«الإخوان المسلمون»... مغازلة الغرب في السر ومناهضته في العلن

المؤرخ البريطاني مارتن فرامبتن استند إلى آلاف الوثائق التي رفعت عنها السرية

حسن البنا - جمال عبد الناصر - أنور السادات - سيد قطب
حسن البنا - جمال عبد الناصر - أنور السادات - سيد قطب
TT

«الإخوان المسلمون»... مغازلة الغرب في السر ومناهضته في العلن

حسن البنا - جمال عبد الناصر - أنور السادات - سيد قطب
حسن البنا - جمال عبد الناصر - أنور السادات - سيد قطب

صدر عن «مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية»، في الرياض، الترجمة العربية لكتاب «الإخوان المسلمون.. تاريخ العداوة والارتباط»، للباحث البريطاني مارتن فرامبتن، أستاذ التاريخ الحديث بجامعة كوين ماري في لندن. ويتألف الكتاب من بابين، يشتمل كل باب على أربعة فصول، إضافة إلى مقدمة وافية، وخاتمة تتضمن النتائج التي توصل إليها الباحث في دراسته الرائدة التي ترصد علاقة الإخوان المسلمين بالغرب، المتمثل ببريطانيا والولايات المتحدة الأميركية.
ويتمحور الفصل الأول على تأسيس جماعة الإخوان المسلمين في شهر مارس 1928 على يد حسن البنا، المدرس البالغ من العمر 21 عامًا بمحافظة الإسماعيلية، الذي دعا منذ البدء إلى إقامة دولة إسلامية تطبق أحكام الإسلام وتعاليمه التي تفضي إلى «إعادة الخلافة المفقودة» التي ترفض الفصل بين الدين والدولة.
ويركز الباحث على شخصية حسن البنا، ومناهضته للأنشطة التبشيرية، ودعوة أتباعه للمشاركة في الجهاد الذي عده فرضًا على كل مسلم، وثمة قائمة طويلة تبدأ بالحرب على مظاهر الانفتاح الاجتماعي ووصفها بالرذيلة، وتنتهي باستعمال القوة لتحرير الأمة الإسلامية من هيمنة المستعمر الغربي.
ويسلط الباحث في الفصل الثاني الضوءَ على السنوات الأولى للحرب العالمية التي تعرض فيها الإخوان للقمع بشتى صوره، كالمراقبة الصارمة والاعتقالات وتعطيل الأنشطة، لأن البريطانيين يعرفون أن جماعة الإخوان هي «الماكينة السياسية الوحيدة الأكثر تنظيمًا في مصر» في ذلك الوقت، لذلك قبضت السلطات المصرية على حسن البنا، وأخلت سبيله بعد أقل من شهر، ثم أبعدته إلى «قنا» في الصعيد، لكنه عاد إلى القاهرة بعد بضعة أشهر، وتحول من «مجرد طالب مجهول الهُوية إلى زعيم ديني كبير» تمكن من أسر قلوب أتباعه. وثمة اتهامات بأن البنا قد تلقى أموالاً من شركة قناة السويس، والألمان، والحكومات المصرية المتعاقبة، على اعتبار أن كل شخص يمكن ترويضه في النهاية. وظل البريطانيون يترجحون بين استمالة الجماعة وقمعها، لكنهم أدركوا أن الإخوان يسعون لإقصاء تمظهرات الثقافة الغربية التي يرَونها منحلة دخيلة.
ويعتقد الباحث مارتن فرامبتن في الفصل الثالث أن الجماعة لم تعُد حركة محلية، فقد توسعت خلال الأربعينيات من القرن الماضي في عدة دول، من بينها جيبوتي وسوريا والأردن، وأن مرشدها، حسن البنّا، قد سعى إلى التواصل مع المسؤولين الغربيين، وتقديم حركته بصفتها قوة ديمقراطية معتدلة مناوئة للشيوعيين. وحينما شعرت حكومة النقراشي الثانية بأن الإخوان يستعدون للقفز على السلطة في القاهرة، حلت الجماعة، فأشعلت دوامةً من العنف راح ضحيتها رئيس الوزراء نفسه، وقُتِل حسن البنا، واعتُقِل المئات من أعضائها. ومع ذلك، فقد أعربَ المراقبون عن خشيتهم من احتمالية أن تعيش هذه الجماعة «المتعصبة المتطرفة الإرهابية» في الخفاء، خصوصًا أنها تتلقى أموالاً طائلة من روسيا. فلا غرابة أن يُدفَن البنا من دون تشييع جنازته، وأن تكتظ السجون ببضعة آلاف من أعضاء الجماعة التي تشبه «وحش فراكنشتاين» بعد خروجه عن السيطرة.

