سرديات الوباء العربية

علاقة ثلاثية بين الوباء والإنسان والسرد

سرديات الوباء العربية
TT

سرديات الوباء العربية

سرديات الوباء العربية

إن المتأمل لتاريخ الحضارات البشرية لا بد أن تستوقفه حقيقة أن لا أمة ولا حضارة تخلو من السرد أو القصة التي تنبع من ثوابت ذلك المجتمع وقيمه وموروثاته الدينية والاجتماعية. وتشكل القصة لبنةً أساسية في كيان المجتمع. فلو سافرنا نظرياً إلى أي نقطة في التاريخ الإنساني أو إلى أي بقعة في العالم، فإننا سنجد أن كل مجتمع له منظومة قصصية مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بالثقافة السائدة في ذلك المجتمع.
ولأن وجود الأوبئة سابقٌ لتكَوُّن الحضارات الإنسانية، فهي تعتبر من أهم المؤثرات في تشكيل التاريخ الإنساني وتحديد شكل العالم كما نعرفه اليوم. وعليه، فلا بد أن يكون للوباء حضور مؤثر في السرد.
وهنا تبرز العلاقة الثلاثية بين الوباء والإنسان والسرد. فالوباء يشكل مصدراً للإلهام ومادةً موضوعية للسرد؛ الذي يُدون قصصياً الوباءَ وتأثيره على الإنسان والمجتمع. وبالمقابل تعيننا قصص الوباء - أو كما أسميها سرديات الوباء - على فهم أنفسنا والعالم من حولنا في أوقات الوباء العصيبة.
وعلى الرغم من أن البشرية تطورت بشكل مذهل في العلوم والطب والآداب، فإننا تناسينا - نحن البشر - أننا لا نزال تحت قبضة تلك الكائنات المجهرية التي لا تُرى بالعين المجردة. ولأننا استصغرنا حجم تأثيرها، صرنا ننغمس في شتى المسالك التي عرفها البشر منذ القدم: بعضنا ينجز ويبدع ويتقدم، وآخرون منشغلون بحربهم على أبناء جلدتهم وبسط سيطرتهم عليهم بدوافع لا نعجز عن اختلاقها إن لم تكن موجودة. هذا اللهاث خلف الهمّ اليومي على مشاغل الحياة ولقمة العيش عند معظم البشر نتجت عنه حالة من «التناسي الجمعي للأوبئة» التي فتكت بأسلافنا منذ بدء الخليقة، وما فتئت بين فترة وأخرى تطل علينا بأوبئة تبعث المرض والخوف والموت وتستثير فينا ردود أفعال بدائية من حين لآخر.

