هل استلهم دانتي «معراج» أبي القاسم القشيري في «الكوميديا الإلهية»؟

إيطاليا تحتفل بذكرى 700 عام على رحيل رمزها الأكبر

دانتي
دانتي
TT

هل استلهم دانتي «معراج» أبي القاسم القشيري في «الكوميديا الإلهية»؟

دانتي
دانتي

في خطوة استباقية، أعلنت رئاسة الجمهورية الإيطالية، تقديم بدء احتفالاتها سنة كاملة، بمناسبة الذكرى 700 لوفاة شاعر إيطاليا الكبير دانتي (1265 ـ 1321)، الذي وصفه رئيس الجمهورية سيرجو ماتاريلا بـ«مصدر إلهام لكل الأجيال من الشعراء والفنانين والسياسيين من الذين بنوا وحدة إيطاليا. وهو الأب والركيزة الأساسية لها. لقد انبعثت روح دانتي من إيطاليا إلى العالم، وأضاءته بالشعر والجمال والعاطفة والشجاعة». وقد بدأت الاحتفالات التي ستستمر حتى نهاية شهر سبتمبر (أيلول) من العام المقبل، ببرنامج موسيقي أوركسترالي أوبرالي، لعدد كبير من الأعمال الموسيقية الكلاسيكية والأوبرالية المحلية والعالمية التي استلهمت من «الكوميديا الالهية»، في إحدى قاعات قصر الكورينالي الجمهوري.
ويتزامن هذا الاحتفال مع احتفالات أخرى تنظم في كل من مدينة فلورنسا، ومدينة رافينا، ومدينة أسيسي، وتتضمن ندوات ومحاضرات، وقراءات شعرية، وعرض أفلام روائية ووثائقية، جنباً إلى جنب أعمال موسيقية غنائية كورالية، وافتتاح معارض فنية غرافيكية تنظمها بلديات هذه المدن، بالاشتراك مع منظمات ومكتبات ومسارح محلية وعالمية.
ولد دانتي أليغييري بتاريخ 12 مايو (أيار) سنة 1265 في عائلة لها باع طويل من الانخراط في المشهد السياسي المعقد لمدينة فلورنسا، وقد انعكس هذا الأمر في فصل «الجحيم» من كتابه الفخم «الكوميديا الإلهية» الذي ألفه لاحقاً.
توفيت والدته بعد ولادته بسنوات قليلة، وعندما بلغ من العمر 12 عاماً، جرى ترتيب زواجه من جيما دوناتي، ابنة إحدى العائلات الفلورنتينية. إلا أن دانتي كان هائماً في غرام امرأة أخرى، اسمها بياتريسا، التي ستكون صاحبة تأثير كبير عليه، وستشكل شخصيتها أساس ملحمة الكوميديا الإلهية. وكان حب دانتي لها سامياً ومخلصاً، ولكن تشاء الظروف أن تتوفى بياتريسا سنة 1290، فحزن دانتي حزناً عظيماً، وعبر عن مشاعره في كتابه «حياة جديدة»، الذي نشر سنة 1295. وفيه يعبر عن وقائع وأحداث السيرة الذاتية، فهي تحكي حياة دانتي الروحية، وقد نظمت في 42 فصلاً بنثر مترابط في قصة متجانسة، تشرح سلسلة من القصائد المركبة والمنظومة في أوقات مختلفة.
في ذلك الوقت، اشتدت المكائد التي كانت تحاك بمدينة فلورنسا، وعمت الفوضى والاضطرابات أرجاء هذه الإمارة المستقلة، خصوصاً مع وجود جماعات متصارعة يمثل كل منها الإمبراطور أو البابا. وشغل دانتي آنذاك عدداً من المناصب المهمة في فلورنسا، غير أنه فقد شعبيته في عام 1312، ونفي إلى خارج المدينة على يد قادة جناح فصيل سياسي كان مسيطراً على الحكم، ومتحالفاً مع البابا بونيفاس الثامن (سيُذكر هذا البابا إضافة إلى شخصيات سياسية أخرى في فصل الجحيم ضمن كتاب «الكوميديا الإلهية»). فالتجأ إلى مدينة بولونيا سنة 1304التي كانت معقل المثقفين المنفيين. عزف دانتي عن ممارسة أي نشاط سياسي، وباشر تأليف الكتب، وتخيل في ذهنه الملامح الأولى للكوميديا الإلهية. وهناك بدأ بتأليف كتابه اللاتيني «اللهجة العامية»، الذي طرح فيه إمكانية إضافة بعض جوانب اللهجات الإيطالية المحكية غير المستخدمة في السياقات الأدبية، إلى الإيطالية العامية المستخدمة في قسم من المؤلفات، بحيث تغدو الإيطالية لغة أدبية رصينة. ووفقاً لدانتي، ستكون اللغة الجديدة إحدى الوسائل التي يمكن اللجوء إليها لتوحيد الأراضي الإيطالية المنقسمة.
