أطلقت وزارة الكنوز الثقافية الإيطالية، إدراكاً لخطورة المرحلة التي تمرّ بها الثقافة في البلاد، عدة منصات افتراضية، تتمثل في تخصيص أيام احتفالية تساهم في نقلها القنوات التلفزيونية الرسمية والأهلية، جنباً إلى جنب مع المنصات والمواقع الثقافية للمؤسسات الثقافية والفنية في عموم البلاد. ومن هذه الأيام الاحتفالية، مناسبة مرور الذكرى الـ70 عاماً على انتحار القاصّ والشاعر والمترجم الإيطالي الشهير تشيزره بافيزي (1908 - 1950)، في بلدة سان ستيفانو، قريباً من مدينة تورينو، التي شكلت لحمة قصائده ورواياته، حيث بدأ منذ مطلع شبابه يتردد على الأندية الفكرية التي كانت آنذاك مركزا ثقافياً وسياسياً مرموقاً.
ثم ذهب لاحقاً إلى روما، حيث كتب أطروحة التخرج في كلية الآداب بجامعة المعرفة (لاسابينسا) عن الشاعر الأميركي والت ويتمان، وعمل على ترجمة بعض الأعمال الشعرية الإنجليزية إلى اللغة الإيطالية، ومنها رائعة ملفيل «موبي ديك»، وأعمال دوس باسوس وشتاينبيك وجيمس جويس وديفو ووليم فوكنر. استدعي إلى الخدمة العسكرية في الثلاثينات من القرن العشرين، إبان صعود الفاشية في البلاد، إلا أن نوبات الربو التي ألمت به ألزمته الإقامة ستة أشهر في المستشفى العسكري، هناك. وبينما حانت عودة بافيزي إلى تورينو، عشية إعلان نشوب الحرب العالمية الثانية، ودخول الجنود الألمان إلى روما، تفرق رفاقه في البراري من أجل أن يخوضوا حرب عصابات ضارية وغير متكافئة ضد المحتل النازي والقوات الفاشية الإيطالية. ورغم أيام التخفي عن عيون السلطة الفاشية، التي يوردها في مذكراته، فإنه لم يشأ الانتماء إلى الحزب الشيوعي الإيطالي إلا بعد انتهاء الحرب، وبداية شهرته الأدبية. وفي عام 1936 اعتُقل بسبب نشاطه المعادي للفاشية، فنُفي إلى أحد السجون التي تقع في إقليم كالابريا في الجنوب الإيطالي، مع مجموعة من زملائه في مجلة «الثقافة»، فكان ذلك بمثابة الحدث الذي جعله يتفتح إلى أقصى قواه الخاصة ووسائله التعبيرية، وكان يؤكد باستمرار على أن العمل الثقافي هو أحد الحلول التي يبتكرها الإنسان لمشكلاته، فقد كتب روايته الطويلة «السجن»، ونُشرت بعد سنوات عديدة في المجلد الذي حمل عنوان «قبل أن يصيح الديك»، الذي ضمّ أيضاً روايته الشهيرة «البيت على الهضبة».
رواية «السجن» تعبّر عن عذاب التجربة التي يمكن أن يتعرض لها البشر، وبدا فيها بافيزي نفسه وكأنه مسؤول عن كشف الرعب الحقيقي الذي يصيب الإنسان الذي يقع تحت وطأة القهر، كما أنها تمثل دعوة أولى يوجهها الاديب إلى نفسه، وإلى الآخرين، كي يخرجوا من عزلتهم، ويتجاوزوا «النظرة العدمية المشروطة».
والسجن عند بافيزي ليس هو الجدران التي تحصر الإنسان بداخلها، بل هو مزيج من صور الهجرة الداخلية التي تتسم بالعدمية، وهو التسكع الداخلي الذي تجابهه الصرخة البشرية بين الحين والآخر من أجل فضح أبعاد الفاجعة الإنسانية. وتطالب الرواية، من جانب آخر، بتعّرية جوهر الفاجعة الإنسانية لحمل المثقف على تجاوز الهزائم والاحتجاج على جميع مخططات التصفية والمساومة على الأرض التي يقف عليها.