- الوباء يعيد تشكيل عجينة العالم
لنتفق على أن السرد والقصص لا يأتيان من العدم، بل هما خليط من التجربة الإنسانية والمعاناة من جهة، والعمل التخيلي والخلق الإبداعي من جهة أخرى. لذلك لا بد للسرد القصصي أن يكون متأثراً بشكل مباشر بما تحدثه الأوبئة من آثار على الإنسان وبيئته. والأدلة العلمية تشير بما لا يدع مجالاً للشك إلى أن وجود الأوبئة سابقٌ لوجود المجتمعات الإنسانية المنظمة. وأن الأوبئة كانت وما زالت تُحدث تغيرات عميقة صحياً واجتماعياً ونفسياً بل حتى سياسياً.
تاريخ الوباء مقابل سرديات الوباء، في حين أن تدوين تاريخ الوبائيات يعطينا حقائق عن الوباء كما لو كانت أشبه بإحصائيات الحروب الجامدة. فمثلاً هناك تفاصيل منشأ الوباء وتدرج انتشاره وإحصائيات المصابين والوفيات وتبعاته الاقتصادية والسياسية. وعلى الرغم من أن هذه الحقائق تساعدنا في معرفة الوباء وآثاره، فإنها تظل قاصرة عن نقل الصورة المتكاملة. وهنا يأتي دور سرديات الوباء التي تركز على ما أسميه «أنسنة تاريخ الوبائيات». فهي تساعدنا في فهم معاناة الإنسان على المستوى الفردي ابتداء، ومروراً بمحيطه الضيق مثل العائلة، ووصولاً إلى المجتمع الإنساني الأكبر. والسرديات بطبيعتها تُعنى بالصراع الداخلي والخارجي عند الشخوص، لتنتج عن ذلك أعمالٌ تستدرج شغفنا الفطري للسرد وتعيننا على فهم دواخلنا، وبالتالي فهم الدوافع والمبررات لسلوكنا كبشر وقت الوباء.
لكن ماذا عن انعكاس الوباء في السرديات العربية؟
إن الباحث في سرديات الوباء العربية تستوقفه عدة إنجازات سردية. لكن اللافت هو أن الغالبية العظمى من هذه السرديات لا تخرج عن كونها تتناول الوباء كموضوع ثانوي في سياق الحبكة القصصية. ولنستعرض بعض
- الأمثلة المختارة:
في رواية «براري الحمى» لإبراهيم نصر الله تخرج الحمى من مفهومها الجسدي لتتخذ أبعاداً فلسفية عميقة، كحمى المكان وحمى الزمان وحمى النفس وحمى اللون. تلك التي تحيلنا إلى الثيمة الأساسية من الوحدة والاغتراب وقسوة الصحراء بما في ذلك الصراع النفسي المتأجج. روايةٌ مليئة بالرموز والاستعارات التي كُتبت بلغة شاعرية مرهفة. ويحضر الوباء حضوراً عابراً يهيئ لما بعده في ملحمة «الحرافيش» للراحل نجيب محفوظ، حيث يشكل وباء «الشوطة» الغامض نقطة تحول في حياة عاشور بعد أن اهتدى لاعتزال الناس أثناء الوباء الذي قتل الباقين في القرية. ليعود البطل إلى القرية الخاوية، ولكنه يعود سيداً مُهاباً بصفته الجديدة: الناجي عاشور، قبل أن تجري الأقدار إلى ما لا يحب.
أما في رواية «تراب» للكاتب حسين المطوع، فإننا نجد أنفسنا أمام دور مهم للوباء، حيث يعطي الوباءُ الفرصةَ لبطل الرواية لمعايشة الموت عن قرب بفعل الموت الجماعي، إذ يعمل حفاراً للقبور. وبينما يستدعي الموت مزيداً من الموت، فإنه أيضاً يوقظ نزعة أقرب إلى النكروفيليا، في جدلية تثير أسئلة أكثر مما تقدم من أجوبة حول هذه الرحلة التي تأخذنا من التراب إلى التراب ونسميها الحياة.
وفي رواية «إيوبولا 67»، يأخذنا الكاتب أمير سر التاج إلى مرحلة ما قبل الجائحة حيث يعشعش الفقر والبؤس على قرية البطل الذي يرتكب خطيئة يظنها عابرة، لكنها ستفتح أبواب طوفان جحيم الإيبولا في القرية لتكون بؤرةً للموت والعذاب. وتنقلنا الرواية إلى الآمال المخنوقة، فحتى حيث تأتي النجدة من الخارج، فإنها لن تفتح أبواب الاستشفاء، بل ستكون مهمتها أن تصبح القرية مقبرةً جماعية خشية أن يهرب أي مصاب من موته بعيداً عن المقابر الجماعية.
- الوباء منطلقاً للسرد
وبغض النظر عن تفاصيل كل رواية، فإن الجامع الأغلب في هذه الأعمال هو كون الوباء منصةً أو منطلقاً للسرد أو ضمن القصة الخلفية للأبطال. وفي كثير من الأحيان تكون الإشارة إلى الوباء بشكل ضمني، دون الخوض في حيثيات المعاناة الإنسانية سواءً على المستوى النفسي أو الاجتماعي للضحايا.
وفي رأيي، فإن تاريخنا العربي به كنوز من تاريخ الأوبئة التي لم نحسن استثمارها سردياً. فلو نظرنا مثلاً لتاريخنا في منطقة الخليج على مدى الأربعة قرون الماضية لاستوقفتنا محطات ثرية مثل سنوات طاعون بغداد وسنوات الرحمة والإنفلونزا الإسبانية والكوليرا والملاريا والجدري والحصبة وشلل الأطفال. وجُلّ هذه الحوادث عاصرها أجدادنا في فترة ما قبل النفط.
ولعل شُح المصادر التاريخية وصعوبة تحصيلها أو كونها كُتبت بلغة غير العربية مثل الإنجليزية أو الفرنسية بحسب القوى المسيطرة وتدوينات البعثات التبشيرية، كل ذلك يجعل الحفر في هذه المناطق أمراً لا يخلو من التحدي قبالة الكتابة عن ثيمات معاصرة يسهل البحث والكتابة فيها وتلقى رواجاً تجارياً من قِبل المتلقي ودور النشر.
إلا أن تدوينات الوباء سواءً الشفاهي منها أو المخطوط أو المطبوع وُهِبت فرصة أخرى للبقاء والانتشار بفضل التطور التقني ووجود النسخ الإلكترونية، ما سهل مهمة الباحث والسارد كثيراً.
فمثلاً إذا نظرنا على النطاق الخليجي، فستبرز تدوينات مثل دليل الخليج لزويمر وتقارير Neglected Arabia and Arabia Callings كأكثر المصادر موثوقية تاريخياً. ذلك أن تقارير الوباء وإحصائياته تكون أقرب إلى الدقة لانعدام الدافع لدى الكاتب لتزوير الحقائق كونها ليست موقع خلاف عقدي أو سياسي.

