الطاهي يقتل... الكاتب ينتحر

النوع الأسوأ من الروائيين هم الذين لا يعرفون كيف يموتون في النص بسلام

مشهد من فيلم «رحلة المائة قدم» إخراج لاسي هالستر... وفي الإطار نجيب محفوظ
مشهد من فيلم «رحلة المائة قدم» إخراج لاسي هالستر... وفي الإطار نجيب محفوظ
TT

الطاهي يقتل... الكاتب ينتحر

مشهد من فيلم «رحلة المائة قدم» إخراج لاسي هالستر... وفي الإطار نجيب محفوظ
مشهد من فيلم «رحلة المائة قدم» إخراج لاسي هالستر... وفي الإطار نجيب محفوظ

قدرة نجيب محفوظ على التكتم استثنائية، حتى أنه لم يُقدم على كتابة مذكرات، وبحسه الساخر أراد أن يلاعب هواة التلصص؛ فقال مبرراً عدم حماسه لكتابة سيرة إنه كتب كل شيء في الروايات
بينما كنت أقطع قرن فلفل أحمر متفاخرٍ بانسياب جسمه وورقتين تزينان عنقه كشارب أبي الفوارس عنترة، جزعت فجأة، إذ تذكرت في اللحظة ذاتها ما قالته سيدة هندية لابنها عندما كانت تُعلِّمه مهنة الطبخ وتُبصِّره بتبعاتها: لكي تطبخ، يجب أن تتحمل تبعات أن تكون قاتلاً. إنك تقبض أرواحاً لكي تصنع منها شبحاً. تلك الأم كانت في فيلم «رحلة المائة قدم» (The hundred foot Journey).
وهي لم تتعد الحقيقة؛ فما يصنعه الطبَّاخ بالفعل هو استدراج الأرواح الساذجة من المكونات الحية إلى مطبخه، وتقطيعها وخلطها وسبكها بالنار. يضع كل جهوده ومهارته في إعداد طبخة واحدة منسجمة مع نفسها من كل تلك الأرواح التي كانت حية قبل قليل.
ولن يستطيع أن يعيد إلى المكونات الطازجة أرواحها الأصلية. لا يستطيع حسن ـ وهذا اسم طباخ الفيلم ـ أن يعيد الأومليت بيضة، مثلما لم يكن بمقدوري بعث قرن الفلفل المتفاخر، أو إعادة حمرة الخجل لوجه ثمرة طماطم، ولا الطبع الحاد لقشرة قرفة. لا يمكن لأحد أن يجعل قطعة اللحم تتجمع مع غيرها في خروف بعينين جميلتين تنظران إلى المرعى ببال خال.
لا يرتكب الطبَّاخ القتل إلا بسبب وجود من يُقدِّر فعلته، ويُقبل على الأشباح التي يصنعها، ويشكره لأنه ارتكب نيابة عنه حماقة قطف كل هذه الأرواح.
الكاتب يختلف قليلاً عن الطاهي، فهو لا يقتل، بقدر ما ينتحر. لكن بعض ممن يعرفون القليل عن حرفة الأدب يوقعونني في الحرج، عندما يشعرون بحاجتهم للفضفضة معي، لمجرد الراحة، أو لأخذ رأيي في شأن يؤرقهم، ثم يتذكرون فجأة أنني روائي؛ فيوقفون حكايتهم بجملة اعتراضية: «لا بد أنك ستكتب ذلك». بعد هذه الملاحظة أشعر بالحرج، وأجد نفسي مُلاماً إذا انصرفت عن ثرثرة الراوي، مريباً إذا انتبهت إليه.
لا يعرف المتشكك أن ساعات من الثرثرة على رأس كاتب قد لا تصلح لشيء، وربما بالكاد، يمكن أن يتفوه ذلك الشخص بجملة قد تصلح في حوار ما برواية، أو يحكي موقفاً يصلح نسبته بعد سنوات طويلة لبطل رواية له حياة أخرى لا تشبه حياة صاحب الحكاية الأصلي في شيء.
ويظل الرافد الأساسي لنهر الرواية هو روح الكاتب نفسه. يكتب الروائي آلامه ومخاوفه هو في العادة؛ يمنح كل شخصية من شخصياته شيئاً من أفكاره، من ذكرياته، من أحلامه. وكل مجهوده أثناء الكتابة أن يخفي أي أثر لحياته وملامحه، أي أن يتقن قتل روحه ليخلق منها شبحاً.
بعض الكُتَّاب يرفضون تقبل فكرة قتل أنفسهم داخل النص، ويبقون كباراً مع ذلك، في هذه المنطقة من الكتابة يمكن أن نضع هنري ميللر، أناييس نن، جان جينيه، وغيرهم. وهم إلى فن السيرة أقرب، وهذا ليس بالفن قليل الشأن. ومع ذلك لا يمكن أن نعرف بشكل مُطلق إلى أي حد هم طهاة يأخذون من حيوات الآخرين ما ينسبونه إلى أنفسهم، وإلى أي حد هم كتَّاب سيرة، وأن ما يعرضونه هو حيواتهم الخاصة!