في عام 1306، طرد جميع منفيي فلورنسا من مدينة بولونيا، فانتقل دانتي إلى مدينة رافينا، ولكن حياته بعد ذلك بعدة سنوات كانت غامضة ومجهولة، إذ تؤكد بعض الأخبار أنه أمضى عامين في باريس من سنة 1307 إلى 1309، وأثناء وجوده، اطلع على كتاب «المعراج» لأبي القاسم عبد الكريم القشيري، المترجم إلى الفرنسية التي كان يجيدها دانتي إجادة تامة، والكتاب كما يؤكد المستشرق الإسباني مانويل آسين بلاثيوس، الذي ألف كتاب «دانتي والإسلام» عام 1927، يشير إلى مصادر دانتي العربية، من خلال وجود تشابه كبير بين «الكوميديا الإلهية» وموضوعات عربية، استيقت من كتاب «المعراج». وقد ساد صمت وتكتم امتد إلى عام 1949، حيث عثر على مخطوطات يدوية تحمل عنوان «معراج محمد» مترجمة عن اللغة اللاتينية، بعدة نسخ في عدة بلدان أوروبية، إضافة إلى مكتبة الفاتيكان، تحمل تاريخ العام الذي ولد فيه دانتي. وهذه الأوراق المستنسخة بخط اليد تعكس التشابه الكبير بين الكوميديا وكتاب المعراج. في عام 1949 ظهر كتاب باللغة الإيطالية تحت عنوان «المعراج والمصادر العربية الإسلامية للكوميديا الإلهية»، قام بتأليفه المستشرق الإيطالي إنريكو جيرولي، وكان حينها سفير بلاده لدى إيران، ويحمل تكراراً لما كتبه المستشرق الإسباني بلاثيوس. وقبل سنتين من هذا الحدث، قام المستشرق الإنجليزي نيكلسون، بنشر مقال تحت عنوان «الجذور الفارسية لدانتي».
ومن المعروف، أن الكوميديا الإلهية عمل ملحمي شعري يصّور الحياة الإنسانية وفقاً للرؤية المسيحية للحياة الآخرة، وقد كانت أشبه بصرخة تحذير تدعو المجتمع الغارق في الفساد إلى سلوك طريق البر والصلاح. يتبع القارئ في هذا العمل رحلة دانتي عبر الحياة الآخرة، التي تقسم إلى 3 عوالم هي: الجحيم، والمطهر، والفردوس. ويقود الشاعر الروماني فيرجل، دانتي، في رحلته عبر الجحيم والمطهر، في حين تقوده بياتريس في رحلته عبر الفردوس.
وتبدأ هذه الرحلة من الليلة التي تسبق الجمعة العظيمة إلى يوم الأربعاء بعد عيد الفصح في ربيع عام 1300. يسود بنية العوالم الثلاثة في الآخرة نمط مشترك مكون من 9 طبقات (حلقات)، وحلقة عاشرة؛ فالجحيم مثلاً مكون من 9 طبقات يليها مكان وجود الشيطان في قاع الجحيم، وكذلك يتكون المطهر من 9 طبقات توجد في أعلاها حديقة عدن، أما الفردوس فتوجد فيه 9 طبقات يليها عرش الرب. تتألف الكوميديا الإلهية من 100 أنشودة كتبت وفق مقياس معروف باسم «اللحن الثالث»، حيث يظهر الرقم 3 في كل أجزاء العمل. في الجحيم، يقود «فيرجل» دانتي مع مجموع من الخطاة خلال الرحلة، ويتبادلون الحديث مع بعض الشخصيات. كل حلقة في الجحيم خاصة بأُناس ارتكبوا خطيئة محددة، ولم يدخر دانتي ما يمتلكه من إبداع فني في وصف مشهد العقاب وصياغته شعرياً لكل حلقة. وفي المحطة الأخيرة في الجحيم، يقابل دانتي وفيرجيل الشيطان مدفوناً في الجليد حتى خصره، ويرقد إلى جواره كاسيوس ويهوذا وبروتوس، أكبر الخونة في التاريخ. بعد الجحيم، ينتقل دانتي وفيرجيل إلى المطهر، وهو عبارة عن جبل متدرج مكون من 7 طبقات يسودها العذاب والتطهر الروحي (تركز الطبقات إلى الخطايا السبعة).
وخلال الرحلة، يقابل دانتي بعض الشخصيات التي كانت بارزة في مجالات الثقافة والعدل والمحبة مثل توما الأكويني، والملك سليمان، والجد الأكبر لدانتي. وفي نهاية الرحلة، يقابل دانتي شخصية أدبية من القرن الثالث عشر، كان شاعراً وكاتباً، ورجل سياسة، فلورنسي الأصل، يعتبر أكبر شاعرٍ في اللغة الإيطالية، ولهذا السبب لقّب بأكبر وأرقى شاعر. وهذا الشاعر هو دانتي إليغييري.
وتوفي دانتي في 14 سبتمبر (أيلول) 1321 برافينا، بعد عودته من فينيسيا عن عمر يناهز 56 عاماً، بعد إصابته بمرض الملاريا، ودفن في كنيسة القديس بير مجيور في مدينة رافينا.



