«موت الرأسمالية»... تفكير رغائبي وفكرة شعبوية

عالم ما بعد «كورونا»

«موت الرأسمالية»... تفكير رغائبي وفكرة شعبوية
TT

«موت الرأسمالية»... تفكير رغائبي وفكرة شعبوية

«موت الرأسمالية»... تفكير رغائبي وفكرة شعبوية

لا أحسب أنّ عبارة «موت الرأسمالية» قد وهنت نبرتها يوماً خلال العقود الثلاثة أو الأربعة الماضية، وبخاصة عقب كلّ أزمة دورية متوقّعة للرأسمالية، وقد تغوّلت هذه النبرة في خضمّ الجائحة الكورونية الحالية، وتمظهرت بهيئة نذير يحمل نبوءة أشبه بالنبوءات اللاهوتية، حيث لا يكون الفناء محض تلاشٍ فيزيائي لحالة واستبدالها بحالة أخرى؛ بل يكون فناءً عاماً للبشرية مقترناً بخراب شامل لا يُبقي شيئاً من معالم الحياة الإنسانية على وجه الأرض.
يبدو الفيلسوف سلافوي جيجك للوهلة الأولى الفيلسوف النموذجي الممثل لخطاب «السرديات الكبرى»؛ فهو لم يتأخر عن ركوب موجة المبشّرين بميتة جديدة للرأسمالية بعد ميتاتها الكثر حتى بات الأمر يتخذ صيغة الفعل التالي: عند أي أزمة وجودية تواجهها البشرية - ولطالما واجهت وستواجه مثل هذه الأزمات – لا تفعل شيئاُ باستثناء لعن الرأسمالية والتبشير بموتها الوشيك! هذه شعبوية ترقى إلى مصاف التملّص من الالتزامات الأخلاقية التي تعلن عن نفسها بتفاصيل إجرائية بدلاً من الركون المسترخي إلى الإعلانات الصاخبة التي يمكننا وصفها بأنها بعض مواريث عصر (السرديات الكبرى والآيديولوجيات المتضخّمة) التي حفل بها القرن العشرون، وأزعمُ أنّ الشيوعية لو كانت حيّة في عصرنا هذا لما توانى جيجك في كيل التهم لها ووعدها بميتة لا تقلّ عن بشاعة الميتة المنتظرة للرأسمالية.
قد يخفى على البعض أنّ الرأسمالية في بواكيرها الأولى تلوّنت بصبغة لاهوتية (بروتستانتية على وجه التخصيص) أعلت شأن الجهد الفردي، والأخلاقيات الصارمة القائمة على الانضباط الفردي، وحبّ العمل وكراهية الكسل واعتباره خصيصة مرذولة لا تليق بالمتطلعين إلى حياة شريفة، ويمكن في هذا الشأن العودة إلى كتاب «الأخلاقيات البروتستانتية وروح الرأسمالية» الذي وضعه السوسيولوجي المؤسّس ماكس فيبر، ليس بوسع أحدٍ نكرانُ أنّ البدايات الرأسمالية كانت لها آثارها ومفاعيلها في حضارتنا الراهنة لقدرتها الفائقة على الارتقاء بالرفاهية العامة عبر إشباع البطون الجائعة ومن ثمّ تصنيع أسباب الترف المادي وتوفير المتع ووسائل البذخ اللامحدودة. ربما قد يتقاطع هذا الفهم لدى البعض مع المفهوم السائد لدينا والقائم على اعتبار الرأسمالية شراً مطلقاً، وهم إذ يفعلون هذا إنما يقصدون نمط «الرأسمالية المالية» القائمة على الاستحواذ الريعي بوسائل فاسدة بدلاً من اعتماد وسائل الرأسمالية الدافعة للبحث والتطوير العلمي والتقني وتخليق الثورة غير الريعية، وتلك حكاية طويلة لها سردياتها الخاصة في أدبيات التنمية ومعوقاتها.
سادت اليوم شعبوية أعلى شأنها صوت الراديكالية اليسارية ومنظّرو أحزاب اليسار الجديد الذين اندفعوا لترجيح كفة الخطاب الآيديولوجي على حساب الحقائق الراسخة على أرض الواقع، متّخذين من «الأزمات الدورية في الرأسمالية المعاصرة» شاهدة على مصداقيتهم في الوقت الذي نعرف فيه بما لا يقبل اللبس أنّ هذه الأزمات الدورية ليست أعراضاً سريرية منذرة باقتراب الموت بقدر ما هي ملامح ملازمة لطبيعة آليات اشتغال الرأسمالية.
لم يكن الترويج لفكرة شعبوية عن موت الرأسمالية سوى فكر رغائبي يُراد منه رؤية القلاع الرأسمالية تتهاوى مثلما تهاوت قبلها قلاع الشيوعية، ولا ننسى في هذا السياق أن الشيوعية ذاتها تعرّضت للهجمة النبوئية ذاتها المنذرة بموتها (روايات جورج أورويل وآرثر كوستلر مثالاً)، ثمّ تحققت هذه النبوءة بتهاوي الحصون التي كانت تمثل التجربة الاشتراكية نتيجة ظروف متضافرة كثيرة أدت إلى انهيار المنظومة بكاملها.