- كاتب وأكاديمي من البحرين



شوارع بريطانيا تحمل أسماء الطيور... وسماؤها تفتقدها

الأسماء تتكاثر لكنّ الطيور تختفي من الحقول والسماء (شاترستوك)
الأسماء تتكاثر لكنّ الطيور تختفي من الحقول والسماء (شاترستوك)
TT

شوارع بريطانيا تحمل أسماء الطيور... وسماؤها تفتقدها

الأسماء تتكاثر لكنّ الطيور تختفي من الحقول والسماء (شاترستوك)
الأسماء تتكاثر لكنّ الطيور تختفي من الحقول والسماء (شاترستوك)

تزداد في بريطانيا تسمية الشوارع بأسماء طيور مثل القُبرات والزقزاق والزرازير، في وقت تشهد فيه أعداد هذه الأنواع تراجعاً مقلقاً.

فقد كشف تقرير لجمعية حماية الطيور الملكية، نقلته «الغارديان»، عن أنّ أسماء شوارع من قبيل «ممر القُبرة» و«جادة السمامة» باتت أكثر شيوعاً خلال العقدين الماضيين. وبالاستناد إلى بيانات «أو إس أوبن نيمز» بين عامَي 2004 و2024، تبيَّن أن الشوارع التي تحمل أسماء طائر القُبرة ارتفعت بنسبة 350 في المائة، وتلك التي تحمل اسم الزرزور بنسبة 156 في المائة، فيما ارتفعت أسماء الشوارع المرتبطة بطيور الزقزاق بنسبة 104 في المائة، رغم الانخفاض الكبير في أعداد هذه الطيور في البرّية.

ويشير التقرير إلى أنّ بريطانيا فقدت بين عامَي 1970 و2022 نحو 53 في المائة من القُبرات المتكاثرة، و62 في المائة من الزقزاق، و89 في المائة من العندليب.

وقالت المديرة التنفيذية للجمعية، بيكي سبيت، إنّ التحليل «يكشف عن أن البلديات والمطوّرين العقاريين لا يجدون غضاضة في تسمية الشوارع بأسماء الطبيعة التي نحبّها، بينما تبقى الجهود الرامية إلى منع اختفاء هذه الطيور من سمائنا بعيدة تماماً عن المستوى المطلوب».

ووصف تقرير «حالة الطبيعة 2023» المملكة المتحدة بأنها «واحدة من أكثر الدول استنزافاً للطبيعة على وجه الأرض»، مشيراً إلى الانهيار الحاد في أعداد الطيور البرية منذ سبعينات القرن الماضي.

كما أظهر تحليل الجمعية أنّ استخدام كلمة «مرج» في أسماء الشوارع زاد بنسبة 34 في المائة، في حين اختفت 97 في المائة من المروج البرّية منذ الثلاثينات. ودعت الجمعية الحكومة إلى تعزيز جهود حماية الطبيعة، مع دخول مشروع قانون التخطيط والبنية التحتية في إنجلترا مراحله النهائية.

كانت الحكومة قد تراجعت في أكتوبر (تشرين الأول) عن دعم تعديل يُلزم بتركيب «طوب السمامات» في كلّ منزل جديد، رغم أنّ أسماء الشوارع المرتبطة بالسمامات ارتفعت بنسبة 58 في المائة.