شوارع بريطانيا تحمل أسماء الطيور... وسماؤها تفتقدها

الأسماء تتكاثر لكنّ الطيور تختفي من الحقول والسماء (شاترستوك)
الأسماء تتكاثر لكنّ الطيور تختفي من الحقول والسماء (شاترستوك)
TT

شوارع بريطانيا تحمل أسماء الطيور... وسماؤها تفتقدها

الأسماء تتكاثر لكنّ الطيور تختفي من الحقول والسماء (شاترستوك)
الأسماء تتكاثر لكنّ الطيور تختفي من الحقول والسماء (شاترستوك)

تزداد في بريطانيا تسمية الشوارع بأسماء طيور مثل القُبرات والزقزاق والزرازير، في وقت تشهد فيه أعداد هذه الأنواع تراجعاً مقلقاً.

فقد كشف تقرير لجمعية حماية الطيور الملكية، نقلته «الغارديان»، عن أنّ أسماء شوارع من قبيل «ممر القُبرة» و«جادة السمامة» باتت أكثر شيوعاً خلال العقدين الماضيين. وبالاستناد إلى بيانات «أو إس أوبن نيمز» بين عامَي 2004 و2024، تبيَّن أن الشوارع التي تحمل أسماء طائر القُبرة ارتفعت بنسبة 350 في المائة، وتلك التي تحمل اسم الزرزور بنسبة 156 في المائة، فيما ارتفعت أسماء الشوارع المرتبطة بطيور الزقزاق بنسبة 104 في المائة، رغم الانخفاض الكبير في أعداد هذه الطيور في البرّية.

ويشير التقرير إلى أنّ بريطانيا فقدت بين عامَي 1970 و2022 نحو 53 في المائة من القُبرات المتكاثرة، و62 في المائة من الزقزاق، و89 في المائة من العندليب.

وقالت المديرة التنفيذية للجمعية، بيكي سبيت، إنّ التحليل «يكشف عن أن البلديات والمطوّرين العقاريين لا يجدون غضاضة في تسمية الشوارع بأسماء الطبيعة التي نحبّها، بينما تبقى الجهود الرامية إلى منع اختفاء هذه الطيور من سمائنا بعيدة تماماً عن المستوى المطلوب».

ووصف تقرير «حالة الطبيعة 2023» المملكة المتحدة بأنها «واحدة من أكثر الدول استنزافاً للطبيعة على وجه الأرض»، مشيراً إلى الانهيار الحاد في أعداد الطيور البرية منذ سبعينات القرن الماضي.

كما أظهر تحليل الجمعية أنّ استخدام كلمة «مرج» في أسماء الشوارع زاد بنسبة 34 في المائة، في حين اختفت 97 في المائة من المروج البرّية منذ الثلاثينات. ودعت الجمعية الحكومة إلى تعزيز جهود حماية الطبيعة، مع دخول مشروع قانون التخطيط والبنية التحتية في إنجلترا مراحله النهائية.

