بيل دي بلازيو... عمدة نيويورك ووجه يسارها

بسبب {كوفيد ـ 19} قد يخسر المواجهة مع كومو وموقعه في الحزب الديمقراطي

بيل دي بلازيو... عمدة نيويورك ووجه يسارها
TT

بيل دي بلازيو... عمدة نيويورك ووجه يسارها

بيل دي بلازيو... عمدة نيويورك ووجه يسارها

لا يمكن تقديم تفسير دقيق عن أسباب صعود شخصية سياسية أميركية عامة إلى مرتبة النجوم، لتهوي بعدها في سقوط دراماتيكي يطيح صورتها، ما لم تتمكن من استدراك هذا السقوط عبر إعادة خلط أوراق تحالفاتها وانحيازاتها مع الطبقة السياسية، سواء أكانت من الحزب الديمقراطي أم الجمهوري.
هذا هو حال بيل دي بلازيو «عُمدة»... أو رئيس بلدية مدينة نيويورك «عاصمة العالم» وأشهر مدن الولايات المتحدة. دي بلازيو القادم من تجربة «يسارية» كان إحدى الشخصيات «الواعدة» في الحزب الديمقراطي، بعدما أعاد تموضعه جزئياً داخل تياراته الآيديولوجية. إلا أن محاولته الابتعاد عن التيار اليساري لم تتكلل بالنجاح كثيراً، ليخسر كلاً من هويته الأصلية والجديدة المختلطة معاً، مصطدماً بشكل مبكر بحاكم ولاية نيويورك أندرو كومو، الديمقراطي الوسطي، رفيقه وصديقه اللدود.
جائحة «كوفيد - 19» التي ضربت الولايات المتحدة، والعالم، منذ يناير (كانون الثاني) الماضي، وتسببت بأزمة صحية غير مسبوقة، ضربت مدينة نيويورك بالذات بشكل حاد. إلا أن التنافس بين حاكم الولاية آندرو كومو و«عمدة» حاضرتها الكبرى بيل دي بلازيو يعود إلى تسعينات القرن الماضي. بل إن خلاف كومو ودي بلازيو يُعد اليوم بمثابة الحلقة الأخيرة في مسلسل علاقتهما المتوترة، التي أظهرت ذلك بشكل جلي بعد تولي الأخير رئاسة بلدية نيويورك عام 2014. ولكن، مع هذا، ثمة مَن يشير إلى أن علاقة الرجلين ما كانت كذلك دائماً.
لقد بدأت العلاقة بين الشخصيتين السياسيتين الأبرز في نيويورك عام 1997، عندما شغل كومو منصب وزير الإسكان والتنمية الحضرية في عهد الرئيس السابق بيل كلينتون، وأقدم على تعيين دي بلازيو مديراً إقليمياً للوزارة في نيويورك؛ حيث كان يقدم تقاريره مباشرة له، وفي ذلك العام قاد دي بلازيو حملة كومو الفاشلة لمنصب الحاكم.
ثم بعد 7 سنوات، دعم حاكم نيويورك السابق الشهير ماريو كومو، والد الحاكم الحالي آندرو، دي بلازيو. ويتندّر سكان نيويورك بأنه لم يسبق لهم أن شهدوا هذا النوع من التوتر بين رجلين، كانا صديقين وزميلين في حزب واحد قبل أن يصبحا خصمين. وللعلم، يعتبر البعض أن «التنافر» بينهما اليوم يعود جزئياً إلى أسباب آيديولوجية، كون دي بلازيو أكثر يسارية أو تقدمية... في حين يُصنّف كومو بأنه ديمقراطي ليبرالي على طريقة بيل كلينتون. أضف إلى ذلك، أنه نتاج طبيعي للطيف السياسي في المدينة الكبرى؛ حيث فضّل دي بلازيو مهاجمة «النظام»... واتهامه بالتلاعب لمصلحة الأغنياء.

