آخر وراقي دمشق هزمه الكومبيوتر.. والحرب

فقد أرشيفه الضخم وآلاف الوثائق.. ومنزله أيضا

نسخ لصحف عربية ولبنانية في أعدادها الأولى  -  صلاح صلوحة يعرض نسخة من مجلته «كشكول»  -  نسخة نادرة لصحيفة سورية صدرت عام 1929 باسم «المستقبل»
نسخ لصحف عربية ولبنانية في أعدادها الأولى - صلاح صلوحة يعرض نسخة من مجلته «كشكول» - نسخة نادرة لصحيفة سورية صدرت عام 1929 باسم «المستقبل»
TT

آخر وراقي دمشق هزمه الكومبيوتر.. والحرب

نسخ لصحف عربية ولبنانية في أعدادها الأولى  -  صلاح صلوحة يعرض نسخة من مجلته «كشكول»  -  نسخة نادرة لصحيفة سورية صدرت عام 1929 باسم «المستقبل»
نسخ لصحف عربية ولبنانية في أعدادها الأولى - صلاح صلوحة يعرض نسخة من مجلته «كشكول» - نسخة نادرة لصحيفة سورية صدرت عام 1929 باسم «المستقبل»

يلقب بـ«شيخ الوراقين»، وهو قد يكون آخر وراقي دمشق. إنه السبعيني صلاح صلوحة الذي كانت بداية رحلته مع الورق في أواخر خمسينات القرن المنصرم لتبلغ ذروتها في ستينات وسبعينات وثمانينات القرن المنصرم قبل أن يدخل هذا الجهاز اللعين (الكومبيوتر)، كما يقول معلقا: «إنني أكرهه ولا أطيقه. لقد أصابني بخيبة أمل كبيرة وجعلني مهمشا في هذا الزمن - لقد أنهى الكومبيوتر رحلتي مع الورق وجمع الصحف وتوثيقها وكذلك جمع الكتب القديمة».
في رحلة صلاح صلوحة مع الورق الكثير من المحطات والمغامرات التي يعتز بها ويتحدث عنها بكثير من الحنين خاصة وأن هوايته ومهنته كوراق سمحت له بقيام علاقات صداقة مع كثير من الأدباء والصحافيين العرب الذين كانوا من زبائنه وتحولوا لأصدقاء له ومنهم الراحلان البردوني وممدوح عدوان وسعيد فريحة وآخرون، كما يتذكر بحنين تلك المغامرة التي خاضها في منتصف ثمانينات القرن المنصرم من خلال إصداره لمجلة أسبوعية ورقية أطلق عليها اسم «الكشكول» وكان يضع فيها مقتطفات ومختارات من مقالات مهمة منشورة في مجلات وصحف عربية. وكان يوزع الكشكول هدية على الأدباء والمثقفين والأصدقاء، رغم تسعيره لمجلته. وكما هو معروف، كان ممنوعا في ذلك الوقت إصدار صحف خاصة وقد أصدر منها 7 أعداد خلال شهرين بـ8 صفحات وأوقفها فيما بعد بسبب تكلفتها المرتفعة التي لا يقدر. يقول: «كنت أصورها بالنسخ حيث لا أستطيع طباعتها في المطابع بسبب عدم وجود رخصة لي بذلك - يوضح أبو نادر - والسلطات في ذلك الوقت لم تعلم بصدور مثل هذه المجلة لأن توزيعها كان محدودا».
في مقهى دمشقي حيث كان اللقاء معه، يستفيض صلاح صلوحة وهو يروي لـ«الشرق الأوسط» حكايته مع الورق وكيف أنه احتفظ بها في مستودع قريب من منزله الذي غص بالمجلات والصحف والكتب القديمة والصور والوثائق وهناك الأعداد الأولى من معظم الصحف والمجلات العربية ولديه الكثير من الوثائق النادرة التي كان يقيم لها المعارض باستمرار مع عدد من هواة التوثيق السوريين. ولكن وللأسف هذا الأرشيف الضخم لم يعد يعرف عنه شيئا حيث اضطر لترك حارته (الحجر الأسود) جنوب العاصمة دمشق بالقرب من مخيم اليرموك قبل سنتين عندما وصلت الحرب إليها وترك كل وثائقه وهي بالآلاف هناك لا يعرف مصيرها ومصير منزله والمستودع الذي يضمها.