وأكدت الجمعية أنه من «الممكن والضروري» تبنّي نظام تخطيط عمراني يُسهم في استعادة البيئة الطبيعية، مستشهدةً ببحث صادر عن مؤسّسة «مور إن كومون» يفيد بأنّ 20 في المائة فقط من البريطانيين يرون أنه ينبغي خفض المعايير البيئية لتشييد مزيد من المنازل.

من جانبه، قال مؤلّف كتاب «ليا الوقواق» عن تاريخ الطيور في أسماء الأماكن البريطانية، مايكل وارن، إنّ البريطانيين «يعشقون أسماء الطبيعة، ويعرف المطوّرون ذلك جيداً». لكنه أوضح أنّ رواج أسماء الطيور في المشروعات السكنية الجديدة «يخفي انفصالاً عميقاً يعانيه كثيرون عن الطبيعة، ويعطي انطباعاً مضلّلاً بأنّ كلّ شيء على ما يرام».

وأشار وارن إلى أنّ أسماء الأماكن كانت سابقاً تعكس الواقع البيئي، أما الأسماء الحديثة فهي «في أفضل الأحوال جميلة المظهر، لكنها في الحقيقة وسيلة خادعة ورخيصة وسهلة لخلق إيحاء بمعالجة تدهور الطبيعة من دون القيام بأيّ تحرّك فعلي».

وختمت سبيت: «يستحق الناس أن يستمتعوا بصوت العندليب في ذروة غنائه، أو بصيحات السمامات وهي تحلّق فوق رؤوسهم، بدلاً من العيش في شوارع صامتة تحمل أسماء ساخرة».


علي الكلثمي... المخرج السعودي الذي صاغ من السخرية رؤية سينمائية

علي الكلثمي شارك تفاصيل منهجه الإخراجي ورحلته داخل الصناعة السعودية (البحر الأحمر)
علي الكلثمي شارك تفاصيل منهجه الإخراجي ورحلته داخل الصناعة السعودية (البحر الأحمر)
TT

علي الكلثمي... المخرج السعودي الذي صاغ من السخرية رؤية سينمائية

علي الكلثمي شارك تفاصيل منهجه الإخراجي ورحلته داخل الصناعة السعودية (البحر الأحمر)
علي الكلثمي شارك تفاصيل منهجه الإخراجي ورحلته داخل الصناعة السعودية (البحر الأحمر)

للمخرج السعودي علي الكلثمي أسلوب ساخر لا ينفصل عن شخصيته، ولا عن أعماله، ولا حتى عن طريقته في مقاربة أكثر الأسئلة الفنّية جدّية. بدا ذلك واضحاً في حديثه على المسرح خلال الجلسة الحوارية التي تناولت تجربته في مهرجان «البحر الأحمر السينمائي الدولي»، في مزيج بين الخفّة والعمق، وبين اللعب والملاحظة الحادّة، ما يجعله قادراً على قول أكثر الأفكار تعقيداً بأبسط المفردات وأكثرها تلقائية.

الجلسة، التي بيعت تذاكرها بالكامل، وشهدت حضوراً كثيفاً من المهتمّين، لم تكن مجرّد لقاء عابر؛ إذ بدا واضحاً أنّ تجربة الكلثمي باتت اليوم محطَّ متابعة عربية وخليجية، مع حضور لافت لجمهور من الكويت وعُمان ودول أخرى. فهو يُعد أحد أبرز الأصوات التي خرجت من فضاء «يوتيوب» في السعودية، وبدأ رحلته السينمائية عبر الفيلم القصير «وسطي» عام 2016، كما يُعد أحد المساهمين في نقل السينما المحلّية إلى مرحلة جديدة من خلال فيلمه الطويل «مندوب الليل» الذي حصد جوائز عدّة.

من السخرية إلى المنهج

وحملت الجلسة كثيراً من الجدّية في التفاصيل التي قدَّمها الكلثمي عن عمله مع الممثلين. وكان لافتاً أنه بدأ إحدى إجاباته بنصيحة غير معتادة: «أنصح كلّ الخرّيجين أن يُجرّبوا التمثيل ولو في ورشة قصيرة. التجربة تُغيّر فهمك للممثل تماماً!». هذه الجملة وحدها كانت كافية لفتح باب واسع حول علاقته بالممثلين، وكيف أسهمت تجربته القصيرة في التمثيل، التي وصفها بـ«الكراش كورس»، في تغيير طريقته في التعامل مع الممثل أمام الكاميرا.