كانت الحكومة قد تراجعت في أكتوبر (تشرين الأول) عن دعم تعديل يُلزم بتركيب «طوب السمامات» في كلّ منزل جديد، رغم أنّ أسماء الشوارع المرتبطة بالسمامات ارتفعت بنسبة 58 في المائة.

وأكدت الجمعية أنه من «الممكن والضروري» تبنّي نظام تخطيط عمراني يُسهم في استعادة البيئة الطبيعية، مستشهدةً ببحث صادر عن مؤسّسة «مور إن كومون» يفيد بأنّ 20 في المائة فقط من البريطانيين يرون أنه ينبغي خفض المعايير البيئية لتشييد مزيد من المنازل.

من جانبه، قال مؤلّف كتاب «ليا الوقواق» عن تاريخ الطيور في أسماء الأماكن البريطانية، مايكل وارن، إنّ البريطانيين «يعشقون أسماء الطبيعة، ويعرف المطوّرون ذلك جيداً». لكنه أوضح أنّ رواج أسماء الطيور في المشروعات السكنية الجديدة «يخفي انفصالاً عميقاً يعانيه كثيرون عن الطبيعة، ويعطي انطباعاً مضلّلاً بأنّ كلّ شيء على ما يرام».

وأشار وارن إلى أنّ أسماء الأماكن كانت سابقاً تعكس الواقع البيئي، أما الأسماء الحديثة فهي «في أفضل الأحوال جميلة المظهر، لكنها في الحقيقة وسيلة خادعة ورخيصة وسهلة لخلق إيحاء بمعالجة تدهور الطبيعة من دون القيام بأيّ تحرّك فعلي».

وختمت سبيت: «يستحق الناس أن يستمتعوا بصوت العندليب في ذروة غنائه، أو بصيحات السمامات وهي تحلّق فوق رؤوسهم، بدلاً من العيش في شوارع صامتة تحمل أسماء ساخرة».


علي الكلثمي... المخرج السعودي الذي صاغ من السخرية رؤية سينمائية

علي الكلثمي شارك تفاصيل منهجه الإخراجي ورحلته داخل الصناعة السعودية (البحر الأحمر)
علي الكلثمي شارك تفاصيل منهجه الإخراجي ورحلته داخل الصناعة السعودية (البحر الأحمر)
TT

علي الكلثمي... المخرج السعودي الذي صاغ من السخرية رؤية سينمائية

علي الكلثمي شارك تفاصيل منهجه الإخراجي ورحلته داخل الصناعة السعودية (البحر الأحمر)
علي الكلثمي شارك تفاصيل منهجه الإخراجي ورحلته داخل الصناعة السعودية (البحر الأحمر)

للمخرج السعودي علي الكلثمي أسلوب ساخر لا ينفصل عن شخصيته، ولا عن أعماله، ولا حتى عن طريقته في مقاربة أكثر الأسئلة الفنّية جدّية. بدا ذلك واضحاً في حديثه على المسرح خلال الجلسة الحوارية التي تناولت تجربته في مهرجان «البحر الأحمر السينمائي الدولي»، في مزيج بين الخفّة والعمق، وبين اللعب والملاحظة الحادّة، ما يجعله قادراً على قول أكثر الأفكار تعقيداً بأبسط المفردات وأكثرها تلقائية.

الجلسة، التي بيعت تذاكرها بالكامل، وشهدت حضوراً كثيفاً من المهتمّين، لم تكن مجرّد لقاء عابر؛ إذ بدا واضحاً أنّ تجربة الكلثمي باتت اليوم محطَّ متابعة عربية وخليجية، مع حضور لافت لجمهور من الكويت وعُمان ودول أخرى. فهو يُعد أحد أبرز الأصوات التي خرجت من فضاء «يوتيوب» في السعودية، وبدأ رحلته السينمائية عبر الفيلم القصير «وسطي» عام 2016، كما يُعد أحد المساهمين في نقل السينما المحلّية إلى مرحلة جديدة من خلال فيلمه الطويل «مندوب الليل» الذي حصد جوائز عدّة.

