من التاريخ: الحرب الأهلية الأميركية

من التاريخ: الحرب الأهلية الأميركية
TT

من التاريخ: الحرب الأهلية الأميركية

من التاريخ: الحرب الأهلية الأميركية

تكاد كل دولة بعد بنائها أن تتعرض لحرب أهلية داخلية ويكون ذلك عندما تلجأ الفرق السياسية أو الدينية المختلفة فيها إلى الصراع المسلح من أجل فرض أهدافها فيكون الحوار قد نفد ويبقى العنف هو الحل الأخير أمام هذه الفرق، وقد تعرضت الكثير من الدول لهذه الأزمات في مراحل تكوينها الأساسية عبر تاريخها، وعادة ما تكون أسباب هذه الحروب الأهلية مرتبطة بشكل مباشر بالتركيبة الاجتماعية والسياسية والثقافية مجتمعة وعندئذ تكون حدة الصراع المسلح كبيرة للغاية بسبب عدم تجانس هذا المجتمع، ويكون الهدف من هذه الحروب إما السلطة والسيطرة السياسية، أو محاولة فرض طابع اجتماعي - ثقافي جديد على الدولة ككل أو الإبقاء على هذا النظام أمام الفرق المطالبة بالتغيير، وفي أغلبية الأحوال لا يكون العامل الاقتصادي وحده سببا في مثل هذه الحروب، وتشير الكثير من حالات الحروب الأهلية عبر التاريخ الحديث إلى أن الحروب الأهلية تكون مرتبطة بشكل مباشر بعملية تكوين الدولة وبمحاولة فرض مفاهيم الشرعية بداخلها، ولذلك فقد يربطها البعض بمراحل نشأة الدولة، ولكن هذه ليست قاعدة فقد تنشب مثل هذه الحروب عندما يكون هناك عملية تغيير لمفهوم الشرعية داخل الدولة الراسخة، والأمثلة على ذلك كثيرة للغاية مثل إنجلترا خلال القرن السابع عشر، وفرنسا بعد الثورة الفرنسية، والكثير من دول أوروبا في مرحلة الربيع الأوروبي عام 1848، وهنا فإن هذه الحروب لا تكون بسبب النشأة ولكن لعوامل التغيير.
وفي هذا الإطار فإن الولايات المتحدة الأميركية لم تكن استثناء من هذه القاعدة، فلقد تكاملت الولايات الـ13 وواجهت بجيشها الوليد والموحد الجيش البريطاني العتيد بهدف الاستقلال حتى نالته بعد إعلان الاستقلال بأعوام قليلة، وقد تمت صياغة الدستور الأميركي بشكل يضمن نوعا من التوازن الدقيق بين الولايات المختلفة آخذا في الاعتبار أحجامها المختلفة بشكل مثّل سابقة فريدة من نوعها في الأنظمة السياسية التي كانت سائدة في العالم الحديث، وقد تغلبت هذه الدولة الوليدة على كافة المصاعب بمرور الوقت، ولكنها لم تستطع وقاية نفسها من شرور الحرب الأهلية التي اندلعت عام 1861 والتي كانت حربا مختلفة بعض الشيء، فهي لم تكن مرتبطة بمحاولة ولاية أو أخرى تغيير النظام السياسي للدولة أو عملية إعادة توازن أو توزيع للقوة، بل كانت لأسباب اقتصادية اجتماعية في الأساس.
لا يختلف أغلبية المؤرخين في اعتبار العبودية السبب الأساسي وراء اندلاع هذه الحرب الأهلية، ولولاها لما اندلعت هذه الحرب، فلقد كانت التركيبة الاقتصادية والاجتماعية الأميركية تختلف عن مثيلاتها في العالم، فولايات الشمال القوية كانت تعتمد في الأساس على القاعدة الصناعية وبدرجة أقل الزراعة، وهو ما ساهم بشكل مباشر في خلق بيئة اجتماعية وثقافية مختلفة عن ولايات الجنوب التي اعتمدت على الاقتصاديات الزراعية في الأساس، فلقد أدى هذا النمط من التطور والتنمية في الشمال إلى خلق بيئة فكرية وثقافية وطريقة حياة مختلفة بشكل كبير عن الجنوب الذي لم يستطع بدوره أن يطور من نفسه بالشكل المطلوب، فلقد كانت اقتصاديات الولايات الجنوبية تعتمد في الأساس على الزراعة، خاصة زراعة القطن والسكر والتبغ وغيرها من السلع التي كانت تدر عائدا ماديا عاليا Cash Crops، وقد نتج عن ذلك اعتماد مباشر على العمالة التي لم تكن متوفرة بيسر بين أبناء طبقة ملاك الأراضي، وبالتالي ظهر توجه للاعتماد على الرق لزراعة الأراضي، فهذه الزراعات تحتاج إلى عمالة كثيفة Labor Intensive، وكلما توسعت دول الجنوب في التطور الاقتصادي الزراعي زادت الحاجة لمزيد من الرق، وتشير بعض الإحصاءات التاريخية إلى أن حجم العبيد الأميركي عند الاستقلال لم يتخط السبعمائة ألف، ولكن هذا الرقم قفز بشكل مباشر إلى ما يقرب من مليونين بحلول عام 1830. ثم قفز مرة أخرى إلى قرابة 4 ملايين بحلول عام 1860.