هناك الكثير مما علينا التوقف عنده في الحالتين: قد نتفق على سقوط الشيوعية كتطبيقات ؛ لكن الفكر الماركسي الذي عُدّ الخلفية الآيديولوجية للدول الشيوعية لا يزال حياً، ولا تزال الأدبيات الماركسية تلقى رواجاً كبيراً في أنحاء عالمنا ؛ فنجد أعرق الجامعات في البلدان الرأسمالية تواصل إصدار دراسات حديثة وكثيرة بشأنه. إذن، ثمة فرق كبير بين جوهر الأفكار وبين تطبيقاتها والمؤسسات (ومنها الحكومات) القائمة على تلك التطبيقات، والأمر يصحّ على الرأسمالية بقدر ما يصحّ على الماركسية.
ونعلم أنّ الرأسمالية ليست رأسمالية واحدة، بل هي رأسماليات عدّة؛ فالرأسمالية الأميركية الأصولية المحكومة بتغول الفردانية الجامحة هي غير الرأسمالية الألمانية أو الإسكندنافية المُرشّدة بموجّهات الديمقراطية الاجتماعية، وهذه غير الرأسمالية اليابانية المحكومة باعتبارات التقاليد اليابانية الصارمة، ولعلّ المثال الأكثر تطرفاً بين الرأسماليات المعاصرة هو نموذج الرأسمالية الصينية التي تجاوزت التلازم القسري بين الليبرالية السياسية والاقتصاد الحرّ، ونجحت في توظيف الآليات الرأسمالية بمعزل عن إسقاطاتها السياسية وأحرزت انعطافات ثورية في هذا المجال طبقاً لقاعدة دينغ زياو بنغ القائلة «ليس المهمّ أن يكون القطّ أبيضَ أو أسودَ، بل ما يهمّنا فيه أن يصيد الفئران».
من الطبيعي أن تتعالى الأصوات المنادية بموت الرأسمالية عند كلّ أزمة وجودية تعانيها البشرية، ولعلّ هؤلاء المنادين بموت الرأسمالية إنّما يعنون السياسات النيوليبرالية (أو الرأسمالية المتأخرة طبقاً لمصطلحات المنظّر الثقافي فريدريك جيمسون Fredric Jameson) – تلك السياسات التي تعد بعض مواريث السياستين الريغانية والثاتشرية اللتين أطلقتا يد الأسواق الحرة المتغوّلة وأعلتا شأن الاقتصاد الرمزي القائم على المشتقات المالية بدلاً من عناصر الإنتاج الحقيقية.
إذن، يبدو أن السياسات النيوليبرالية آن لها أن تنتهي؛ لكن السياسات الرأسمالية سيعاد تكييفها إلى حد قد تبلغ معه مرتبة الرأسمالية التشاركية (أو الرأسمالية التقدّمية) بحسب توصيف العالم الاقتصادي الحائز نوبل جوزيف ستيغلتز.
قدّم ستيغلتز مقاربة فكرية رصينة وهادئة وبعيدة عن الدراما الإعلانية (بخلاف الإعلانات الصاخبة المنذرة بالمشهديات القيامية) في سياق مقالة له نشرها في صحيفة «الغارديان» البريطانية قبل أشهر. يرى ستيغلتز أنّ مصداقية الإيمان الأعمى الذي تبديه النزعة النيوليبرالية حول كون الأسواق غير المقيّدة هي الطريق المؤكّدة نحو تحقيق الرفاهية العالمية المشتركة غدا أمراً مشكوكاً فيه حتى بات من الضروري وضعه على جهاز إنعاش الحياة، وبخاصة في خضمّ الجائحة الكورونية الراهنة. ويرى ستيغلتز أنّ انخذال الثقة وتراجعها في كلّ من النيوليبرالية والديمقراطية ليس محض مصادفة أو ارتباطاً عابراً؛ فقد عملت النيوليبرالية على التقليل من شأن الديمقراطية وتوهينها على مدى أربعين عاماً، ثمّ يضيف كشفاً عن حقيقة ما يحصل في عالمنا: يجري عادة إخبار الناس - حتى في البلدان الثرية - بأشياء من قبيل: «ليس بمستطاعكم اعتماد السياسات التي ترغبون سواءٌ أكانت توفير مظلة حماية اجتماعية كاملة أو أجوراً وافية توفّر حياة محترمة أو سياسة ضريبية تصاعدية أو منظومة مالية محكومة بضوابط كافية،،،»، والتسويغ جاهز دوماً: «لو احتكم البلد إلى سياساتكم هذه سيفقد ميزته التنافسية، وستختفي الأعمال، وستعانون معاناة رهيبة ليس في قدرتكم تحمّل تبعاتها المدمّرة».
لقد وعدت النخب السياسية في البلدان الغنية والفقيرة أن يكون اعتماد السياسات النيوليبرالية وسيلة مضمونة لنمو اقتصادي أسرع، وأن تكون الفوائد المجتناة من هذه السياسات قادرة على بلوغ قاع المجتمع على نحوٍ يكفل انتفاع الجميع منها بما فيهم الأفراد الأكثر فقراً؛ لكنّ تلك النخب السياسية ترى أن بلوغ هذه الرفاهية الموعودة يتطلّبُ قبول العمّال بأجور أقلّ فضلاً عن قبول كلّ المواطنين باقتطاعات مالية ضخمة من البرامج الحكومية المخصصة للخدمات العامة. ماذا تحقّق بعد كلّ هذه الوعود الكبرى من جانب منظّري السياسات النيوليبرالية؟ لم يتحقق شيء مهمّ أبداً.
* كاتبة وروائية ومترجمة عراقية