يرى الكلثمي أنّ الممثل لحظة وصوله إلى موقع التصوير يكون «مكشوفاً بالكامل». هذه النظرة العميقة لطبيعة الوقوف أمام الكاميرا جعلته يؤمن بأنّ المخرج لا يمكنه قيادة الأداء من دون أن يكون قادراً على الشعور بذلك الخوف الإنساني الخام. لذلك، فإنّ أول ما يمنحه للممثل ليس التوجيه، بل الثقة. يضيف: «أول ما يحتاج إليه هو أن يشعر أنك لن تحاكمه. أنك شبكة الأمان التي تحميه حين يُغامر».

علي الكلثمي على السجادة الحمراء في المهرجان (البحر الأحمر)

يُصرّ الكلثمي على أنّ العمل الجوهري لا يتم في موقع التصوير، بل قبله. وهي فكرة تُشكّل أحد أعمدة منهجه الإخراجي. وقدَّم مثالاً على ذلك من خلال علاقته المهنية الطويلة مع الممثل محمد الدوخي (بطل «مندوب الليل»)، التي تمتد لسنوات.

في التحضير للشخصيات، كانا يستحضران أشخاصاً من الماضي، ويقولان: «تتذكر فلان؟ هذا ظله... طيف منه». هنا يظهر الجانب الإنساني عند الكلثمي، الذي يرى في التفاصيل الصغيرة والعلاقات العابرة مادة حقيقية لبناء الشخصية. فليست الحكايات الكبيرة ما تصنع صدق الأداء، بل هشاشة التفاصيل التي لا ينتبه لها أحد.

ويتعمَّق هذا المنهج عبر أداة إضافية يستخدمها تحت إطار البحث عن تفاصيل الشخصية. فهو يرى أنّ الممثل مُطالب بمعرفة دفاتر الشخصية، وكتاباتها، وطريقة تفكيرها، وحتى ما يمكن أن تستمع إليه في عزلتها. ليس ذلك بهدف خلق صورة مُكتملة، بل بهدف فتح مسارات داخلية تُساعد الممثل على الوصول إلى جوهر الشخصية.

النصّ بصوت المُخرج

ومن أكثر جوانب الجلسة إثارة للانتباه، اعتراف الكلثمي بأنه يحب أن يقرأ النصّ للممثل بعد أن ينتهي الأخير من قراءته. ورغم أنه يصرّ على أن ذلك ليس لتلقينه الأداء، فإنه يراه «نافذة إضافية» تمنح الممثل فرصة للدخول إلى العالم الداخلي للشخصية. يقول: «أقرأ النص بصوتي، وأمثّل الشخصية أمامه، ليس لأريه كيف يؤدّي، بل لأفتح له نافذة يُطل من خلالها على عالم الشخصية».

هذا النهج، الذي يجمع بين الحسّ التمثيلي والقدرة على الإصغاء، يعكس رؤية الكلثمي لموقعه في الصناعة، كما ظهر بوضوح في الجلسة التي امتدَّت لنحو ساعة، وحاوره فيها الصحافي أحمد العياد. فهو لا يضع نفسه في موضع السلطة، بل في موضع الشريك الذي يُمهّد للممثل الطريق بدل أن يفرض عليه مساراً واحداً.

من «يوتيوب» إلى السينما

الحضور الواسع للكلثمي في الجلسة يعكس مساراً غير تقليدي في السينما السعودية. فالمخرج الذي خرج من عباءة المحتوى الرقمي لا يحمل عقدة الانتقال إلى السينما، ولا يضع بينهما طبقية، بل يرى أنّ لكل وسيط لغته وجمهوره، والفنان الحقيقي لا ينتمي إلى منصة بقدر ما ينتمي إلى صدق التجربة. وقد بدا هذا المبدأ حاضراً في ردوده، وفي التواضع الذي يتعامل به مع مشواره، سواء في البدايات مع «وسطي»، أو في نجاحات «مندوب الليل» التي نقلته إلى دائرة الضوء السينمائية.