صورة «الإخوان» النمطية
يؤكد فرامبتن في الفصل الرابع أن صورة «الإخوان» النمطية مرتبطة بالإرهاب والتطرف والرجعية، ولا يستطيع الغرب أن يتقبلهم بصفتهم حركة «معتدلة» وهم يعادون كل أشكال الحياة المتحضرة، ويكفي أن نشير هنا إلى أن الجنرال البريطاني إرسكين كان يرفض وصفهم بـ«الإرهابيين» لأن ذلك يُعد إطراءً مُبالغًا فيه، ويفضل تسميتهم «البلطجية». وأما هجماتهم في أحداث «السبت الأسود»، فقد كانت مُركزة على دور السينما والحانات والفنادق والملاهي الليلية. كما يتناول هذا الفصل حرب قناة السويس التي مهدت لسقوط النظام الملكي على يد عبد الناصر «وضباطه الأحرار». ويركز الفصل الخامس على الهيمنة الأميركية التي دعمت مجلس قيادة الثورة، بصفته قوة معتدلة تسعى للتحديث وتوالي الغرب، وقد رأت في عبد الناصر أتاتوركاً جديداً محتملاً، لكن محاولة اغتياله من قبل الإخوان قدمت مبرراً لزيادة القمع الذي وصل إلى درجة إعدام 6 من قادة الإخوان شنقًا، وتخفيف الحكم على مرشدهم حسن الهضيبي لكِبر سنة وتدهور حالته الصحية. وقد وصفت الأكاديمية كريستينا هاريس أن منْ يقود مصر هم «شباب عسكري... واقعي تقدمي»، وقد ساد اعتقاد بأن الإخوان جماعة تنتمي إلى الماضي، بينما يمثل عبد الناصر المستقبل.
ويتمحور الفصل السادس على هيمنة عبد الناصر وجاذبيته المحلية والعالمية التي جعلت من الإخوان مسألة هامشية ذهبت طي النسيان. كما أدركت الدوائر الغربية أن القوى الدينية في الشرق الأوسط في حالة تقهقر، مُقارنة بالعلمانيين والقوى الداعية إلى الحداثة. ورغم أن جماعة الإخوان شهدت بعثاً قوياً متشدداً على يد سيد قطب الذي صور الغرب بصفته مَطمَراً للقيم الروحية، فإنها جُوبهت بالقمع، وفضلت الانزواء على الظهور العلني، بعد تنحي عبد الناصر عن السلطة، وعودته القوية إليها بضغط جماهيري واسع النطاق.
وينطوي الفصل السابع على إعادة تقييم للإخوان في خضم النهضة الأصولية بين عامي 1970-1989، حيث سعى أنور السادات لاستخدام الجماعة للتخلص من مناوئيه الناصريين واليساريين، لكنه ما إن أصبح حليفاً للغرب حتى وجد الإخوان أنفسهم مرة أخرى إلى جانب أمريكا في حربها الباردة ضد الاتحاد السوفييتي. ويرى فرامبتن أن دخول السادات في معاهدة سلام مع إسرائيل قد سمم الأجواء من جديد، وعرض الجماعة للقمع خلال الأشهر الأخيرة من حكمه، لكن حسني مبارك سيتمكن من ترويضهم وضمهم إلى حكومته. كما يرصد الباحث شبكة من المؤسسات الثقافية التي كونها الإخوان في أوروبا وأمريكا الشمالية، والتي توحي للآخرين بأن الجماعة ظاهرة عالمية لها وجود في الغرب، حتى إن كان مركز ثقلها في الشرق الأوسط. ويفحص الفصل الثامن والأخير تطور الجماعة من منظمة لم تكن تهتم إلا بالسياسة الغربية في مصر، لتصبح حركة دولية لها حضور واسع النطاق في الغرب. وبحلول العقد الأول من القرن الـ21، كان هناك ما يشبه الإجماع على أن الإخوان عنصر أساسي في أي عملية ديمقراطية على مستوى المنطقة. ومع ذلك، ظلَّ الغرب في نظر الجماعة حضارة معادية ملتزمة بتدمير الإسلام. ولم يكن التوفيق مع الغرب إلا مناورة تكتيكية يحركها دافع الخوف من القوة الغربية التي يزدريها الإخوان في أعماقهم.
وثيقة تاريخية