الصراع داخل الديمقراطيين
من نافلة القول إن الصراع بين الرجلين يعكس الصراع داخل الحزب الديمقراطي، الذي يعتبر، وهنا المفارقة، من حزب الأغنياء الليبراليين ورجال المال والأعمال غير المتدينين وشركات التكنولوجيا وكبار الصناعيين والمتموّلين وسكان المدن الكبرى؛ حيث قيَم الليبرالية والانفتاح أساسية لأعمالهم. وفي المقابل، نجده أيضاً حزب التقدميين الساعين لإعلاء الطبقة الوسطى بعمالها وموظفيها.
هذان التياران يتوحّدان في مواجهة الحزب الجمهوري، حزب المزارعين وعمال الصناعات القديمة وسكان الضواحي والمتشدّدين دينياً وعرقياً، ولا سيما من البيض المسيحيين الأوروبيين. هكذا ينقسم الأميركيون اليوم في انتخابات يعتبر كثيرون أنها مصيرية. غير أن مآل المواجهة بين الحزبين، لا يمكن أن تنتهي على نقيض من تطوّر التاريخ. ثم إن الانحياز إلى «اليسار» لم يعد جواباً آيديولوجياً شافياً، في ظل أزمة هذا اليسار منذ انهيار تجاربه، القديمة منها والجديدة مع انهيار نموذج دول أميركا اللاتينية، وأزمة الديمقراطية نفسها.
كومو «الوسَطي» الذي حذّر من أن الراديكالية التقدمية يمكن أن تقوّض «الأجندة» الليبرالية للحزب الديمقراطي، ربما اعتبر في البداية أن دي بلازيو يشكّل تهديداً يجب تحييده. لكن من غير الواضح أسباب إحجامه عن العمل داخل الحزب حتى الآن من أجل إزاحته على الرغم من خفوت نجمه السياسي. وما يذكر أنه يُنظَر إلى كومو، الذي يعتبر من الساسة الأذكياء، على أنه السياسي الديمقراطي الأقوى في نيويورك، وحقق بالفعل انتصارات انتخابية وشعبية كبيرة، في حين تعثّرت جهود دي بلازيو للظهور حاملاً لواء التيار التقدمي.

تربية يسارية... وتعليم راقٍ
بيل دي بلازيو هو الابن الثالث لماريا أنجيلا دي بلازيو ووارين فيلهلم. ويكبره شقيقان هما ستيفن ودونالد. ولقد وُلد بيل عام 1961 في أحد مستشفيات مانهاتن بقلب مدينة نيويورك، بعدما غادر والداه منزلهما في نوروك بولاية كونكتيكت. أما نشأته الأولى فكانت في مدينة كامبريدج، أشهر ضواحي مدينة بوسطن عاصمة ولاية ماساتشوستس المجاورة.
كان اسمه أصلاً وارين فيلهلم الابن، وغيّره إلى وارين دي بلاسيو فيلهلم عام 1983، ثم إلى بيل دي بلازيو عام 2001. تكريماً لعائلة والدته التي تولّت تربيته بعدما انفصل والداه حين كان طفلاً. هذا، وتجدر الإشارة إلى أن والدته من أصل إيطالي ووالده من أصول ألمانية وإنجليزية وفرنسية وأسكوتلندية - آيرلندية. وكان جده لأبيه دونالد فيلهلم من ولاية أوهايو وجدته من ولاية أيوا. في حين جاء جده لأمه، جيوفاني من سانت أغاتا دي غوتي بينيفينتو، وجدته آنا من غراسانو ماتيرا في إيطاليا. ولقد عمل عمه دونالد جورج فيلهلم الابن في وكالة الاستخبارات المركزية (سي آي أيه) الأميركية في إيران، وكتب سراً مذكرات شاه إيران الأخير محمد رضا بهلوي.
التحقت والدته بكلية سميث (الجامعة العريقة الخاصة للنساء) وخدمت في مكتب معلومات الحرب خلال الحرب العالمية الثانية. وألَفت كتاب «إيطاليا الأخرى... المقاومة الإيطالية في الحرب العالمية الثانية» عام 1988. أما أبوه فخريج جامعة ييل العريقة، محرّراً مساهماً في مجلة «تايم»، وخدم أيضاً في الحرب العالمية الثانية. وعام 1942 التحق بالجيش الأميركي وخدم في حرب المحيط الهادي. خلال معركة أوكيناوا التي استمرت 82 يوماً، انفجرت قنبلة يدوية أسفل قدمه اليسرى، وبُترت ساقه من أسفل الركبة. وبعد حصوله على ميدالية القلب الأرجواني، تزوج ماريا عام 1945، وأصبح محلل ميزانية للحكومة الفيدرالية. خلال الخمسينات، وفي ذروة الذعر من «المد الأحمر»، اتُهم كل من ماريا ووارين بتعاطفهما مع الشيوعية.
انتحر والده بعد إصابته بسرطان الرئة غير القابل للشفاء عندما كان بيل في سن الـ18. وفي عام 1979 تخرّج دي بلازيو من مدرسته الثانوية في ضواحي بوسطن. وبعدها حصل على بكالوريوس الآداب من جامعة نيويورك في الدراسات الحضرية، ثم نال درجة الماجستير في الشؤون الدولية من كلية الشؤون الدولية والعامة بجامعة كولمبيا. وشغل دي بلازيو منصب العمدة 109 لمدينة نيويورك منذ عام 2014. وكان ولا يزال عضواً في الحزب الديمقراطي، مع الإشارة إلى أنه سبق له أن شغل أيضاً منصب المحامي العام لمدينة نيويورك من 2010 إلى 2013.

