«جوائز نوبل» 2020... صناعة العلم قبل تطبيقه

كرمت اكتشاف نظرية «الثقب الأسود» وآلية «المقص الجيني» و«فيروس سي»

روجر بنروز وضع نظرية الثقب الأسود في شبابه ومنح «نوبل» في شيخوخته
روجر بنروز وضع نظرية الثقب الأسود في شبابه ومنح «نوبل» في شيخوخته
TT

«جوائز نوبل» 2020... صناعة العلم قبل تطبيقه

روجر بنروز وضع نظرية الثقب الأسود في شبابه ومنح «نوبل» في شيخوخته
روجر بنروز وضع نظرية الثقب الأسود في شبابه ومنح «نوبل» في شيخوخته

بينما يريد العالم إنجازات مبهرة وسريعة لكل شيء، وخاصة التهديدات الهائلة مثل فيروس «كورونا» والاحتباس الحراري، تذكرنا جوائز نوبل في الطب والفيزياء والكيمياء التي أعلنت الأسبوع الماضي أنه في العلم، قد يؤتي كل من البطء والثبات، ثماره.
وتتجه الأنظار دوما إلى التطبيق الذي يخرج البحث العلمي من نطاق المختبر ليكون دواء أو لقاحا أو منتجا، غير أن اللجنة العلمية لجائزة نوبل تبحث دوما عن أصحاب الأبحاث التي صنعت العلم، قبل أن يتحول هذا العلم إلى تطبيق، وهذا ما يسمونه بـ«العلوم الأساسية»، والتي تظهر الآثار المترتبة عليها بعد سنوات أو عقود من الاكتشاف.
وفي الوقت الذي يظن فيه أصحاب هذه الاكتشافات أن إنجازهم طواه النسيان بعد أن توارى خلف التطبيقات التي أصبحت أهم فائدة بالنسبة للمجتمع، تأتي لجنة جائزة نوبل لتقول: لهم «نحن لم ننساكم».
وخلال الأسبوع الماضي قررت اللجنة العلمية لجائزة نوبل تكريم هؤلاء العمالقة في الطب والفيزياء والكيمياء، لأنه لولاهم ما توصل العالم إلى علاج لفيروس التهاب الكبد (سي)، وما تمكن العلماء في شهر أبريل (نيسان) 2019 من التقاط أول صورة للثقب الأسود، وما تمكن العالم من تطوير محاصيل تتحمل العفن والآفات والجفاف، وإجراء تجارب سريرية على علاجات جديدة للسرطان.
- قصة الثقب الأسود
كان الاحتفاء العالمي في أبريل العام الماضي بالتقاط أول صورة للثقب الأسود، ولم تمنح الجائزة لهؤلاء، لكنها منحت لمن اكتشفوا أن هناك شيئا اسمه ثقب أسود، وأن بالإمكان مراقبته وتحديد موقعه.
وأظهر الفائز الأول العالم البريطاني من جامعة أكسفورد (روجر بنروز)، والذي قررت اللجنة العلمية للجائزة منحه النصف الأول من الجائزة كاملا، الذي أشار إلى أن الثقوب السوداء نتاج مباشر للنظرية العامة للنسبية، بينما اكتشف الفائزان الآخران، اللذان ذهب لهما النصف الآخر، وهما العالم الألماني من معهد ماكس بلانك (راينهارد جينزل) والعالمة الأميركية من جامعة كاليفورنيا (أندريا غيز) أن جسماً ثقيلاً وغير مرئي يتحكم في مدارات النجوم في مركز مجرتنا، والثقب الأسود الهائل هو التفسير الوحيد المعروف حالياً.
واستخدم روجر بنروز أساليب رياضية بارعة في إثبات أن الثقوب السوداء هي نتيجة مباشرة لنظرية النسبية العامة لألبرت أينشتاين، ولم يكن أينشتاين نفسه يعتقد أن الثقوب السوداء موجودة بالفعل، تلك الوحوش ذات الوزن الثقيل للغاية التي تلتقط كل ما يدخل إليها، ولا شيء يستطيع الهروب، ولا حتى الضوء.
ولإثبات أن تشكل الثقب الأسود عملية مستقرة، احتاج بنروز إلى توسيع الأساليب المستخدمة لدراسة نظرية النسبية ومعالجة مشاكل النظرية بمفاهيم رياضية جديدة.
وفي يناير (كانون الثاني) 1965، بعد عشر سنوات من وفاة أينشتاين، أثبت روجر بنروز أن الثقوب السوداء يمكن حقا تكوينها ووصفها بالتفصيل.
وكانت مسألة وجود الثقوب السوداء التي شغلت العلماء لعقود طويلة عادت إلى الظهور في عام 1963 مع اكتشاف الكوازارات (أشباه النجوم)، وهي ألمع الأجسام في الكون.
وكان السؤال الذي شغل العلماء حينها، هو من أين يأتي هذا الإشعاع المذهل القادم الكوارزار رغم حجمه المحدود؟ وكانت الإجابة أن هناك طريقة واحدة فقط للحصول على هذا القدر من الطاقة ضمن الحجم المحدود للكوارزار، وهي من سقوط المادة في ثقب أسود هائل.