النوع الأسوأ من الكتاب هم الذين لا يعرفون كيف يموتون في النص بسلام. لا خبرة لديهم في التخفي، ويُقبل على رواياتهم قراء يشبهونهم يحبون نشرات أخبار.
لكن أغلبية الروائيين يعشقون الموت في رواياتهم، ويعرفون كيف يفعلون ذلك، وكيف يواصلون التكتم متقبلين تضحياتهم بشهامة، ورغم ذلك، فإن القراء لا يتركونهم يموتون بسلام!
نجيب محفوظ من هذا النوع المتكتم، لا يترك أثراً يدل عليه داخل النص، ويحتاج إلى تنقيب جيد والاستعانة ببوح الأصدقاء، لكي نكتشف أي أجزاء من نفسه أودعها كمال عبد الجواد في الثلاثية، وأي أجزاء وزعها على الساهرين في عوَّامة «ثرثرة فوق النيل» أو أي من شخصيات رواياته الأخرى.
ومن يقرأ كتاب رجاء النقاش الحواري معه، يجد الكثير من الأبواب التي رفض عميد الرواية العربية أن يفتحها لمحاوره. ورغم ذلك يصر الكثير من القراء على البحث عن حياته وحياة عائلته داخل أعماله، وهناك ما يشبه الإيمان المستقر بأن السيد أحمد عبد الجواد صاحب الحياة المزدوجة في الثلاثية هو والد نجيب محفوظ، بينما أكد الكاتب للنقاش أن والده كان على النقيض تماماً.
قدرة نجيب محفوظ على التكتم استثنائية، حتى أنه لم يُقدم على كتابة مذكرات، وبحسه الساخر أراد أن يلاعب هواة التلصص؛ فقال مبرراً عدم حماسه لكتابة سيرة إنه كتب كل شيء في الروايات. وكأنها دعوة للتنقيب!
بعكس محفوظ، يحرص الكثير من الكُتّاب على كتابة سيرة أو مذكرات، ويتركون للقارئ الشغوف مهمة المطابقة بين وقائع حياة الكاتب وآرائه الخاصة وبين وقائع الروايات وملامح أبطالها.
من هؤلاء البواحين نيكوس كازنتزاكس في سيرته «الطريق إلى غريكو» وماركيز في «عشت لأروي». وربما كان ماركيز الأكثر انكشافاً بين كُتَّاب القرن العشرين بحكم عمله الطويل في الصحافة؛ ذلك الموقد الذي يُجبر العاملين فيه على استمرار تغذيته بالحطب، ويتصادف أن يكون ذلك الحطب جزءاً من روح الكاتب، أو سراً شخصياً، يُرضي به قارئ الصحيفة المتعجل. وهكذا عرف العالم مبكراً جداً أن ماركيز متربص لرواية ياسوناري كاواباتا «الجميلات النائمات» فلما كتب «ذكريات عاهراتي الحزينات» كان أطباء الأدب الشرعيون جاهزين لتشريح جثتي الروايتين لكشف ما بينهما من تشابهات.
خوسيه ساراماجو أخذ الطريق الأقصر للاعتراف. في سيرته «الذكريات الصغيرة» قام بدور الدليل، أمسك بالقارئ من يده، وأخذ يحكي له موقفاً من حياته، ثم يرشده إلى مكانه في الروايات.
ولا يتطلب استمرار التخفي صمت الكاتب وحده؛ بل صمت أصدقائه وأسرته. وفي تاريخ الكتابة لا نجد نموذجاً أكثر انكشافاً من دوستويفسكي. أصبحت لدينا يومياته ومراسلاته ومذكرات الزوجة والابنة والصديقات والأصدقاء، صرنا نعرف مصدر كل مشهد من رواياته، بفضل كل عناصر الإفشاء التي اجتمعت معاً.
ومن حسن الحظ أن من يتعقبون حياة وأقوال الكاتب في كل خطوة من خطواته هم حفنة من الباحثين والقراء الأكثر افتتاناً، وبعض الكُتَّاب الذين يهمهم التلصص على الصنعة، بينما يبقى عموم قراء الرواية بعيدين عن دروس التشريح، يستمتعون بصحبة الأشباح في الروايات دون أن يشغلوا أنفسهم بالبحث عن الحمض النووي للكاتب في كل منها!



