في أفغانستان شعراء أيضاً

في أفغانستان شعراء أيضاً
TT

في أفغانستان شعراء أيضاً

في أفغانستان شعراء أيضاً

في لقاء لنا مع الكاتب البرازيلي بابلو كويلو، في لندن، بعد خمسة أشهر من سقوط صدام حسين في أبريل (نيسان) عام 2003، ذكر أنه سيزور العراق قريباً ليكتشف بنفسه «إن كان هناك في البلد شعراء وكتاب وثقافة وليس فقط (رجال بشوارب غليظة)، وقتل وسيارات مفخخة». قلنا له: «لكن لا حاجة للسفر حتى تعرف ذلك». في اليوم التالي، أهديته نسخة من كتاب «الشعر العراقي اليوم»، الذي كان قد صدر بالإنجليزية في يناير (كانون الثاني) في سنة 2000، أي قبل ثلاث سنوات من سقوط الديكتاتور العراقي، وحرره الكاتب والأكاديمي الراحل سعدي السماوي والأكاديمي الأميركي دانيال ويسبورت، وهي أول مختارات شاملة تصدر بالإنجليزية للشعر العراقي الحديث. ولا أعرف إذا قرأ كويلو الكتاب أم لا ليكشف أن للعراق شعراء وكتاباً وثقافة، إذ لم نسمع منه شيئاً بعد ذلك.
لا شيء غير مألوف في تصور كويلو عن العراق، أو عن أي بلد آخر ترتفع فيه أصوات الحروب والكوارث على صوته الحقيقي المخنوق، الذي لا يسمعه أحد، خصوصاً الإعلام، فهذا ليست من مهمته الأساسية. ومع ذلك، وفي حالات كثيرة كهذه، وفي أكثر من منطقة من العالم، تحاول جهات ثقافية وأكاديمية وأدبية وحتى أفراد بإمكاناتهم المحدودة، أن يقدموا الصورة غير المرئية لهذا الشعب المنكوب أو ذاك، التي تعكس تاريخه المضيء، وثقافته الحقيقية مقابل الصورة المقلوبة التي كرستها عقود من التشويه الداخلي والخارجي، وحجبتها أعمدة الدخان طويلاً، رغم أن مثل هذه المحاولات قد تضيع وسط ضجيج الإعلام العالي، والتصورات النمطية.
فعل ذلك السماوي وويسبورت مع الشعر العراقي في تلك اللحظات الفاصلة التي لم يكن فيها العالم يعرف غير صدام حسين وحروبه، وتفعل الآن المترجمة مريم النجار التي نقلت لنا مختارات موسعة - تصدر قريباً عن دار «المدى» - من الشعر الأفغاني، الذي لا يعرف الكثيرون عن موطنه سوى تورو بورو و«طالبان» ومخابئ ابن لادن. ونعتقد أنها المرة الأولى التي يصلنا هذا الكم من الأدب الأفغاني.
صحيح، إننا عرفنا خالد حسيني، صاحب «عداء الطائرة الورقية»، التي باعت بالملايين، وعتيق رحيمي، صاحب «حب في المنفى»، التي ترجمت أخيراً إلى العربية، و«حجر الصبر»، التي فازت بـ«غونكور». لكن الاثنين يعيشان خارج البلد منذ سنوات طويلة، الأول في أميركا، والثاني في فرنسا، ويكتب بلغتها.
تختار لنا مريم النجار شعراء شباباً ولدوا وعاشوا، حيث «ابن لادن إمام العصر»، وحيث «الظلم يرتفع من حنجرة الشارع المجروح»، وحيث «أخذوا النبي محمد رهينة».
شعر دامٍ نتاج «حرب واقفة فوق الرؤوس/ ولدت ألف كربلاء تبكي في العيون»، كما تعبر الشاعرة باران سجادي، (م.1977)، ونتاج «قرون من الأمطار المالحة»، كما يقول الشاعر محمد شريف سعيدي (م. 1969).
وما يميز هذا الشعر ليس فقط قضية الحرية التي يدافع عنها، ولا كمية البؤس والقهر الثقيلة التي تنهمر على أرواحنا، والتي لا يمكن احتمالها حقاً، وإنما في تقديمه كل ذلك في إطار فني لا يمكن إدراجه في الأطر التصنيفية الجاهزة التي اعتدنا عليها، على غرار «الشعر الملتزم»، أو «الثوري»، الذي غالباً ما يستند إلى عكازات من خارجه. إننا أمام شعر لا يستند، في أفضل نماذجه، إلا على نفسه كشعر، منطلقاً، في صور حسية من الواقع نفسه، ومن الذات إلى الموضوع، جامعاً بين الخاص والعام، في تداخل لا يمكن التمييز فيه بينهما، عبر لغة مكثفة، خافتة لا يقودها الانفعال، تستوحي المكان، لكنها تشير في الوقت نفسه إلى ما أبعد منه، وأحياناً عبر صور فنطازية، ساخرة بوجع، ومع ذلك تثير فينا الدهشة، لأنها غير متوقعة: «حبيبتي اتحاد سوفياتي يتفكك!» أو «حلمت أن أوباما أصبح أعمى كالكهرباء التي تنقطع في ليبيا» (سجادي).