مقالات ذات صلة

أربع ساعات مع إيزابيل الليندي في محبة الكتابة

ثقافة وفنون أربع ساعات مع إيزابيل الليندي في محبة الكتابة

أربع ساعات مع إيزابيل الليندي في محبة الكتابة

أطلّت الكاتبة التشيلية الأشهر إيزابيل الليندي، عبر منصة «مايسترو»، في «هيئة الإذاعة البريطانية»، من صالونها الهادئ الذي يضم تفاصيلها الشخصية والحميمية

سحر عبد الله
يوميات الشرق «معرض جدة للكتاب 2024» يستقبل زواره حتى 21 ديسمبر الجاري (هيئة الأدب)

انطلاق «معرض جدة للكتاب» بمشاركة 1000 دار نشر

انطلقت، الخميس، فعاليات «معرض جدة للكتاب 2024»، الذي يستمر حتى 21 ديسمبر الجاري في مركز «سوبر دوم» بمشاركة نحو 1000 دار نشر ووكالة محلية وعالمية من 22 دولة.

«الشرق الأوسط» (جدة)
كتب الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)

«حياتي كما عشتها»... محمود ياسين يروي ذكرياته مع الأدباء

في كتاب «حياتي كما عشتها» الصادر عن دار «بيت الحكمة» بالقاهرة، يروي الفنان المصري محمود ياسين قبل رحيله طرفاً من مذكراته وتجربته في الفن والحياة

رشا أحمد (القاهرة)
كتب «عورة في الجوار»... رواية  جديدة لأمير تاجّ السِّر

«عورة في الجوار»... رواية جديدة لأمير تاجّ السِّر

بالرغم من أن الرواية الجديدة للكاتب السوداني أمير تاج السر تحمل على غلافها صورة «كلب» أنيق، فإنه لا شيء في عالم الرواية عن الكلب أو عن الحيوانات عموماً.