ملتقى القاهرة للخط العربي... رحلة بصرية بين هيبة التراث وروح الحداثة

استعرضت بعض اللوحات أساليب مبتكرة في التكوين (الشرق الأوسط)
استعرضت بعض اللوحات أساليب مبتكرة في التكوين (الشرق الأوسط)
TT

ملتقى القاهرة للخط العربي... رحلة بصرية بين هيبة التراث وروح الحداثة

استعرضت بعض اللوحات أساليب مبتكرة في التكوين (الشرق الأوسط)
استعرضت بعض اللوحات أساليب مبتكرة في التكوين (الشرق الأوسط)

احتفاءً بالخط العربي بوصفه فناً أصيلاً يحمل بين ثناياه دعوة للسلام والانسجام الإنساني، أطلقت مصر الدورة العاشرة من «ملتقى القاهرة الدولي لفنون الخط العربي» في قصر الفنون بساحة دار الأوبرا.

يُبرز الملتقى أهمية الخط بصفته العنصر الأهم والأكثر تقديراً في الفن الإسلامي، وأداة تعبيرية وجمالية تعكس المضمون الروحي للحضارة العربية والإسلامية، وذلك من خلال مشاركة 23 دولة، منها: الصين، والهند، وإندونيسيا، وماليزيا، والمغرب، والسعودية، وتونس، واليمن، والعراق، وسوريا، ولبنان، والإمارات، وسلطنة عمان، وبولندا، وإيطاليا.

من الأعمال المعروضة في معرض الملتقى (الشرق الأوسط)

يتضمن الملتقى، الذي يُنظم العام الحالي تحت شعار «بالحروف: سلام»، نحو 450 لوحة فنية لأبرز الفنانين، يشارك فيها 121 فناناً من مصر و27 خطاطاً من دول أخرى، لتسليط الضوء على الإبداع والتميُّز في فن الخط العربي الكلاسيكي، من ضبط التكوينات وربط الحروف في إطارها، فضلاً عن الأسلوب الحديث والزخرفي.

ويتيح الملتقى للجمهور فرصة التعرف على نماذج متنوعة من أشكال الخط العربي، وكيفية توظيفها في التَّصميم المعاصر والفنون الجميلة.

عمل للفنان أحمد شركس في الملتقى (الشرق الأوسط)

ويقول خضير البورسعيدي، قوميسير عام الملتقى ونقيب الخطاطين في مصر، لـ«الشرق الأوسط»: «إن برنامج الملتقى يضم مجموعة من الندوات العلمية الدولية التي تناقش قضايا الخط العربي بين الأصالة والتجديد، بمشاركة نخبة من الباحثين والمتخصصين».

وتستضيف هذه الدورة عدداً من ضيوف الشرف العرب، وهم: أحمد عامر (السعودية)، وياسر الجرابعة (الأردن)، وسامي بن زين بن سعيد (عُمان)، وعبد الإله لعبيس (المغرب)، ومحمود علي برجاوي (لبنان).

رحلة بصرية تجمع بين هيبة التراث وروح الحداثة (الشرق الأوسط)

وعن شعار النسخة العاشرة من الملتقى «بالحروف: سلام»، يقول محمد بغدادي، مؤسس الملتقى: «الخط العربي هو رسالة سلام في الأصل؛ فكل الرسائل التي خرجت من مكة المكرمة وكتبها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كانت رسائل سلام».

