل ونبّهتها إلى، أهمية إدراك دور العامل الديمغرافي، وبالذات، الاعتراف بالنمو السكاني في جورجيا وتنوعه الديمغرافي المتزايد كفرصة مواتية للديمقراطيين. ومن خلال ذلك لفتت الأنظار إلى أهمية جورجيا، واجتذبت الأموال والتبرّعات، ومن بينها تبرعات كبيرة حصلت عليها من نقابات عمالية فيدرالية، ومن عمدة نيويورك السابق مايكل بلومبرغ، الذي تبرع لها بمبلغ 5 ملايين دولار، بعد وقت قصير من إعلان ترشحه لانتخابات الرئاسة في 2020.
ومن ثم، استخدمت أبرامز تلك التبرعات لتعزيز فرص الساسة الديمقراطيين والليبراليين في الولاية. ورغم رفضها تأييد بلومبرغ عندما ترشّح للرئاسة، فإنها دافعت أبرامز عن التبرعات التي حصلت عليها منه، قائلة «يحق لأي شخص الترشّح، ويجب أن يترشح في السباق الذي يعتقد أن بإمكانه الفوز فيه. وبلومبرغ اختار استخدام موارده المالية، كما يستخدم آخرون كلابهم وجاذبيتهم».
أكثر من هذا، يقول جيسون كارتر، حفيد الرئيس السابق جيمي كارتر، الذي خسر أيضاً انتخابات حاكم جورجيا عام 2014 بفارق ثماني نقاط مئوية، إن الديمقراطيين «بلغوا سقفاً حزبياً» في الولاية... لكن «منذ عام 2014، أدت جهود ستايسي وغيرها إلى رفع هذا السقف الحزبي» من خلال توسيع نطاق جاذبية الناخبين الأصغر سنا والأشخاص الملونين وسكان الضواحي. وهذا صحيح، فبعد خسارة أبرامز انتخابات عام 2018 انتقلت إلى بناء شبكة من المنظمات التي أصبحت قوة كبيرة جيدة التمويل من أجل الحق بالتصويت والتقدم الاقتصادي. ورغم انتقادها من بعض اليمينيين باعتبارها شخصية مثيرة للانقسام، وتشبيه آخرين خطابها الذي لعب على وتر تحفيز السود وحثّهم بخطاب ترمب للبيض، فإن ثمة إجماعاً يشير إلى أن دورها السياسي المتنامي لدى الناخبين، لعب دوراً أساسياً في دفعهم إلى صناديق الاقتراع وخصوصا الناخبين السود. ومع ذلك، فإن مواقف أبرامز تتعارض في بعض الأحيان مع مواقف أعضاء من حزبها، منهم الذين انتقدوا طموحها الحاد ورغبتها الصريحة في أن تكون هي نائبة لبايدن، الذي اختار في النهاية كامالا هاريس.
- بطاقة هوية
ولدت ستايسي إيفون أبرامز يوم 9 ديسمبر (كانون الأول) 1973 في مدينة ماديسون عاصمة ولاية ويسكونسن، ونشأت في مدينة غلفبورت بولاية مسيسيبي. وهي الطفلة الثانية بين ستة أشقاء، من والديها القسيسين روبرت وكارولين أبرامز. ولقد انتقلت العائلة إلى مدينة أتلانتا، عاصمة ولاية جورجيا – وفيها المقر الرئيس لمحطة «سي إن إن» - حيث حصل والداها على شهادات عليا في جامعة إيموري العريقة، وأصبحا فيما بعد قياديين لاهوتيين في المجمع الديني للمنيسة البروتستانتية النظامية (الميثوديست). أنهت تعليمها الثانوي في مدرسة أفونديل الثانوية؛ ونظراً لتفوقها عُينت كاتبة لخطابات حملات الكونغرس.