لم تكن الجلسة مجرّد استعراض لسيرة مخرج شاب، وإنما درس في فَهْم الممثل، وفي التحضير، وفي الدور الذي يمكن أن يلعبه التعاون في رفع جودة صناعة كاملة. وربما كانت أيضاً نافذة إلى روح الكلثمي نفسه: فنان يسخر من كلّ شيء، لكنه لا يسخر من الفنّ.


أمير المصري في «البحر الأحمر»... بطولة مزدوجة تقوده إلى لحظة تحوُّل لم يتوقَّعها

مشهد من فيلم افتتاح المهرجان «العملاق» من بطولة أمير المصري (المهرجان)
مشهد من فيلم افتتاح المهرجان «العملاق» من بطولة أمير المصري (المهرجان)
TT

أمير المصري في «البحر الأحمر»... بطولة مزدوجة تقوده إلى لحظة تحوُّل لم يتوقَّعها

مشهد من فيلم افتتاح المهرجان «العملاق» من بطولة أمير المصري (المهرجان)
مشهد من فيلم افتتاح المهرجان «العملاق» من بطولة أمير المصري (المهرجان)

تصدُّر بطولة فيلم افتتاح مهرجان «البحر الأحمر السينمائي الدولي» ليس أمراً بسيطاً، بيد أنْ يترافق ذلك مع اختيار فيلم آخر للبطل نفسه ضمن دورة واحدة، فهذه حالة لا تحدُث كثيراً في مسيرة أي ممثل. هذا ما يعيشه حالياً البريطاني - المصري أمير المصري، بطل فيلم «العملاق» الذي افتتح الدورة الخامسة للمهرجان، وحظي باهتمام واسع، وهو أيضاً بطل فيلم «القصص» للمخرج أبو بكر شوقي، أحد أبرز المنافسين في المسابقة الرسمية للأفلام الطويلة.

أمير المصري، الذي أصبح اسماً مألوفاً في سجل ضيوف المهرجان خلال السنوات الماضية، عاد هذا العام بنبرة مختلفة وحضوراً أكثر نضجاً، ليروي لـ«الشرق الأوسط» تفاصيل التجرية، قائلاً: «عندما تحدَّث معي الرئيس التنفيذي للمهرجان الأستاذ فيصل بالطيور عن فيلم (العملاق)، لم أكن أعرف أنه سيختاره ليكون فيلم الافتتاح. فقد كان من الممكن أن يختار فيلماً تجارياً لبطل هوليوودي مثلاً، لكنه أبدى اهتماماً بإظهار أناس مثلي على المسرح أمام نجوم عالميين مثل مايكل كين وإيشواريا راي».

ويصف المصري تلك اللحظة بأنها علامة فارقة في مسيرته، ويضيف بنبرة إعجاب واضحة: «أنا منبهر بالمهرجان، وعاماً تلو آخر نرى أنّ كلّ دورة أفضل من التي سبقتها». ويتابع موضحاً خصوصية هذا العام: «مستمتع جداً بالمرحلة الحالية التي أعيشها فنّياً، خصوصاً مع ندرة أن يحظى ممثل ببطولة فيلمين مشاركين في مهرجان بحجم (البحر الأحمر)».

أمير المصري... عام مفصلي يُبدّل موقعه بين البطولة والهوية الفنّية (المهرجان)

«العملاق»... المدرّب أم الموهبة؟

وإنما حضور المصري في «العملاق» يتجاوز مجرّد البطولة، فالفيلم نفسه يحمل تركيبة حساسة تستدعي أداءً واعياً لطبيعة الشخصية التي يجسدها: نسيم حميد، المُلاكم الذي أحدث ثورة في صورة الرياضي المُسلم في بريطانيا التسعينات، بقدر ما أثار جدلاً لا ينتهي حول علاقته بمدرّبه الأسطوري الذي يجسّد دوره النجم بيرس بروسنان. وبسؤال أمير المصري عن تقاطعات ذلك مع حياته، يرد بحماسة: «جداً... كلانا يتجاهل الآراء السلبية ويُكمل طريقه بإصرار».