تأييده للساندينيين في نيكاراغوا
عام 1988 سافر دي بلازيو مع مجموعة من الناشطين في مركز «كويكسوت» إلى نيكاراغوا لمدة 10 أيام للمساعدة في توزيع الغذاء والدواء أثناء ثورة نيكاراغوا. وكان في تلك الفترة مؤيداً قوياً للحكومة الاشتراكية الحاكمة التي أسستها «جبهة التحرير الوطنية الساندينية» التي عارضتها إدارة الرئيس رونالد ريغان في ذلك الوقت.
وبعد عودته من نيكاراغوا، انتقل دي بلازيو إلى مدينة نيويورك؛ حيث عمل في منظمة غير ربحية تركز على تحسين الرعاية الصحية في أميركا الوسطى. واصل دعم الساندينيين في أوقات فراغه، وانضم إلى مجموعة تسمى «شبكة نيكاراغوا للتضامن في نيويورك الكبرى»، التي أطلقت نشاطات وجمعت التبرّعات للساندينيين. وعام 1989 عمل منسّقاً متطوّعاً لحملة ديفيد دينكينز لرئاسة البلدية. وبعد الحملة، عمل دي بلاسيو مساعداً في مجلس المدينة. وعام 1990 وصف نفسه بأنه مدافع عن الاشتراكية الديمقراطية عندما سئل عن أهدافه للمجتمع.
على صعيد متصل، التقى دي بلازيو زوجته الأميركية السوداء الناشطة والشاعرة تشيرلين ماكراي أثناء عملهما في إدارة العمدة دينكينز، الذي كان أول رئيس بلدية أسود لمدينة نيويورك، وتزوّجا في عام 1994. بل أمضى الزوجان الشابان «شهر العسل» في كوبا في انتهاك صريح لحظر السفر الأميركي. واليوم بيل وتشيرلين والدان لولدين، هما دانتي خريج جامعة ييل عام 2019. وكيارا الطالبة في جامعة سانتا كلارا بولاية كاليفورنيا. وروت ابنته كيارا عن تعاطيها المخدرات ومعاناتها من الاكتئاب في أواخر 2013 في فيديو مدته 4 دقائق نشرته حملة دي بلازيو قبل توليه منصب رئاسة البلدية.
من ناحية أخرى، فإن دي بلازيو يوصف بأنه أطول الرجال قامة بين رؤساء بلدية نيويورك (1.96 م)، وبفضل أصوله الإيطالية اعتاد بين حين وآخر أن يجري مقابلات ومؤتمرات صحافية، ويلقي خطباً باللغة الإيطالية. وهو يصف نفسه بأنه «روحاني لكن غير متديّن»، علماً بأن والدته رفضت جذورها الرومانية الكاثوليكية ولم تدخل الكنيسة في حياتها المبكرة. أما على صعيد ثروته الشخصية، فقدّرت مجلة فوربس ثروته وثروة زوجته بنحو 2.5 مليون دولار عام 2019.