في عام 1995 حصلت أبرامز على بكالوريوس الآداب في الدراسات المتعددة الاختصاصات كالعلوم السياسية والاقتصاد وعلم الاجتماع من كلية سبيلمان بدرجة امتياز. وعملت إبّان دراستها في الكلية في قسم خدمات الشباب بمكتب عمدة أتلانتا ماينارد جاكسون، ثم تدربت لاحقاً في وكالة حماية البيئة الأميركية. ويذكر أنه عندما كانت طالبة جديدة عام 1992، شاركت أبرامز في احتجاج أمام مبنى الكابيتول في جورجيا، حيث شاركت في إحراق علم الولاية الذي كان يضم في ذلك الوقت شعار الكونفدرالية الذي أضيف عام 1956، باعتباره مناهضاً للحقوق المدنية.
بعد ذلك درست أبرامز السياسة العامة في جامعة تكساس في العاصمة أوستن، حيث حصلت على درجة الماجستير في الشؤون العامة عام 1998. ثم في عام 1999، حصلت على الإجازة القانون من كلية الحقوق بجامعة ييل العريقة، وهي تعد معهد الحقوق الأبرز في أميركا.
- سياساتها وأولوياتها
المحطة التالية، للسياسية والمحامية والمؤلفة والناشطة في مجال حقوق التصويت، كانت شغلها مقعداً في مجلس نواب ولاية جورجيا من 2007 إلى 2017، ومن ثم تأسيسها منظمة «فير فايت أكشن» للتصدي لقمع الناخبين في عام 2018. وبعد اختيار أبرامز زعيمة للأقلية الديمقراطية في مجلس نواب ولاية جورجيا، كان أول عمل تقوم به هو التعاون مع إدارة الحاكم الجمهوري ناثان ديل لإصلاح برنامج المنح الدراسية «هوب» أو الأمل.
ووفقاً لمجلة «تايم»، يحق لأبرامز أن تفاخر بأنها أوقفت بمفردها أكبر زيادة ضريبية في تاريخ جورجيا؛ إذ جادلت عام 2011 بأن اقتراحاً جمهورياً لخفض ضرائب الدخل مع زيادة الضريبة على خدمة الكايبل، من شأنه أن يؤدي إلى زيادة صافية في الضرائب التي يدفعها معظم الناس. كذلك، أجرت تحليلاً لمشروع القانون الذي أظهر أن 82 في المائة من الجورجيين سيرون زيادات ضريبية صافية، وتركت نسخة من التحليل على مكاتب النواب؛ الأمر الذي أدى إلى فشل تمرير مشروع القانون. تؤيد أبرامز حق الاختيار (بالنسبة للإجهاض)، وتدافع عن توسيع نطاق الرقابة على السلاح، وتعارض مقترحات قوانين أكثر صرامة بشأن تحديد هوية الناخب، قائلة إنها تحرم الأقليات والفقراء من حقوقهم. وهي دعت إلى توسيع قانون الرعاية الصحية «ميديكيد» الذي ترى أنه مكّن من تحسين الرعاية الصحية للمقيمين ذوي الدخل المنخفض، وجعل المستشفيات في المناطق الريفية قابلة للاستمرار مالياً.
كذلك دعت إلى زيادة الإنفاق على التعليم العام، وعارضت قسائم المساعدات للمدارس الخاصة، داعية بدلاً من ذلك إلى إدخال تحسينات على نظام التعليم العام وإلى تصغير الفصول الدراسية وزيادة المستشارين في المدارس ومعاشات التقاعد المحمية، وزيادة أجور المعلمين وتوسيع نطاق تعليم الطفولة المبكرة. وعلى الصعيد القانوني، تدعم أبرامز إصلاح العدالة الجنائية من خلال إلغاء اشتراط الإفراج بكفالة نقدية عن المتهمين الفقراء، وإلغاء عقوبة الإعدام، ودعم الشرطة المجتمعية للحفاظ على أمن المجتمعات كجزء من إصلاح العدالة الجنائية.
وفي السياسات الدولية، تعد أبرامز من المؤيدين لإسرائيل وهي ترفض «شيطنتها ونزع الشرعية عنها» المتمثلة في حملة المقاطعة وسحب الاستثمارات، وترى أن العقوبات عليها وجه من «العداء للسامية». لكنها صوتت ضد مناهضة جورجيا قانون المقاطعة الذي يعاقب الشركات التي تختار مقاطعة إسرائيل أو الأراضي التي تحتلها إسرائيل.



لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
TT

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)

يواجه لبنان جملة من التحديات السياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية، خصوصاً في مرحلة التحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة وترخي بثقلها على واقعه الصعب والمعقّد. ولا شك أن أهم هذه التحوّلات سقوط نظام بشّار الأسد في سوريا، وتراجع النفوذ الإيراني الذي كان له الأثر المباشر في الأزمات التي عاشها لبنان خلال السنوات الأخيرة، وهذا فضلاً عن تداعيات الحرب الإسرائيلية وآثارها التدميرية الناشئة عن «جبهة إسناد» لم تخفف من مأساة غزّة والشعب الفلسطيني من جهة، ولم تجنّب لبنان ويلات الخراب من جهة ثانية.

إذا كانت الحرب الإسرائيلية على لبنان قد انتهت إلى اتفاق لوقف إطلاق النار برعاية دولية، وإشراف أميركي ـ فرنسي على تطبيق القرار 1701، فإن مشهد ما بعد رحيل الأسد وحلول سلطة بديلة لم يتكوّن بعد.

وربما سيحتاج الأمر إلى بضعة أشهر لتلمُّس التحدّيات الكبرى، التي تبدأ بالتحدّيات السياسية والتي من المفترض أن تشكّل أولوية لدى أي سلطة جديدة في لبنان. وهنا يرى النائب السابق فارس سُعَيد، رئيس «لقاء سيّدة الجبل»، أنه «مع انهيار الوضعية الإيرانية في لبنان وتراجع وظيفة (حزب الله) الإقليمية والسقوط المدوّي لحكم البعث في دمشق، وهذا إضافة إلى الشغور في رئاسة الجمهورية، يبقى التحدّي الأول في لبنان هو ملء ثغرات الدولة من أجل استقامة المؤسسات الدستورية».

وأردف سُعَيد، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، إلى أنه «بعكس الحال في سوريا، يوجد في لبنان نصّ مرجعي اسمه الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني، وهذا الدستور يجب أن يحترم بما يؤمّن بناء الدولة والانتقال من مرحلة إلى أخرى».

الدستور أولاً

الواقع أنه لا يمكن لمعطيات علاقة متداخلة بين لبنان وسوريا طالت لأكثر من 5 عقود، و«وصاية دمشق» على بيروت ما بين عامَي 1976 و2005 - وصفها بعض معارضي سوريا بـ«الاحتلال» - أن تتبدّل بين ليلة وضحايا على غرار التبدّل المفاجئ والصادم في دمشق. ثم إن حلفاء نظام دمشق الراحل في لبنان ما زالوا يملكون أوراق قوّة، بينها تعطيل الانتخابات الرئاسية منذ 26 شهراً وتقويض كل محاولات بناء الدولة وفتح ورشة الإصلاح.

غير أن المتغيّرات في سوريا، وفي المنطقة، لا بدّ أن تؤسس لواقع لبناني جديد. ووفق النائب السابق سُعَيد: «إذا كان شعارنا في عام 2005 لبنان أولاً، يجب أن يكون العنوان في عام 2024 هو الدستور أولاً»، لافتاً إلى أن «الفارق بين سوريا ولبنان هو أن سوريا لا تملك دستوراً وهي خاضعة فقط للقرار الدولي 2254. في حين بالتجربة اللبنانية يبقى الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني المرجعَين الصالحَين لبناء الدولة، وهذا هو التحدي الأكبر في لبنان».

وشدّد، من ثم، على ضرورة «استكمال بناء المؤسسات الدستورية، خصوصاً في المرحلة الانتقالية التي تمرّ بها سوريا»، وتابع: «وفي حال دخلت سوريا، لا سمح الله، في مرحلة من الفوضى... فنحن لا نريد أن تنتقل هذه الفوضى إلى لبنان».

العودة للحضن العربي

من جهة ثانية، يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة عمّا كان الوضع عليه في العقود السابقة. ولا يُخفي السياسي اللبناني الدكتور خلدون الشريف، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن لبنان «سيتأثّر بالتحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة، وحتميّة انعكاس ما حصل في سوريا على لبنان». ويلفت إلى أن «ما حصل في سوريا أدّى إلى تغيير حقيقي في جيوبوليتيك المنطقة، وسيكون له انعكاسات حتمية، ليس على لبنان فحسب، بل على المشرق العربي والشرق الأوسط برمته أيضاً».