«الشرق الأوسط» (الدمام)
كتب «البؤس الأنثوي» بوصفه صورة من «غبار التاريخ»

«البؤس الأنثوي» بوصفه صورة من «غبار التاريخ»

في كتابه الأحدث «البؤس الأنثوي... دور الجنس في الهيمنة على المرأة»، يشير الباحث فالح مهدي إلى أن بغيته الأساسية في مباحث الكتاب لم تكن الدفاع المباشر عن المرأة

محمد خضير سلطان

«حياتي كما عشتها»... محمود ياسين يروي ذكرياته مع الأدباء

الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)
الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)
TT

«حياتي كما عشتها»... محمود ياسين يروي ذكرياته مع الأدباء

الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)
الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)

في كتاب «حياتي كما عشتها» الصادر عن دار «بيت الحكمة» بالقاهرة، يروي الفنان المصري محمود ياسين قبل رحيله طرفاً من مذكراته وتجربته في الفن والحياة من خلال حديث مطول أدلى به لمحرر المذكرات ومؤلف الكتاب الصحافي سيد محمود سلام. ورغم أن حديث الذكريات هنا يشمل محطات مختلفة، فإن الكتاب يركز بشكل خاص على مرحلة النشأة والطفولة وما اكتنفها من اكتشاف الفنان في سنوات التكوين الأولى لعالم الأدب وخصوصية مدينته بورسعيد، مسقط رأسه.

ويشير محمود ياسين إلى أن الطفولة مفتاح كل بوابات العمر، وقد عاش طفولته في أسرة محافظة مثقفة محبة للفن ولتراب الوطن حيث أثرت كثرة الحروب التي خاضتها المدينة على تعميق الحس الوطني لأبنائها. ويرى أنه كان طفلاً محظوظاً لأنه نشأ في أسرة تعد الثقافة جزءاً مهماً من تكوين أبنائها، وكان ترتيبه السادس بين أشقائه العشرة، وقد تأثر في طفولته بشقيقه الأكبر فاروق: «إذ فتح عيني على شيء اسمه الكتاب بمعناه الواسع. كان يتسلم الكتب ويذهب إلى المدرسة، لكن فاروق كانت له في البيت مكتبة خاصة عبارة عن خزانة كبيرة في الحائط صُممت على الطراز الفرنسي تضع فيها الوالدة الفخار وقطع الخزف الصيني وكؤوس الزجاج وأشياءها الخاصة، فصنع منها مكتبة بعرض الحائط بعد أن أقنعها بذلك حيث كانوا يقطنون في فيلا من دورين تابعة لشركة قناة السويس التي كان يعمل بها والده، وعاشوا فيها ما يزيد على 25 عاماً».

ظل فاروق يشتري الكتب باستمرار مثل سلسلة «اقرأ» التي كانت تصدر ملخصات لعيون الأدب العربي والعالمي والسير الذاتية مثل السيرة الذاتية لطه حسين ودوستويفسكي ومكسيم غوركي وأنطون تشيخوف، فضلاً عن عيون الأدب الفرنسي مثل مؤلفات غي دي موباسان. كانت السلسلة تصدر كتيبات لكل كتّاب ومفكّري العالم، فالتراث الإنساني كله أنتجته سلسلة «اقرأ»، وقد جمعه فاروق في مكتبته وأيضاً سلسلة أخرى بعنوان «كتابي» جمعها أيضاً في المكتبة.

قرأ محمود ياسين في صغره معظم دواوين الشعراء العرب وعبقريات العقاد في مكتبة شقيقه، فضلاً عن كتب سلسلة «الكتاب الذهبي» التي تعرّف فيها على محمد عبد الحليم عبد الله ونجيب محفوظ ويوسف إدريس ويوسف السباعي. كما كان الشقيق الأكبر فاروق شغوفاً باقتناء الكتب والمطبوعات الثقافية مثل مجلة «الهلال» حتى إنه يشتري الكتب بمصروفه الشخصي المحدود. ولم يكن الطفل محمود يشغل نفسه بشراء الكتب، لكن يده بدأت تمتد إلى مكتبة شقيقه، فغضب بشدة من استعارته كتبه؛ وذلك خوفاً من ألا تلقى الاحترام ذاته الذي تلقاه عنده تلك المكتبة التي كوّنها واشتراها من مصروفه. لكن عندما اطمأن لشقيقه، بدأ يشجعه مع بعض النصائح خوفاً على هذه الكتب. وبدأ الشقيق الأصغر في متابعة المسرحيات المترجمة بشكل خاص، لا سيما أعمال وليام شكسبير وهو ما أثار دهشة وإعجاب فاروق حين رأى شقيقه لا يفوّت نصاً للكاتب العالمي، سواء في سلسلة «كتابي» أو نظيرتها «اقرأ».