ورغم ذلك فإن ولايات الجنوب الأميركي لم تسع في أي مرحلة من مراحل تطورها لإدخال الصناعة لتخفف من حدة اعتمادها على الزراعة أو تُحدث تنويعا مطلوبا، وقد تعددت الآراء في السبب وراء هذا التكاسل الصناعي فمنها الآراء التي أرجعته إلى عدم ملاءمة البيئة الجنوبية لمثل هذه الحداثة، كما أن العبيد لم يكن من الممكن الاعتماد عليهم لمحاولة إقامة هذا النظام الاقتصادي، وبالتالي انحصرت القاعدة الصناعية في الجنوب على الصناعات المرتبطة بالزراعة مثل المنسوجات وغيرها، وقد أدى هذا إلى تطور اجتماعي للجنوب يختلف تماما عن الشمال، حيث انزلق هذا المجتمع في توجهاته الاجتماعية ومن ثم الثقافية المختلفة، فأصبح مجتمعا محافظا مبنيا على أشكال تشابه أنماط التطور في القرون الوسطى الأوروبية بتركيبة اجتماعية مختلفة تماما عن ولايات الشمال، وهو ما جعل الهوة تتسع بين الأهداف والمصالح في الشمال مقارنة بالجنوب.
حقيقة الأمر أن بذور الحرب الأهلية بدأت منذ تأسيس الولايات المتحدة الأميركية، فالتركيبة السياسية والاجتماعية دفعت الكثير من المفكرين ورجال الكنيسة والساسة لمحاولة القضاء على ظاهرة الرق وهو ما نظرت إليه ولايات الجنوب باعتباره سببا مباشرا في ضرب بيئتها الاقتصادية والاجتماعية، وقد بدأت الأصوات المنادية بالقضاء على العبودية، وكان منهم بطبيعة الحال ساسة ومفكرون ممن ساهموا مباشرة في صياغة وثيقة الاستقلال وعلى رأسهم «جيمس ماديسون Madison» و«جون آدمز Adams»، ولكن هذه الحركة لم تخرج عن نطاق النداءات المجردة لتحرير الرق وتحريمه، ولم يكن من المستغرب أن تندلع هذه الحركة تدريجيا من ولاية «ماساشوستس» التي كانت مصدر حرب الاستقلال وأكثر الولايات تحضرا وثقافة، ولكن هذه الحركة سرعان ما بدأت تنتشر في الولايات الأخرى، ثم في ولايات الجنوب ذاتها، وبدأت حركة اجتماعية واسعة تطالب بضرورة التحرير، وسرعان ما اندلعت نيران التحرير إلى الجنوب أيضا، فبدأت تظهر الأصوات المنادية بإنهاء العبودية، ولكن المقاومة الجنوبية بدأت تظهر، حتى إن كثيرا من الكنائس في الجنوب بدأت تسعى من أجل وضع التبرير المناسب لهذه الظاهرة الاجتماعية على أسس دينية، مستندة إلى أن الرق وارد في العهد القديم والجديد على حد سواء دون التحريم، وأن السيد المسيح لم ينه العبودية، كما أن الحركات السياسية المناهضة لم تتأخر أيضا في هذا الاتجاه، وبحلول العقد الرابع من القرن الـ18 بدأت المناوشات السياسية داخل الكونغرس حيث سعى الكثير من الساسة لمحاولة استصدار تعديلاتهم الدستورية من أجل إلغاء الرق في الجنوب وهو ما واجهه ممثلو الجنوب بحروب كلامية وسياسية كبيرة للغاية في الكونغرس.
حقيقة الأمر أن هذه الحرب اندلعت في الكونغرس الأميركي قبل ساحات المعارك المختلفة على مدار 4 سنوات تلت ذلك، فبحلول عام 1818 صارت هناك 22 ولاية نصفها يجيز الرق والنصف الآخر يرفضه، وقد تم التوصل إلى حالات كثيرة من التوافق السياسي لمعالجة هذه الأزمة، منها «توافق ميزوري» الذي أجاز العبودية في ولاية «ميزوري» ومنعها في ولاية «ميين Maine» ثم تفجرت الأزمات بعد ذلك عندما توسعت الولايات المتحدة على حساب المكسيك، فماذا سيكون مصير الرق في هذه الولايات؟، وقد دخلت الولايات المتحدة في شبح الحرب بحلول خمسينات القرن التاسع عشر، وكان الحل هو مزيد من المواءمة والتوازن داخل الكونغرس وفي هذه الولايات حيث قرر الكونغرس أن يترك لهذه الولايات تحديد موقفها من مسألة الرق، خاصة ولايتي نيومكسيكو ويوتاه، وقد عُرف ذلك فيما بعد بالمواءمة 1850، خاصة بعدما تقرر أن تنضم ولاية كاليفورنيا إلى الولايات المتحدة على أساس أنها ولاية مستقلة لها حق إجازة الرق من عدمه في إطار ما عُرف «بالسيادة الشعبية»، بينما تقرر على صعيد آخر تغليظ عقوبة العبيد الهاربين. وعلى مدار حقبة الخمسينات بدأ الحوار حول الرق يأخذ طابع التوترات السياسية إلى أن تحول في إحدى المناسبات للتطاول بالأيدي داخل الكونغرس، وهو ما كان يُنذر بأن انتشار العنف في الولايات أصبح مسألة وقت لا غير، وكانت ولاية كانساس هي المرشحة لتشهد ساحات من العنف جراء هذا النقاش المحتدم.
وهكذا أصبح القتال هو الحل الوحيد عندما تحول المشهد السياسي إلى خلاف بين الشمال والجنوب حول الرق خلافا سياسيا ممتدا إلى طريقة الحياة الجديدة التي ستنتهجها الولايات المتحدة، وهذا كان لب الأمر، فالحرب الأهلية أصبحت هنا أداة لتغيير طريقة ونمط الحياة وأسلوبها بين الشمال والجنوب كما سنرى.