سياساته في نيويورك
بعد تخرّج بيل دي بلازيو من الجامعة عيّنه النائب الديمقراطي الأسود تشارلز رانجيل مديراً لحملة إعادة انتخابه الناجحة عام 1994. وعام 2000 شغل منصب مدير حملة هيلاري كلينتون الناجحة لمجلس الشيوخ. إلا أن حياته المهنية بدأت كمسؤول منتخب في مجلس مدينة نيويورك، ممثلاً للمنطقة 39 التي تشمل أحياء بورو بارك وغاردن كارول وكوبل هيل وجوانوس وكينزينغتون وبارك سلوب وويندسور تيراس في منطقة بروكلين (إحدى المناطق أو «الأقضية» الخمس التي تتكوّن منها مدينة نيويورك مع مانهاتن وكوينز وبرونكس وستاتن آيلاند) من عام 2002 إلى عام 2009. وبعدما خدم دي بلازيو لفترة واحدة كمحامٍ عام، وانتخب رئيساً لبلدية مدينة نيويورك عام 2013 وأعيد انتخابه عام 2017.
تضمّنت مبادرات دي بلازيو السياسية تدريباً جديداً على خفض العنف لدى رجال الشرطة، وإلزامهم بوضع الكاميرات الشخصية، وتقليل الملاحقات القضائية لحيازة القنب (الحشيشة). غير أن علاقته بشرطة المدينة شهدت صعوداً وهبوطاً، وتعرّض لمواقف رافضة لحضوره جنازات عدد من الشرطيين الذين قتلوا في إطلاق نار عام 2014 و2017؛ حيث أدار له الشرطيون ظهورهم عند إلقائه كلمته. كذلك، تراوحت مواقفه بين دعم المتظاهرين وانتقاد العنف الذي شهدته نيويورك خلال أحداث العنف الأخيرة بعد مقتل الرجل الأسود جورج فلويد، منتقداً حركة «الأناركيين» (الفوضويين) الرافضة للنظام، وتأييد عمل الشرطة، في مؤشر على تخبط تحولاته السياسية. وأنهى برنامج المراقبة بعد أحداث 11 سبتمبر (أيلول) 2001 للمسلمين المقيمين في المدينة.
أيضاً، يسجل لدي بلازيو أنه طبّق في ولايته الأولى مجانية التعليم لما قبل الروضة، ولفت الانتباه إلى ما يسميه الإجحاف الاقتصادي الصارخ في مدينة نيويورك؛ حيث أثار ما وصفه بـ«قصة مدينتين» (واحدة للأغنياء وأخرى للفقراء) خلال حملته الأولى، ودعم السياسات الليبرالية والتقدمية اجتماعياً فيما يتعلق باقتصاد المدينة والتخطيط الحضري والتعليم العام والعلاقات مع الشرطة والخصخصة.

فشل ترشحه لانتخابات الرئاسة
يوم 16 مايو (أيار) 2019 أصبح بيل دي بلازيو ثاني رئيس بلدية لمدينة نيويورك يعلن ترشحه لرئاسة إبان فترة توليه منصب العمدة، بعد جون ليندسي الذي ترشح عام 1972. وفي حين أعرب دي بلازيو عن دعمه لزيادة الحد الأدنى الفيدرالي للأجور إلى 15 دولاراً في الساعة. ودعم أيضاً إيجاد تسوية سلمية للحرب في أفغانستان تشمل «حركة طالبان»، شرط التأكد منها قبل سحب القوات الأميركية.
ولكن، رغم هوامش فوزه الكبيرة خلال الانتخابات البلدية، لم يحظ دي بلازيو بشعبية كبيرة في الانتخابات الرئاسية. بل حتى سكان مدينة نيويورك عارضوا ترشحه بنسبة 76 في المائة، ليسجل مستوى قبوله على المستوى الوطني 0 في المائة، ما أدى إلى فشله في التأهل للجولة الثالثة من المناظرات التمهيدية بين المرشحين الديمقراطيين. وبينما حاول تصوير نفسه متقدماً في البداية على جو بايدن، على أمل أن يتحدّى كلاً من بيرني ساندرز وإليزابيت وارين اللذين ينظر إليهما كزعيمين للتيار التقدمي، علق دي بلازيو حملته في سبتمبر 2019. ثم أعلن في 14 فبراير (شباط) الماضي تأييده لساندرز.
على صعيد آخر، تعرّضت لانتقادات واسعة إدارة دي بلازيو للأزمة الصحية التي نجمت عن انتشار فيروس «كوفيد - 19» في نيويورك، التي أدت إلى احتلال المدينة المرتبة الأولى في عدد الإصابات والوفيات على المستوى الوطني. وكانت هذه من بين الأسباب التي أدت إلى التدهور الكبير في علاقته بحاكم الولاية آندرو كومو. ثم إنه رغم انتقاده الصين وتحميل حكومتها مسؤولية التقاعس عن إبلاغ العالم بشكل مبكر عن خطورة الفيروس، أصرّ على أنه بالإمكان التعامل مع الجائحة من دون التخلي عن الحياة الطبيعية، رافضاً إقفال المطاعم ودور السينما والأماكن العامة والشركات. وذكرت صحيفة «نيويورك تايمز» أن كبار مساعدي «العمدة» حاولوا في مارس (آذار) الماضي بشدة تغيير نهجه في التعامل مع تفشي «كوفيد - 19» ونشبت خلافات حادة بينهم بعضهم مع بعض. حتى إن كبار مسؤولي الصحة هددوا بالاستقالة إذا رفض قبول إغلاق المدارس والشركات.