ترك الكاتب بافيزي، الذي تُوفي انتحاراً عن واحد وأربعين عاماً، ما يقارب العشرة أعمال روائية ومنها: «بلداتكم» (1941)، و«الشاطئ» (1941)، و«عطلة آب» (1946). و«الرفيق» (1947)، و«الشيطان في التلال» (1948)، وعدداً من القصص: «منزل على التل» (1949)، و«الصيف الجميل» (1949)، و«قبل صياح الديك»، و«ثلاثية الآلات»، «من عندنا»، و«مرحباً ماسينو». ومجموعة شعرية يتيمة بعنوان: «سيأتي الموت وتكون له عيناك»، وقد صدرت بعد عام من وفاته. كما أصدر كتاباً نثرياً «حوارات مع ليوكو... أساطير في أسرار الموت والحياة» (1947).
معظم كتابات بافيزي تنطلق من المحور الأساسي، وهو الشعور بالحزن والوحدة والكآبة، بصفتها الاكراهية أو المختارة التي تتجابه مع طبيعة شخصيته الهادئة التي تحمل صفات قسوة داخلية تجاه النفس، وحيزاً للانتظار، ومشاعر الخيبة والفقر العاطفي الذي عاناه طيلة حياته، لامرأة أحبها، لكنها أحبّت غيره ولم تعود إليه، ويعتبرها العديد من النقاد «وحدة هوسية» دافعها معرفة الذات. وبافيزي في كل كتاباته النثرية والشعرية جعل المدينة والريف يتواجهان، وحاضر الإنسان آنذاك لم يكن يُنبِئ بمستقبل. وقد تجسد ذلك في صلب أشيائه وكلماته، وأصبح صوفياً في إخلاصه ونقائه، مادياً في حرارته وواقعيته، يمجد الحياة بالعشق، ويخاف منها بالموت.
من شعره:
محتضناً عينيك يأتي الموت
الأرض والموت تكونين
فصولك الظلام والصمت
لا يحيا بعدك شيء
اندثر منذ فجر بعيد متى تبدين يقظة
الألم وحده أنت
وهناك في أعماق عينيك في خريط الدماء ينزوي
دون انتباهك
مثلما حجر تقطعه الدهور تحييه
كما الأرض القاسية
ترتديك الأحلام
وتجهلين الهزات الفريدة
يرعبك الألم
ويطوقك مثل ماء البحيرات
دوائر على المياه
تتركينها تمحى
الأرض والموت
تكونين
ترويض
في الفجر تبدأ الأعمال،
لكن قبل ذلك تجدنا نلتقي بأنفسنا
حيث الناس هجروا الطرقات،
كل بوحدته وتعاسته يتذكر
ليكتشف ندرة المارة، كل يحلم مع نفسه،
مدركاً، كيف تضيء العيون
في الفجرحينما يقترب الصباح،
فجأة تجد الدهشة، حيث تتوقف الحركة
لكننا لسنا بعدُ وحيدين، ولا أحد يرهقه النعاس
بهدوء نتأمل أشكال النهار
حتى تولد الابتسامات
في عودة الشمس كلنا مقتنعون،
ومرات أفكار أقل وضوحاً
«سخرية» تفاجئنا، ونعاود تحدينا إليها
لدى الشغيلة والمتهكمين تجد المدن الصافية،
لا شيء يحير الصباح
كل شيء يمكنه الحدوث،
ويكفي الانتباه إليه أثناء العمل
الصبايا الهاربات لا ينجزن شيئاً،
يقطعن الطرقات
وأخريات يركضن،
أوراق الساحات العامرة بالأشجار
تملا الشوارع ظلالاً، والأعشاب بين البيوت ثابتة
على ضفاف الأنهار ينساب الفيء تحت الشمس
المدينة تجعلنا نرفع الرؤوس
ونفكر، رغم إدراكها بخضوعنا إليها.