وفي خريف 1964 أثناء نزهة لـ«روجر بنروز» مع زميل له في لندن، توقفا عن الحديث للحظة لعبور شارع جانبي، وظهرت حينها فكرة في ذهنه، سماها الأسطح المحاصرة، هي المفتاح الذي كان يبحث عنه دون وعي، وهي أداة رياضية ضرورية لوصف الثقب الأسود.
وتقوم فكرته على أن السطح المحاصر يجبر جميع الأشعة على الإشارة نحو المركز، بغض النظر عما إذا كان السطح منحنياً للخارج أو للداخل، وباستخدام الأسطح المحاصرة، تمكن من إثبات أن الثقب الأسود يخفي دائماً التفرد، وهو الحد الذي ينتهي فيه الزمان والمكان، وأن كثافته لا حصر لها.
وأضاف الباحثان الآخران «راينهارد جينزيل» و«أندريا غيز» دليلا آخر على وجود الثقب الأسود، حيث ركزا منذ أوائل التسعينات على منطقة تسمى (القوس A*) في مركز مجرة درب التبانة، وتم تعيين مدارات ألمع النجوم الأقرب إلى منتصف المجرة بدقة متزايدة.
وتتفق قياسات هاتين المجموعتين، مع العثور على جسم ثقيل للغاية وغير مرئي يسحب خليط النجوم، مما يجعلهم يندفعون بسرعة مذهلة، وكان الثقب الأسود الهائل هو التفسير الوحيد لهذه الظاهرة.
- تحرير الجينوم
وطبقت نتائج جائزة نوبل في الكيمياء نفس النهج وهو تكريم صناع العلم، فلم تذهب الجائزة للتطبيقات المتعددة التي أحدثتها تقنية تحرير الجينوم، المعروفة باسم (كريسبر- كاس 9)، لكنها ذهبت لمبتكري تلك التقنية، وهما العالمتان الفرنسية (إيمانويل شاربنتييه) والأميركية (جينيفر دودنا).
ويمكن للباحثين باستخدام أداة المقص الجيني (كريسبر- كاس 9) تغيير الحمض النووي للحيوانات والنباتات والكائنات الدقيقة بدقة عالية للغاية، وكان لهذه التكنولوجيا تأثير ثوري على علوم الحياة، وتساهم في علاجات جديدة للسرطان وقد تجعل حلم علاج الأمراض الوراثية يتحقق.
يقول كلاس جوستافسون، رئيس لجنة نوبل: «هناك قوة هائلة في هذه الأداة الجينية، والتي تؤثر علينا جميعاً، فهي لم تُحدث ثورة في العلوم الأساسية فحسب، بل أدت أيضاً إلى محاصيل مبتكرة وستؤدي إلى علاجات طبية جديدة رائدة».
وكان اكتشاف هذه المقصات الجينية غير متوقع، فخلال دراسات إيمانويل شاربينتييه حول بكتيريا تسمى (عقدية مقيحة) Streptococcus pyogenes))، وهي واحدة من البكتيريا التي تسبب أكبر ضرر للبشرية، اكتشفت جزيئا غير معروف سابقاً وهو (tracrRNA).
أظهر عملها أن (tracrRNA) هو جزء من جهاز المناعة القديم للبكتيريا الذي تستخدمه البكتيريا لحماية نفسها عن طريق شطر الحمض النووي الفيروسي.
ونشرت شاربينتييه اكتشافها عام 2011 وفي العام نفسه، بدأت تعاوناً مع جينيفر دودنا، عالمة الكيمياء الحيوية ذات الخبرة والمعرفة الواسعة بالحمض النووي الريبي، ونجحا معاً في إعادة إنشاء المقص الجيني للبكتيريا في أنبوب اختبار وتبسيط المكونات الجزيئية للمقص حتى يسهل استخدامه. وفي تجربة قام الاثنان بعد ذلك بإعادة برمجة المقص الجيني، حيث أثبتا أنه يمكن قطع أي جزيء من الحمض النووي.
ومنذ أن اكتشف الاثنان المقص الجيني عام 2012 انفجر استخدامه، وساهمت هذه الأداة في العديد من الاكتشافات المهمة في البحث الأساسي، وتمكن باحثو النبات من تطوير محاصيل تتحمل العفن والآفات والجفاف.
وفي الطب، تجري تجارب سريرية على علاجات جديدة للسرطان، وحلم القدرة على علاج الأمراض الموروثة على وشك أن يتحقق، فقد نقلت هذه المقصات الوراثية علوم الحياة إلى حقبة جديدة، تحقق أكبر فائدة للبشرية.
- عمالقة الطب وفيروس «سي»
وبينما حققت أكثر من دولة مؤخرا إنجازا في مجال الصحة باستخدام العلاجات الحديثة لفيروس (سي)، فإن اللبنة الأساسية في هذا الإنجاز كانت اكتشاف وجود الفيروس نفسه، ولولا حدوث ذلك، لظل قاتلا صامتا يحصد أرواح الملايين، لذلك ارتأت اللجنة العلمية لجائزة نوبل تكريم العلماء «هارفي جيه ألتر» و«مايكل هوتون» و«تشارلز إم رايس»، وهم أصحاب اكتشافات أساسية أدت إلى التعرف على فيروس التهاب الكبد الوبائي (سي).