ويشير محمود ياسين إلى أن أبناء بورسعيد يتشابهون في ملامحهم وتكوينهم؛ لأن هذه المدينة تترك بصماتها على أبنائها، فهي بلد مفتوح على الدنيا ويُطل على أوروبا، فهناك شاطئ بحر وفي الأفق عالم آخر يجب أن تحلم به. إنها مدينة وسط جزر من المياه، فتأثر بهذه الخصوصية الجغرافية وما أكسبته لسكانها من حس حضاري لافت.

يقول محمود ياسين في مذكراته إن الطفولة مفتاح كل بوابات العمر وقد عاش طفولته في أسرة محافظة مثقفة محبة للفن ولتراب الوطن حيث أثرت كثرة الحروب التي خاضتها المدينة على تعميق الحس الوطني لأبنائها.

امتزجت شخصية محمود ياسين بالبحر المتوسط الذي تطل عليه مدينته، فهو مثله تراه شديد الهدوء تارة، شديد الصخب تارة أخرى. يقول: «إن أخلاقي كأخلاق البحر وطبيعتي تشبهه، فأنا في شهري سبتمبر وأكتوبر أكون هادئاً هدوءاً غريباً وعندما تنظر إليّ تشاهد ما في أعماقي، وإذا تحدثت إليّ يمكنك أن تكتشف كل شيء. أما الشخص الصاخب العصبي فهو أيضاً أنا ولكن في شهر يناير، وكذلك البحر بـ(نواته) وأمواجه المتلاطمة. لا أحب شهر يناير، قد يكون لأنه بداية عام لا أعلم ما يخبئه، وحين راقبت نفسي وجدت أنني في مواسم أكون هادئاً وأخرى أكون صاخباً وهذا هو حال البحر».

كانت حياة الصبي محمود ياسين قبل التمثيل غير مستقرة، كأنه يبحث عن شيء يسعده. كان يراقب شقيقه فاروق، الممثل العظيم بقصور الثقافة، وتعلم منه كيف يحب الريحاني. يشاهده فيشعر بأنه يمتلك عالم التمثيل بين عينيه، نظراته، تأمله، صوته حتى وهو يغني بصوتٍ أجش تستسيغ غناءه من هذه الحالة التي لاحظها وتأثر بها. أحبَّ التمثيل وشعر بأنه الشيء الذي يبحث عنه، إنه عالمه المفقود، به ستكتمل حياته.

اللافت أن التمثيل منذ البدايات الأولى بالنسبة لمحمود ياسين «حالة»، إنه بمثابة «عفريت» يتجسد في الشخص المحب له، فكان يسعد بالمشاهد التي يمثلها في نادٍ يسمى «نادي المريخ» ببورسعيد وهو طفل. وكوّن هو وزملاؤه فرقة مسرحية، مع عباس أحمد الذي عُرف بأشهر مخرجي الثقافة الجماهيرية، وله باع طويل وأثر في حياته كصديق ورفيق رحلة كفاح، هو والسيد طليب، وكانا أقرب صديقين له، سواء على مستوى هواية التمثيل أو الحياة.

ويروي كيف كان يقدم مسرحية على خشبة مسرح صنعوه بأنفسهم من مناضد وكراسي متراصة، وفي قاعة تسع 100 شخص، فلمح والده، وكانت المرة الأولى التي يمثل فيها ويشاهده أبوه، وإذا به يبتسم له ابتسامة هادئة، اعتبرها أول تصريح رسمي منه بموافقته على دخوله هذا المجال. ويذكر أيضاً أن من بين العمال الذين تأثر بهم محمود عزمي، مهندس الديكور العبقري، الذي لم يحصل على أي شهادات دراسية ولم يلتحق بالتعليم، لكنه كان يهوى الرسم ويصمّم ديكورات أي نصوص سواء عربية أو عالمية ببراعة مدهشة.