سعى مرشد حركة «الإخوان المسلمين» في مصر حسن البنا إلى التواصل مع المسؤولين الغربيين وتقديم حركته بصفتها قوة ديمقراطية معتدلة مناوئة للشيوعيين

«الإخوان المسلمون والغرب» أول مرجع، بحسب كلمة الغلاف، يؤرخ أدق تفاصيل العلاقة بين أكبر حركة إسلامية في العالم وقوى الغرب -بريطانيا وأميركا- التي هيمنت على الشرق الأوسط في القرن الماضي. كما يعد الكتاب وثيقة تاريخية مهمة، إذ اعتمد الكاتب على آلاف الوثائق التي رفعت عنها السرية من قبل الحكومة الأميركية والبريطانية، ومؤلفات الإخوان المسلمين، ومذكرات لبعض المصريين، وعدد كبير من الصحف والمجلات الغربية والعربية الصادرة في تلك الفترة.
وفي غلاف الكتاب نقرأ: «لكي تستوعب أهمية ما يحدث في العالم العربي اليوم استيعاباً كاملاً، عليك أن تفهم الإسلام السياسي في سياق التاريخ الأوسع للمنطقة. ويتحفنا هذا الكتاب بسرد متأنق ودقيق ومؤرخ لما كان من تقارب بين الغرب وجماعة الإخوان المسلمين طوال الثمانين عاماً التي أدبرت، فهو مرجع لا يستغني عنه من أراد أن يعلي فهمه ويبدد لبسه. وينبغي لكل صانع للسياسة بالمنطقة أن يقرأه» (السير جون جينكينز، السفير البريطاني السابق لدى المملكة العربية السعودية).
ونقرأ أيضاً: «مرجع يتسم بدقة البحث واستثارة الفكر، ودراسة رائدة تذخر بأدلة تاريخية دامغة» (حازم قنديل، جامعة كامبريدج). و:«سيبقى عمل فرامبتن، بتأريخه وشموله وتفصيله وبراعته، المرجع التاريخي الكلاسيكي لعلاقة الإخوان المسلمين بالغرب» (بيث بارون، مديرة مركز الشرق الأوسط الأميركي، جامعة مدينة نيويورك).


مقالات ذات صلة

قدمتها لها الأميرة آن... الملكة كاميلا تحصل على دكتوراه فخرية في الأدب

يوميات الشرق كاميلا ملكة بريطانيا تحصل على الدكتوراه الفخرية في الأدب بحضور الأميرة آن (رويترز)

قدمتها لها الأميرة آن... الملكة كاميلا تحصل على دكتوراه فخرية في الأدب

حصلت الملكة البريطانية كاميلا، زوجة الملك تشارلز، على الدكتوراه الفخرية؛ تقديراً لـ«مهمتها الشخصية» في تعزيز محو الأمية.

«الشرق الأوسط» (لندن)
كتب سوزان بلاكمور وابنتها أميلي تروسيانكو  أثناء حفل توقيع كتاب "الوعي: مقدمة"

الشبحُ في الآلة

شغل موضوع أصل الأشياء The Origin مكانة مركزية في التفكير البشري منذ أن عرف البشر قيمة التفلسف والتفكّر في الكينونة الوجودية.

لطفية الدليمي
كتب سيمون سكاما

قصة اليهود... من وادي النيل حتى النفي من إسبانيا

يروي الكاتب البريطاني اليهودي «سيمون سكاما»، في كتابه «قصة اليهود»، تفاصيل حياة اليهود ابتداءً من استقرارهم في منطقة الألفنتين

سولافة الماغوط (لندن)
ثقافة وفنون العالم الجغرافي والمحقق اللغوي الكويتي د. عبد الله الغنيم شخصية معرض الكتاب لهذا العام

معرض الكويت الدولي للكتاب ينطلق غداً... وعبد الله الغنيم «شخصية العام»

ينطلق غداً (الأربعاء) معرض الكويت الدولي للكتاب في دورته الـ47، بمشاركة 544 دار نشر، من 31 دولة، منها 19 دولة عربية و12 أجنبية.