تبدأ قصة هذا الاكتشاف في أربعينات القرن الماضي، حيث أصبح من الواضح أن هناك نوعين رئيسيين من التهاب الكبد المعدي، الأول، المسمى التهاب الكبد (إيه)، وينتقل عن طريق الماء أو الطعام الملوث، وعادة ما يكون له تأثير ضئيل على المدى الطويل على المريض. والثاني ينتقل عن طريق الدم وسوائل الجسم ويمثل تهديداً أكثر خطورة، لأنه يمكن أن يؤدي إلى حالة مزمنة، مع تطور تليف الكبد وسرطان الكبد.
ومفتاح التدخل الناجح ضد الأمراض المعدية هو تحديد العامل المسبب، وفي الستينات، حدد (باروخ بلومبرغ)، أن أحد أشكال التهاب الكبد المنقول بالدم سببه فيروس أصبح يُعرف باسم فيروس التهاب الكبد (بي)، وأدى هذا الاكتشاف إلى تطوير اختبارات تشخيصية ولقاح فعال، وحصل بلومبرغ على جائزة نوبل في الطب عام 1976.
في ذلك الوقت، كان (هارفي ج. ألتر)، في المعاهد الوطنية الأميركية للصحة يدرس حدوث التهاب الكبد في المرضى الذين تم نقل الدم إليهم. ورغم أن اختبارات الدم لفيروس التهاب الكبد (بي) المكتشف حديثاً قللت من عدد حالات التهاب الكبد المرتبط بنقل الدم، أظهر ألتر وزملاؤه بشكل مقلق أنه لا يزال هناك عدد كبير من الحالات ليس لها علاقة بفيروس (بي) أو (إيه).
وأظهر ألتر وزملاؤه أن الدم من مرضى التهاب الكبد يمكن أن ينقل المرض إلى الشمبانزي، المضيف الوحيد المعرض للإصابة إلى جانب البشر، وأظهرت الدراسات اللاحقة أيضاً أن العامل المعدي غير المعروف له خصائص الفيروس.
حددت التحقيقات المنهجية التي أجراها ألتر بهذه الطريقة شكلاً جديداً ومتميزاً من التهاب الكبد الفيروسي المزمن، أصبح المرض الغامض معروفاً باسم التهاب الكبد «غير النوع (إيه)، غير النوع (بي)». وأصبح تحديد الفيروس الجديد أولوية قصوى الآن، لكنه استعصى لأكثر من عقد من الزمان.
وجاء هنا دور (مايكل هوتون)، الفائز الثاني بالجائزة، الذي يعمل في شركة الأدوية (تشيرون)، حيث قام بالعمل الشاق اللازم لعزل التسلسل الجيني للفيروس.
وابتكر هوتون وزملاؤه مجموعة من شظايا الحمض النووي من الأحماض النووية الموجودة في دم الشمبانزي المصاب، وجاءت غالبية هذه الشظايا من جينوم الشمبانزي نفسه، لكن الباحثين توقعوا أن بعضها مشتق من الفيروس المجهول.
وعلى افتراض أن الأجسام المضادة ضد الفيروس ستكون موجودة في الدم المأخوذ من مرضى التهاب الكبد، استخدم الباحثون أمصال المريض لتحديد شظايا الحمض النووي الفيروسي المستنسخة التي تشفر البروتينات الفيروسية. وبعد بحث شامل، تم العثور على نسخة إيجابية واحدة، وأظهر المزيد من العمل أن هذا الاستنساخ مشتق من فيروس (آر إن إيه) جديد، وكان اسمه فيروس التهاب الكبد (سي).
كان اكتشاف الفيروس حاسما، لكن كان هناك جزء مفقود من اللغز، وهو هل يمكن للفيروس وحده أن يسبب التهاب الكبد؟
وهنا جاء دور الفائز الثالث (تشارلز إم رايس)، الباحث في جامعة واشنطن في سانت لويس، حيث عمل جنباً إلى جنب مع مجموعات أخرى تعمل مع فيروسات الحمض النووي الريبي، واكتشف منطقة في نهاية جينوم فيروس التهاب الكبد الوبائي (سي) اشتبه في أنها قد تكون مهمة لتكاثر الفيروس، ومن خلال الهندسة الوراثية، أنتج رايس نوعاً مختلفاً من الحمض النووي الريبي لفيروس التهاب الكبد الوبائي سي شمل المنطقة المحددة من الجينوم الفيروسي، وعندما تم حقن هذا الحمض النووي الريبي في كبد الشمبانزي، تم اكتشاف فيروس في الدم ولوحظت تغيرات مرضية تشبه تلك التي شوهدت في البشر المصابين بالمرض المزمن، كان هذا هو الدليل النهائي على أن فيروس التهاب الكبد الوبائي (سي) وحده يمكن أن يتسبب في حالات التهاب الكبد غير المبررة بواسطة نقل الدم.


