لم يكن اختيار اسم بشر هاني الخصاونة لرئاسة الحكومة الأردنية مفاجئاً للأوساط السياسية في الأردن. إذ إنه عمل قرب العاهل الأردني الملك عبد الله الثاني، مستشاراً خلال فترة قصيرة، لكنها كانت مكثفة التحديات، وظهر وحيداً إلى جانب الملك في زيارات لم تُكشف من تفاصيلها إلا أخبار رسمية مقتضبة.
في مرحلة قصيرة ومزدحمة، لمع اسم الخصاونة كلما اقتضت الحاجة لـ«حلقة وصل» بين الشأنين الأمني والسياسي في كل قرار متعلق بإدارة أزمة، ليحفظ سر ملفات الملك بـ«مكتومية» عُرفت عنه. كذلك حيّد خصوماً له بابتسامة ودبلوماسية سُجلت له، بعد محاولات للنيل من هدوئه. وفي حين تسبّب اسم بشر الخصاونة في غصة عند خصومه، فإنه حظي بتوافق لدى طيف واسع من النخب السياسية، مستنداً إلى قاعدة عريضة من انتشاره المجتمعي الناعم والحذر، ودفء علاقاته التي نسجها عبر سنيّ عمله.
لا يستهان برئيس وزراء الأردن الجديد بشر الخصاونة عند استفزازه بالمهمات، إذ نجح في تشكيل حكومته باستقلالية، فجمع طيفاً واسعاً من الشخصيات، وحيّد «لاءات» مراكز القرار على بعض شخصيات فريقه. ومن ثم، جسّر خلال مدة 6 أيام فقط للمهمة، ما بين تكليفه، مروراً بأداء حكومته القسم الدستوري، ووصولاً لبرامج تنفيذية ومحاور خطة تطبيقية، ليكسب له ولتشكيلته سمعة الحكومة الأفضل من حيث تركيبة الأسماء والمواقع خلال السنوات القليلة الماضية.
في الواقع، يُسجل على الرئيس الجديد إكثاره لكلمات المديح في مجاملاته الاجتماعية. ويكاد يعتقد من يجالسه أنه صديق قديم، لكن يُحسب له تجاوزه عقدة المجاملة تلك في اختيار فريقه الوزاري، مستبعداً من ظن الناس أنه سيأتي بهم على صعيد الصداقة، ليحتفظ بحصة صغيرة لصديق أو أكثر عُرفت عنهم الكفاءة أكثر مما عرفت عنهم تقاطعات العمر والمحطات مع الرئيس.
- من الطبقة البيروقراطية
الخصاونة المحسوب على طبقة البيروقراطيين الرسمي؛ اختار أسماء من التوجه ذاته، وجاء بفريق قوامه 32 وزيراً وصفوا بالمحافظين من الشخصيات السياسة المستندين لإرث التجارب والمواقع بين عهدي الراحل الحسين والملك عبد الله الثاني. ولقد شكل مجلس وزراء لا يقوده سوى متمكّن بالحجة ومتسلح بالبرهان، وما كان من الرئيس الجديد بشر الخصاونة أن حسم الأمر منذ فاتحة جلساته، محدداً محاور الحديث ومُضيقاً هوامش ما استجد من أعمال في كلام الوزراء، فأخضع جميع الوزراء لقرارات صارمة ليس أقلها منع إدخال الهواتف الخلوية إلى جلسات مجلس الوزراء وتحديد مدة المداخلات بـ3 دقائق واحتفاظ الرئيس وحده بفيتو المقاطعة ونقل الحديث. وهذا، ما نقله وزراء من انطباعات عن رئيسهم، وتلك هي تقاليد غابت منذ زمن بعيد عن مؤسسة الرئاسة.
في المقابل، لم تسلم حكومة الخصاونة الجديدة من النقد المجتمعي. فقد نهشت مواقع التواصل الاجتماعي من «فرحة» التشكيل الأولى، وصبّ نشطاء جام غضبهم على شخصيات من الوزراء الجُدد، مُستلين فيديوهات ومنشورات سابقة لوزراء حاليين كانوا فيها على يمين المعارضة الحادة، وهم اليوم في مواقع القرار. لكن، على ما يبدو، شكلت مناعة الخصاونة حاجزاً جيداً - حتى هذه اللحظة - من تأثير منصات «السوشيال ميديا».