أمن الأردن يواجه خطر تصعيد المواجهة الإسرائيلية ــ الإيرانية

من لقاء الملك عبدالله الثاني والرئيس الإيراني بزشكيان (التلفزيون الأردني)
من لقاء الملك عبدالله الثاني والرئيس الإيراني بزشكيان (التلفزيون الأردني)
TT

أمن الأردن يواجه خطر تصعيد المواجهة الإسرائيلية ــ الإيرانية

من لقاء الملك عبدالله الثاني والرئيس الإيراني بزشكيان (التلفزيون الأردني)
من لقاء الملك عبدالله الثاني والرئيس الإيراني بزشكيان (التلفزيون الأردني)

يحاول الأردن تحييد أجوائه وأراضيه بعيداً عن التصعيد الإسرائيلي - الإيراني، الممتد عبر جبهتي جنوب لبنان وشمال غزة، ليضاعف مستويات القلق الأمني مراقبة خطر الضربات المتبادلة و«المُتفق على موعدها وأهدافها» بين طهران وتل أبيب، ولتعود مخاطر عمليات تهريب المخدرات والسلاح على الواجهتين الشمالية والشرقية، وتدخل الجبهة الغربية على الحدود مع دولة الاحتلال على خطوط التهريب، لتعويض الفاقد من المواد المخدّرة في أسواق المنطقة.

