صلاح أبو سيف يروي مذكراته بعد ربع قرن من رحيله

نقل الصورة السينمائية من ترف القصور إلى بساطة الحياة الشعبية

صلاح أبو سيف يروي مذكراته بعد ربع قرن من رحيله
TT

صلاح أبو سيف يروي مذكراته بعد ربع قرن من رحيله

صلاح أبو سيف يروي مذكراته بعد ربع قرن من رحيله

بعد ربع قرن من رحيله في 22 يوليو (تموز) 1996 عن 81 عاماً، تخرج مذكرات المخرج صلاح أبو سيف المُلقب برائد الواقعية في السينما المصرية إلى النور، التي سجلها على مدار لقاءات عدة معه الكاتب الصحافي عادل حمودة.
تقع المذكرات في 260 صفحة، وصدرت عن دار «ريشة» للنشر بالقاهرة، وتلقي الضوء على جوانب مستترة مهمة في حياة مخرج عبقري قدم عشرات الأفلام، أصبح بعضها علامة في تاريخ السينما في مصر، منها «الزوجة الثانية»، و«شباب امرأة»، و«أنا حرة»، و«القاهرة 30»، و«بداية ونهاية»، و«بين السماء والأرض»، ونقل الصورة السينمائية من حياة القصور المترفة إلى بساطة الحارة الشعبية.
المذكرات تأخر نشرها ما يقرب من ربع قرن بسبب فقدان عادل حمودة لمسودتها الأصلية، حتى عثر عليها لاحقاً، لافتاً في مقدمتها إلى أن أغلب المشاهير في عالمنا العربي يخشون كشف أسرارهم ومحاسبتهم بأثر رجعي، كما يخشون السفر دخل نفوسهم، ويكتفون بالسفر داخل نفوسنا، مؤكداً أن «من يملك الجرأة على مخالفة ذلك يتصور أننا سنسقطه من عيوننا، وهو خطأ شائع». وحول تقييمه لمدى صراحة صلاح أبو سيف في تلك المذكرات، يوضح عادل حمودة أنه للإنصاف كان «صريحاً بسيطاً، كما لو كان يتحدث إلى نفسه بصوت مرتفع، وكان ما قاله أقرب إلى المونولوج لا إلى الحوار، أقرب إلى الاعتراف لا إلى المناقشة».

فقر وحرمان
ترصد المذكرات العديد من الملامح حول طفولة صاحبها، فقد عاش يعاني من جحود الأب الذي كان ثرياً ومزواجاً يملك العديد من الأفدنة الزراعية، ومع ذلك تنكر لابنه، ولم يره مرة واحدة، أو ينفق عليه قرشاً، لأن والدته تلك المرأة الشابة الجميلة صممت أن تعيش في حي بولاق الشعبي بالقاهرة، ولا تنتقل إلى محافظة بني سويف بصعيد مصر، لتكون مجرد رقم جديد في «امبراطورية الحريم» التي بناها الأب الذي كان يغير زوجاته، كما يغير ملابسه، فعاقبها الزوج بالطلاق والإهمال، وحين حصلت على حكم قضائي يلزمه بالإنفاق عليها، استطاع بنفوذه كعمدة قرية وإقطاعي صغير أن يتهرب من تنفيذ الحكم، وهكذا عاش المخرج طفولة عنوانها الفقر والحرمان. ويتوقف صاحب المذكرات عند خاله ناظر المدرسة الشاب الذي تولى الإشراف على تربيته وتعليمه، وكان مثقفاً يهوى القراءة والفن، ويشتغل بالسياسة وكانت ميوله ثورية، يعقد الاجتماعات ويوزع المنشورات المنددة بالاحتلال الإنجليزي للبلاد، وينظم خلايا سرية. ويحكي أنه ذات يوم اقتحم البوليس السياسي منزل العائلة، وقام بتفتيشه بحثاً عن المنشورات، ولكن قبل دخولهم الشقة نجحت خالته في إخفاء المنشورات في سلة الخبز، فلم يعثروا عليها، ولو أنهم نظروا في وجه الطفل الصغير «صلاح» لعرفوا مكانها فقد كانت عيناه ترتكز على السلة. ومع أنهم لم يجدوا منشورات، فإنهم لم يتركوا خاله وأخذوه معهم بعد أن وضعوا الحديد في يديه.
ويحكي أيضاً عن الحارة الشعبية التي نشأ بها، ومن معالمها «الحانوتي» الذي كان لا بد أن يكون خفيف الظل حتى لا ينفر منه الناس، وكان ابن الحانوتي زميلاً له، وابن البقال أيضاً، ويتذكر أن البقال كانوا يسمونه «خضرة»، ويعاملونه كطفلة خوفاً من الحسد، لأن كل إخوته الذكور سبق وأن ماتوا صغاراً.