مقالات ذات صلة

لماذا يُثير حصول ترمب على «جائزة فيفا للسلام» جدلاً؟

الولايات المتحدة​ ترمب وإنفانتينو في حديث سابق حول المونديال (أ.ف.ب)

لماذا يُثير حصول ترمب على «جائزة فيفا للسلام» جدلاً؟

يُتوقع أن يُسلم رئيس الاتحاد الدولي لكرة القدم (الفيفا) جياني إنفانتينو، للرئيس الأميركي دونالد ترمب "جائزة الفيفا للسلام" عند إجراء قرعة كأس العالم يوم الجمعة.

«الشرق الأوسط» (لندن )
العالم الشرع خلال إلقائه كلمته (سانا)

أبرز 5 شخصيات طبعت سنة 2025

فيما يأتي لمحة عن أبرز 5 شخصيات طبعت سنة 2025 في مختلف المجالات ومن مختلف أنحاء العالم.

«الشرق الأوسط» (باريس)
أميركا اللاتينية زعيمة المعارضة الفنزويلية ماريا كورينا ماتشادو (رويترز)

فنزويلا تعتزم اعتبار زعيمة المعارضة «هاربة» في حال سفرها لتسلم جائزة نوبل

تعتزم فنزويلا اعتبار زعيمة المعارضة ماريا كورينا ماتشادو «هاربة من وجه العدالة» في حال مغادرتها البلاد إلى النرويج لتسلم جائزة نوبل للسلام التي نالتها.

«الشرق الأوسط» (كاراكاس)
آسيا ساناي تاكايتشي لدى وصولها إلى مقر رئاسة الوزراء في العاصمة اليابانية طوكيو (أرشيفية - أ.ب)

رئيسة وزراء اليابان تعتزم ترشيح ترمب لجائزة نوبل

تستعد رئيسة الوزراء اليابانية ساناي تاكايتشي لترشيح الرئيس الأميركي دونالد ترمب لجائزة نوبل للسلام، مشيرة إلى أنها تقوم بالترتيبات اللازمة لإبلاغه بنواياها.

«الشرق الأوسط» (طوكيو)
يوميات الشرق عالم الفيزياء النظرية الحائز جائزة نوبل تشين نينغ يانغ (صحيفة تشينا ديلي)

وفاة العالم الصيني نينغ يانغ حائز «نوبل» في الفيزياء عن 103 أعوام

توفي عالم الفيزياء النظرية الحائز جائزة نوبل، تشين نينغ يانغ، في بكين اليوم (السبت) عن عمر ناهز 103 أعوام.

«الشرق الأوسط» (بكين)

هل يمكن لنظم الذكاء الاصطناعي التكيف مع ثقافات متعددة؟

هل يمكن لنظم الذكاء الاصطناعي التكيف مع ثقافات متعددة؟
TT

هل يمكن لنظم الذكاء الاصطناعي التكيف مع ثقافات متعددة؟

هل يمكن لنظم الذكاء الاصطناعي التكيف مع ثقافات متعددة؟

في سباق محتدم لنشر نماذج اللغات الكبيرة والذكاء الاصطناعي التوليدي في الأسواق العالمية، تفترض العديد من الشركات أن «النموذج الإنجليزي ← المترجم» كافٍ لذلك.