سارع الأردن لتأمين سلامة أرضه، ومنع اختراق أجوائه، وممارسته لسيادته بعد ليلتين متباعدتين سعت طهران من خلالها إلى «حفظ ماء الوجه بتوجيه صواريخ لم تنجح في الوصول إلى أهدافها داخل إسرائيل». وبالنتيجة، أسقطت الدفاعات الجوية الأردنية صواريخ إيرانية في الصحراء الشرقية وعلى الحدود الشمالية مع سوريا.

وفي حين اعتبرت بعض الجهات أن «الدفاعات الجوية الأردنية انطلقت حماية لإسرائيل»، أكدت عمّان على لسان مصادر مطلعة أن «الضرورة تتطلب اعتراض أي صواريخ عابرة لسماء المملكة، بعيداً عن المواقع الآهلة بالسكان، ومخاطر تسبّبها بخسائر بشرية، أو أضرار مادية». وبالتالي، جاء القرار العسكري محصّناً بأولوية حماية أرواح الأردنيين. وأردفت المصادر من ثم أن «مَن يريد ضرب إسرائيل فأمامه حدود لبنان الجنوبية أو الحدود السورية مع الجولان المحتل»؛ لأن من هناك تكون الصواريخ الإيرانية أقرب لتحقيق أهدافها، بدلاً من إطالة المسافة بمرورها عبر سماء المملكة، واحتمالات سقوطها في مواقع حيوية على الحدود الغربية مع دولة الاحتلال.

في الواقع، تابع المواطنون الأردنيون ليلة الثالث عشر من أبريل (نيسان) وأيضاً في أكتوبر (تشرين الأول)، عرضاً ليلياً بإضاءات الدفاعات الجوية وإسقاطها صواريخ إيرانية عبرت فضاءات الأردن على وقع الكلام عن دعم طهران لغزة ضد العدوان الإسرائيلي، والانتقام لاغتيال إسماعيل هنية، رئيس حركة المقاومة الإسلامية «حماس»، أثناء زيارته الرسمية للمباركة بفوز الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان في انتخابات الرئاسة، وكذلك الانتقام من تصفية قيادات الصفوف المتقدمة في «حزب الله» اللبناني، وعلى رأسهم السيد حسن نصر الله يوم 27 سبتمبر (أيلول) الماضي.

وفي المقابل، أمام التقدير العسكري الأردني في أولوية إسقاط الصواريخ الإيرانية أثناء عبورها سماء المملكة ومنع سقوطها بالقرب من مناطق سكنية، أكّدت عمّان، عبر قنوات اتصال أمنية مع إسرائيل، ورسائل أردنية إلى الإدارة الأميركية، تصدّيها لأي هجوم إسرائيلي على طهران قد يستخدم سماءها بذريعة الردّ على ضربات إيرانية محدودة في الداخل الإسرائيلي.

توضيح الموقف الأردني

هنا استعاد جنرالات أردنيون تحدثت إليهم «الشرق الأوسط» ذاكرة المفاوضات مع إسرائيل قبل صياغة «قانون معاهدة السلام» المتعارف على تسميته «اتفاق وادي عربة من عام 1994»، ومنها تمسّكهم - آنذاك - بتحديد تل أبيب مدىً جغرافياً للرد على أي هجوم مُحتمل «على أن يضمن ذلك عدم انتهاك الأجواء الأردنية وإسقاط أي أجسام متفجرة داخل حدود المملكة الغربية». ومما سمعناه أن «نبوءة» المفاوضين الأردنيين من قيادات القوات المسلحة، كانت تقرأ مستقبل التطورات في منطقة متخمة باحتمالات الحرب، وموقع الأردن بين «فكي كماشة» بضم «محور الممانعة» من جهة وإسرائيل من الجهة المقابلة. وبناءً عليه؛ اضطر الجيش إلى التعامل مع الصواريخ الإيرانية العابرة التي قد تُسقط داخل الأراضي الأردنية. ومن المعلوم بأن الحدود الغربية مأهولة بالسكان؛ وبذا تبادر دفاعات الجيش الأردني الجوية بالرد على تلك الصواريخ دفعاً لسقوطها في الصحراء الشرقية بعيداً عن السكان، غير أن بعض حطام تلك الصواريخ وقع حقاً في مناطق من العاصمة ومحافظات الوسط، ولقد وثقتها كاميرات الهواتف الذكية فيديوهات، وجرى نشرها على منصات التواصل الاجتماعي.