الحارة الشعبية
يقول أبو سيف إن الحارة بكل تفاصيله كانت عالمه الخاص الذي فرض نفسه على أفلامه عندما أصبح مخرجاً، فلا يوجد فيلم من أفلامه لا يحتوي على تفاصيل هذا العالم الشعبي العجيب الغريب.
ويشرح أبو سيف كيف تحولت طفولته إلى مخزن خبرات وذكريات أفادته في صناعة الأفلام قائلاً: «قدمت على الشاشة الدنيا التي عرفتها لم أكذب، ولم أفتعل ما لا أعرفه، وربما كان ذلك سر انفعال وحماس الجمهور لأفلامي». ويضيف أن أمه كانت «هي المسؤولة عن كل شيء وصاحبة القرار الأول والأخير، فهي الأب والأم معاً، ومن ثم لا تجاوز ولا تدليل، والعقاب لا بد منه مهما كان حجم الذنب صغيراً». ولا جدال أن السبب هي رغبة الأم الدفينة أن تثبت للأب أنها كانت على حق، أو أن اختيارها كان صائباً.
يحكي أبو سيف أيضاً عن بيته الذي نشأ فيه، مشيراً إلى أنه كان على الطراز المملوكي، مدخله من الرخام، ونوافذه مغطاة بمشربيات على شكل نصف دائرة محفورة بالزخرفة الإسلامية أو الأرابيسك، ولعل ذلك ما جعل الكثير من شخصيات أفلامه تخرج من وسط تسيطر عليه الروحانيات والمعتقدات الإسلامية. ويرى حمودة أنها ملاحظة فاتت الكثير من النقاد الذين اهتموا أكثر بالصراع الاجتماعي في أفلامه وفاتهم البعد الروحاني.

سحر السينما
يروي أبو سيف عن طفولته مع السينما، قائلاً إنه ذات يوم وهو يتسكع في شوارع القاهرة وقف أمام شباك التذاكر لدار سينما عليها زحام بحي عابدين، يسأل عن سعر التذكرة، وعرف أنه قرش صاغ، أي مصروف يومين، فقد كان مصروفه اليومي نصف قرش، ومن ثم كان القرش ثروة كبيرة، ولكن لم يتردد في التضحية به. دخل السينما وفي هذا العرض شاهد فيلمين، أحدهما لشارلي شابلن، وكان اسمه «شارلي في البنك»، والآخر كان لممثل إيطالي قديم كان من نجوم السينما الصامتة هو إيلامو لنكولن، وكان أول من قدم دور طرزان على الشاشة.
خرج أبو سيف من السينما مفلساً، ليعود لبيته سيراً على الأقدام، ولكنه لم يشعر بطول المسافة فقد كان منتشياً مسحوراً لا يكاد يصدق ما رآه، ومن شدة انفعاله لم يستطع الكذب، فأخبر أمه وخاله بسر السينما، وتلقى عقاباً قاسياً، فقد ارتكب جريمتين معاً؛ التهرب من المدرسة ودخول السينما، وما كان منه إلا أن تحمل الضرب، ولكن بدون بكاء!

من باريس إلى أم كلثوم
عاش أبو سيف ميلاد استديو مصر، أول محاولة مصرية جادة لتوفير أدوات إنتاج محلية تساهم في نهضة السينما، وهو فكرة طلعت حرب أبو الاقتصاد المصري الحديث، كما شارك كمساعد مخرج في صناعة فيلم «العزيمة» من إخراج كمال سليم، الذي يعد بداية الواقعية في السينما المصرية. وكانت المرة الأولى في الفيلم التي تصور حارة مصرية نرى فيها على الشاشة الحلاق والحانوتي والجزار وبنت البلد والحياة الخلفية الخفية للقاهرة! وتكشف المذكرات عن سر مهم، حيث يروي أبو سيف أنه البطل الحقيقي لفيلم «شباب امرأة» الشهير الذي قامت ببطولته تحية كاريوكا وشكري سرحان، وفيه تقوم سيدة ناضجة تعاني الحرمان باستغلال شاب ساذج يبحث عن مكان للإيواء! يقول: «الفيلم تجربة حية عشتها في باريس، حين سافرت إليها شاباً في مقتبل العمر لأدرس المونتاج والإخراج. الطرف الآخر سيدة تمتلك فندقاً صغيراً، تجاوزت سن الشباب في حاجة إلى علاقة تعيد مصالحتها مع الحياة ومستعدة لأن تفعل أي شيء في سبيل ذلك».