اللغة- ثقافة وأعراف

ولكن إذا كنتَ مسؤولاً تنفيذياً أميركياً تستعد للتوسع في آسيا أو أوروبا أو الشرق الأوسط أو أفريقيا، فقد يكون هذا الافتراض أكبر نقطة ضعف لديك. ففي تلك المناطق، ليست اللغة مجرد تفصيل في التغليف: إنها الثقافة والأعراف والقيم ومنطق العمل، كلها مُدمجة في شيء واحد.

وإذا لم يُبدّل نظام الذكاء الاصطناعي الخاص بك تسلسل رموزه الكمبيوترية فلن يكون أداؤه ضعيفاً فحسب؛ بل قد يُسيء التفسير أو يُسيء المواءمة مع الوضع الجديد أو يُسيء خدمة سوقك الجديدة.

الفجوة بين التعدد اللغوي والثقافي في برامج الدردشة الذكية

لا تزال معظم النماذج الرئيسية مُدربة بشكل أساسي على مجموعات النصوص باللغة الإنجليزية، وهذا يُسبب عيباً مزدوجاً عند نشرها بلغات أخرى. وعلى سبيل المثال، وجدت دراسة أن اللغات غير الإنجليزية والمعقدة لغويا غالباً ما تتطلب رموزاً أكثر (وبالتالي تكلفةً وحساباً) لكل وحدة نصية بمقدار 3-5 أضعاف مقارنةً باللغة الإنجليزية.

ووجدت ورقة بحثية أخرى أن نحو 1.5 مليار شخص يتحدثون لغات منخفضة الموارد يواجهون تكلفة أعلى وأداءً أسوأ عند استخدام نماذج اللغة الإنجليزية السائدة.

والنتيجة: قد يتعثر نموذج يعمل جيداً للمستخدمين الأميركيين، عند عمله في الهند أو الخليج العربي أو جنوب شرق آسيا، ليس لأن مشكلة العمل أصعب، ولكن لأن النظام يفتقر إلى البنية التحتية الثقافية واللغوية اللازمة للتعامل معها.

«ميسترال سابا» نظام الذكاء الاصطناعي الفرنسي مصمم خصيصاً للغات العربية وجنوب آسيا

مثال «ميسترال سابا» الإقليمي جدير بالذكر

لنأخذ نموذج «ميسترال سابا» (Mistral Saba)، الذي أطلقته شركة ميسترال للذكاء الاصطناعي الفرنسية كنموذج مصمم خصيصاً للغات العربية وجنوب آسيا (التاميلية والمالايالامية... إلخ). تشيد «ميسترال» بأن «(سابا) يوفر استجابات أكثر دقة وملاءمة من النماذج التي يبلغ حجمها 5 أضعاف» عند استخدامه في تلك المناطق. لكن أداءه أيضاً أقل من المتوقع في معايير اللغة الإنجليزية.

وهذه هي النقطة المهمة: السياق أهم من الحجم. قد يكون النموذج أصغر حجماً ولكنه أذكى بكثير بالنسبة لمكانه.

بالنسبة لشركة أميركية تدخل منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا أو سوق جنوب آسيا، هذا يعني أن استراتيجيتك «العالمية» للذكاء الاصطناعي ليست عالمية ما لم تحترم اللغات والمصطلحات واللوائح والسياق المحلي.

تكاليف الرموز والتحيز اللغوي

من منظور الأعمال، تُعدّ التفاصيل التقنية للترميز أمراً بالغ الأهمية. تشير مقالة حديثة إلى أن تكاليف الاستدلال في اللغة الصينية قد تكون ضعف تكلفة اللغة الإنجليزية، بينما بالنسبة للغات مثل الشان أو البورمية، يمكن أن يصل تضخم عدد الرموز إلى 15 ضعفاً.

هذا يعني أنه إذا استخدم نموذجك ترميزاً قائماً على اللغة الإنجليزية ونشرتَه في أسواق غير إنجليزية، فإن تكلفة الاستخدام سترتفع بشكل كبير، أو تنخفض الجودة بسبب تقليل الرموز. ولأن مجموعة التدريب الخاصة بك كانت تركز بشكل كبير على اللغة الإنجليزية، فقد يفتقر «نموذجك الأساسي» إلى العمق الدلالي في لغات أخرى.

أضف إلى هذا المزيج اختلافات الثقافة والمعايير: النبرة، والمراجع، وممارسات العمل، والافتراضات الثقافية، وما إلى ذلك، وستصل إلى مجموعة تنافسية مختلفة تماماً: ليس «هل كنا دقيقين» بل «هل كنا ملائمين».

التوسع في الخارج

لماذا يهم هذا الأمر المديرين التنفيذيين الذين يتوسعون في الخارج؟

إذا كنت تقود شركة أميركية أو توسّع نطاق شركة ناشئة في الأسواق الدولية، فإليك ثلاثة آثار:

-اختيار النموذج ليس حلاً واحداً يناسب الجميع: قد تحتاج إلى نموذج إقليمي أو طبقة ضبط دقيقة متخصصة، وليس فقط أكبر نموذج إنجليزي يمكنك ترخيصه.