إيمن الصفدي (رويترز)

نشاط عمّان الدبلوماسي ترك انطباعاً بأن انفتاح الحراك

على «محور الممانعة» يأتي من زاوية السعي

لحماية المصالح الأردنية

عبر الأجواء السورية

من ناحية ثانية، وجّهت إسرائيل قبل أسبوع ضربة صاروخية على مواقع عسكرية إيرانية. وأفادت معلومات مؤكدة بأن مسار الرد الإسرائيلي كان عبر الأجواء السورية، بعد نجاح الاختراق الإسرائيلي من ضرب رادارات متقدّمة للدفاعات السورية. ولقد أعادت تل أبيب في هذا المشهد التأكيد على انتهاكاتها المستمرة بحق «دول الجوار»، وأمام صمت دولي ومباركة أميركية بعد توافر معلومات عن مواقع حددتها إسرائيل، ورأى مراقبون أن الرد جاء في سياق «معادلة ميزان القوى» في المنطقة ضمن حدود الحرب المنتظرة أو سياسة صناعة التوتر في المنطقة عبر «حرب استنزاف»، تسبّبت في سقوط آلاف القتلى والجرحى والمفقودين ومئات آلاف النازحين في غزة ومن جنوب لبنان.

زوايا حرجة في العلاقة مع إيران

توازياً مع ما سبق، وفي زيارة مفاجئة حمل وزير الخارجية أيمن الصفدي في الثامن من أغسطس (آب) الماضي رسالة من العاهل الأردني الملك عبد الله الثاني إلى الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان، أكد خلالها الصفدي أن الزيارة جاءت «بتكليف من الملك عبد الله الثاني لتلبية الدعوة إلى طهران»، مضيفاً أن هدف الزيارة هو «الدخول في حديث أخوي واضح وصريح حول تجاوز الخلافات ما بين البلدين بصراحة وشفافية، والمضي نحو بناء علاقات طيبة وأخوية قائمة على احترام الآخر، وعدم التدخل في شؤونه، والإسهام في بناء منطقة يعمّها الأمن والسلام».

الزيارة والرسالة شكَّلتا «استدارة» أردنية في علاقتها مع إيران، ليتبعها خلال اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة لقاء جمع الملك الأردني وبزشكيان، في الثلث الأخير من سبتمبر الماضي، وهو لقاء بدأ موسّعاً بحضور بعض أركان وفدي البلدين، ثم اقتصر على مباحثات ثنائية لم يحضرها أحد، وظلّت تفاصيل اللقاء محفوظة لدى الزعيمين.

أيضاً، تلك الزيارة فتحت شهية البعض لـ«شيطنة» الموقف الرسمي الأردني واتهام عمّان بنقلها «رسالة تهديد» لطهران برد إسرائيلي حازم. غير أن الوزير الصفدي أكد في تصريحات رسمية مع نظيره الإيراني في حينه «أبلغت معالي الأخ بشكل واضح، لست هنا حاملاً رسالة إلى طهران، ولست هنا لأحمل رسالة لإسرائيل». وتابع أن «رسالة الأردن الوحيدة لإسرائيل أُعلنت في عمّان بشكل واضح وصريح، ومفادها وقف العدوان على غزة، ووقف جرائم الحرب ضد الشعب الفلسطيني، ووقف الخطوات التصعيدية، والذهاب نحو وقف فوري ودائم لإطلاق النار يتيح العمل من أجل تحقيق سلام عادل وشامل... لن يتحقّق إلا إذا حصل الشعب الفلسطيني على حقوقه كاملة، وفي مقدمها حقه في الحرية والسيادة والكرامة في دولته المستقلة».