من السخرية إلى المنهج

وحملت الجلسة كثيراً من الجدّية في التفاصيل التي قدَّمها الكلثمي عن عمله مع الممثلين. وكان لافتاً أنه بدأ إحدى إجاباته بنصيحة غير معتادة: «أنصح كلّ الخرّيجين أن يُجرّبوا التمثيل ولو في ورشة قصيرة. التجربة تُغيّر فهمك للممثل تماماً!». هذه الجملة وحدها كانت كافية لفتح باب واسع حول علاقته بالممثلين، وكيف أسهمت تجربته القصيرة في التمثيل، التي وصفها بـ«الكراش كورس»، في تغيير طريقته في التعامل مع الممثل أمام الكاميرا.

يرى الكلثمي أنّ الممثل لحظة وصوله إلى موقع التصوير يكون «مكشوفاً بالكامل». هذه النظرة العميقة لطبيعة الوقوف أمام الكاميرا جعلته يؤمن بأنّ المخرج لا يمكنه قيادة الأداء من دون أن يكون قادراً على الشعور بذلك الخوف الإنساني الخام. لذلك، فإنّ أول ما يمنحه للممثل ليس التوجيه، بل الثقة. يضيف: «أول ما يحتاج إليه هو أن يشعر أنك لن تحاكمه. أنك شبكة الأمان التي تحميه حين يُغامر».

علي الكلثمي على السجادة الحمراء في المهرجان (البحر الأحمر)

يُصرّ الكلثمي على أنّ العمل الجوهري لا يتم في موقع التصوير، بل قبله. وهي فكرة تُشكّل أحد أعمدة منهجه الإخراجي. وقدَّم مثالاً على ذلك من خلال علاقته المهنية الطويلة مع الممثل محمد الدوخي (بطل «مندوب الليل»)، التي تمتد لسنوات.

في التحضير للشخصيات، كانا يستحضران أشخاصاً من الماضي، ويقولان: «تتذكر فلان؟ هذا ظله... طيف منه». هنا يظهر الجانب الإنساني عند الكلثمي، الذي يرى في التفاصيل الصغيرة والعلاقات العابرة مادة حقيقية لبناء الشخصية. فليست الحكايات الكبيرة ما تصنع صدق الأداء، بل هشاشة التفاصيل التي لا ينتبه لها أحد.

ويتعمَّق هذا المنهج عبر أداة إضافية يستخدمها تحت إطار البحث عن تفاصيل الشخصية. فهو يرى أنّ الممثل مُطالب بمعرفة دفاتر الشخصية، وكتاباتها، وطريقة تفكيرها، وحتى ما يمكن أن تستمع إليه في عزلتها. ليس ذلك بهدف خلق صورة مُكتملة، بل بهدف فتح مسارات داخلية تُساعد الممثل على الوصول إلى جوهر الشخصية.

النصّ بصوت المُخرج

ومن أكثر جوانب الجلسة إثارة للانتباه، اعتراف الكلثمي بأنه يحب أن يقرأ النصّ للممثل بعد أن ينتهي الأخير من قراءته. ورغم أنه يصرّ على أن ذلك ليس لتلقينه الأداء، فإنه يراه «نافذة إضافية» تمنح الممثل فرصة للدخول إلى العالم الداخلي للشخصية. يقول: «أقرأ النص بصوتي، وأمثّل الشخصية أمامه، ليس لأريه كيف يؤدّي، بل لأفتح له نافذة يُطل من خلالها على عالم الشخصية».

هذا النهج، الذي يجمع بين الحسّ التمثيلي والقدرة على الإصغاء، يعكس رؤية الكلثمي لموقعه في الصناعة، كما ظهر بوضوح في الجلسة التي امتدَّت لنحو ساعة، وحاوره فيها الصحافي أحمد العياد. فهو لا يضع نفسه في موضع السلطة، بل في موضع الشريك الذي يُمهّد للممثل الطريق بدل أن يفرض عليه مساراً واحداً.

من «يوتيوب» إلى السينما

الحضور الواسع للكلثمي في الجلسة يعكس مساراً غير تقليدي في السينما السعودية. فالمخرج الذي خرج من عباءة المحتوى الرقمي لا يحمل عقدة الانتقال إلى السينما، ولا يضع بينهما طبقية، بل يرى أنّ لكل وسيط لغته وجمهوره، والفنان الحقيقي لا ينتمي إلى منصة بقدر ما ينتمي إلى صدق التجربة. وقد بدا هذا المبدأ حاضراً في ردوده، وفي التواضع الذي يتعامل به مع مشواره، سواء في البدايات مع «وسطي»، أو في نجاحات «مندوب الليل» التي نقلته إلى دائرة الضوء السينمائية.

