كمالا هاريس... «فرس» الديمقراطيين إلى البيت الأبيض

وضع بايدن الصحي قد يجعلها أول رئيسة أميركية سوداء

كمالا هاريس... «فرس» الديمقراطيين إلى البيت الأبيض
TT

كمالا هاريس... «فرس» الديمقراطيين إلى البيت الأبيض

كمالا هاريس... «فرس» الديمقراطيين إلى البيت الأبيض

يجمع العديد من المراقبين والمحللين وحتى السياسيين، على أن كمالا هاريس التي اختارها جو بايدن، مرشح الحزب الديمقراطي لانتخابات الرئاسة الأميركية، كي تكون نائبة له تشكل نموذجاً رائداً في مسيرتها الشخصية والسياسية. لا بل إن أصولها اللاتينية الأفريقية والآسيوية الهندية، تختصر «الحلم الأميركي» للعديد من المهاجرين إلى الولايات المتحدة. فهي ابنة زوجين من المهاجرين، والدها من جامايكا ووالدتها من الهند. ولقد دفعها نجاحها وطموحها لأن تغدو أول مدعية عامة سوداء لولاية كاليفورنيا، وأول امرأة في هذا المنصب، وكذلك أول امرأة من أصول جنوب آسيوية تفوز بمقعد في مجلس الشيوخ الأميركي. وها هي الآن تسعى لكي تصبح أول من يتولى منصب نائب رئيس الولايات المتحدة.
كمالا هاريس، التي ستزامل جو بايدن في «بطاقة» الديمقراطيين بالسباق الرئاسي في نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل، وُلدت يوم 20 أكتوبر (تشرين الأول) 1964 في مدينة أوكلاند بولاية كاليفورنيا. وكان والدها دونالد هاريس أستاذا للاقتصاد في جامعة ستانفورد الشهيرة، ووالدتها شيامالا غوبالان كانت باحثة بارزة في سرطان الثدي. لكنّ والديها انفصلا عندما كانت هاريس في الخامسة تقريباً، وتولت والدتها (توفيت عام 2009) تربيتها مع شقيقتها الصغرى مايا، وهي بدورها محامية لامعة ومستشارة لشقيقتها.
نالت هاريس درجة البكالوريوس من جامعة هوارد في العاصمة الأميركية واشنطن، ثم درست القانون في كلية هايستينغز للحقوق بجامعة كاليفورنيا. وكانت تحدثت كثيرا خلال ترشحها للرئاسة عن مدى تأثير الجامعتين في تشكيل هويّتها وآرائها حول الصراع العرقي والعدالة في أميركا، قبل أن تصبح مدعية حيث شغلت منصب المدعي العام لسان فرنسيسكو لولايتين (من العام 2004 وحتى 2011).

مرشحة رئاسة مقبلة محتملة
وبينما يعتقد كثيرون أن بايدن، الذي سيبلغ 78 سنة عند تسلمه الرئاسة، لن يترشح لولاية ثانية في حال انتخابه، فهم يرجحون أن تكون هاريس الأوفر حظاً في الفوز بترشيح الحزب الديمقراطي بعد أربع سنوات من الآن. وهذا قد يمنحها فرصة أكبر في دخول التاريخ، كأول رئيسة سوداء للولايات المتحدة.
سوزان رايس، مستشارة الأمن القومي السابقة في عهد باراك أوباما، قالت عنها: «السيناتورة هاريس قائدة عنيدة ورائدة ستكون شريكة رائعة في حملة الانتخابات». وللعلم، كانت رايس بين الشخصيات المطروحة لدى بايدن لاختيارها على بطاقته.
من ناحية أخرى، منذ انسحاب هاريس من السباق الرئاسي وتأييدها لبايدن، فإنها صعّدت انتقاداتها للرئيس دونالد ترمب في العديد من القضايا... من تعاطيه مع أزمة تفشي «كوفيد - 19» إلى العنصرية، ووصولاً إلى الهجرة. وكتبت في تغريدة أخيراً «خطاب ترمب العنصري المتكرر يحاول توجيه اللوم في إخفاقاته المتعلقة بفيروس (كورونا) لأي شخص ما عداه». وأضافت «هذه مسألة خطيرة وخاطئة ولها تداعيات في الحياة الفعلية على الأميركيين الآسيويين والمهاجرين الآسيويين».
انتخبت هاريس مدعية عامة لكاليفورنيا عام 2010 وأُعيد انتخابها في 2014، وفي العام نفسه تزوجت دوغلاس إيمهوف، وهو محامٍ أبيض لديه ولدان من زواج سابق. وإبان عملها كمدعية عامة للولاية، ارتبطت بعلاقة عمل وثيقة مع ابن بايدن الراحل بو، الذي كان يتولى المنصب نفسه في ولاية ديلاوير. وتوفي بو بايدن بالسرطان عام 2015 إلا أن فشل هاريس بإنجاز إصلاحات قضائية جنائية جريئة عندما كانت مدعية عامة، أثّر سلبياً على حملتها الرئاسية وحرمها تأييد العديد من الناخبين السود.
مع هذا، ببداية عام 2017 أصبحت من بين أصغر أعضاء مجلس الشيوخ عن ولاية كاليفورنيا، إذ إنها، في 8 نوفمبر 2016 هزمت منافستها الديمقراطية لوريتا سانشيز لخلافة السيناتورة المتقاعدة باربرا بوكسر. وأصبحت ثالث امرأة في كاليفورنيا تفوز بمقعد في مجلس الشيوخ، وأول أميركية من أصول جامايكية وهندية في هذا المنصب.
سطوع نجمها باكراً