- النشأة والمسيرة
الخصاونة الرئيس هو نجل الوزير الأردني الأسبق هاني الخصاونة، المعروف بمواقفه القومية كبعثي استند لتاريخ طويل في العمل قرب الراحل الملك الحسين، الذي استعان به في مهمات خاصة سفيراً في عدة عواصم، ثم وزيراً في عدة محطات. وهو الرجل الذي اختار اعتزال العمل السياسي طوعاً، زاهداً بالظهور الإعلامي، ومبتعداً عن صالونات العاصمة السياسية، جاهزاً للنصيحة.
وفي مطلع مشواره المهني، دخل ابنه بشر الخصاونة، رئيس الوزراء الجديد، إلى وزارة الخارجية، وهو المكان الذي أخذته إليه بوصلته نحو سلم الارتقاء للوظائف الرسمية التي تدرج فيها جامعاً صنوف الخبرة المتراكمة في مسيرة امتدت لنحو 30 سنة.
تأخذك محركات البحث عند سؤالها عن بشر الخصاونة إلى مطالعة سلسلة شهادات علمية راكمها بعد تخرجه من الجامعة الأردنية الأم. وفي هذه الجامعة درس القانون في نهاية الثمانينات من القرن الماضي، ليُعرف بعدها خبيراً قانونياً مزج بين خبرته الدبلوماسية ومستنداً لقاعدته العلمية الصلبة.
وبين سنوات خبرته المهنية، حصد الخصاونة درجة الماجستير في العلاقات الدولية والدبلوماسية والاقتصاد من معهد الدراسات الشرقية والأفريقية (سواس) بجامعة لندن، والماجستير والدكتوراه في القانون الدولي من معهد لندن للاقتصاد والعلوم السياسية. وكذلك حاز على دبلوم تنفيذي في الإدارة العامة من كلية جون إف كينيدي في جامعة هارفارد بالولايات المتحدة.
هذه الشهادات صقلها الخصاونة بخبرة استثنائية تراكمت بفعل عمله بالقرب من وزراء الخارجية، وعبر مواقف يرويها عن الراحل الحسين مرة، والملك عبد الله الثاني مرات، إذ عمل بالقرب منه مستشاراً وكان كاتماً لسر القصر، كاشفاً في جانب من جلساته عن مهارات اكتسابها ليتفوق على نظرائه بفعل قربه المبكر من مراكز صناعة القرار.
- الخبرة الدبلوماسية
على صعيد موازٍ، خبِر الخصاونة متاهات العمل الدبلوماسي إبان عمله بين لندن ونيويورك في عقد التسعينات من القرن الماضي. ويومذاك كان موظفاً متمسكاً بتقاليد وزارة الخارجية التي تفسح المجال أمام اليقظين من أبنائها للنظر إلى ساحات القرار الدولي في أعقد متاهاتها، وإذ ذاك يدركون أن التأثير في القرارات الكبيرة قد يبدأ من اجتهاد موظف يحسن حمل الملفات ونقل الرؤى عبر اشتباك معرفي بكواليس القرار الأممي.
وحقاً، عبر مشواره منذ مطلع تسعينات القرن الماضي حتى مطلع الألفية، كان بشر الخصاونة «موظف الظل» في وزارة الخارجية حاملاً ملفات متعدّدة دائماً ومتناقضة أحياناً، وذلك إبان انتقاله بين دوائر الوزارة. إذ عمل مديراً لمكتب تنسيق مفاوضات السلام، ومديراً للإدارة القانونية، ومديراً لإدارة الإعلام الناطق الرسمي باسم الوزارة، ومديراً لإدارة حقوق الإنسان فيها، ضمن تدرّجات السلك الدبلوماسي التي تحُد أحياناً من بروز الكفاءات لصالح الالتزام بالأقدمية.
في المقابل، اشتبك الخصاونة مع المجتمع المحلي إبان توليه مهمة تأسيس وإدارة مركز الإعلام الأردني عام 2007، واقترب من جمهور الصحافيين محتفظاً بمساحة من العلاقات الدافئة معهم التي استمرت حتى اليوم، غير أن هذه التجربة لم تدم طويلاً، فقفل عائداً إلى وزارته الأم، لكن مشواره هذه المرة أخذ منحنى جديداً من الصعود بعد حمله رتبة سفير في الخارجية، فتسلم مهمة إدارة المكتب الخاص لوزير الخارجية، وعمل مستشاراً خاصاً له بين عامي 2009 و2012. قبل أن يصل إلى مهمة سفير للأردن في القاهرة عام 2012، مع مندوبية الأردن لدى جامعة الدول العربية. وهناك دخل الخصاونة دوائر صنع القرار محللاً ومالكاً لمعلومات سمحت باكتشاف نقاط قوة رجل مدرك ومحيط بملفاته.