لم تكن الجلسة مجرّد استعراض لسيرة مخرج شاب، وإنما درس في فَهْم الممثل، وفي التحضير، وفي الدور الذي يمكن أن يلعبه التعاون في رفع جودة صناعة كاملة. وربما كانت أيضاً نافذة إلى روح الكلثمي نفسه: فنان يسخر من كلّ شيء، لكنه لا يسخر من الفنّ.


أمير المصري في «البحر الأحمر»... بطولة مزدوجة تقوده إلى لحظة تحوُّل لم يتوقَّعها

مشهد من فيلم افتتاح المهرجان «العملاق» من بطولة أمير المصري (المهرجان)
مشهد من فيلم افتتاح المهرجان «العملاق» من بطولة أمير المصري (المهرجان)
TT

أمير المصري في «البحر الأحمر»... بطولة مزدوجة تقوده إلى لحظة تحوُّل لم يتوقَّعها

مشهد من فيلم افتتاح المهرجان «العملاق» من بطولة أمير المصري (المهرجان)
مشهد من فيلم افتتاح المهرجان «العملاق» من بطولة أمير المصري (المهرجان)

تصدُّر بطولة فيلم افتتاح مهرجان «البحر الأحمر السينمائي الدولي» ليس أمراً بسيطاً، بيد أنْ يترافق ذلك مع اختيار فيلم آخر للبطل نفسه ضمن دورة واحدة، فهذه حالة لا تحدُث كثيراً في مسيرة أي ممثل. هذا ما يعيشه حالياً البريطاني - المصري أمير المصري، بطل فيلم «العملاق» الذي افتتح الدورة الخامسة للمهرجان، وحظي باهتمام واسع، وهو أيضاً بطل فيلم «القصص» للمخرج أبو بكر شوقي، أحد أبرز المنافسين في المسابقة الرسمية للأفلام الطويلة.

أمير المصري، الذي أصبح اسماً مألوفاً في سجل ضيوف المهرجان خلال السنوات الماضية، عاد هذا العام بنبرة مختلفة وحضوراً أكثر نضجاً، ليروي لـ«الشرق الأوسط» تفاصيل التجرية، قائلاً: «عندما تحدَّث معي الرئيس التنفيذي للمهرجان الأستاذ فيصل بالطيور عن فيلم (العملاق)، لم أكن أعرف أنه سيختاره ليكون فيلم الافتتاح. فقد كان من الممكن أن يختار فيلماً تجارياً لبطل هوليوودي مثلاً، لكنه أبدى اهتماماً بإظهار أناس مثلي على المسرح أمام نجوم عالميين مثل مايكل كين وإيشواريا راي».

ويصف المصري تلك اللحظة بأنها علامة فارقة في مسيرته، ويضيف بنبرة إعجاب واضحة: «أنا منبهر بالمهرجان، وعاماً تلو آخر نرى أنّ كلّ دورة أفضل من التي سبقتها». ويتابع موضحاً خصوصية هذا العام: «مستمتع جداً بالمرحلة الحالية التي أعيشها فنّياً، خصوصاً مع ندرة أن يحظى ممثل ببطولة فيلمين مشاركين في مهرجان بحجم (البحر الأحمر)».

أمير المصري... عام مفصلي يُبدّل موقعه بين البطولة والهوية الفنّية (المهرجان)

«العملاق»... المدرّب أم الموهبة؟

وإنما حضور المصري في «العملاق» يتجاوز مجرّد البطولة، فالفيلم نفسه يحمل تركيبة حساسة تستدعي أداءً واعياً لطبيعة الشخصية التي يجسدها: نسيم حميد، المُلاكم الذي أحدث ثورة في صورة الرياضي المُسلم في بريطانيا التسعينات، بقدر ما أثار جدلاً لا ينتهي حول علاقته بمدرّبه الأسطوري الذي يجسّد دوره النجم بيرس بروسنان. وبسؤال أمير المصري عن تقاطعات ذلك مع حياته، يرد بحماسة: «جداً... كلانا يتجاهل الآراء السلبية ويُكمل طريقه بإصرار».