يبتسم (أبو نادر) وهو يفتح ملفا ضخما وهو الوحيد الذي تمكن من أخذه معه قبل هروبه من حارته - ويضم ما كتب عنه من مقالات وحوارات ولقطات من معارضه ويرينا الصفحة الأولى باعتزاز حيث ضمت رسما كاريكاتوريا له بريشة الفنان المصري جورج البهجوري الذي التقاه في معرض له مع الفنان الراحل ناجي العلي أقاماه في ثمانينات القرن المنصرم في صالة الشعب بدمشق فنشأت صداقة بين صلوحة والبهجوري وقام البهجوري برسم وجه صلوحة. ولكن يفاجئنا بآخر ورقة منه ضمت أيضا رسما له وبريشة البهجوري نفسه ولكن هذه المرة سنة 1997 عندما جاء البهجوري لدمشق وأقام معرضا ثانيا له فقرر رسم صلوحة بطريقة جديدة، وكأنه يرى في رسمتي البهجوري الأولى والأخيرة اختصارا لأوج رحلته مع الورق. ولكن بين تلك الصورتين وقبلهما أحداث وقصص ورحلات عمل إلى لبنان حيث عمل لفترة في الستينات وحتى عام 1975 على بيع الكتب القديمة في منطقة البرج ببيروت، كما كان ينقل الكتب من بيروت إلى مدينة حلب ليبيعها هناك في فترة ازدهار طباعة الكتب المهمة والكثيرة في العاصمة اللبنانية ووجود الزبائن الكثر لها في سوريا، كما كان يأتي بها للأدباء والفنانين السوريين الذين يأتون إليه ويجتمعون به كل يوم جمعة في سوق الصالحية واستمر بهذا النشاط حتى الثمانينات ورحلات العمل التي امتدت لسنة كاملة إلى مصر وإسبانيا والمغرب. يشرح صلوحة:
«أعتز بمهنتي كوراق التي أعتبرها هواية أكثر منها حرفة وعملا وهي قديمة قدم الكتابة والخط والنسخ، ولكن (الوراق الجديد) غير موجود في هذا العصر، للأسف الوراقة كمهنة انتهت بالفعل مع عصر التقنيات الحديثة والكومبيوتر والإنترنت وتحول ما تبقى من وراقي دمشق وهم قلائل إلى موثقين وإلى إقامة المعارض وطباعة الموسوعات لمقتنياتهم ليطلع عليها الناس. فهؤلاء وفي السنوات القليلة الماضية هزمهم الوراق العصري الحديث (مستر غوغل) - إنها نكتة ساخرة ولكن هذا هو الواقع؟ فلم يعد هناك الوراق الناسخ والمصور. انتهى دورهما مع انطلاق عصر الإنترنت كما انتهى من قبل دور الوراق الكاتب بخط يده مع بدء عصر الآلة الكاتبة».
ولكن ماذا يفعل شيخ الوراقين الدمشقيين حاليا؟ يقول: «منذ هزيمتي أمام الكومبيوتر و(غوغل)، لم أعد لا شيخا للوراقين ولا حتى وراقا. إن ذلك القارئ الجيد الذي كان موجودا في ثمانينات القرن المنصرم، لم يعد موجودا حاليا. لقد انتهى عصر الكتاب.. وحاليا أعمل في البحث والتوثيق ولدي أبحاث عن العادات والتقاليد والأمثال الشعبية ولدي مشروع لتوثيق صحافة الطفل في العالم العربي ونشر كتاب حولها».
مهنة وهواية صلوحة كوراق التي لم ترق لزوجته وأولاده الـ5 خاصة مع الكم الكبير من المقتنيات الورقية لديه، فكتب إهداء في بداية كتابه القادم وعنوانه «كشكول الوراق» يقول فيه: «إلى زوجتي التي لا تحب من الكتاب سوى غلافه وإلى أولادي الذين لديهم مكتبة كاملة للأطفال ولم يمسكوا قصة واحدة لقراءتها وإلى القراء الذين لديهم هواية جمع الكتب دون قراءتها..». ولأنه لا يعرف إلى أين ستؤول كتبه ومجلاته النادرة ووثائقه بعد وفاته، فقد وضع في ملفه الشخصي وصيته لأسرته تدلل على تعلقه وحبه الشديد لهذه الهواية والمهنة يقول فيها: «ضعوا في قبري الكتب لتكون وسادتي والمجلات لتكون فراشي أما الصحف فاجعلوها غطائي» قد تكون مزحة مع أولادي، ولكن لخوفي الشديد عليها ومن أن يتصرفوا بهذا المقتنيات بشكل أو بآخر ولا يحافظوا عليها كتبت هذه الكلمات! ولكن الحرب المجنونة قررت عدم تنفيذ وصية شيخ الوراقين وليس عائلته التي لم ترق لها أوراقه الكثيرة.