«الشرق الأوسط» (الكويت)
كتب بوريس جونسون والرئيس الأميركي المنتخب ترامب

«مطلق العنان»... مذّكرات بوريس جونسون في السلطة

تفترض بالطبع عندما تقدم على شراء نسخة من مذكرات رئيس الوزراء البريطاني السابق بوريس جونسون الصادرة حديثاً فيما يقرب من 800 صفحة

ندى حطيط

الشبحُ في الآلة

سوزان بلاكمور وابنتها أميلي تروسيانكو  أثناء حفل توقيع كتاب "الوعي: مقدمة"
سوزان بلاكمور وابنتها أميلي تروسيانكو أثناء حفل توقيع كتاب "الوعي: مقدمة"
TT

الشبحُ في الآلة

سوزان بلاكمور وابنتها أميلي تروسيانكو  أثناء حفل توقيع كتاب "الوعي: مقدمة"
سوزان بلاكمور وابنتها أميلي تروسيانكو أثناء حفل توقيع كتاب "الوعي: مقدمة"

شغل موضوع أصل الأشياء The Origin مكانة مركزية في التفكير البشري منذ أن عرف البشر قيمة التفلسف والتفكّر في الكينونة الوجودية. الموضوعات التأصيلية الأكثر إشغالاً للتفكير البشري منذ العصر الإغريقي ثلاثة: أصل الكون، أصل الحياة، أصل الوعي.

الوعي بين هذه الموضوعات الثلاثة ظلّ اللغز الأكثر إثارة ورهبة واستجلاباً للأسطرة والمقاربات غير العلمية، وربما تكون عبارة «الشبح في الآلة The Ghost in the Machine» التي شاعت منذ أيام الفلسفة الديكارتية تمثيلاً للوعي تتفق مع ثنائية العقل-الجسد The Mind-Body Duality. بمقتضى هذه الثنائية الديكارتية يكون الوعي كينونة غير مادية (الشبح) وقد استوطن في كينونة مادية (الآلة أو الجسد البشري).

فضلاً عن الأهمية الفلسفية لدراسة الوعي فقد صارت المقاربات العلمية في هذه الدراسة تتعاظم يوماً بعد آخر بسبب ارتباطها العضوي مع موضوعات عظيمة الأهمية في مقدّمتها مباحث الذكاء الاصطناعي بكلّ تفريعاته (الذكاء الاصطناعي العام، تعلّم الآلة، الشبكات العصبية...)، بعبارة أخرى: صار الوعي موضوعاً يقع في صميم الجهد البحثي الذي تتأسّس عليه القيمة الجيوستراتيجية للدولة المعاصرة. أمرٌ آخر تتوجّب الإشارة إليه: الوعي بطبيعته جهد بحثي عابر للتخصصات؛ لذا فهو يتناغم مع طبيعة المباحث العلمية المميزة لعصرنا.

لكن، بعيداً عن الأسباب البحثية والاستراتيجية، لماذا يتوجّبُ على كلٍّ منّا أن يهتمّ بأمر الوعي على مستوى شخصي بمقدار قد يزيد أو ينقص بين الأفراد؟ أوّلاً يتوجّبُ علينا الانخراط في هذا المسعى لأنّ الوعي بصورة جوهرية هو الشيء الأساسي الذي يعرفه كلٌّ منّا بشأن العالَم، أو هو بوّابته إلى العالم، وأعني بهذه البوّابة: التجارب الحسية Sensory Experiences، ومن الطبيعي أنّ كلاً منّا يتوق لأن يفهم -بكيفية علمية منسّقة ومنضبطة وليس بتفكّرات شخصية متناثرة- لماذا يعدّ الوعي البوّابة الأساسية لتجاربنا في العالم. يحبّ كلّ منّا هذا المسعى ولا يرغب في جعله اختصاصاً حصرياً للفلاسفة وعلماء الأعصاب ومطوّري الذكاء الاصطناعي بكلّ متفرّعاته. ثانياً: دراسة الوعي في غاية الأهمية أيضاً في جوانب الغاية Purpose والمعنى Meaning في حياتنا البشرية. ليس في قوانين الفيزياء ما يشيرُ إلى المعنى، وليس مِنْ معادلة لحساب المعنى في تلك المعادلات. لا أظنّ -وسيتشارك معي كثيرون كما أحسب- أنّ الاكتفاء بالتطلّع في كوننا يمنحنا معنى لحياتنا هو ما يحقّقُ فعلاً هذا الأمر؛ لأننا نحن من يخلعُ المعنى على كوننا. يحصل هذا الأمر لأننا نمتلك الوعي الذي يتيحُ لنا اختبار الأشياء والتعامل معها. لدينا هنالك بعيداً في تخوم الكون البعيدة مجرّات كثيرة العدد وجميلة بما يفوق التصوّر. لماذا هي جميلة؟ لأنّنا واعون بها. هي صارت جميلة لأننا نمتلك وعياً يخبرنا أنها جميلة. أعيد القول ثانية: الوعي هو ما يخلعُ معنى وغاية على الحياة.