ويرى بغدادي أن «ملتقى القاهرة الدولي للخط العربي له علامات فارقة، إذ إن الخط في مصر قديم ومتجدد، لارتباطه بحضارات عدّة متعاقبة بدءاً من الحضارة المصرية القديمة وحتى العصر الحديث في عهد محمد علي، ما أكسبه سمات خاصة ألقت بظلالها على هذا الحدث».

يشهد مختلف الأساليب الفنية (الشرق الأوسط)

ويشير بغدادي إلى أن من أهم ما يميز هذه الفعالية الثقافية أنها «تضم ندوة دولية يشارك فيها أكثر من 30 باحثاً من كبار المتخصصين في هذا المجال من داخل مصر وخارجها، كما يتضمن الملتقى ندوة مُحكمة بأبحاث علمية تستمر على مدى 3 أيام، تشمل أكثر من 60 بحثاً، إضافة إلى ورش عمل متميزة للخطاطين الراسخين لتعزيز الهوية البصرية للخط العربي».

ويتميز الحدث عن غيره من الملتقيات بمصاحبة حفل إعلان الجوائز والتكريمات بحفل فني للموسيقى العربية تستضيفه في دار الأوبرا المصرية.

لوحة للفنان محمد جمعة في الملتقى (الشرق الأوسط)

وعن تكريمه، يقول بغدادي: «أشعر بالسعادة لأن التكريم يأتي في وقت اشتد فيه عود ملتقى القاهرة، وأصبح علامة بارزة على خريطة المشهد الثقافي المصري والدولي».

ويشير الفنان سمير شرف الدين إلى أن أهم ما يميز هذه الدورة بشكل لافت هو النقلة النوعية في أساليب العرض والتنفيذ، حيث لم يعد الخط العربي حبيس الريشة والحبر التقليديين فقط، بل اقتحمت التكنولوجيا أروقة المعرض بقوة، سواء في مراحل التصميم أو الكتابة الرقمية.

عملان للفنان محمد إبراهيم (1909ـ 1970) (الشرق الأوسط)

وعلى الرغم من أن المعرض احتفظ بوقار الخط العربي الكلاسيكي، فقد تمكن عدد من الفنانين من تقديم الجديد، حيث استعرضت بعض اللوحات أساليب مبتكرة في التكوين وتوظيف الحرف داخل الفراغ، مما جعل المعرض رحلة بصرية تجمع بين هيبة التراث وروح الحداثة، حسب تصريحات شرف الدين لـ«الشرق الأوسط».

وأضاف: «شهدت هذه الدورة زيادة ملحوظة في عدد الفنانين العارضين من مختلف الأقاليم المصرية، كما لفتت الأنظار المشاركة الواسعة من جيل الفنانات الشابات، ما يدعو إلى الاطمئنان على مستقبل الخط العربي وصونه على أيدي جيل جديد شغوف بهويته».


650 ألف زائر يرسخ مكانة معرض جدة للكتاب كمنصة ثقافية إقليمية

طفل يبحث عما يشبهه من كتب تحاكي ذاته (الشرق الأوسط)
طفل يبحث عما يشبهه من كتب تحاكي ذاته (الشرق الأوسط)
TT

650 ألف زائر يرسخ مكانة معرض جدة للكتاب كمنصة ثقافية إقليمية

طفل يبحث عما يشبهه من كتب تحاكي ذاته (الشرق الأوسط)
طفل يبحث عما يشبهه من كتب تحاكي ذاته (الشرق الأوسط)

مع رحيل آخر أيام معرض جدة للكتاب، يطرح المشهد الثقافي جملةً من الأسئلة حول المعرض وترسيخ مكانته كأحد أبرز الفعاليات الثقافية في المملكة، وهل تجاوز حدود التنظيم إلى صناعة أثرٍ معرفي واقتصادي مستدام، ويبدو أن جميع هذه الأسئلة وجدت إجاباتها لدى الباحثين والمهتمين طيلة أيام المعرض التي تجاوزت 10 أيام.