سوريا الماضي والمستقبل في عيون مثقفيها

هاني نديم
هاني نديم
TT

سوريا الماضي والمستقبل في عيون مثقفيها

هاني نديم
هاني نديم

بالكثير من التفاؤل والأمل والقليل من الحذر يتحدث أدباء وشعراء سوريون عن صورة سوريا الجديدة، بعد الإطاحة بنظام الأسد الديكتاتوري، مشبهين سقوطه بالمعجزة التي طال انتظارها... قراءة من زاوية خاصة يمتزج فيها الماضي بالحاضر، وتتشوف المستقبل بعين بصيرة بدروس التاريخ، لواحدة من أجمل البلدان العربية الضاربة بعمق في جذور الحضارة الإنسانية، وها هي تنهض من كابوس طويل.

«حدوث ما لم يكن حدوثه ممكناً»

خليل النعيمي

بهذا العبارة يصف الكاتب الروائي خليل النعيمي المشهد الحالي ببلاده، مشيراً إلى أن هذه العبارة تلخص وتكشف سر السعادة العظمى التي أحس بها معظم السوريين الذين كانوا ضحية الاستبداد والعَسْف والطغيان منذ عقود، فما حدث كان تمرّداً شجاعاً انبثق كالريح العاصفة في وجه الطغاة الذين لم يكونوا يتوقعونه، وهو ما حطّم أركان النظام المستبد بشكل مباشر وفوري، وأزاح جُثومه المزمن فوق القلوب منذ عشرات السنين. ونحن ننتظر المعجزة، ننتظر حدوث ما لم نعد نأمل في حدوثه وهو قلب صفحة الطغيان: «كان انتظارنا طويلاً، طويلاً جداً، حتى أن الكثيرين منا صاروا يشُكّون في أنهم سيكونون أحياءً عندما تحين الساعة المنتظرة، والآن قَلْب الطغيان لا يكفي، والمهم ماذا سنفعل بعد سقوط الاستبداد المقيت؟ وكيف ستُدار البلاد؟ الطغيان فَتّت سوريا، وشَتّت أهلها، وأفْقرها، وأهان شعبها، هذا كله عرفناه وعشناه. ولكن، ما ستفعله الثورة المنتصرة هو الذي يملأ قلوبنا، اليوم بالقلَق، ويشغل أفكارنا بالتساؤلات».

ويشير إلى أن مهمة الثورة ثقيلة، وأساسية، مضيفاً: «نتمنّى لها أن تنجح في ممارستها الثورية ونريد أن تكون سوريا لكل السوريين الآن، وليس فيما بعد، نريد أن تكون سوريا جمهورية ديمقراطية حرة عادلة متعددة الأعراق والإثنيّات، بلا تفريق أو تمزيق. لا فرق فيها بين المرأة والرجل، ولا بين سوري وسوري تحت أي سبب أو بيان. شعارها: حرية، عدالة، مساواة».

مشاركة المثقفين

رشا عمران

وترى الشاعرة رشا عمران أن المثقفين لا بد أن يشاركوا بفعالية في رسم ملامح سوريا المستقبل، مشيرة إلى أن معجزة حدثت بسقوط النظام وخلاص السوريين جميعاً منه، حتى لو كان قد حدث ذلك نتيجة توافقات دولية ولكن لا بأس، فهذه التوافقات جاءت في مصلحة الشعب.

وتشير إلى أن السوريين سيتعاملون مع السلطة الحالية بوصفها مرحلة انتقالية ريثما يتم ضبط الوضع الأمني وتستقر البلد قليلاً، فما حدث كان بمثابة الزلزال، مع الهروب لرأس النظام حيث انهارت دولته تماماً، مؤسساته العسكرية والأمنية والحزبية كل شيء انهار، وحصل الفراغ المخيف.

وتشدد رشا عمران على أن النظام قد سقط لكن الثورة الحقيقة تبدأ الآن لإنقاذ سوريا ومستقبلها من الضياع ولا سبيل لهذا سوى اتحاد شعبها بكل فئاته وأديانه وإثنياته، فنحن بلد متعدد ومتنوع والسوريون جميعاً يريدون بناء دولة تتناسب مع هذا التنوع والاختلاف، ولن يتحقق هذا إلا بالمزيد من النضال المدني، بالمبادرات المدنية وبتشكيل أحزاب ومنتديات سياسية وفكرية، بتنشيط المجتمع سياسياً وفكرياً وثقافياً.

وتوضح الشاعرة السورية أن هذا يتطلب أيضاً عودة كل الكفاءات السورية من الخارج لمن تسنح له ظروفه بهذا، المطلوب الآن هو عقد مؤتمر وطني تنبثق منه هيئة لصياغة الدستور الذي يتحدد فيه شكل الدولة السورية القادمة، وهذا أيضاً يتطلب وجود مشاركة المثقفين السوريين الذين ينتشرون حول العالم، ينبغي توحيد الجهود اليوم والاتفاق على مواعيد للعودة والبدء في عملية التحول نحو الدولة الديمقراطية التي ننشدها جميعاً.