* روبرت واغنر (الثاني)؛ روبرت واغنر هو العمدة الـ102 من 1954 إلى 1965. ألماني الأصل، والده روبرت واغنر (الأول) عضو مجلس الشيوخ الديمقراطي، هاجر مع عائلته من بروسيا عام 1885. تسبب ترشيحه وانتخابه عمدة للمدينة في حدوث انشقاق في الحزب الديمقراطي، وأثار نزاعاً طويل الأمد بين السيدة الأولى إليانور روزفلت التي دعمته، وكارمن ديسابيو رئيسة الكتلة النخبوية «تاماني هول» التي هيمنت على اختيار رؤساء بلدية نيويورك، ما أدى إلى إنهاء سيطرتها في نهاية المطاف. قاد عملية بناء مساكن ومدارس عامة وأنشأ نظام جامعة مدينة نيويورك، وأجاز حق المساومة الجماعية لموظفي المدينة، وحظر التمييز في السكن على أساس العرق أو العقيدة أو اللون. كان أول عمدة يوظف أعداداً كبيرة من الملوّنين في حكومة المدينة.



لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
TT

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)

يواجه لبنان جملة من التحديات السياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية، خصوصاً في مرحلة التحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة وترخي بثقلها على واقعه الصعب والمعقّد. ولا شك أن أهم هذه التحوّلات سقوط نظام بشّار الأسد في سوريا، وتراجع النفوذ الإيراني الذي كان له الأثر المباشر في الأزمات التي عاشها لبنان خلال السنوات الأخيرة، وهذا فضلاً عن تداعيات الحرب الإسرائيلية وآثارها التدميرية الناشئة عن «جبهة إسناد» لم تخفف من مأساة غزّة والشعب الفلسطيني من جهة، ولم تجنّب لبنان ويلات الخراب من جهة ثانية.

إذا كانت الحرب الإسرائيلية على لبنان قد انتهت إلى اتفاق لوقف إطلاق النار برعاية دولية، وإشراف أميركي ـ فرنسي على تطبيق القرار 1701، فإن مشهد ما بعد رحيل الأسد وحلول سلطة بديلة لم يتكوّن بعد.

وربما سيحتاج الأمر إلى بضعة أشهر لتلمُّس التحدّيات الكبرى، التي تبدأ بالتحدّيات السياسية والتي من المفترض أن تشكّل أولوية لدى أي سلطة جديدة في لبنان. وهنا يرى النائب السابق فارس سُعَيد، رئيس «لقاء سيّدة الجبل»، أنه «مع انهيار الوضعية الإيرانية في لبنان وتراجع وظيفة (حزب الله) الإقليمية والسقوط المدوّي لحكم البعث في دمشق، وهذا إضافة إلى الشغور في رئاسة الجمهورية، يبقى التحدّي الأول في لبنان هو ملء ثغرات الدولة من أجل استقامة المؤسسات الدستورية».

وأردف سُعَيد، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، إلى أنه «بعكس الحال في سوريا، يوجد في لبنان نصّ مرجعي اسمه الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني، وهذا الدستور يجب أن يحترم بما يؤمّن بناء الدولة والانتقال من مرحلة إلى أخرى».

الدستور أولاً

الواقع أنه لا يمكن لمعطيات علاقة متداخلة بين لبنان وسوريا طالت لأكثر من 5 عقود، و«وصاية دمشق» على بيروت ما بين عامَي 1976 و2005 - وصفها بعض معارضي سوريا بـ«الاحتلال» - أن تتبدّل بين ليلة وضحايا على غرار التبدّل المفاجئ والصادم في دمشق. ثم إن حلفاء نظام دمشق الراحل في لبنان ما زالوا يملكون أوراق قوّة، بينها تعطيل الانتخابات الرئاسية منذ 26 شهراً وتقويض كل محاولات بناء الدولة وفتح ورشة الإصلاح.

غير أن المتغيّرات في سوريا، وفي المنطقة، لا بدّ أن تؤسس لواقع لبناني جديد. ووفق النائب السابق سُعَيد: «إذا كان شعارنا في عام 2005 لبنان أولاً، يجب أن يكون العنوان في عام 2024 هو الدستور أولاً»، لافتاً إلى أن «الفارق بين سوريا ولبنان هو أن سوريا لا تملك دستوراً وهي خاضعة فقط للقرار الدولي 2254. في حين بالتجربة اللبنانية يبقى الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني المرجعَين الصالحَين لبناء الدولة، وهذا هو التحدي الأكبر في لبنان».

وشدّد، من ثم، على ضرورة «استكمال بناء المؤسسات الدستورية، خصوصاً في المرحلة الانتقالية التي تمرّ بها سوريا»، وتابع: «وفي حال دخلت سوريا، لا سمح الله، في مرحلة من الفوضى... فنحن لا نريد أن تنتقل هذه الفوضى إلى لبنان».