ويشير صاحب المذكرات إلى موقف طريف جمعه بكوكب الشرق أم كلثوم، فقد كانت مطربة شهيرة عندما بدأت السينما تجري وراءها، أو بتعبير أدق وراء صوتها. كان أبو سيف مسؤولاً عن مونتاج فيلم تصوره في استديو مصر، وكانت حريصة على متابعة المونتاج كل يوم بعد الانتهاء من التصوير. ولم يكن يتصور مخرجنا أن هذه المتابعة جزء من وساوس ومخاوف أم كلثوم عند القيام بأي عمل فني، وتصور أن هذا الاهتمام موجه له شخصياً. ضاعف هذا الإحساس أنها كانت دائمة السؤال عنه، وسألت زملاء له عن أخلاقه ومرتبه، وكانت تحرص على إحضار الطعام له من بيتها، وكان من الطبيعي أن يقنعه غرور الشباب بأنها تحبه، بل تسعى للزواج منه!
لكن أبو سيف لم يبتعد عما في نيتها كثيراً، فهي كانت تريده أن يتزوج، ولكن ليس منها، بل من فتاة قريبة لها. وفيما بعد عرفت كوكب الشرق أنه مهتم بفتاة في قسم المونتاج، فاختفى الطعام، على حد تعبيره، وتراجع اهتمامها به حتى نهاية الفيلم!


مقالات ذات صلة

كُتب المؤثرين بين الرواج وغياب الشرعية الأدبية

كتب كُتب المؤثرين بين الرواج وغياب الشرعية الأدبية

كُتب المؤثرين بين الرواج وغياب الشرعية الأدبية

صانع محتوى شاب يحتل بروايته الجديدة قائمة الكتب الأكثر مبيعاً في فرنسا، الخبر شغل مساحات واسعة من وسائل الإعلام

أنيسة مخالدي (باريس)
كتب «حكايات من العراق القديم» و«ملوك الوركاء الثلاثة»

«حكايات من العراق القديم» و«ملوك الوركاء الثلاثة»

صدر عن دار «السرد» ببغداد كتابان مترجمان عن الإنجليزية للباحثة والحكواتية الإنجليزية فران هزلتون.

«الشرق الأوسط» (بغداد)
كتب كتاب جديد يكشف خبايا حملة نابليون على مصر

كتاب جديد يكشف خبايا حملة نابليون على مصر

يتناول كتاب «حكايات في تاريخ مصر الحديث» الصادر في القاهرة عن دار «الشروق» للباحث الأكاديمي، الدكتور أحمد عبد ربه، بعض الفصول والمحطات من تاريخ مصر الحديث

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
يوميات الشرق «جدة تقرأ» عنوان معرض الكتاب 2024 (المركز الإعلامي)

الكتاب الورقي ينتصر على الأجهزة الرقمية في معرض جدة

في ظل التطور التقني والاعتماد المتزايد على الكتب الإلكترونية، حسم زوار معرض جدة للكتاب 2024 الجدل لصالح الكتاب الورقي

أسماء الغابري (جدة)
يوميات الشرق دور النشر شهدت إقبالاً كبيراً من الزوار من مختلف الأعمار (هيئة الأدب والنشر والترجمة)

«جدة للكتاب»... مزيج غني بالمعرفة والإبداع بأحدث الإصدارات الأدبية

يعايش الزائر لـ«معرض جدة للكتاب 2024» مزيجاً غنياً من المعرفة والإبداع يستكشف عبره أحدث الإصدارات الأدبية، ويشهد العديد من الندوات وورش العمل والجلسات الحوارية.