- التجربة الوزارية
تلك المهمة حملت الخصاونة على الأكتاف، وزير دولة للشؤون الخارجية، ثم وزيراً للشؤون القانونية، في حكومة رئيس الوزراء الأسبق هاني الملقي بين عامي 2016 و2018، قبل أن يقفل تلك المهمة برحيل الحكومة، ويعود لوزارة الخارجية، إلا أنه عاد هذه المرة سفيراً للمملكة في العاصمة الفرنسية باريس، ومندوباً دائماً للأردن في منظمة «اليونيسكو».
لقد غادر الخصاونة إلى باريس بعد إحباطات رافقته خلال مشوار مشاركته في الحكومة، وظل عقله وقلبه معلقين في عمّان، محتفظاً بعلاقاته مع محيطه. وفِي غضون مدة لم تتجاوز 6 أشهر لإقامته في العاصمة الفرنسية استُدعي الخصاونة عبر اتصال مقتضب إلى عمّان التي وصلها من دون أن يحمل حقائبه؛ ظناً منه أنه عائد في اليوم نفسه، وفوجئ بتكليف العاهل الأردني له بالموقع الأقرب في الاستشارية الملكية مستشاراً لشؤون السياسات والاتصال.
في ذاكرة الخصاونة الذي استمعت لها «الشرق الأوسط» في جلسات متعددة، مواقف يرويها عن عتاة الإدارة العامة المتسلحين بخبرات العمل السياسي، ويبدو الرجل متأثراً بتلك التجارب، فما لم يعشه هو؛ حفظه من ذاكرة والده، ويحمل من ذكرياته تلك هدايا القدر التي جعلته قريباً من تجارب وعرة.
- كياسة مطلوبة وتحت الاختبار
الخصاونة الذي عرف عنه الاستماع والإصغاء لمحدثيه، مطلوب منه اليوم أن يتكلم باسم السلطة التنفيذية أمام الشعب، وأن يحاكم على جميع قراراته. فالأردنيون نفسُهم قصير في التفاؤل، وبسرعة يستطيعون أن يحكموا على «فشل» الحكومات، ويمتلكون جرأة في النقد، رفع من سقفها فضاء التواصل الاجتماعي المفتوح.
ومن ثم، فإن نجاح الخصاونة في إدارة «فسيفساء» حكومته بين الأجيال والأصول والمنابت والمواقف، يحتاج منه ضبط التسريبات القادمة من ثغرات المؤسسة، ومواجهة الناس بالمعلومات. درءاً لأفخاخ الشائعات وسعياً لترميم ما تهدم من إرث رئاسة الوزراء عشية تخريبها باسم دعوات المعاصرة المُفرغة من الأصالة.
لقد حجز الرئيس الخصاونة، ابن الـ51 سنة من العمر، كرسيه في نادي رؤساء الحكومات الأردنيين، ويبقى عليه أن يحجز في ذاكرة الأردنيين الأثر الذي سيرافقه طيلة عمره. وسيحكم التاريخ إن كانت حكومة الخصاونة جاءت بحكم استحقاق المدد الدستورية فقط... أم أنها حكومة جاءت على رأس المهمة الصعبة لإدارة ظرف استثنائي، واستحقاق بناء ما تهدم من صورة الحكومات التي قزّمها أصحاب قرار مرتجفون ووزراء موظفون.
ختاماً، المراقبون العقلاء من النخب لا يطالبون الخصاونة بأكثر من تمسكه بصلاحيات الولاية العامة كضمانة دستورية تحمي الحكومات وتمكن أداءها. أما الحالمون من هذه النخب فيطالبون الرجل بما يعجز عنه «المصباح السحري»، غير أن الأداء المتزن لحركة الرئيس وفريقه - حتى الآن - تعزز الأمل في إحداث انعطافة مهمة على صعيد تجذير قيم الرصانة السياسية، والابتعاد عن التهافت نحو الإعلام بمخزون إنشائي لا اتصال له بالأردن بيئة وظروفاً، والحد من سباق الوزراء على الصدارة والظهور.