وداعاً «نظام الخوف»

مروان علي

ومن جانبه، بدا الشاعر مروان علي وكأنه على يقين من أن مهمة السوريين ليست سهلة أبداً، وأن «نستعيد علاقتنا ببلدنا ووطننا الذي عاد إلينا بعد أكثر من خمسة عقود لم نتنفس فيها هواء الحرية»، لافتاً إلى أنه كان كلما سأله أحد من خارج سوريا حيث يقيم، ماذا تريد من بلادك التي تكتب عنها كثيراً، يرد قائلاً: «أن تعود بلاداً لكل السوريين، أن نفرح ونضحك ونكتب الشعر ونختلف ونغني بالكردية والعربية والسريانية والأرمنية والآشورية».

ويضيف مروان: «قبل سنوات كتبت عن (بلاد الخوف الأخير)، الخوف الذي لا بد أن يغادر سماء سوريا الجميلة كي نرى الزرقة في السماء نهاراً والنجوم ليلاً، أن نحكي دون خوف في البيت وفي المقهى وفي الشارع. سقط نظام الخوف وعلينا أن نعمل على إسقاط الخوف في دواخلنا ونحب هذه البلاد لأنها تستحق».

المساواة والعدل

ويشير الكاتب والشاعر هاني نديم إلى أن المشهد في سوريا اليوم ضبابي، ولم يستقر الأمر لنعرف بأي اتجاه نحن ذاهبون وأي أدوات سنستخدم، القلق اليوم ناتج عن الفراغ الدستوري والحكومي ولكن إلى لحظة كتابة هذه السطور، لا يوجد هرج ومرج، وهذا مبشر جداً، لافتاً إلى أن سوريا بلد خاص جداً بمكوناته البشرية، هناك تعدد هائل، إثني وديني ومذهبي وآيديولوجي، وبالتالي علينا أن نحفظ «المساواة والعدل» لكل هؤلاء، فهي أول بنود المواطنة.

ويضيف نديم: «دائماً ما أقول إن سوريا رأسمالها الوحيد هم السوريون، أبناؤها هم الخزينة المركزية للبلاد، مبدعون وأدباء، وأطباء، وحرفيون، أتمنى أن يتم تفعيل أدوار أبنائها كل في اختصاصه وضبط البلاد بإطار قانوني حكيم. أحلم أن أرى سوريا في مكانها الصحيح، في المقدمة».

خالد حسين

العبور إلى بر الأمان

ومن جانبه، يرصد الأكاديمي والناقد خالد حسين بعض المؤشرات المقلقة من وجهة نظره مثل تغذية أطراف خارجية للعداء بين العرب والأكراد داخل سوريا، فضلاً عن الجامعات التي فقدت استقلالها العلمي وحيادها الأكاديمي في عهد النظام السابق كمكان لتلقي العلم وإنتاج الفكر، والآن هناك من يريد أن يجعلها ساحة لنشر أفكاره ومعتقداته الشخصية وفرضها على الجميع.

ويرى حسين أن العبور إلى بر الأمان مرهونٌ في الوقت الحاضر بتوفير ضروريات الحياة للسوريين قبل كلّ شيء: الكهرباء، والخبز، والتدفئة والسلام الأهلي، بعد انتهاء هذه المرحلة الانتقالية يمكن للسوريين الانطلاق نحو عقد مؤتمر وطني، والاتفاق على دستور مدني ديمقراطي ينطوي بصورة حاسمة وقاطعة على الاعتراف بالتداول السلمي للسلطة، وحقوق المكوّنات الاجتماعية المذهبية والعرقية، وحريات التعبير وحقوق المرأة والاعتراف باللغات الوطنية.

ويشير إلى أنه بهذا الدستور المدني المؤسَّس على الشرعية الدولية لحقوق الإنسان يمكن أن تتبلور أحلامه في سوريا القادمة، حينما يرى العدالة الاجتماعية، فهذا هو الوطن الذي يتمناه دون تشبيح أو أبواق، أو طائفية، أو سجون، موضحاً أن الفرصة مواتية لاختراع سوريا جديدة ومختلفة دون كوابيس.

ويختتم قائلاً: «يمكن القول أخيراً إنّ مهام المثقف السوري الآن الدعوة إلى الوئام والسلام بين المكوّنات وتقويض أي شكل من أشكال خطاب الهيمنة والغلواء الطائفي وإرادة القوة في المستقبل لكي تتبوّأ سوريا مكانتها الحضارية والثقافية في الشرق الأوسط».