في مطلق الأحوال، ما كان المقصود من زيارة الصفدي الإيرانية تأكيد موقف حيال طهران وحلفائها فقط، بل كانت الزيارة في حد ذاتها رسالة إلى إسرائيل مفادها أن الأردن «يملك خياراته السياسية في الدفاع عن سيادته على أرضه وسمائه، وأن واحداً من الخيارات هو فتح قنوات الاتصال على وسعها مع طهران وأطراف الصراع في المنطقة»، بحسب مصادر تحدثت لـ«الشرق الأوسط» آنذاك.

استقبال عراقجي وميقاتي

ما يُذكر أنه في منتصف أكتوبر (تشرين الأول) الماضي استقبل الملك عبد الله الثاني في عمَّان، وزير الخارجية الإيراني عباس عراقجي، وشدّد على «ضرورة خفض التصعيد بالمنطقة». وحذّر العاهل الأردني من أن «استمرار القتل والتدمير سيبقي المنطقة رهينة العنف وتوسيع الصراع»؛ ما يتطلب «ضرورة وقف الحرب الإسرائيلية على غزة ولبنان خطوةً أولى نحو التهدئة»، مجدداً التأكيد على أن «بلاده لن تكون ساحة للصراعات الإقليمية».

ثم أنه إذا كان استقبال الوزير الإيراني، الذي زار الأردن ضمن جولة عربية مهماً لعمَّان، فقد سبق هذه الزيارة بيومين وصول رئيس الوزراء اللبناني نجيب ميقاتي إلى العاصمة الأردنية ولقاؤه الملك عبد الله الثاني. وكان في جدول أعمال الزيارة:

- أولوية دعم الجيش اللبناني وسط احتمالات النزول إلى الشارع في ظل مخاوف من احتكاكات محتملة بين ميليشيات حزبية محسوبة على زعماء لبنانيين.

- الحاجة إلى تطبيق القرار الأممي بنشر قوات من الجيش اللبناني في مناطق الجنوب التي تخضع لسيطرة «حزب الله».

- الاستفادة من فرص وقف إطلاق النار عبر هُدن يمكن تمديدها.

واستكمالاً لعقد المباحثات مع «محور الممانعة»؛ طار الوزير أيمن الصفدي إلى دمشق، التي شكَّلت حدودها الجنوبية مع الأردن وعلى مدى أكثر من عقد ونصف العقد، حالة أمنية طارئة للجيش الأردني. ذلك أنه يتعامل باستمرار مع صد محاولات قوافل مهربي المخدّرات وعصابات السلاح لتجاوز الحدود؛ وهو ما استدعى مواجهات مسلحة واشتباكات نهاية العام الماضي أسفرت عن سقوط قتلى وإلقاء القبض على مهرّبين لهم اتصالات مع خلايا داخل المملكة.

الصفدي حمل رسالة شفوية من العاهل الأردني إلى الرئيس السوري بشار الأسد، لكن لم يُكشف عن مضمونها. مع هذا، نشاط عمّان الدبلوماسي على مدى أيام الشهر الماضي، ترك انطباعاً لدى جمهور النخب المحلية، بأن انفتاح الحراك الدبلوماسي الأردني على «محور الممانعة» يأتي من زاوية السعي لحماية المصالح الأردنية في ظل ما تشهده المنطقة من تصعيد عسكري خطير، وموقع المملكة على خطوط النار.

التهريب تهديد أمني

أردنياً، يُعتقد في أوساط الطبقة السياسية المطلعة، أن خطر تهريب المخدرات من الداخل السوري لا يزال يشكل «تحدياً أمنياً» كبيراً؛ الأمر الذي يستدعي إبقاء حالة الطوارئ لدى قوات حرس الحدود على امتداد الحدود الشمالية نحو (370 كلم) بين البلدين، لا سيما في ظل تحوّل مناطق في الجنوب السوري إلى مصانع إنتاج المخدرات، ونقلها من خلال عمليات التهريب إلى أسواق عربية وأجنبية عبر المملكة. ويضاف إلى ذلك النزف الاقتصادي المستمر منذ عام 2012، واستقبال اللاجئين وكُلف إقامتهم، وتراجُع أثر خطط الاستجابة الدولية للتعامل مع الدول المستضيفة للاجئين؛ إذ يستضيف الأردن نحو 1.3 مليون لاجئ سوري، معظمهم يقيمون خارج المخيمات التي خصصت لهم.