-يختلف هيكل التكلفة باختلاف اللغة والمنطقة: فتضخم الرموز وعدم كفاءة الترميز يعنيان أن تكلفة الوحدة في الأسواق غير الإنجليزية ستكون أعلى على الأرجح، ما لم تخطط لذلك.

-مخاطر العلامة التجارية وتجربة المستخدم ثقافية: فبرنامج الدردشة الآلي الذي يسيء فهم السياق المحلي الأساسي (مثل التقويم الديني، والمصطلحات المحلية، والمعايير التنظيمية) سيُضعف الثقة بشكل أسرع من الاستجابة البطيئة.

بناء استراتيجية ذكاء اصطناعي متعددة اللغات واعية ثقافياً

للمديرين التنفيذيين الجاهزين للبيع والخدمة والعمل في الأسواق العالمية، إليكم خطوات عملية:

• حدّد اللغات والأسواق كميزات من الدرجة الأولى. قبل اختيار نموذجك الأكبر، اذكر أسواقك ولغاتك ومعاييرك المحلية وأولويات عملك. إذا كانت اللغات العربية أو الهندية أو الملايوية أو التايلاندية مهمة، فلا تتعامل معها كـ«ترجمات» بل كحالات استخدام من الدرجة الأولى.

• فكّر في النماذج الإقليمية أو النشر المشترك. قد يتعامل نموذج مثل «Mistral Saba» مع المحتوى العربي بتكلفة أقل ودقة أكبر وبأسلوب أصلي أكثر من نموذج إنجليزي عام مُعدّل بدقة.

• خطط لتضخم تكلفة الرموز. استخدم أدوات مقارنة الأسعار. قد تبلغ تكلفة النموذج في الولايات المتحدة «س» دولاراً أميركياً لكل مليون رمز، ولكن إذا كان النشر تركياً أو تايلاندياً، فقد تكون التكلفة الفعلية ضعف ذلك أو أكثر.

• لا تحسّن اللغة فقط، بل الثقافة ومنطق العمل أيضاً. لا ينبغي أن تقتصر مجموعات البيانات المحلية على اللغة فحسب، بل ينبغي أن تشمل السياق الإقليمي: اللوائح، وعادات الأعمال، والمصطلحات الاصطلاحية، وأطر المخاطر.

صمم بهدف التبديل والتقييم النشطين. لا تفترض أن نموذجك العالمي سيعمل محلياً. انشر اختبارات تجريبية، وقيّم النموذج بناءً على معايير محلية، واختبر قبول المستخدمين، وأدرج الحوكمة المحلية في عملية الطرح.

المنظور الأخلاقي والاستراتيجية الأوسع

عندما تُفضّل نماذج الذكاء الاصطناعي المعايير الإنجليزية والناطقة بالإنجليزية، فإننا نُخاطر بتعزيز الهيمنة الثقافية.

كمسؤولين تنفيذيين، من المغري التفكير «سنترجم لاحقاً». لكن الترجمة وحدها لا تُعالج تضخم القيمة الرمزية، وعدم التوافق الدلالي، وعدم الأهمية الثقافية. يكمن التحدي الحقيقي في جعل الذكاء الاصطناعي مُتجذراً محلياً وقابلاً للتوسع عالمياً.

إذا كنت تُراهن على الذكاء الاصطناعي التوليدي لدعم توسعك في أسواق جديدة، فلا تُعامل اللغة كحاشية هامشية. فاللغة بنية تحتية، والطلاقة الثقافية ميزة تنافسية. أما التكاليف الرمزية وتفاوتات الأداء فليست تقنية فحسب، بل إنها استراتيجية.

في عالم الذكاء الاصطناعي، كانت اللغة الإنجليزية هي الطريق الأقل مقاومة. ولكن ما هي حدود نموك التالية؟ قد يتطلب الأمر لغةً وثقافةً وهياكل تكلفة تُمثل عوامل تمييز أكثر منها عقبات.

اختر نموذجك ولغاتك واستراتيجية طرحك، لا بناءً على عدد المعاملات، بل على مدى فهمه لسوقك. إن لم تفعل، فلن تتخلف في الأداء فحسب، بل ستتخلف أيضاً في المصداقية والأهمية.

* مجلة «فاست كومباني»، خدمات «تريبيون ميديا».