الدراسات الخاصة بالوعي

يُنظرُ في الأوساط الأكاديمية العالمية إلى سوزان بلاكمور Susan Blackmore على أنّها مؤلفة الكتاب المرجعي في دراسة الوعي، وأقصدُ بهذا كتابها الشائع بين دارسي علم النفس والعلوم العصبية والإدراكية وفلسفة العقل والذكاء الاصطناعي، وأشيرُ بهذا إلى كتابها الموسوم «الوعي: مقدّمة Consciousness: An Introduction» الذي صدرت طبعته الرابعة عن دار نشر «راوتليدج Routledge» قبل بضعة شهور. سوزان بلاكمور عالمة نفس وكاتبة حرة ومحاضرة جامعية بريطانية، ألّفت الكثير من المقالات العلمية وأسهمت في تأليف عددٍ من الكتب. تكتب في مجلات وصحف كثيرة، وكثيراً ما تشارك في برامج إذاعية وتلفازية في المملكة المتحدة أو خارجها. قدّمت الكثير من البرامج التلفازية التي نالت شهرة واسعة بما في ذلك برنامجٌ وثائقيٌ حول ذكاء القردة. من بين كتبها الأخرى سيرة ذاتية بعنوان: «بحثاً عن النور» 1996، و«حوارات عن الوعي» 2005.

ما يميّزُ كتاب بلاكمور هو جمعها بين الخبرة الأكاديمية وتقنيات التعامل مع النطاق العام، فهي معروفة باهتمامها بموضوعات التأمّل والامتلاء الروحي والذهني والباراسايكولوجيا، وقد أفردت كتاباً كاملاً للحديث عن تجربة شخصية خاصة بها شهدت فيها ما تُدعى تجربة مغادرة الجسد Out of Body Experience، وقد حكت عن هذه التجربة في سيرتها الذاتية.

الخصيصة الثانية في كتابها هو مشاركة ابنتها لها في تأليف الكتاب، وتلك علاقة نادرة للغاية بين المؤلفين. لن نتغافل بالتأكيد عن النكهة الفلسفية الأنيقة التي طبعت لغة الكتاب (مثل تناول الإرادة الحرّة وعلاقتها بالوعي)، وهذا أمرٌ متوقّعٌ فيمن يكتب عن موضوع الوعي.

ثمّة موضوعان علينا الانتباه إليهما عند دراسة الوعي: هل سنبلغُ يوماً مرحلة الفهم العلمي الكامل للوعي؟ تؤكّد بلاكمور: لا أظنّ ذلك. الفرق بين حيوان حيّ وآخر ميّت ليس محض فرق نوعي يكمنُ في أنّ الحيوان الحيّ (الإنسان على سبيل المثال) يمتلك نوعاً من مصدر للحياة السرية فيه (بكلمة أخرى: الوعي). الحيوانات الحيّة ميكانيزمات فعّالة دينامية دائمة التغيّر؛ في حين أنّ انكساراً أصاب ميكانيزمات الحركة والتغيّر في الحيوانات الميتة.

تكمن صعوبة وتعقيد دراسة الوعي في حتمية اقتران دراسة الشيء مع موضوع الدراسة؛ بمعنى آخر: استخدام الوعي في دراسة الوعي ذاته! يحضرني هنا مثالاً عبارةٌ قالها جون ناش في الفيلم السينمائي الرائع الذي يحكي سيرته الذاتية «عقل جميل». أخبر ناش طبيبه أنّه سيستخدم عقله في علاج اضطرابه الذهاني، فأجابه طبيبه: ولكن كيف تعالجُ نفسك بما هو المتسبّبُ في مرضك؟ لن تستطيع هذا. في السياق ذاته تصف بلاكمور صعوبة دراسة الوعي وتعريفه فتقول:

«يبدو أنه يَلزمنا إما أن نستخدم الوعي لدراسته هو نفسه، وهي فكرة غريبة نوعاً ما، وإما أن نحرِّرَ أنفسَنا من الوعي الذي نودُّ دراستَه. ولا عجب أن الفلاسفة والعلماء قد بذلوا جهوداً مضنيةً على مدى قرنين من الزمان من أجل الوصول إلى مفهوم الوعي، ولا عجب أيضاً أن العلماء رفضوا الفكرةَ برمَّتها لفترات طويلة؛ بل رفضوا أيضاً دراستَها. الانعطافة الإيجابية أنّ «الدراسات الخاصة بالوعي» أخذَتْ في الازدهار بدءاً من القرن الحادي والعشرين. وصل علم النفس وعلم الأحياء وعلم الأعصاب إلى نقطةٍ يمكن عندها مواجَهةُ بعضِ الأسئلة المحيِّرة على غرار: ما الذي يفعله الوعيُ؟ وهل كان لنا أن نتطوَّر من دونه؟ وهل يمكن أن يكون الوعي وَهْماً؟ وما الوعي على أي حال؟».