غاليري «آرت أون 56» رسالةُ شارع الجمّيزة البيروتي ضدّ الحرب

أبت أن تُرغم الحرب نهى وادي محرم على إغلاق الغاليري وتسليمه للعدمية (آرت أون 56)
أبت أن تُرغم الحرب نهى وادي محرم على إغلاق الغاليري وتسليمه للعدمية (آرت أون 56)
TT

غاليري «آرت أون 56» رسالةُ شارع الجمّيزة البيروتي ضدّ الحرب

أبت أن تُرغم الحرب نهى وادي محرم على إغلاق الغاليري وتسليمه للعدمية (آرت أون 56)
أبت أن تُرغم الحرب نهى وادي محرم على إغلاق الغاليري وتسليمه للعدمية (آرت أون 56)

عاد إلى ذاكرة مُؤسِّسة غاليري «آرت أون 56»، نهى وادي محرم، مشهد 4 أغسطس (آب) 2020 المرير. حلَّ العَصْف بذروته المخيفة عصر ذلك اليوم المشؤوم في التاريخ اللبناني، فأصاب الغاليري بأضرار فرضت إغلاقه، وصاحبته بآلام حفرت ندوباً لا تُمحى. توقظ هذه الحرب ما لا يُرمَّم لاشتداد احتمال نكئه كل حين. ولمّا قست وكثَّفت الصوتَ الرهيب، راحت تصحو مشاعر يُكتَب لها طول العُمر في الأوطان المُعذَّبة.

رغم عمق الجرح تشاء نهى وادي محرم عدم الرضوخ (حسابها الشخصي)

تستعيد المشهدية للقول إنها تشاء عدم الرضوخ رغم عمق الجرح. تقصد لأشكال العطب الوطني، آخرها الحرب؛ فأبت أن تُرغمها على إغلاق الغاليري وتسليمه للعدمية. تُخبر «الشرق الأوسط» عن إصرارها على فتحه ليبقى شارع الجمّيزة البيروتي فسحة للثقافة والإنسان.

تُقلِّص ساعات هذا الفَتْح، فتعمل بدوام جزئي. تقول إنه نتيجة قرارها عدم الإذعان لما يُفرَض من هول وخراب، فتفضِّل التصدّي وتسجيل الموقف: «مرَّت على لبنان الأزمة تلو الأخرى، ومع ذلك امتهنَ النهوض. أصبح يجيد نفض ركامه. رفضي إغلاق الغاليري رغم خلوّ الشارع أحياناً من المارّة، محاكاة لثقافة التغلُّب على الظرف».