الاستحقاق الرئاسي

في سياق موازٍ، قبل 3 أسابيع من موعد جلسة انتخاب الرئيس التي دعا إليها رئيس مجلس النواب نبيه برّي في التاسع من يناير (كانون الثاني) المقبل، لم تتفق الكتل النيابية حتى الآن على اسم مرشّح واحد يحظى بأكثرية توصله إلى قصر بعبدا.

وهنا، يرى الشريف أنه بقدر أهمية عودة لبنان إلى موقعه الطبيعي في العالم العربي، ثمّة حاجة ماسّة لعودة العرب إلى لبنان، قائلاً: «إعادة لبنان إلى العرب مسألة مهمّة للغاية، شرط ألّا يعادي أي دولة إقليمية عربية... فلدى لبنان والعرب عدوّ واحد هو إسرائيل التي تعتدي على البشر والحجر». وبغض النظر عن حتميّة بناء علاقات سياسية صحيحة ومتكافئة مع سوريا الجديدة، يلفت الشريف إلى أهمية «الدفع للتعاطي معها بإيجابية وانفتاح وفتح حوار مباشر حول موضوع النازحين والشراكة الاقتصادية وتفعيل المصالح المشتركة... ويمكن للبلدين، إذا ما حَسُنت النيّات، أن يشكلّا نموذجاً مميزاً للتعاون والتنافس تحت سقف الشراكة».

يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة

النهوض الاقتصادي

وحقاً، يمثّل الملفّ الاقتصادي عنواناً رئيساً للبنان الجديد؛ إذ إن بناء الاقتصاد القوي يبقى المعيار الأساس لبناء الدولة واستقرارها، وعودتها إلى دورها الطبيعي. وفي لقاء مع «الشرق الأوسط»، قال الوزير السابق محمد شقير، رئيس الهيئات الاقتصادية في لبنان، إن «النهوض الاقتصادي يتطلّب إقرار مجموعة من القوانين والتشريعات التي تستجلب الاستثمارات وتشجّع على استقطاب رؤوس الأموال، على أن يتصدّر الورشة التشريعية قانون الجمارك وقانون ضرائب عصري وقانون الضمان الاجتماعي».

شقير يشدّد على أهمية «إعادة هيكلة القطاع المصرفي؛ إذ لا اقتصاد من دون قطاع مصرفي». ويشير إلى أهمية «ضبط التهريب على كل طول الحدود البحرية والبرّية، علماً بأن هذا الأمر بات أسهل مع سقوط النظام السوري، الذي طالما شكّل عائقاً رئيساً أمام كل محاولات إغلاق المعابر غير الشرعية ووقف التهريب، الذي تسبب بخسائر هائلة في ميزانية الدولة، بالإضافة إلى وضع حدّ للمؤسسات غير الشرعية التي تنافس المؤسسات الشرعية وتؤثر عليها».

نقطة جمارك المصنع اللبنانية على الحدود مع سوريا (آ ف ب)

لبنان ودول الخليج

يُذكر أن الفوضى في الأسواق اللبنانية أدت إلى تراجع قدرات الدولة، ما كان سبباً في الانهيار الاقتصادي والمالي، ولذا يجدد شقير دعوته إلى «وضع حدّ للقطاع الاقتصادي السوري الذي ينشط في لبنان بخلاف الأنظمة والقوانين، والذي أثّر سلباً على النمو، ولا مانع من قوننة ليعمل بطريقة شرعية ووفق القوانين اللبنانية المرعية الإجراء». لكنه يعبّر عن تفاؤله بمستقبل لبنان السياسي والاقتصادي، قائلاً: «لا يمكن للبنان أن ينهض من دون علاقات طيّبة وسليمة مع العالم العربي، خصوصاً دول الخليج... ويجب أن تكون المهمّة الأولى للحكومة الجديدة ترسيخ العلاقات الجيّدة مع دول الخليج العربي، ولا سيما المملكة العربية السعودية التي طالما أمّنت للبنان الدعم السياسي والاقتصادي والمالي».