منذ عام 2008 عندما بدأ نجم هاريس، حظيت باحترام وتقدير معظم قيادات الحزب الديمقراطي. وفي فبراير (شباط) 2016 صوّت مؤتمر الحزب الديمقراطي لصالح هاريس بنسبة 78 في المائة، أكثر بـ18 في المائة من النسبة المطلوبة وهي 60 في المائة لضمان ترشيح الحزب. وفي 8 نوفمبر 2016 وفور إعلان فوزها تعهدت هاريس بحماية المهاجرين من سياسات الرئيس المنتخب دونالد ترمب. وفي 21 يناير (كانون الثاني) عام 2017 أي في اليوم الثاني على تنصيب ترمب، وصفت هاريس رسالته «بالمظلمة»، خلال مشاركتها في أكبر مظاهرة نسائية في واشنطن.
وفي 28 يناير أدانت هاريس القرار الرئاسي الذي أصدره ترمب لمنع مواطني سبع دول غالبيتها مسلمة من دخول الولايات المتحدة، واصفة القرار بأنه يحظر المسلمين. ثم في فبراير، اعترضت على ترشيح بيتسي دي فوس وزيرة للتعليم وجيف سيشنز وزيراً للعدل. وفي أول خطاب لها أمام الكونغرس خصّصت 12 دقيقة لانتقاد سياسات ترمب تجاه المهاجرين. وفي مارس (آذار) طالبت باستقالة سيشنز بعدما تحدثت تقارير عن اتصاله بالسفير الروسي في واشنطن سيرغي كيسلياك مرتين. وبعد صدور تقرير المحقق الخاص روبرت مولر في قضية التدخل الروسي في انتخابات 2016 وإعاقة التحقيقات، دعمت هاريس المطالبة بعزل الرئيس ترمب.
مهارة وصرامة
في مجلس الشيوخ استخدمت هاريس مهارتها وأسلوبها الصارم في الاستجواب الذي اكتسبته من عملها كمدعية عامة، ولا سيما، في جلسة تثبيت تعيين القاضي بريت كافانو في المحكمة العليا، وهو ما أشار إليه الرئيس ترمب منتقدا إياها من طريقة استجوابها القاسية للقاضي خلال الجلسة. ويُعتقد أنها ستستخدم هذه المهارات في مناظرتها الوحيدة مع نائب الرئيس مايك بنس في أكتوبر المقبل بولاية يوتا.
هاريس كانت قد أطلقت حملتها الرئاسية في مطلع 2019 يوم ميلاد مارتن لوثر كينغ جونيور (15 يناير)، خلال تجمع حضره 20 ألف شخص في أوكلاند.
واشتبكت مع بايدن في مناظرة الديمقراطيين الأولى، مندّدة بمعارضة السيناتور السابق في السبعينات برامج نقل التلاميذ والاختلاط في الحافلات للحد من الفصل العنصري في المدارس. وقالت: «كانت هناك فتاة صغيرة في كاليفورنيا ضمن الصف الثاني الذي شمله الاختلاط في مدرستها، وكانت تنتقل بالحافلة إلى المدرسة كل يوم... تلك الفتاة الصغيرة هي أنا».
أتاح لها هذا إحراز تقدم في الاستطلاعات، لكن لفترة قصيرة، إذ انسحبت من السباق في ديسمبر (كانون الأول) 2019 وأعلنت تأييدها لبايدن. ورغم حدة المناظرة، أوضح بايدن أنه لا يكنّ أي ضغينة لهاريس، ووصفها بأنها «ذكية من الصف الأول، ومرشحة من الصف الأول، ومنافسة حقيقية».
صوّتت هاريس لصالح عزل ترمب إبان محاكمته في مجلس الشيوخ. وسعيا لإلحاق الهزيمة به أكدت الحاجة لإعادة تشكيل «تحالف أوباما» الذي يضم أميركيين من أصول أفريقية وإسبانية ونساء ومستقلين وجيل الألفية.