العودة للحضن العربي

من جهة ثانية، يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة عمّا كان الوضع عليه في العقود السابقة. ولا يُخفي السياسي اللبناني الدكتور خلدون الشريف، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن لبنان «سيتأثّر بالتحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة، وحتميّة انعكاس ما حصل في سوريا على لبنان». ويلفت إلى أن «ما حصل في سوريا أدّى إلى تغيير حقيقي في جيوبوليتيك المنطقة، وسيكون له انعكاسات حتمية، ليس على لبنان فحسب، بل على المشرق العربي والشرق الأوسط برمته أيضاً».

الاستحقاق الرئاسي

في سياق موازٍ، قبل 3 أسابيع من موعد جلسة انتخاب الرئيس التي دعا إليها رئيس مجلس النواب نبيه برّي في التاسع من يناير (كانون الثاني) المقبل، لم تتفق الكتل النيابية حتى الآن على اسم مرشّح واحد يحظى بأكثرية توصله إلى قصر بعبدا.

وهنا، يرى الشريف أنه بقدر أهمية عودة لبنان إلى موقعه الطبيعي في العالم العربي، ثمّة حاجة ماسّة لعودة العرب إلى لبنان، قائلاً: «إعادة لبنان إلى العرب مسألة مهمّة للغاية، شرط ألّا يعادي أي دولة إقليمية عربية... فلدى لبنان والعرب عدوّ واحد هو إسرائيل التي تعتدي على البشر والحجر». وبغض النظر عن حتميّة بناء علاقات سياسية صحيحة ومتكافئة مع سوريا الجديدة، يلفت الشريف إلى أهمية «الدفع للتعاطي معها بإيجابية وانفتاح وفتح حوار مباشر حول موضوع النازحين والشراكة الاقتصادية وتفعيل المصالح المشتركة... ويمكن للبلدين، إذا ما حَسُنت النيّات، أن يشكلّا نموذجاً مميزاً للتعاون والتنافس تحت سقف الشراكة».

يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة

النهوض الاقتصادي

وحقاً، يمثّل الملفّ الاقتصادي عنواناً رئيساً للبنان الجديد؛ إذ إن بناء الاقتصاد القوي يبقى المعيار الأساس لبناء الدولة واستقرارها، وعودتها إلى دورها الطبيعي. وفي لقاء مع «الشرق الأوسط»، قال الوزير السابق محمد شقير، رئيس الهيئات الاقتصادية في لبنان، إن «النهوض الاقتصادي يتطلّب إقرار مجموعة من القوانين والتشريعات التي تستجلب الاستثمارات وتشجّع على استقطاب رؤوس الأموال، على أن يتصدّر الورشة التشريعية قانون الجمارك وقانون ضرائب عصري وقانون الضمان الاجتماعي».

شقير يشدّد على أهمية «إعادة هيكلة القطاع المصرفي؛ إذ لا اقتصاد من دون قطاع مصرفي». ويشير إلى أهمية «ضبط التهريب على كل طول الحدود البحرية والبرّية، علماً بأن هذا الأمر بات أسهل مع سقوط النظام السوري، الذي طالما شكّل عائقاً رئيساً أمام كل محاولات إغلاق المعابر غير الشرعية ووقف التهريب، الذي تسبب بخسائر هائلة في ميزانية الدولة، بالإضافة إلى وضع حدّ للمؤسسات غير الشرعية التي تنافس المؤسسات الشرعية وتؤثر عليها».

نقطة جمارك المصنع اللبنانية على الحدود مع سوريا (آ ف ب)

لبنان ودول الخليج

يُذكر أن الفوضى في الأسواق اللبنانية أدت إلى تراجع قدرات الدولة، ما كان سبباً في الانهيار الاقتصادي والمالي، ولذا يجدد شقير دعوته إلى «وضع حدّ للقطاع الاقتصادي السوري الذي ينشط في لبنان بخلاف الأنظمة والقوانين، والذي أثّر سلباً على النمو، ولا مانع من قوننة ليعمل بطريقة شرعية ووفق القوانين اللبنانية المرعية الإجراء». لكنه يعبّر عن تفاؤله بمستقبل لبنان السياسي والاقتصادي، قائلاً: «لا يمكن للبنان أن ينهض من دون علاقات طيّبة وسليمة مع العالم العربي، خصوصاً دول الخليج... ويجب أن تكون المهمّة الأولى للحكومة الجديدة ترسيخ العلاقات الجيّدة مع دول الخليج العربي، ولا سيما المملكة العربية السعودية التي طالما أمّنت للبنان الدعم السياسي والاقتصادي والمالي».