ضبط السلاح

على صعيد آخر، تشكّل الملفات الأمنية والعسكرية سمة المرحلة المقبلة، بخاصةٍ بعد التزام لبنان فرض سلطة الدولة على كامل أراضيها تطبيقاً للدستور والقرارات الدولية. ويعتبر الخبير العسكري والأمني العميد الركن فادي داوود، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن «تنفيذ القرار 1701 ومراقبة تعاطيها مع مكوّنات المجتمع اللبناني التي تحمل السلاح، هو التحدّي الأكبر أمام المؤسسات العسكرية والأمنية». ويوضح أن «ضبط الحدود والمعابر البرية مع سوريا وإسرائيل مسألة بالغة الدقة، سيما في ظل المستجدات التي تشهدها سوريا، وعدم معرفة القوة التي ستمسك بالأمن على الجانب السوري».

مكافحة المخدِّرات

وبأهمية ضبط الحدود ومنع الاختراق الأمني عبرها، يظل الوضع الداخلي تحت المجهر في ظلّ انتشار السلاح لدى معظم الأحزاب والفئات والمناطق اللبنانية، وهنا يوضح داوود أن «تفلّت السلاح في الداخل يتطلّب خطة أمنية ينفّذها الجيش والأجهزة الأمنية كافة». ويشرح أن «وضع المخيمات الفلسطينية يجب أن يبقى تحت رقابة الدولة ومنع تسرّب السلاح خارجها، إلى حين الحلّ النهائي والدائم لانتشار السلاح والمسلحين في جميع المخيمات»، منبهاً إلى «معضلة أمنية أساسية تتمثّل بمكافحة المخدرات تصنيعاً وترويجاً وتصديراً، سيما وأن هناك مناطق معروفة كانت أشبه بمحميات أمنية لعصابات المخدرات».