إبراهيم القرشي (جدة)

كُتب المؤثرين بين الرواج وغياب الشرعية الأدبية

كُتب المؤثرين بين الرواج وغياب الشرعية الأدبية
TT

كُتب المؤثرين بين الرواج وغياب الشرعية الأدبية

كُتب المؤثرين بين الرواج وغياب الشرعية الأدبية

صانع محتوى شاب يحتل بروايته الجديدة قائمة الكتب الأكثر مبيعاً في فرنسا، الخبر شغل مساحات واسعة من وسائل الإعلام، ولفت الانتباه؛ لأن رواية المانجا «أنستان» أو «الغريزة» لصاحبها المؤثر أنس بن عزوز، الملقب بـ«إنوكس تاغ» باعت أكثر من 82 ألف نسخة خلال 4 أيام. وهو إنجاز كبير؛ لأن القصّة الموجهة إلى جمهور من القرّاء الشباب قد خطفت المرتبة الأولى في قائمة الكتب الأكثر مبيعاً من «الحوريات»، الرواية الفائزة بجائزة «الغونكور» لهذه السنة.

ولمن يستغرب هذا الرواج أو اهتمام دور النشر بالكُتاب المبتدئين من صنّاع المحتوى، فإن الظاهرة ليست بالجديدة؛ حيث إن كثيراً من المكتبات والمواقع أصبحت تخصّص رفوفاً كاملة لهذه النوعية من الكتب، كسلسلة «#فولوي مي» التابعة لدار «أشيت»، والتي تضم أعمالاً للمؤثرين تتوزع بين السّير الذاتية والقصص المصوّرة والتنمية البشرية والأسفار، وحتى الطبخ.

في فرنسا، أول تجربة من هذا القبيل كانت عام 2015، بكتاب «إنجوي ماري»، وهو السيرة الذاتية للمؤثرة ماري لوبيز المعروفة بـ«إنجوي فنيكس» (6 ملايين متابع على إنستغرام). وإن كان البعض لا يستوعب أن تكتب فتاة في سن العشرين سيرتها الذاتية، فقد يستغرب أيضاً النجاح التجاري الكبير الذي حصل عليه هذا الكتاب؛ حيث باع أكثر من 250 ألف نسخة، رغم الهجوم الشديد على الأسلوب الكتابي الرديء، حتى لقَّبتها مجلة «لي زنكوريبتبل» الثقافية متهكمة بـ«غوستاف فلوبير الجديد». شدّة النقد لم تمنع زملاءها في المهنة من خوض التجربة نفسها بنجاح؛ المؤثرة ناتو (5 ملايين متابع على يوتيوب) نشرت مع مؤسسة «روبرت لافون» العريقة رواية «أيقونة»، قدمت فيها صورة ساخرة عن عالم المجلات النسوية، وباعت أكثر من 225 ألف نسخة. وتُعدُّ دار نشر «روبرت لافون» بالذات الأكثر تعاوناً مع صناع المحتوى؛ حيث نشرت لكثير منهم.

في هذا السياق، الأكثر نجاحاً حتى اليوم كان كتاب التنمية البشرية «الأكثر دائماً+» لصاحبته لينا محفوف، الملقبة بـ«لينا ستواسيون» (5 ملايين متابع على إنستغرام) وباع أكثر من 400 ألف نسخة.

مجلة «لي زيكو» الفرنسية، تحدثت في موضوع بعنوان «صناع المحتوى؛ الدجاجة التي تبيض ذهباً لدور نشر» عن ظاهرة «عالمية» من خلال تطرقها للتجارب الناجحة لمؤثرين من أوروبا وأميركا، حملوا محتواهم إلى قطاع النشر، فكُلّلت أعمالهم بالنجاح في معظم الحالات. المجلة استشهدت بالتجربة الأولى التي فتحت الطريق في بريطانيا، وكانت بين دار نشر «بانغوين بوكس» والمؤثرة زوي سوغ (9 ملايين متابع على إنستغرام) والتي أثمرت عن روايتها الناجحة «فتاة على الإنترنت» أو «غور أون لاين»؛ حيث شهدت أقوى انطلاقة في المكتبات البريطانية بـ80 ألف نسخة في ظرف أسبوع، متفوقة على سلسلة «هاري بوتر» و«دافنشي كود».

المجلة نقلت بهذه المناسبة حكاية طريفة، مفادها أن توم ويلدون، مدير دار النشر، كان قد تعاقد مع المؤثرة بنصيحة من ابنته البالغة من العمر 12 سنة، والتي كانت متابعة وفيّة لها.