ضبط السلاح

على صعيد آخر، تشكّل الملفات الأمنية والعسكرية سمة المرحلة المقبلة، بخاصةٍ بعد التزام لبنان فرض سلطة الدولة على كامل أراضيها تطبيقاً للدستور والقرارات الدولية. ويعتبر الخبير العسكري والأمني العميد الركن فادي داوود، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن «تنفيذ القرار 1701 ومراقبة تعاطيها مع مكوّنات المجتمع اللبناني التي تحمل السلاح، هو التحدّي الأكبر أمام المؤسسات العسكرية والأمنية». ويوضح أن «ضبط الحدود والمعابر البرية مع سوريا وإسرائيل مسألة بالغة الدقة، سيما في ظل المستجدات التي تشهدها سوريا، وعدم معرفة القوة التي ستمسك بالأمن على الجانب السوري».

مكافحة المخدِّرات

وبأهمية ضبط الحدود ومنع الاختراق الأمني عبرها، يظل الوضع الداخلي تحت المجهر في ظلّ انتشار السلاح لدى معظم الأحزاب والفئات والمناطق اللبنانية، وهنا يوضح داوود أن «تفلّت السلاح في الداخل يتطلّب خطة أمنية ينفّذها الجيش والأجهزة الأمنية كافة». ويشرح أن «وضع المخيمات الفلسطينية يجب أن يبقى تحت رقابة الدولة ومنع تسرّب السلاح خارجها، إلى حين الحلّ النهائي والدائم لانتشار السلاح والمسلحين في جميع المخيمات»، منبهاً إلى «معضلة أمنية أساسية تتمثّل بمكافحة المخدرات تصنيعاً وترويجاً وتصديراً، سيما وأن هناك مناطق معروفة كانت أشبه بمحميات أمنية لعصابات المخدرات».