حقائق

علاقات لبنان مع سوريا... نصف قرن من الهيمنة

شهدت العلاقات اللبنانية - السورية العديد من المحطات والاستحقاقات، صبّت بمعظمها في مصلحة النظام السوري ومكّنته من إحكام قبضته على كلّ شاردة وواردة. وإذا كان نفوذ دمشق تصاعد منذ دخول جيشها لبنان في عام 1976، فإن جريمة اغتيال الرئيس اللبناني المنتخب رينيه معوض في 22 نوفمبر (تشرين الثاني) 1989 - أي يوم عيد الاستقلال - شكّلت رسالة. واستهدفت الجريمة ليس فقط الرئيس الذي أطلق مرحلة الشروع في تطبيق «اتفاق الطائف»، وبسط سلطة الدولة على كامل أراضيها وحلّ كل الميليشيات المسلّحة وتسليم سلاحها للدولة، بل أيضاً كلّ من كان يحلم ببناء دولة ذات سيادة متحررة من الوصاية. ولكنْ ما إن وُضع «اتفاق الطائف» موضع التنفيذ، بدءاً بوحدانية قرار الدولة، أصرّ حافظ الأسد على استثناء سلاح «حزب الله» والتنظيمات الفلسطينية الموالية لدمشق، بوصفه «سلاح المقاومة لتحرير الأراضي اللبنانية المحتلّة» ولإبقائه عامل توتر يستخدمه عند الضرورة. ثم نسف الأسد «الأب» قرار مجلس الوزراء لعام 1996 القاضي بنشر الجيش اللبناني على الحدود مع إسرائيل، بذريعة رفضه «تحويل الجيش حارساً للحدود الإسرائيلية».بعدها استثمر نظام دمشق انسحاب الجيش الإسرائيلي من المناطق التي كان يحتلها في جنوب لبنان خلال مايو (أيار) 2000، و«جيّرها» لنفسه ليعزّز هيمنته على لبنان. غير أنه فوجئ ببيان مدوٍّ للمطارنة الموارنة برئاسة البطريرك الراحل نصر الله بطرس صفير في سبتمبر (أيلول) 2000، طالب فيه الجيش السوري بالانسحاب من لبنان؛ لأن «دوره انتفى مع جيش الاحتلال الإسرائيلي من جنوب لبنان».مع هذا، قبل شهر من انتهاء ولاية الرئيس إميل لحود، أعلن نظام بشار الأسد رغبته بالتمديد للحود ثلاث سنوات (نصف ولاية جديدة)، ورغم المعارضة النيابية الشديدة التي قادها رئيس الوزراء الراحل رفيق الحريري، مُدِّد للحود بالقوة على وقع تهديد الأسد «الابن» للحريري ووليد جنبلاط «بتحطيم لبنان فوق رأسيهما». وهذه المرة، صُدِم الأسد «الابن» بصدور القرار 1559 عن مجلس الأمن الدولي، الذي يقضي بانتخاب رئيس جديد للبنان، وانسحاب الجيش السوري فوراً، وحلّ كل الميليشيات وتسليم سلاحها للدولة اللبنانية. ولذا، عمل لإقصاء الحريري وقوى المعارضة اللبنانية عن السلطة، وتوِّج هذا الإقصاء بمحاولة اغتيال الوزير مروان حمادة في أكتوبر (تشرين الأول) 2004، ثمّ باغتيال رفيق الحريري يوم 14 فبراير (شباط) 2005، ما فجّر «ثورة الأرز» التي أدت إلى انسحاب الجيش السوري من لبنان يوم 26 أبريل (نيسان)، وتبع ذلك انتخابات نيابية خسرها حلفاء النظام السوري فريق «14 آذار» المناوئ لدمشق.تراجع نفوذ دمشق في لبنان استمر بعد انسحاب جيشها بضغط أميركي مباشر. وتجلّى ذلك في «الحوار الوطني اللبناني»، الذي أفضى إلى اتخاذ قرارات بينها «ترسيم الحدود» اللبنانية السورية، وبناء علاقات دبلوماسية مع سوريا وتبادل السفراء، الأمر الذي قبله بشار الأسد على مضض. وأكمل المسار بقرار إنشاء محكمة دولية لمحاكمة قتلة الحريري وتنظيم السلاح الفلسطيني خارج المخيمات - وطال أساساً التنظيمات المتحالفة مع دمشق وعلى رأسها «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين - القيادة العامة» - وتحرير المعتقلين اللبنانيين في السجون السورية. حرب 6002مع هذا، بعد الحرب الإسرائيلية على لبنان في يوليو (تموز) 2006، التي أعلن «حزب الله» بعدها «الانتصار على إسرائيل»، استعاد النظام السوري بعض نفوذه. وتعزز ذلك بسلسلة اغتيالات طالت خصومه في لبنان من ساسة ومفكّرين وإعلاميين وأمنيين - جميعهم من فريق «14 آذار» - وتوّج بالانقلاب العسكري الذي نفذه «حزب الله» يوم 7 مايو 2008 محتلاً بيروت ومهاجماً الجبل. وأدى هذا التطور إلى «اتفاق الدوحة» الذي منح الحزب وحلفاء دمشق «الثلث المعطِّل» في الحكومة اللبنانية، فمكّنهم من الإمساك بالسلطة.يوم 25 مايو 2008 انتخب قائد الجيش اللبناني ميشال سليمان رئيساً للجمهورية، وفي 13 أغسطس (آب) من العام نفسه عُقدت قمة لبنانية ـ سورية في دمشق، وصدر عنها بيان مشترك، تضمّن بنوداً عدّة أهمها: «بحث مصير المفقودين اللبنانيين في سوريا، وترسيم الحدود، ومراجعة الاتفاقات وإنشاء علاقات دبلوماسية، وتبنّي المبادرة العربية للسلام». ولكن لم يتحقق من مضمون البيان، ومن «الحوار الوطني اللبناني» سوى إقامة سفارات وتبادل السفراء فقط.ختاماً، لم يقتنع النظام السوري في يوم من الأيام بالتعامل مع لبنان كدولة مستقلّة. وحتى في ذروة الحرب السورية، لم يكف عن تعقّب المعارضين السوريين الذي فرّوا إلى لبنان، فجنّد عصابات عملت على خطف العشرات منهم ونقلهم إلى سوريا. كذلك سخّر القضاء اللبناني (خصوصاً المحكمة العسكرية) للتشدد في محاكمة السوريين الذين كانوا في عداد «الجيش السوري الحرّ» والتعامل معهم كإرهابيين.أيضاً، كان للنظام السوري - عبر حلفائه اللبنانيين - الدور البارز في تعطيل الاستحقاقات الدستورية، لا سيما الانتخابات الرئاسية والنيابية وتشكيل الحكومات، بمجرد اكتشاف أن النتائج لن تكون لصالحهم. وعليه، قد يكون انتخاب الرئيس اللبناني في 9 يناير (كانون الثاني) المقبل، الاستحقاق الأول الذي يشهده لبنان من خارج تأثير نظام آل الأسد منذ نصف قرن.