من الناحية العملية، ثمة ضرورة لعدم تعرُّض الأعمال الورقية في الغاليري لتسلُّل الرطوبة. السماح بعبور الهواء، وأن تُلقي الشمس شعاعها نحو المكان، يُبعدان الضرر ويضبطان حجم الخسائر.

الفنانون والزوار يريدون للغاليري الإبقاء على فتح بابه (آرت أون 56)

لكنّ الأهم هو الأثر. أنْ يُشرّع «آرت أون 56» بابه للآتي من أجل الفنّ، يُسطِّر رسالة ضدّ الموت. الأثر يتمثّل بإرادة التصدّي لِما يعاند الحياة. ولِما يحوّلها وعورةً. ويصوّرها مشهداً من جهنّم. هذا ما تراه نهى وادي محرم دورها في الأزمة؛ أنْ تفتح الأبواب وتسمح للهواء بالعبور، وللشمس بالتسلُّل، وللزائر بأن يتأمّل ما عُلِّق على الجدران وشدَّ البصيرة والبصر.

حضَّرت لوحات التشكيلية اللبنانية المقيمة في أميركا، غادة جمال، وانتظرتا معاً اقتراب موعد العرض. أتى ما هشَّم المُنتَظر. الحرب لا تُبقى المواعيد قائمة والمشروعات في سياقاتها. تُحيل كل شيء على توقيتها وإيقاعاتها. اشتدَّت الوحشية، فرأت الفنانة في العودة إلى الديار الأميركية خطوة حكيمة. الاشتعال بارعٌ في تأجيج رغبة المرء بالانسلاخ عما يحول دون نجاته. غادرت وبقيت اللوحات؛ ونهى وادي محرم تنتظر وقف النيران لتعيدها إلى الجدران.

تفضِّل نهى وادي محرم التصدّي وتسجيل الموقف (آرت أون 56)

مِن الخطط، رغبتُها في تنظيم معارض نسائية تبلغ 4 أو 5. تقول: «حلمتُ بأن ينتهي العام وقد أقمتُ معارض بالمناصفة بين التشكيليين والتشكيليات. منذ افتتحتُ الغاليري، يراودني هَمّ إنصاف النساء في العرض. أردتُ منحهنّ فرصاً بالتساوي مع العروض الأخرى، فإذا الحرب تغدر بالنوايا، والخيبة تجرّ الخيبة».

الغاليري لخَلْق مساحة يجد بها الفنان نفسه، وربما حيّزه في هذا العالم. تُسمّيه مُتنفّساً، وتتعمّق الحاجة إليه في الشِّدة: «الفنانون والزوار يريدون للغاليري الإبقاء على فتح بابه. نرى الحزن يعمّ والخوف يُمعن قبضته. تُخبر وجوه المارّين بالشارع الأثري، الفريد بعمارته، عما يستتر في الدواخل. أراقبُها، وألمحُ في العيون تعلّقاً أسطورياً بالأمل. لذا أفتح بابي وأعلنُ الاستمرار. أتعامل مع الظرف على طريقتي. وأواجه الخوف والألم. لا تهمّ النتيجة. الرسالة والمحاولة تكفيان».

الغاليري لخَلْق مساحة يجد بها الفنان نفسه وربما حيّزه في العالم (آرت أون 56)

عُمر الغاليري في الشارع الشهير نحو 12 عاماً. تدرك صاحبته ما مرَّ على لبنان خلال ذلك العقد والعامين، ولا تزال الأصوات تسكنها: الانفجار وعَصْفه، الناس والهلع، الإسعاف والصراخ... لـ9 أشهر تقريباً، أُرغمت على الإغلاق للترميم وإعادة الإعمار بعد فاجعة المدينة، واليوم يتكرّر مشهد الفواجع. خراب من كل صوب، وانفجارات. اشتدّ أحدها، فركضت بلا وُجهة. نسيت حقيبتها في الغاليري وهي تظنّ أنه 4 أغسطس آخر.