الذكاء الاصطناعي... نجم المؤتمر السنوي لطب الأسنان في نيويورك

آلاف المشاركين وشركات تعرض أحدث تقنيات الذكاء الاصطناعي
آلاف المشاركين وشركات تعرض أحدث تقنيات الذكاء الاصطناعي
TT

الذكاء الاصطناعي... نجم المؤتمر السنوي لطب الأسنان في نيويورك

آلاف المشاركين وشركات تعرض أحدث تقنيات الذكاء الاصطناعي
آلاف المشاركين وشركات تعرض أحدث تقنيات الذكاء الاصطناعي

في مدينةٍ لا تهدأ، وتحديداً في مركز «جاڤِتس» على ضفاف نهر هدسون، اختتمت أمس أعمال اجتماعات نيويورك السنوية لطبّ الأسنان، التي استمرت 5 أيام، أحد أكبر التجمعات العالمية للمهنة، بمشاركة نحو 50 ألف طبيب وخبير من أكثر من 150 دولة.

لم يكن الحدث مجرد مؤتمر، بل منصّة حيّة لمستقبل طبّ الأسنان؛ فبين أروقته تتقدّم التكنولوجيا بخطى ثابتة: من الروبوتات الجراحية إلى أنظمة الذكاء الاصطناعي القادرة على قراءة الأشعة في ثوانٍ، وصولاً إلى تجارب التجديد الحيوي التي قد تغيّر شكل العلاج خلال سنوات قليلة.

الذكاء الاصطناعي نجم المؤتمر بلا منافس

كان الذكاء الاصطناعي العنوان الأبرز لهذا العام، إذ جاء المؤتمر في لحظةٍ تتسارع فيها التحوّلات العلمية بسرعة تفوق قدرة المناهج التقليدية على مواكبتها. وقد برزت تقنيات محورية: أنظمة تحليل الأشعة الفورية، والمساعد السريري الذكي، والتخطيط الرقمي للابتسامة. وعلى امتداد القاعات، كان واضحاً أن هذه التقنيات لم تعد تجارب مختبرية، بل هي حلول جاهزة تغيّر طريقة ممارسة المهنة أمام أعيننا.

الروبوتات تدخل غرفة العمليات

شكّلت الجراحة الروبوتية محوراً لافتاً هذا العام، بعد أن عرضت شركات متخصصة أنظمة دقيقة تعتمد على بيانات الأشعة ثلاثية الأبعاد وتتكيف لحظياً مع حاجة الإجراء. وقد أظهرت العروض قدرة هذه الروبوتات على تنفيذ خطوات معقدة بثباتٍ يفوق اليد البشرية، مع تقليل هامش الخطأ ورفع مستوى الأمان الجراحي.

التجديد الحيوي... من الخيال إلى التجربة

عرضت جامعات نيويورك وكورنيل أبحاثاً حول بروتينات مثل «BMP-2»، وهو بروتين ينشّط نمو العظم، و«FGF-2» عامل يساعد الخلايا على الانقسام والتئام الأنسجة خصوصاً الألياف، إلى جانب تقنيات الخلايا الجذعية لإحياء الهياكل الدقيقة للسن.

في حديث مباشر مع «الشرق الأوسط»

وأثناء جولة «الشرق الأوسط» في معرض اجتماع نيويورك لطبّ الأسنان، التقت الدكتورة لورنا فلامر–كالديرا، الرئيس المنتخب لاجتماع نيويورك الكبرى لطب الأسنان، التي أكدت أنّ طبّ الأسنان يشهد «أكبر تحوّل منذ ثلاثة عقود»، مشيرة إلى أنّ المملكة العربية السعودية أصبحت جزءاً فاعلاً في هذا التحوّل العالمي.

وأضافت الدكتورة لورنا، خلال حديثها مع الصحيفة في أروقة المؤتمر، أنّ اجتماع نيويورك «يتطلّع إلى بناء شراكات متقدمة مع جهات في السعودية، أسوة بالتعاون القائم مع الإمارات ومؤسسة (إندكس) وجهات دولية أخرى»، موضحة أنّ هناك «فرصاً واسعة للتعاون البحثي والتعليمي في مجالات الزراعة الرقمية والذكاء الاصطناعي والعلاجات المتقدمة»، وأن هذا التوجّه ينسجم بطبيعة الحال مع طموحات «رؤية السعودية 2030».

العرب في قلب الحدث

شارك وفود من السعودية والإمارات وقطر والكويت والبحرين ومصر والعراق في جلسات متقدمة حول الذكاء الاصطناعي والزراعة الرقمية، وكان حضور الوفود لافتاً في النقاشات العلمية، ما عكس الدور المتنامي للمنطقة في تشكيل مستقبل طبّ الأسنان عالمياً.