يساريو الحزب الديمقراطي حذرون
مع هذا قد لا تكون هاريس المرشحة المفضلة للجناح اليساري الراديكالي في الحزب الديمقراطي، الذي يمثله السيناتور المستقل بيرني ساندرز والسيناتورة إليزابيث وارين. وليس من الواضح حتى الساعة ما إذا كان اختيارها سيقنع تلك القاعدة على التصويت لها ولبايدن، مع أن غالبية قاعدة الحزب، تعتبر أن الهدف الآن هو إسقاط ترمب. فهاريس تصنّف على أنها من «المؤسسة» الحزبية رغم التحولات التدريجية التي طرأت على بنية الحزب الديمقراطي، مع نمو تيار يسار الوسط فيه. وهي تدافع عن سجلها بالقول إنها وجدت نفسها تتفاوض باستمرار على حل وسط بين قوتين قويتين: الشرطة واليسار في واحدة من أكثر الولايات ليبرالية في أميركا. وبالمناسبة، كان استخدام الشرطة للقوة مسألة خلافية في سان فرنسيسكو قبل فترة طويلة من تولي هاريس مهامها. فمن عام 2001 إلى عام 2004 - حسب صحيفة «سان فرنسيسكو كرونيكل» - كان هناك المزيد من الشكاوى حول استخدام القوة في المدينة، أكثر من مدن سان دييغو وسياتل وأوكلاند وسان خوسيه مجتمعة. ومن عام 2002 إلى عام 2005 شكل السود أقل من 8 في المائة من سكان المدينة لكنهم شكلوا أكثر من 40 في المائة من اعتقالات الشرطة. ويؤكد مدير مكتبها السابق سيلارد هندرسون، الذي يدير الآن الوكالة التي تحقق في الشكاوى المتعلقة بالشرطة في سان فرنسيسكو، أن هاريس طلبت من موظفيها عدم مقاضاة الاعتقالات على أساس عنصري.

انتقالها الثقافي نحو السود
هاريس نالت تحصيلها العلمي في مدارس ذات غالبية بيضاء طوال حياتها، من المدرسة الابتدائية في بيركلي بكاليفورنيا، إلى المدرسة الثانوية في مدينة مونتريال الكندية، التي هاجرت إليها مع والدتها وأختها، وواجهت فيها صعوبات لتعلم اللغة الفرنسية. لقد كانت الحياة المهنية لوالديها وقصتهما الشخصية مرتبطة في المؤسسات ذات الأغلبية البيضاء. ولهذا تعمّدت هاريس أن تكون محاطة بالطلاب السود وبثقافة السود وتقاليدهم، وحقاً التحقت بجامعة هوارد التي أسست في العاصمة واشنطن عام 1867 وتعد جوهرة التاج للكليات والجامعات التي يرتادها السود تاريخياً.
واليوم، هاريس التي تجهد لتقديم فلسفة خاصة بها، في ظل الاستقطاب الحاد الذي يشهده الحزب الديمقراطي والمجتمع الأميركي عموما، تقدم نفسها على أنها صاحبة حلول عملية بدلا من الرؤى الشاملة. وبينما يعتقد كثيرون بأنها قد تمثل التغيير المطلوب، قليلون منهم يستطيعون تحديد نوع التغيير الذي ستحدثه. البعض يقول إنها براغماتية أكثر منها آيديولوجية، وبأنها شخصية عملية تسأل دائماًعن انعكاس أي قرار على حياة الناس.