ينطلق الفيلم من مشهد صغير في شيفيلد البريطانية، حيث تطلب والدة طفل في السابعة من المدرّب أن يُعلّم ابنها الدفاع عن نفسه ضدّ التنمُّر، لحظة تبدو عادية لكنها تتحوَّل إلى حجر الأساس لأسطورة. يلتقط المدرّب الموهبة من النظرة الأولى، فيأخذ نسيم مع 3 من إخوته إلى الحلبة، ليكتشف فوراً أن الطفل النحيف يحمل شيئاً لا يُدرَّس. ومن هنا يمتدّ الخطّ الزمني للفيلم عبر محطات تنقل نسيم من شوارع الحيّ إلى لقب بطل العالم، قبل أن تبدأ الانهيارات التي ستفضح هشاشة العلاقة بين المُلاكم ومدرّبه.

يطرح الفيلم بذكاء شديد السؤال: مَن هو «العملاق» الحقيقي، المدرّب أم الموهبة؟ هذا السؤال يصل ذروته في مشهد صادم يتواجه فيه الطرفان، فيقول نسيم: «هذه موهبة من الله، وعليَّ أن أستثمرها من دون أن أدين بالفضل لأحد». فيردّ المدرّب: «موهبتك بلا قيمة لو لم أكتشفها وأطوّرها طوال 16 عاماً».

ولأنّ الفيلم يعيد طرح الأسطورة على الشاشة، كان حضور نسيم حميد الحقيقي في عرض الفيلم حدثاً إضافياً، إذ ظهر المُلاكم المعتزل في المهرجان بعد سنوات من الغياب، مُبتسماً ومُتأثراً، وقال لأمير المصري: «هذا الفيلم يقول لك: (باسم الله... ابدأ مسيرة جديدة!)». وكأنّ الأسطورة سلّمت شعلتها الرمزية للممثل الذي أعاد بناءها.

المصري يتوسّط المُلاكم المعتزل نسيم حميد والرئيس التنفيذي للمهرجان فيصل بالطيور (المهرجان)

مرحلة جديدة... مشروعات بالجُملة

وبالنظر إلى كون الهوية الفنّية لأمير المصري وُلدت من تداخُل الثقافتين العربية والغربية، تماماً كما جاء في فيلم «العملاق»، يبدو السؤال عن تأثير هذا المزج حاضراً بالضرورة، ليُجيب بتأمّل واضح في جوهر اختياراته قائلاً: «الأهم أن أركّز على المشروع، أيّاً كان، في العالم العربي أو خارجه». ويشرح: «دائماً تشغلني الأسئلة: هل هذا العمل من شأنه تحريك شيء داخلي؟ هل يمكنه إيصال رسالة؟»، مشيراً إلى أنّ فيلم «العملاق» يأتي ضمن هذا الإطار بشكل واضح.

الزخم دفعه لاتخاذ خطوة طال تأجيلها، وهي تأسيس شركة إنتاج في بريطانيا، فيكشف: «اتجهت مؤخراً لتأسيس شركة إنتاج افتتحتها قبل نحو 3 أشهر، وأعتزم في المرحلة المقبلة أن أنفّذ أعمالاً ليست لي فقط، بل كذلك لأناس يُشبهنوني». يتحدَّث المصري عن مشروعه الجديد كأنه يضع حجر الأساس لهوية إنتاجية مقبلة تُكمِل ما بدأه أمام الكاميرا.

أمير المصري يتحدّث عن الزخم والتحوّل وبداية مشروعه الإنتاجي (الشرق الأوسط)

وعن أحدث مشروعاته، يقول: «ثمة فيلم أنهيته للتو في ألمانيا، ولو عُرض في مهرجان مثل (البحر الأحمر)، فهذا يعني أننا سلطنا الضوء على قضية مهمة جداً في موضوع لامسني جداً عندما قرأته. فيلم سيكون مهماً جداً». ورغم تحفُّظ المصري على ذكر القضية التي يتناولها، فإنّ حديثه يوحي بموضوع ثقيل لمرحلة أكثر التزاماً في خياراته السينمائية.

وفي ختام حديثه، يفتح نافذة على مشروع جديد ينتظره جمهور الدراما، مؤكداً أنه يستعدّ لبطولة مسلسل «سفّاح» مع المخرج هادي الباجوري، الذي من المنتظر عرضه عبر منصة «شاهد»، وهو عمل يستلهم من قصة حقيقية لقاتل متسلسل حصلت في قلب القاهرة، ليذهب هذه المرة نحو الغموض والعوالم السوداء.