هذه الإجابات تبرز في حراك هيئة الأدب والنشر والترجمة في السعودية، التي تعمل وفق الاستراتيجية الوطنية المنبثقة من «رؤية المملكة 2030»، والتي تولي الثقافة اهتماماً خاصاً، وتهدف إلى رفع إسهام القطاعات الثقافية في الناتج القومي الوطني إلى 3 في المائة من الناتج الإجمالي، وهو ما ينعكس بوضوح على طبيعة البرامج والمبادرات التي تقدمها الهيئة ضمن هذا الإطار.

 

شهد آخر أيام المعرض تدفقاً كبيراً من الزوار ليسجل حالة ثقافية فريدة في جدة (الشرق الأوسط)

ويتجلى هذا العمل للهيئة في ديمومة المعارض الثقافية وانعكاس ذلك على مختلف المسارات، في سعيها الدائم إلى تطوير الأنظمة المساندة وعدد من السياسات التي تُمكن الناشرين والمستفيدين من تطوير أعمالهم والوصول إلى أكبر شريحة وفق الخيارات المتاحة، خاصة فيما يتعلق بالدعم وتمكين المطابع العاملة في السعودية من التوسع داخل المدينة وخارجها.

البحث عن مضامين الكتب كان من أبرز عمليات الشراء في المعرض (الشرق الأوسط)

وبالعودة لمعرض جدة للكتاب، كونه إحدى الاستراتيجيات التي تعول عليها الهيئة في دفع عجلة الثقافة والأدب، تبرز أرقام النسخة الحالية للمعرض التي أعلنتها هيئة الأدب والنشر والترجمة، اليوم (الأحد)، بوصفها المؤشر الأول على حجم التحول الذي يشهده قطاع النشر والمعارض الثقافية في السعودية؛ ما يجعل المعرض «أثراً معرفياً واقتصادياً» مستداماً.

فعلى مستوى الحضور والتوسع في معرض جدة لهذا العام، أعلنت الهيئة أن المعرض نجح في استقطاب أكثر من 650 ألف زائر خلال 10 أيام، وهو رقم مميز لفترة محدودة، ويبدو وفقاً لمختصين، أن هذه الكثافة تعود لعوامل عدة في مقدمتها التواجد الكبير لدور النشر، الذي تجاوز 1000 دار نشر ووكالة محلية وعربية ودولية من 24 دولة، توزعت على أكثر من 400 جناح.

هذا العدد من الدور أفرز ما يقرب من 195 ألف عنوان، في دلالة واضحة على اتساع السوق القرائية، وارتفاع الطلب على المحتوى المعرفي المتنوع، إلى جانب ما شهده المعرض من توقيع عدد من الاتفاقيات الثقافية والمهنية بين جهات نشر محلية ودولية، عكست تحول المعرض إلى مساحة لعقد الشراكات وتوسيع فرص الاستثمار في صناعة الكتاب.

وعلى مستوى المحتوى والبرامج الثقافية، تجاوز عدد الفعاليات 176 فعالية، شملت ندوات فكرية، وورش عمل، وجلسات حوارية، راعت مختلف الفئات العمرية والاهتمامات، وأسهمت في تحويل المعرض من مساحة بيع وشراء إلى منصة نقاش وإنتاج معرفي، مدعومة بتطوير الأنظمة المساندة، وإقرار عدد من السياسات التي تمكّن الناشرين والمستفيدين من تطوير أعمالهم، بما يعزز استدامة القطاع ويرفع من كفاءته التشغيلية.

195 ألف عنوان كان أحد العوامل التي استقطبت الزوار (الشرق الأوسط)

وهنا أكد الرئيس التنفيذي لهيئة الأدب والنشر والترجمة، الدكتور عبد اللطيف الواصل، أن المعرض جسّد ملامح الرؤية الثقافية المتجددة للمملكة، وشكل محطة مهمة في مسار تطوير صناعة النشر وتعزيز الوعي المعرفي لدى المجتمع، لافتاً إلى أن التوسع هذا العام جاء مصحوباً بتحسينات نوعية في تجربة الزائر والبنية التنظيمية، إضافة إلى إطلاق مبادرات نوعية لتمكين دور النشر من توسيع نطاق وصول كتبها إلى القارئ، من بينها مبادرة إتاحة بيع الكتب في عدد من منافذ البيع غير التقليدية، مثل «السوبر ماركت» والصيدليات وعدد من المحلات، بما يسهم في كسر الحواجز بين الكتاب والجمهور اليومي.