ينطلق الفيلم من مشهد صغير في شيفيلد البريطانية، حيث تطلب والدة طفل في السابعة من المدرّب أن يُعلّم ابنها الدفاع عن نفسه ضدّ التنمُّر، لحظة تبدو عادية لكنها تتحوَّل إلى حجر الأساس لأسطورة. يلتقط المدرّب الموهبة من النظرة الأولى، فيأخذ نسيم مع 3 من إخوته إلى الحلبة، ليكتشف فوراً أن الطفل النحيف يحمل شيئاً لا يُدرَّس. ومن هنا يمتدّ الخطّ الزمني للفيلم عبر محطات تنقل نسيم من شوارع الحيّ إلى لقب بطل العالم، قبل أن تبدأ الانهيارات التي ستفضح هشاشة العلاقة بين المُلاكم ومدرّبه.

يطرح الفيلم بذكاء شديد السؤال: مَن هو «العملاق» الحقيقي، المدرّب أم الموهبة؟ هذا السؤال يصل ذروته في مشهد صادم يتواجه فيه الطرفان، فيقول نسيم: «هذه موهبة من الله، وعليَّ أن أستثمرها من دون أن أدين بالفضل لأحد». فيردّ المدرّب: «موهبتك بلا قيمة لو لم أكتشفها وأطوّرها طوال 16 عاماً».

ولأنّ الفيلم يعيد طرح الأسطورة على الشاشة، كان حضور نسيم حميد الحقيقي في عرض الفيلم حدثاً إضافياً، إذ ظهر المُلاكم المعتزل في المهرجان بعد سنوات من الغياب، مُبتسماً ومُتأثراً، وقال لأمير المصري: «هذا الفيلم يقول لك: (باسم الله... ابدأ مسيرة جديدة!)». وكأنّ الأسطورة سلّمت شعلتها الرمزية للممثل الذي أعاد بناءها.

المصري يتوسّط المُلاكم المعتزل نسيم حميد والرئيس التنفيذي للمهرجان فيصل بالطيور (المهرجان)

مرحلة جديدة... مشروعات بالجُملة

وبالنظر إلى كون الهوية الفنّية لأمير المصري وُلدت من تداخُل الثقافتين العربية والغربية، تماماً كما جاء في فيلم «العملاق»، يبدو السؤال عن تأثير هذا المزج حاضراً بالضرورة، ليُجيب بتأمّل واضح في جوهر اختياراته قائلاً: «الأهم أن أركّز على المشروع، أيّاً كان، في العالم العربي أو خارجه». ويشرح: «دائماً تشغلني الأسئلة: هل هذا العمل من شأنه تحريك شيء داخلي؟ هل يمكنه إيصال رسالة؟»، مشيراً إلى أنّ فيلم «العملاق» يأتي ضمن هذا الإطار بشكل واضح.

الزخم دفعه لاتخاذ خطوة طال تأجيلها، وهي تأسيس شركة إنتاج في بريطانيا، فيكشف: «اتجهت مؤخراً لتأسيس شركة إنتاج افتتحتها قبل نحو 3 أشهر، وأعتزم في المرحلة المقبلة أن أنفّذ أعمالاً ليست لي فقط، بل كذلك لأناس يُشبهنوني». يتحدَّث المصري عن مشروعه الجديد كأنه يضع حجر الأساس لهوية إنتاجية مقبلة تُكمِل ما بدأه أمام الكاميرا.

أمير المصري يتحدّث عن الزخم والتحوّل وبداية مشروعه الإنتاجي (الشرق الأوسط)

وعن أحدث مشروعاته، يقول: «ثمة فيلم أنهيته للتو في ألمانيا، ولو عُرض في مهرجان مثل (البحر الأحمر)، فهذا يعني أننا سلطنا الضوء على قضية مهمة جداً في موضوع لامسني جداً عندما قرأته. فيلم سيكون مهماً جداً». ورغم تحفُّظ المصري على ذكر القضية التي يتناولها، فإنّ حديثه يوحي بموضوع ثقيل لمرحلة أكثر التزاماً في خياراته السينمائية.

وفي ختام حديثه، يفتح نافذة على مشروع جديد ينتظره جمهور الدراما، مؤكداً أنه يستعدّ لبطولة مسلسل «سفّاح» مع المخرج هادي الباجوري، الذي من المنتظر عرضه عبر منصة «شاهد»، وهو عمل يستلهم من قصة حقيقية لقاتل متسلسل حصلت في قلب القاهرة، ليذهب هذه المرة نحو الغموض والعوالم السوداء.