لا تعارض مع أفكار بايدن
والنتيجة حتى الآن، أن أي جهة حزبية أو سياسية لم تصنّف هاريس... وهل هي من يسار الوسط أو يمين أقصى اليسار أو في أي مكان بينهما. ولكن، مع تسميتها رسمياً على بطاقة ترشيح بايدن، يرى العديد من المراقبين أن عملية تسوية ملائمة كبيرة ستجريها معه للتوافق على برنامج سياسي موحّد، يزيل الفوارق القائمة بينهما، رغم أن أفكارها ليست بعيدة عما يؤمن به بايدن. فهي تؤيد الرقابة على الأسلحة وحل قضية المواطنة بالنسبة لأطفال المهاجرين غير الشرعيين وأوليائهم، ولو عبر قرارات تنفيذية رئاسية، كالتي اتخذها ترمب وقبله أوباما في مواجهة اعتراضات الكونغرس.
وتؤيد هاريس تقديم مساعدات للمستأجرين وحوافز ضريبية للطبقة الوسطى بقيمة 6 آلاف دولار، بما يوفر مزايا ملموسة على المدى المباشر. وتدافع عن دعوتها لرفع رواتب المعلمين بمعدل 13500 دولار، لمساواتهم بفئات المهنيين المتعلمين، بما يضمن تحسين نتائج الطلاب وبيئة التعليم، ليتبين بعدها أنه اقتراح يتطابق مع برامج نقابات المعلمين.
وتعهدت هاريس بفرض غرامات قاسية على الشركات التي تميز في الأجر بين النساء والرجال، في اقتراح مباشر لم يطرحه أي ديمقراطي، ويتوقع أن يوافق بايدن عليه أيضا. ومن المعروف عموما أن المرأة العاملة الأميركية تحصل على 80 سنتا مقابل كل دولار يحصل عليه الرجل. وقالت إن إلغاء برنامج الحماية الصحية المعروف بأوباما كير، هو رسالة بأن التأمين الصحي «ترف» وليس حقا مدنيا.

سياسة خارجية تقليدية
من ناحية أخرى، ورد اسم هاريس بين القيادات الديمقراطية التي كانت هدفاً للرسائل المفخخة التي أرسلت عبر البريد. ودافعت وحدها عن النائبة الأميركية المسلمة إلهان عمر التي انتقدت ما سمته بـ«اللوبي اليهودي». وقالت إنه ينبغي أن نحظى بصوت يحترم النقاش حول السياسات بما يضمن دعم إسرائيل والولاء للوطن، وبأن هناك فارقاً بين انتقاد السياسات والسياسيين ومعاداة السامية. لكنها، خلال مؤتمر «أيباك» قالت إن إسرائيل ينبغي ألا تكون قضية خلافية بين الحزبين وتعهدت العمل ما في وسعها لضمان أمنها وحقها في الدفاع عن نفسها، ورفضت حركة المقاطعة ضدها. كما أنها ساهمت مع أعضاء آخرين في مجلس الشيوخ في إصدار قانون يعترض على قرار مجلس الأمن الدولي 2334 الذي يدين إسرائيل بسبب بناء المستوطنات على الأراضي الفلسطينية المحتلة. كما صوتت على قرار في مجلس الشيوخ للاحتفال بالذكرى الخمسين «لتوحيد القدس».
في أبريل (نيسان) 2017 إثر هجمات خان شيخون الكيميائية في سوريا، وصفت هاريس الرئيس السوري بشار الأسد بأنه «ليس فقط ديكتاتورا وحشيا ضد شعبه، بل إنه مجرم حرب لا يمكن للمجتمع الدولي أن يتجاهله». ودعت الرئيس ترمب إلى وضع استراتيجية مع الكونغرس حول سوريا بالتنسيق مع الحلفاء.
عام 2018 وقعت مع 18 سيناتوراً ديمقراطياً على رسالة تطالب ترمب بالحصول على موافقة الكونغرس قبل توجيه أي ضربة ضد كوريا الشمالية. كما اعتبرت انسحابه من الاتفاق النووي مع إيران بأنه يعرض الأمن القومي للخطر ويعزل الولايات المتحدة عن حلفائها، واصفة الاتفاق بأنه أفضل وسيلة لمنع طهران من الحصول على السلاح النووي وتجنب صراع كارثي في الشرق الأوسط. وفي المقابل، صوّتت في مجلس الشيوخ على قرارات لوقف المساعدات العسكرية للسعودية أو على صفقات السلاح على خلفية حرب اليمن.



لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
TT

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)

يواجه لبنان جملة من التحديات السياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية، خصوصاً في مرحلة التحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة وترخي بثقلها على واقعه الصعب والمعقّد. ولا شك أن أهم هذه التحوّلات سقوط نظام بشّار الأسد في سوريا، وتراجع النفوذ الإيراني الذي كان له الأثر المباشر في الأزمات التي عاشها لبنان خلال السنوات الأخيرة، وهذا فضلاً عن تداعيات الحرب الإسرائيلية وآثارها التدميرية الناشئة عن «جبهة إسناد» لم تخفف من مأساة غزّة والشعب الفلسطيني من جهة، ولم تجنّب لبنان ويلات الخراب من جهة ثانية.

إذا كانت الحرب الإسرائيلية على لبنان قد انتهت إلى اتفاق لوقف إطلاق النار برعاية دولية، وإشراف أميركي ـ فرنسي على تطبيق القرار 1701، فإن مشهد ما بعد رحيل الأسد وحلول سلطة بديلة لم يتكوّن بعد.

وربما سيحتاج الأمر إلى بضعة أشهر لتلمُّس التحدّيات الكبرى، التي تبدأ بالتحدّيات السياسية والتي من المفترض أن تشكّل أولوية لدى أي سلطة جديدة في لبنان. وهنا يرى النائب السابق فارس سُعَيد، رئيس «لقاء سيّدة الجبل»، أنه «مع انهيار الوضعية الإيرانية في لبنان وتراجع وظيفة (حزب الله) الإقليمية والسقوط المدوّي لحكم البعث في دمشق، وهذا إضافة إلى الشغور في رئاسة الجمهورية، يبقى التحدّي الأول في لبنان هو ملء ثغرات الدولة من أجل استقامة المؤسسات الدستورية».

وأردف سُعَيد، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، إلى أنه «بعكس الحال في سوريا، يوجد في لبنان نصّ مرجعي اسمه الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني، وهذا الدستور يجب أن يحترم بما يؤمّن بناء الدولة والانتقال من مرحلة إلى أخرى».

الدستور أولاً

الواقع أنه لا يمكن لمعطيات علاقة متداخلة بين لبنان وسوريا طالت لأكثر من 5 عقود، و«وصاية دمشق» على بيروت ما بين عامَي 1976 و2005 - وصفها بعض معارضي سوريا بـ«الاحتلال» - أن تتبدّل بين ليلة وضحايا على غرار التبدّل المفاجئ والصادم في دمشق. ثم إن حلفاء نظام دمشق الراحل في لبنان ما زالوا يملكون أوراق قوّة، بينها تعطيل الانتخابات الرئاسية منذ 26 شهراً وتقويض كل محاولات بناء الدولة وفتح ورشة الإصلاح.

غير أن المتغيّرات في سوريا، وفي المنطقة، لا بدّ أن تؤسس لواقع لبناني جديد. ووفق النائب السابق سُعَيد: «إذا كان شعارنا في عام 2005 لبنان أولاً، يجب أن يكون العنوان في عام 2024 هو الدستور أولاً»، لافتاً إلى أن «الفارق بين سوريا ولبنان هو أن سوريا لا تملك دستوراً وهي خاضعة فقط للقرار الدولي 2254. في حين بالتجربة اللبنانية يبقى الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني المرجعَين الصالحَين لبناء الدولة، وهذا هو التحدي الأكبر في لبنان».

وشدّد، من ثم، على ضرورة «استكمال بناء المؤسسات الدستورية، خصوصاً في المرحلة الانتقالية التي تمرّ بها سوريا»، وتابع: «وفي حال دخلت سوريا، لا سمح الله، في مرحلة من الفوضى... فنحن لا نريد أن تنتقل هذه الفوضى إلى لبنان».

العودة للحضن العربي

من جهة ثانية، يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة عمّا كان الوضع عليه في العقود السابقة. ولا يُخفي السياسي اللبناني الدكتور خلدون الشريف، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن لبنان «سيتأثّر بالتحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة، وحتميّة انعكاس ما حصل في سوريا على لبنان». ويلفت إلى أن «ما حصل في سوريا أدّى إلى تغيير حقيقي في جيوبوليتيك المنطقة، وسيكون له انعكاسات حتمية، ليس على لبنان فحسب، بل على المشرق العربي والشرق الأوسط برمته أيضاً».