تؤكّدُ بلاكمور منذ البدء أنّ ازدهار الجهد البحثي للوعي في القرن الحادي والعشرين لا يعني أنّ الغموض الذي يكتنفه قد اختفى تماماً؛ فالواقع أنه لا يزال متغلغِلاً في هذا الأمر كما كان دائماً. الفرق الآن أننا نعرف عن الدماغ ما يكفينا للاستعداد لمواجَهةِ المشكلة البحثية التالية على نحوٍ مباشِرٍ: كيف يمكن لإطلاق النبضات الكهربائية من ملايين الخلايا العصبية الدماغية أن يُنتج تجربةً واعية ذاتية شخصية؟ إذا أردنا إحرازَ أيِّ تقدُّم فيما يتعلَّق بفهم مسألة الوعي فعلينا التعامُل مع هذا الأمر بجدية تامة. هناك كثير من الأشخاص الذين يدَّعُون أنهم قد وجدوا حلًّاً للغز الوعي؛ فهم يقترحون نظرياتٍ موحِّدةً عظمى، ونظرياتٍ ميكانيكيةً كموميَّة، ونظرياتٍ روحانيةً حول «قوة الوعي»، وغيرها الكثير؛ لكنّ أغلبهم يتجاهلون الفجوةَ العميقة بين العالمين المادي والعقلي.

بعد مقدّمة وتمهيد ابتدائي لموضوع الكتاب (الوعي) اختارت المؤلفّة جعل كتابها موزّعاً في خمسة أقسام، كلّ قسم منها يضمُّ ثلاثة فصول: تناول القسم الأوّل معضلة الوعي تعريفاً ومناظرةً مع مفاهيم أخرى، ثمّ تناولت الوهم الكبير The Grand Illusion في التعامل مع ظاهرة الوعي. في القسم الثاني تناولت موضوع الدماغ بوصفه الحاضنة الطبيعية (مسرح العمليات بلغة المؤلفة) للوعي، وقد أفاضت في شرح العلاقة الوثقى بين دراسة العلوم العصبية وظاهرة الوعي. خصّصت المؤلفة القسم الثالث لتناول موضوع العقل والفعل، وتناولت في القسم الرابع موضوع التطوّر ومنعكساته المهمّة على ظاهرة الوعي، ثمّ تناولت في القسم الخامس الحدود التخمية Borderlands بين الوعي وظواهر أخرى على شاكلة: أشكال الوعي المعدّلة، الواقع والخيال، والأحلام وما بعدها. أما القسم السادس والأخير فتناولت فيه المؤلّفة موضوع «الذات والآخر»؛ فكانت النكهة الفلسفية بيّنة فيه. ألحقت المؤلفة كتابها بسلسلة مصادر مرجعية ضخمة ومتعدّدة امتدّت على عشرات الصفحات من الكتاب.

كتاب بلاكمور هذا قراءة شيّقة رغم رصانته الأكاديمية ومشقّة موضوعه؛ لكنّ من يرغب في قراءة أقلّ تطلباً للجهد والوقت والتفاصيل الصغيرة فيمكنه الرجوع إلى كتاب المؤلفة ذاتها والصادر عن جامعة أوكسفورد بعنوان «الوعي: مقدّمة قصيرة جداً»، وتوجد له ترجمة عربية متاحة بالمجّان على شبكة التواصل العالمية (الإنترنت).

Consciousness: An Introduction

الوعي: مقدمة

المؤلّفتان: Susan Blackmore & Emily Troscianko

سوزان بلاكمور وأميلي تروسيانكو

سنة النشر: 2024

دار النشر: Routledge ) Taylor & Francis Group )

عدد الصفحات: 766 الوعي بصورة جوهرية هو الشيء الأساسي الذي يعرفه كلٌّ منّا بشأن العالَم... أو هو بوّابته إلى العالم