حقائق

علاقات لبنان مع سوريا... نصف قرن من الهيمنة

شهدت العلاقات اللبنانية - السورية العديد من المحطات والاستحقاقات، صبّت بمعظمها في مصلحة النظام السوري ومكّنته من إحكام قبضته على كلّ شاردة وواردة. وإذا كان نفوذ دمشق تصاعد منذ دخول جيشها لبنان في عام 1976، فإن جريمة اغتيال الرئيس اللبناني المنتخب رينيه معوض في 22 نوفمبر (تشرين الثاني) 1989 - أي يوم عيد الاستقلال - شكّلت رسالة. واستهدفت الجريمة ليس فقط الرئيس الذي أطلق مرحلة الشروع في تطبيق «اتفاق الطائف»، وبسط سلطة الدولة على كامل أراضيها وحلّ كل الميليشيات المسلّحة وتسليم سلاحها للدولة، بل أيضاً كلّ من كان يحلم ببناء دولة ذات سيادة متحررة من الوصاية. ولكنْ ما إن وُضع «اتفاق الطائف» موضع التنفيذ، بدءاً بوحدانية قرار الدولة، أصرّ حافظ الأسد على استثناء سلاح «حزب الله» والتنظيمات الفلسطينية الموالية لدمشق، بوصفه «سلاح المقاومة لتحرير الأراضي اللبنانية المحتلّة» ولإبقائه عامل توتر يستخدمه عند الضرورة. ثم نسف الأسد «الأب» قرار مجلس الوزراء لعام 1996 القاضي بنشر الجيش اللبناني على الحدود مع إسرائيل، بذريعة رفضه «تحويل الجيش حارساً للحدود الإسرائيلية».بعدها استثمر نظام دمشق انسحاب الجيش الإسرائيلي من المناطق التي كان يحتلها في جنوب لبنان خلال مايو (أيار) 2000، و«جيّرها» لنفسه ليعزّز هيمنته على لبنان. غير أنه فوجئ ببيان مدوٍّ للمطارنة الموارنة برئاسة البطريرك الراحل نصر الله بطرس صفير في سبتمبر (أيلول) 2000، طالب فيه الجيش السوري بالانسحاب من لبنان؛ لأن «دوره انتفى مع جيش الاحتلال الإسرائيلي من جنوب لبنان».مع هذا، قبل شهر من انتهاء ولاية الرئيس إميل لحود، أعلن نظام بشار الأسد رغبته بالتمديد للحود ثلاث سنوات (نصف ولاية جديدة)، ورغم المعارضة النيابية الشديدة التي قادها رئيس الوزراء الراحل رفيق الحريري، مُدِّد للحود بالقوة على وقع تهديد الأسد «الابن» للحريري ووليد جنبلاط «بتحطيم لبنان فوق رأسيهما». وهذه المرة، صُدِم الأسد «الابن» بصدور القرار 1559 عن مجلس الأمن الدولي، الذي يقضي بانتخاب رئيس جديد للبنان، وانسحاب الجيش السوري فوراً، وحلّ كل الميليشيات وتسليم سلاحها للدولة اللبنانية. ولذا، عمل لإقصاء الحريري وقوى المعارضة اللبنانية عن السلطة، وتوِّج هذا الإقصاء بمحاولة اغتيال الوزير مروان حمادة في أكتوبر (تشرين الأول) 2004، ثمّ باغتيال رفيق الحريري يوم 14 فبراير (شباط) 2005، ما فجّر «ثورة الأرز» التي أدت إلى انسحاب الجيش السوري من لبنان يوم 26 أبريل (نيسان)، وتبع ذلك انتخابات نيابية خسرها حلفاء النظام السوري فريق «14 آذار» المناوئ لدمشق.تراجع نفوذ دمشق في لبنان استمر بعد انسحاب جيشها بضغط أميركي مباشر. وتجلّى ذلك في «الحوار الوطني اللبناني»، الذي أفضى إلى اتخاذ قرارات بينها «ترسيم الحدود» اللبنانية السورية، وبناء علاقات دبلوماسية مع سوريا وتبادل السفراء، الأمر الذي قبله بشار الأسد على مضض. وأكمل المسار بقرار إنشاء محكمة دولية لمحاكمة قتلة الحريري وتنظيم السلاح الفلسطيني خارج المخيمات - وطال أساساً التنظيمات المتحالفة مع دمشق وعلى رأسها «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين - القيادة العامة» - وتحرير المعتقلين اللبنانيين في السجون السورية. حرب 6002مع هذا، بعد الحرب الإسرائيلية على لبنان في يوليو (تموز) 2006، التي أعلن «حزب الله» بعدها «الانتصار على إسرائيل»، استعاد النظام السوري بعض نفوذه. وتعزز ذلك بسلسلة اغتيالات طالت خصومه في لبنان من ساسة ومفكّرين وإعلاميين وأمنيين - جميعهم من فريق «14 آذار» - وتوّج بالانقلاب العسكري الذي نفذه «حزب الله» يوم 7 مايو 2008 محتلاً بيروت ومهاجماً الجبل. وأدى هذا التطور إلى «اتفاق الدوحة» الذي منح الحزب وحلفاء دمشق «الثلث المعطِّل» في الحكومة اللبنانية، فمكّنهم من الإمساك بالسلطة.يوم 25 مايو 2008 انتخب قائد الجيش اللبناني ميشال سليمان رئيساً للجمهورية، وفي 13 أغسطس (آب) من العام نفسه عُقدت قمة لبنانية ـ سورية في دمشق، وصدر عنها بيان مشترك، تضمّن بنوداً عدّة أهمها: «بحث مصير المفقودين اللبنانيين في سوريا، وترسيم الحدود، ومراجعة الاتفاقات وإنشاء علاقات دبلوماسية، وتبنّي المبادرة العربية للسلام». ولكن لم يتحقق من مضمون البيان، ومن «الحوار الوطني اللبناني» سوى إقامة سفارات وتبادل السفراء فقط.ختاماً، لم يقتنع النظام السوري في يوم من الأيام بالتعامل مع لبنان كدولة مستقلّة. وحتى في ذروة الحرب السورية، لم يكف عن تعقّب المعارضين السوريين الذي فرّوا إلى لبنان، فجنّد عصابات عملت على خطف العشرات منهم ونقلهم إلى سوريا. كذلك سخّر القضاء اللبناني (خصوصاً المحكمة العسكرية) للتشدد في محاكمة السوريين الذين كانوا في عداد «الجيش السوري الحرّ» والتعامل معهم كإرهابيين.أيضاً، كان للنظام السوري - عبر حلفائه اللبنانيين - الدور البارز في تعطيل الاستحقاقات الدستورية، لا سيما الانتخابات الرئاسية والنيابية وتشكيل الحكومات، بمجرد اكتشاف أن النتائج لن تكون لصالحهم. وعليه، قد يكون انتخاب الرئيس اللبناني في 9 يناير (كانون الثاني) المقبل، الاستحقاق الأول الذي يشهده لبنان من خارج تأثير نظام آل الأسد منذ نصف قرن.