الاستحقاق الرئاسي

في سياق موازٍ، قبل 3 أسابيع من موعد جلسة انتخاب الرئيس التي دعا إليها رئيس مجلس النواب نبيه برّي في التاسع من يناير (كانون الثاني) المقبل، لم تتفق الكتل النيابية حتى الآن على اسم مرشّح واحد يحظى بأكثرية توصله إلى قصر بعبدا.

وهنا، يرى الشريف أنه بقدر أهمية عودة لبنان إلى موقعه الطبيعي في العالم العربي، ثمّة حاجة ماسّة لعودة العرب إلى لبنان، قائلاً: «إعادة لبنان إلى العرب مسألة مهمّة للغاية، شرط ألّا يعادي أي دولة إقليمية عربية... فلدى لبنان والعرب عدوّ واحد هو إسرائيل التي تعتدي على البشر والحجر». وبغض النظر عن حتميّة بناء علاقات سياسية صحيحة ومتكافئة مع سوريا الجديدة، يلفت الشريف إلى أهمية «الدفع للتعاطي معها بإيجابية وانفتاح وفتح حوار مباشر حول موضوع النازحين والشراكة الاقتصادية وتفعيل المصالح المشتركة... ويمكن للبلدين، إذا ما حَسُنت النيّات، أن يشكلّا نموذجاً مميزاً للتعاون والتنافس تحت سقف الشراكة».

يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة

النهوض الاقتصادي

وحقاً، يمثّل الملفّ الاقتصادي عنواناً رئيساً للبنان الجديد؛ إذ إن بناء الاقتصاد القوي يبقى المعيار الأساس لبناء الدولة واستقرارها، وعودتها إلى دورها الطبيعي. وفي لقاء مع «الشرق الأوسط»، قال الوزير السابق محمد شقير، رئيس الهيئات الاقتصادية في لبنان، إن «النهوض الاقتصادي يتطلّب إقرار مجموعة من القوانين والتشريعات التي تستجلب الاستثمارات وتشجّع على استقطاب رؤوس الأموال، على أن يتصدّر الورشة التشريعية قانون الجمارك وقانون ضرائب عصري وقانون الضمان الاجتماعي».

شقير يشدّد على أهمية «إعادة هيكلة القطاع المصرفي؛ إذ لا اقتصاد من دون قطاع مصرفي». ويشير إلى أهمية «ضبط التهريب على كل طول الحدود البحرية والبرّية، علماً بأن هذا الأمر بات أسهل مع سقوط النظام السوري، الذي طالما شكّل عائقاً رئيساً أمام كل محاولات إغلاق المعابر غير الشرعية ووقف التهريب، الذي تسبب بخسائر هائلة في ميزانية الدولة، بالإضافة إلى وضع حدّ للمؤسسات غير الشرعية التي تنافس المؤسسات الشرعية وتؤثر عليها».

نقطة جمارك المصنع اللبنانية على الحدود مع سوريا (آ ف ب)

لبنان ودول الخليج

يُذكر أن الفوضى في الأسواق اللبنانية أدت إلى تراجع قدرات الدولة، ما كان سبباً في الانهيار الاقتصادي والمالي، ولذا يجدد شقير دعوته إلى «وضع حدّ للقطاع الاقتصادي السوري الذي ينشط في لبنان بخلاف الأنظمة والقوانين، والذي أثّر سلباً على النمو، ولا مانع من قوننة ليعمل بطريقة شرعية ووفق القوانين اللبنانية المرعية الإجراء». لكنه يعبّر عن تفاؤله بمستقبل لبنان السياسي والاقتصادي، قائلاً: «لا يمكن للبنان أن ينهض من دون علاقات طيّبة وسليمة مع العالم العربي، خصوصاً دول الخليج... ويجب أن تكون المهمّة الأولى للحكومة الجديدة ترسيخ العلاقات الجيّدة مع دول الخليج العربي، ولا سيما المملكة العربية السعودية التي طالما أمّنت للبنان الدعم السياسي والاقتصادي والمالي».