نيويورك... حيث يبدأ الغد

منذ بدايات اجتماع نيويورك قبل أكثر من قرن، بقيت المدينة مرآةً لتحوّلات المهنة ومختبراً مفتوحاً للمستقبل. وعلى امتداد 5 أيام من الجلسات والمحاضرات والورش العلمية، رسّخ اجتماع نيويورك السنوي مكانته كأكبر تجمع عالمي لطبّ الأسنان، وكمنصّة تُختبر فيها التقنيات التي ستعيد رسم ملامح المهنة في السنوات المقبلة. كما يقول ويليام جيمس، مؤسس الفلسفة البراغماتية الأميركية، إنّ أميركا ليست مكاناً، بل تجربة في صناعة المستقبل... وفي نيويورك تحديداً، يبدو مستقبل طبّ الأسنان قد بدأ بالفعل.


دراسة لـ«ناسا» تظهر التأثير السلبي للأقمار الاصطناعية على عمل التلسكوبات الفضائية

تلسكوب «هابل» الفضائي (أرشيفية - رويترز)
تلسكوب «هابل» الفضائي (أرشيفية - رويترز)
TT

دراسة لـ«ناسا» تظهر التأثير السلبي للأقمار الاصطناعية على عمل التلسكوبات الفضائية

تلسكوب «هابل» الفضائي (أرشيفية - رويترز)
تلسكوب «هابل» الفضائي (أرشيفية - رويترز)

أدت الزيادة الكبيرة في أعداد الأقمار الاصطناعية المتمركزة في مدار منخفض حول الأرض إلى تطورات في مجال الاتصالات، منها توفير خدمات النطاق العريض في المناطق الريفية والنائية في أنحاء العالم.

لكنها تسببت أيضا في زيادة حادة في التلوث الضوئي في الفضاء، ما يشكل تهديدا لعمل المراصد الفلكية المدارية. وتشير دراسة جديدة أجرتها إدارة الطيران والفضاء الأميركية (ناسا) وتركز على أربعة تلسكوبات فضائية، منها تلسكوبان يعملان حاليا وآخران يجري العمل عليهما، إلى أن نسبة كبيرة من الصور التي سيجري التقاطها بواسطة هذه المراصد على مدى العقد المقبل قد تتأثر بالضوء المنبعث أو المنعكس من الأقمار الاصطناعية التي تشترك معها في المدار المنخفض.

وخلص الباحثون إلى أن نحو 40 بالمئة من الصور التي يلتقطها تلسكوب «هابل» الفضائي ونحو 96 بالمئة من تلك التي يلتقطها مرصد «سفير إكس»، يمكن أن تتأثر بضوء الأقمار الاصطناعية. وقال الباحثون إن «هابل» سيكون أقل تأثرا بسبب مجال رؤيته الضيق.

والتلسكوبات المدارية عنصر أساسي في استكشاف الفضاء، نظرا لما تمتلكه من قدرة على رصد نطاق أوسع من الطيف الكهرومغناطيسي مقارنة بالتلسكوبات الأرضية، كما أن غياب التداخل مع العوامل الجوية يمكنها من التقاط صور أكثر وضوحا للكون، مما يتيح التصوير المباشر للمجرات البعيدة أو الكواكب خارج نظامنا الشمسي.

وقال أليخاندرو بورلاف، وهو عالم فلك من مركز أميس للأبحاث التابع لوكالة ناسا في كاليفورنيا وقائد الدراسة التي نشرت في مجلة نيتشر «في حين أن معظم تلوث الضوء حتى الآن صادر من المدن والمركبات، فإن زيادة مجموعات الأقمار الاصطناعية للاتصالات بدأ يؤثر بوتيرة أسرع على المراصد الفلكية في جميع أنحاء العالم».

وأضاف «في الوقت الذي ترصد فيه التلسكوبات الكون في مسعى لاستكشاف المجرات والكواكب والكويكبات البعيدة، تعترض الأقمار الاصطناعية في كثير من الأحيان مجال الرؤية أمام عدساتها، تاركة آثارا ضوئية ساطعة تمحو الإشارة الخافتة التي نستقبلها من الكون. كانت هذه مشكلة شائعة في التلسكوبات الأرضية. ولكن، كان يعتقد، قبل الآن، أن التلسكوبات الفضائية، الأكثر كلفة والمتمركزة في مواقع مراقبة مميزة في الفضاء، خالية تقريبا من التلوث الضوئي الناتج عن أنشطة الإنسان».

وفي 2019، كان هناك نحو ألفي قمر اصطناعي في مدار أرضي منخفض. ويبلغ العدد الآن نحو 15 ألف قمر. وقال بورلاف إن المقترحات المقدمة من قطاع الفضاء تتوقع تمركز نحو 650 ألف قمر اصطناعي في مدار أرضي منخفض خلال العقد المقبل.