أمر آخر، يستحقّ التوقف عنده هو أنه لا يمكن فصل تلك الزيارة عن الملف الأردني الأهم، ألا وهو «الملف الأمني» المباشر. والحال، أنه لطالما بقي الجنوب السوري مسرحاً للميليشيات الإيرانية وغيرها، سيظل القلق الأردني من الخطر الآتي من الشمال، وبالتحديد، ستستمر المخاوف من تسرّب عناصر مسلحة بقصد «المقاومة» في فلسطين وعن طريق عمّان.

وبالفعل، جاء في بيان إن الرئيس الأسد والوزير الصفدي بحثا قضية عودة اللاجئين السوريين إلى بلدهم؛ إذ شدد الأسد على أن «تأمين العودة الطوعية والآمنة للاجئين السوريين» هو «أولوية للحكومة السورية» التي أكد أنها قطعت شوطاً مهماً في الإجراءات المساعدة على العودة، خصوصاً في المجالين التشريعي والقانوني.وفي إطار الزيارة، أجرى الصفدي مباحثات موسَّعة مع وزير الخارجية والمغتربين السوري بسام الصباغ، ركّزت على جهود حل الأزمة السورية وقضية اللاجئين، ومكافحة تهريب المخدرات، إضافةً إلى التصعيد الخطير الذي تشهده المنطقة وجهود إنهائه.

الرئيس نجيب ميقاتي (إ.ب.أ)

 

حقائق

زيارة ميقاتي لعمّان... طلبتُ دعم أمن لبنان

فيما يخصُّ العلاقات الأردنية - اللبنانية، طلب الرئيس نجيب ميقاتي، رئيس حكومة تصريف الأعمال في لبنان، في عمّان من العاهل الأردني الملك عبد الله الثاني دعم الجيش اللبناني بصفته القوة القادرة على التعامل مع احتمال تطور استخدام سلاح ميليشيات حزبية متباينة المواقف والولاءات، مع استمرار القصف الإسرائيلي الليلي على مناطق في الضاحية الجنوبية، وفي جنوب لبنان.وللعلم، يوم 27 سبتمبر (أيلول) الماضي استقبل اللواء يوسف الحنيطي، رئيس هيئة الأركان المشتركة الأردنية، في عمّان، قائد الجيش اللبناني العماد جوزف عون. وفي الواقع لم يخفِ الأردن الرسمي دعمه للجيش اللبناني وأولوية تزويده بكل الاحتياجات بصفته ضمانة لأمن لبنان وحامياً للسلم الأهلي، بينما المواقف بين الأحزاب السياسية والميليشيات المحسوبة عليها. وبموازاة أولوية تزويد الجيش اللبناني بمتطلبات فرض سيطرته لحماية الأمن الداخلي وتنفيذ استحقاق قرارات أممية، أعلنت عمّان أيضاً دعمها لجهود الاستقرار السياسي في لبنان عبر انتخاب رئيس جديد للبلاد، ما من شأنه تخفيف حدة الاحتقان والتوتر، خصوصاً بعد تطورات الأسابيع الأخيرة أمنياً وسياسياً على معادلات الإدارة السياسية للبلاد، وتحريك عمل مؤسسات لبنان الدستورية. وهنا يرى محللون أردنيون أن تراكم الفوضى على حدود المملكة الشمالية مع سوريا والشرقية مع العراق، وحالة اللااستقرار في لبنان التي تفاقمت مع استمرار العدوان الإسرائيلي، وزيادة نشاط خطوط تهريب المخدرات، وضع تجب مواجهته عبر مسارين: الأول، مسار أمني يتطلب رفع درجات التأهب لمنع أي اختراقات إيرانية للأمن الأردني، والثاني مسار سياسي يتعلق بمواصلة الجهود السياسية لاحتواء الخطر الراهن ومحاولة تجاوز أي تصعيد من شأنه دفع المنطقة وجوار الأردن نحو المجهول. ولكن في هذه الأثناء، واضح أن إسرائيل هي الأخرى تبحث عن إزعاج الأردن، بما في ذلك «عزف» حسابات خارجية على منصات التواصل الاجتماعي على وتر الفتنة، وإغراق الرأي العام في جدل الإشاعات وتأجيجها.