ضبط السلاح

على صعيد آخر، تشكّل الملفات الأمنية والعسكرية سمة المرحلة المقبلة، بخاصةٍ بعد التزام لبنان فرض سلطة الدولة على كامل أراضيها تطبيقاً للدستور والقرارات الدولية. ويعتبر الخبير العسكري والأمني العميد الركن فادي داوود، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن «تنفيذ القرار 1701 ومراقبة تعاطيها مع مكوّنات المجتمع اللبناني التي تحمل السلاح، هو التحدّي الأكبر أمام المؤسسات العسكرية والأمنية». ويوضح أن «ضبط الحدود والمعابر البرية مع سوريا وإسرائيل مسألة بالغة الدقة، سيما في ظل المستجدات التي تشهدها سوريا، وعدم معرفة القوة التي ستمسك بالأمن على الجانب السوري».

مكافحة المخدِّرات

وبأهمية ضبط الحدود ومنع الاختراق الأمني عبرها، يظل الوضع الداخلي تحت المجهر في ظلّ انتشار السلاح لدى معظم الأحزاب والفئات والمناطق اللبنانية، وهنا يوضح داوود أن «تفلّت السلاح في الداخل يتطلّب خطة أمنية ينفّذها الجيش والأجهزة الأمنية كافة». ويشرح أن «وضع المخيمات الفلسطينية يجب أن يبقى تحت رقابة الدولة ومنع تسرّب السلاح خارجها، إلى حين الحلّ النهائي والدائم لانتشار السلاح والمسلحين في جميع المخيمات»، منبهاً إلى «معضلة أمنية أساسية تتمثّل بمكافحة المخدرات تصنيعاً وترويجاً وتصديراً، سيما وأن هناك مناطق معروفة كانت أشبه بمحميات أمنية لعصابات المخدرات».