وضمن جولة «الشرق الأوسط» في معرض جدة للكتاب، رُصِد داخل أروقة المعرض تفاعل لافت في مختلف مساراته، بدءاً من الإقبال الكثيف على شراء الكتب، ومروراً بالحضور المتنامي للفعاليات الثقافية المصاحبة، ووصولاً إلى حركة التوقيع والنقاشات الفكرية التي عكست حيوية المشهد الثقافي وتنوع اهتماماته.

فتح معرض جدة في نسخته الحالية شهية القراء بشكل لافت (الشرق الأوسط)

كما أظهرت الجولة الميدانية داخل المعرض تنامي حضور العائلات والشباب، وتزايد الطلب على الإصدارات الجديدة، لا سيما في مجالات الأدب، والفكر، وكتب الأطفال، في مؤشر على اتساع القاعدة القرائية، وتحول المعرض إلى وجهة ثقافية جامعة ضمن المشهد الإقليمي.

ومن بين أبرز النجاحات، تعزيز حضور المحتوى السعودي عبر مبادرات متعددة، من بينها منطقة الكتب المخفضة، ومنصة توقيع الكتب التي شهدت تدشين إصدارات جديدة لعدد من الكتاب السعوديين، إلى جانب مشاركة جهات حكومية وهيئات ثقافية استعرضت مشاريعها ومبادراتها، وأسهمت في إبراز الحراك المؤسسي الداعم للثقافة محلياً.

طفل يبحث عما يشبهه من كتب تحاكي ذاته (الشرق الأوسط)

وسجلت نسخة هذا العام إضافة نوعية بإدراج عروض للأفلام السعودية ضمن البرنامج الثقافي، من بينها أعمال عُرضت للمرة الأولى أمام الجمهور، في خطوة ربطت بين الكتاب والسينما، ودعمت السرد البصري المحلي، ووسعت من مفهوم الفعل الثقافي داخل المعرض، بوصفه منصة جامعة لمختلف أشكال التعبير الإبداعي.

كما أسهم التوظيف المكثف للتقنيات الرقمية من التذاكر الإلكترونية إلى الخرائط التفاعلية في رفع كفاءة التنظيم، وتحسين جودة تجربة الزائر، وسهولة الوصول إلى الفعاليات والخدمات، بما يعكس نضج التجربة التنظيمية وتراكم الخبرات، لنجد الإجابة في كل خطوة داخل أروقة المعرض.

ويأتي هذا النجاح امتداداً لمسار تراكمي تقوده هيئة الأدب والنشر والترجمة ضمن استراتيجيتها 2020-2025، الهادفة إلى تمكين صناعة النشر، ورفع مستوى الوعي الثقافي، والإسهام في تحسين جودة الحياة، ودعم الاقتصاد الوطني عبر الثقافة، بما يرسخ مكانة معرض جدة للكتاب كمنصة ثقافية ذات أثر يتجاوز الزمن والمكان.

 

 


«فلمّا أفَلَت»... حين تدخل الرواية السعودية إلى فضاء السؤال الفكري

الكاتبة خيرية المغربي مع إصداراتها الأدبية (الشرق الأوسط)
الكاتبة خيرية المغربي مع إصداراتها الأدبية (الشرق الأوسط)
TT

«فلمّا أفَلَت»... حين تدخل الرواية السعودية إلى فضاء السؤال الفكري

الكاتبة خيرية المغربي مع إصداراتها الأدبية (الشرق الأوسط)
الكاتبة خيرية المغربي مع إصداراتها الأدبية (الشرق الأوسط)

في مشهد ثقافي سعودي يتسع للأسئلة بقدر ما يحتفي بالحكايات، تبرز أعمال روائية لم تَعُد تكتفي برصد التحولات الاجتماعية بل تمضي أبعد من ذلك، نحو مساءلة الفكر، والوجود، والعلاقة المعقدة بين الإنسان وما يُحيط به.