ومما لا شك فيه هو أن اهتمام دور النشر بأعمال المؤثرين يبقى مدفوعاً بالأرباح المادية المتوقعة، وهو ما أكده موضوع بمجلة «لوبوان» بعنوان «المؤثرون آلة لصنع النجاحات التجارية في قطاع النشر». كشف الموضوع عن أن تحويل المحتوى السمعي البصري لصناع المحتوى إلى الكتابي، أصبح بمثابة الورقة الرابحة للناشرين، أولاً لأنه يوفر عليهم عناء الترويج الذي تتكفل به مجتمعات المشتركين والمتابعين، وكل وسائل التواصل التابعة للمؤثرين، والتي تقوم بالعمل بدل الناشر، وهو ما قد يقلّل من خطر الفشل؛ بل قد يضمن الرواج الشعبي للعمل. ثم إنها الورقة التي قد تسمح لهم في الوقت نفسه بالوصول إلى فئات عمرية لم تكن في متناولهم من قبل: فجمهور المراهقين -كما يشرح ستيفان كارير، مدير دار نشر «آن كاريير» في مجلة «ليفر إيبدو»: «لم يكن يوماً أقرب إلى القراءة مما هو عليه اليوم. لقد نشرنا في السابق سِيَراً ذاتية لشخصيات من كل الفضاءات، الفرق هذه المرة هو أن المؤثرين صنعوا شهرتهم بفضل وسائل التواصل الاجتماعي، ولهم جمهور جاهز ونشيط، وإذا كانت هذه الشخصيات سبباً في تقريب الشباب إلى القراءة، فلمَ لا نشجعهم؟».

شريبر: الكتاب بعيد كل البعد عن مستوى «الغونكور» وبأن كاتبته لم تقرأ في حياتها كتاباً باستثناء الكتاب الذي كتبته

هذه المعطيات الجديدة جعلت الأوضاع تنقلب رأس على عقب، فبينما يسعى الكتاب المبتدئون إلى طرق كل الأبواب أملاً في العثور على ناشر، تأتي دور نشر بنفسها إلى صناع المحتوى، باسطة أمامهم السّجاد الأحمر.

وإن كان اهتمام دور النشر بصنّاع المحتوى لاعتبارات مادية مفهوماً -بما أنها مؤسسات يجب أن تضمن استمراريتها في قطاع النشر- فإن مسألة المصداقية الأدبية تبقى مطروحة بشدّة.

بيار سوفران شريبر، مدير مؤسسة «ليامون» التي أصدرت مذكرات المؤثرة الفرنسية جسيكا تيفنو (6 ملايين متابع على إنستغرام) بجزأيها الأول والثاني، رفض الإفصاح عن كم مبيعات الكتاب، مكتفياً بوصفه بالكبير والكبير جداً؛ لكنه اعترف في الوقت نفسه بلهجة ساخرة بأن الكتاب بعيد كل البعد عن مستوى «الغونكور» وبأن كاتبته لم تقرأ في حياتها كتاباً باستثناء الكتاب الذي كتبته؛ لكنها لم تدَّعِ يوماً أنها تكتب بأسلوب راقٍ، وكل ما كانت تريده هو نقل تجاربها الشخصية إلى الجمهور ليأخذ منها العبَر.

الناقد الأدبي والصحافي فريديك بيغ بيدر، كان أكثر قسوة في انتقاده لكتاب المؤثرة لينا ستواسيون، في عمود بصحيفة «الفيغارو» تحت عنوان: «السيرة الذاتية لمجهولة معروفة»؛ حيث وصف العمل بـ«المقرف» و«الديماغوجية»، مضيفاً: «بين الأنا والفراغ اختارت لينا ستواسيون الخيار الثاني». كما وصف الكاتبة الشابة بـ«بالجاهلة التي تعترف بجهلها»، منهياً العمود بالعبارة التالية: «147 صفحة ليس فيها سوى الفراغ، خسرتُ 19 يورو في لا شيء».

أما الناشر بيار سوفران شريبر، فقد قال في مداخلة لصحيفة «لوبوان»: «اتهمونا بنشر ثقافة الرداءة؛ لكن هذه النوعية من الكتب هي هنا لتلتقي بقرائها. إنهما عالمان بعيدان استطعنا تقريبهما بشيء سحري اسمه الكتاب. فلا داعي للازدراء».