حقائق

علاقات لبنان مع سوريا... نصف قرن من الهيمنة

شهدت العلاقات اللبنانية - السورية العديد من المحطات والاستحقاقات، صبّت بمعظمها في مصلحة النظام السوري ومكّنته من إحكام قبضته على كلّ شاردة وواردة. وإذا كان نفوذ دمشق تصاعد منذ دخول جيشها لبنان في عام 1976، فإن جريمة اغتيال الرئيس اللبناني المنتخب رينيه معوض في 22 نوفمبر (تشرين الثاني) 1989 - أي يوم عيد الاستقلال - شكّلت رسالة. واستهدفت الجريمة ليس فقط الرئيس الذي أطلق مرحلة الشروع في تطبيق «اتفاق الطائف»، وبسط سلطة الدولة على كامل أراضيها وحلّ كل الميليشيات المسلّحة وتسليم سلاحها للدولة، بل أيضاً كلّ من كان يحلم ببناء دولة ذات سيادة متحررة من الوصاية. ولكنْ ما إن وُضع «اتفاق الطائف» موضع التنفيذ، بدءاً بوحدانية قرار الدولة، أصرّ حافظ الأسد على استثناء سلاح «حزب الله» والتنظيمات الفلسطينية الموالية لدمشق، بوصفه «سلاح المقاومة لتحرير الأراضي اللبنانية المحتلّة» ولإبقائه عامل توتر يستخدمه عند الضرورة. ثم نسف الأسد «الأب» قرار مجلس الوزراء لعام 1996 القاضي بنشر الجيش اللبناني على الحدود مع إسرائيل، بذريعة رفضه «تحويل الجيش حارساً للحدود الإسرائيلية».بعدها استثمر نظام دمشق انسحاب الجيش الإسرائيلي من المناطق التي كان يحتلها في جنوب لبنان خلال مايو (أيار) 2000، و«جيّرها» لنفسه ليعزّز هيمنته على لبنان. غير أنه فوجئ ببيان مدوٍّ للمطارنة الموارنة برئاسة البطريرك الراحل نصر الله بطرس صفير في سبتمبر (أيلول) 2000، طالب فيه الجيش السوري بالانسحاب من لبنان؛ لأن «دوره انتفى مع جيش الاحتلال الإسرائيلي من جنوب لبنان».مع هذا، قبل شهر من انتهاء ولاية الرئيس إميل لحود، أعلن نظام بشار الأسد رغبته بالتمديد للحود ثلاث سنوات (نصف ولاية جديدة)، ورغم المعارضة النيابية الشديدة التي قادها رئيس الوزراء الراحل رفيق الحريري، مُدِّد للحود بالقوة على وقع تهديد الأسد «الابن» للحريري ووليد جنبلاط «بتحطيم لبنان فوق رأسيهما». وهذه المرة، صُدِم الأسد «الابن» بصدور القرار 1559 عن مجلس الأمن الدولي، الذي يقضي بانتخاب رئيس جديد للبنان، وانسحاب الجيش السوري فوراً، وحلّ كل الميليشيات وتسليم سلاحها للدولة اللبنانية. ولذا، عمل لإقصاء الحريري وقوى المعارضة اللبنانية عن السلطة، وتوِّج هذا الإقصاء بمحاولة اغتيال الوزير مروان حمادة في أكتوبر (تشرين الأول) 2004، ثمّ باغتيال رفيق الحريري يوم 14 فبراير (شباط) 2005، ما فجّر «ثورة الأرز» التي أدت إلى انسحاب الجيش السوري من لبنان يوم 26 أبريل (نيسان)، وتبع ذلك انتخابات نيابية خسرها حلفاء النظام السوري فريق «14 آذار» المناوئ لدمشق.تراجع نفوذ دمشق في لبنان استمر بعد انسحاب جيشها بضغط أميركي مباشر. وتجلّى ذلك في «الحوار الوطني اللبناني»، الذي أفضى إلى اتخاذ قرارات بينها «ترسيم الحدود» اللبنانية السورية، وبناء علاقات دبلوماسية مع سوريا وتبادل السفراء، الأمر الذي قبله بشار الأسد على مضض. وأكمل المسار بقرار إنشاء محكمة دولية لمحاكمة قتلة الحريري وتنظيم السلاح الفلسطيني خارج المخيمات - وطال أساساً التنظيمات المتحالفة مع دمشق وعلى رأسها «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين - القيادة العامة» - وتحرير المعتقلين اللبنانيين في السجون السورية. حرب 6002مع هذا، بعد الحرب الإسرائيلية على لبنان في يوليو (تموز) 2006، التي أعلن «حزب الله» بعدها «الانتصار على إسرائيل»، استعاد النظام السوري بعض نفوذه. وتعزز ذلك بسلسلة اغتيالات طالت خصومه في لبنان من ساسة ومفكّرين وإعلاميين وأمنيين - جميعهم من فريق «14 آذار» - وتوّج بالانقلاب العسكري الذي نفذه «حزب الله» يوم 7 مايو 2008 محتلاً بيروت ومهاجماً الجبل. وأدى هذا التطور إلى «اتفاق الدوحة» الذي منح الحزب وحلفاء دمشق «الثلث المعطِّل» في الحكومة اللبنانية، فمكّنهم من الإمساك بالسلطة.يوم 25 مايو 2008 انتخب قائد الجيش اللبناني ميشال سليمان رئيساً للجمهورية، وفي 13 أغسطس (آب) من العام نفسه عُقدت قمة لبنانية ـ سورية في دمشق، وصدر عنها بيان مشترك، تضمّن بنوداً عدّة أهمها: «بحث مصير المفقودين اللبنانيين في سوريا، وترسيم الحدود، ومراجعة الاتفاقات وإنشاء علاقات دبلوماسية، وتبنّي المبادرة العربية للسلام». ولكن لم يتحقق من مضمون البيان، ومن «الحوار الوطني اللبناني» سوى إقامة سفارات وتبادل السفراء فقط.ختاماً، لم يقتنع النظام السوري في يوم من الأيام بالتعامل مع لبنان كدولة مستقلّة. وحتى في ذروة الحرب السورية، لم يكف عن تعقّب المعارضين السوريين الذي فرّوا إلى لبنان، فجنّد عصابات عملت على خطف العشرات منهم ونقلهم إلى سوريا. كذلك سخّر القضاء اللبناني (خصوصاً المحكمة العسكرية) للتشدد في محاكمة السوريين الذين كانوا في عداد «الجيش السوري الحرّ» والتعامل معهم كإرهابيين.أيضاً، كان للنظام السوري - عبر حلفائه اللبنانيين - الدور البارز في تعطيل الاستحقاقات الدستورية، لا سيما الانتخابات الرئاسية والنيابية وتشكيل الحكومات، بمجرد اكتشاف أن النتائج لن تكون لصالحهم. وعليه، قد يكون انتخاب الرئيس اللبناني في 9 يناير (كانون الثاني) المقبل، الاستحقاق الأول الذي يشهده لبنان من خارج تأثير نظام آل الأسد منذ نصف قرن.