وفي هذا السياق، تواصل الكاتبة السعودية خيرية المغربي ترسيخ حضورها في المشهد الأدبي عبر مشروع سردي متنوّع، يتنقل بين الاجتماعي والإنساني والفكري، مستنداً إلى وقائع حقيقية وأسئلة معاصرة، وباحثاً عن موقع للرواية بوصفها أداة وعي، لا مجرد وسيلة سرد.

تنطلق أحدث روايات خيرية المغربي، «فلمّا أفَلَت»، من لحظة تأمل فلسفي عميق، مستلهمةً مقولة النبي إبراهيم عليه السلام في بحثه عن الحقيقة. ولا تُقدّم الرواية حكاية تقليدية ذات خط سردي واحد، بل تبني عالمها على شخصية مفكّر، يقف في مواجهة الظواهر الكونية المحيطة به، محاولاً تفسيرها تفسيراً علمياً بحتاً، قبل أن يصطدم بحدود هذا التفسير، فيبدأ رحلة بحث جديدة، تستدعي النص القرآني والسنّة، وتفتح باباً واسعاً للنقاش والحوار.

تتناول الرواية قضايا تشغل الجدل الفكري المعاصر، من طبيعة الأرض وحركتها، إلى تعاقب الليل والنهار، وعلاقة الشمس والقمر بالزمن، وحجم الأرض قياساً بالسماء، وذلك في محاولة لربط الدلالات العلمية بالمرجعيات الدينية، ضمن قالب روائي يقوم على الحوار والمساءلة، لا على الإجابة الجاهزة. هذا الطرح غير المألوف في الرواية العربية منح العمل صدىً لافتاً، وفتح نقاشات واسعة حول حدود الرواية ووظيفتها في زمن تتداخل فيه المعرفة مع الإيمان.

لا تأتي «فلما أفَلَت» بوصفها خروجاً مفاجئاً عن مسار الكاتبة، بل هي امتداد طبيعي لتجربة بدأت بالرواية الاجتماعية، حين واكبت أعمالها الأولى مرحلة تمكين المرأة في المملكة، وقدّمت سرداً بانورامياً لحياة مجموعة من الصديقات في الرياض بعد التخرج الجامعي، مستندة إلى 9 حكايات متقاطعة، عكست قضايا واقعية من حياة النساء السعوديات. هذا العمل فرض حضوره محلياً وخارجياً، ووصل إلى مكتبة الكونغرس الأميركي، وأكثر من 13 جامعة عالمية للإعارة باللغة العربية، دون ترجمة.

وفي روايتها «بين وجس وهجس»، انتقلت خيرية المغربي إلى معالجة إنسانية أكثر كثافة، عبر سرد مزدوج على لسان أخ وأخت، في قصة مستوحاة من واقعة حقيقية لشاب تورّط في جريمة غير مقصودة. الرواية تطرح أسئلة حول الخطأ والنية والذنب، وكيف تتعامل الأسرة مع تبعات أزمة قانونية ونفسية واجتماعية، وهو ما يُفسّر وصولها إلى 7 جامعات عالمية.

وإلى جانب الرواية، تعمل خيرية المغربي وكيلة أدبية معتمدة من هيئة الأدب والنشر والترجمة، وتُسهم في مشروعات جماعية تهدف إلى بناء المشهد الثقافي، من بينها مجموعة قصصية قصيرة شارك فيها 11 كاتباً، استلهمت أحداثها من وقائع واقعية وخيالية مرتبطة بمونديال قطر، في تجربة تؤكد إيمانها بالعمل الثقافي الجماعي.

وتعود علاقة خيرية المغربي بالكتابة إلى سنوات مبكرة، من القصيدة والمقال في مراحل الدراسة، إلى تأسيس نادٍ قرائي منزلي في سن صغيرة، وهي ترى أن الكاتب يُكتشف منذ الطفولة عبر كثرة الأسئلة، والخيال، وعدم الاكتفاء بالإجابات الجاهزة، وهي السمات التي تتجلّى بوضوح في أعمالها الأخيرة.

بهذا التنوّع في الطرح، تواصل خيرية المغربي تقديم مشروع روائي يراهن على السؤال بوصفه مدخلاً للفهم، وعلى الرواية بوصفها مساحة للتفكير، لا مجرد انعكاس للواقع.