في آخر «إطلالة» تلفزيونية له، يوم الأحد الماضي، حيث بشر مواطنيه بالتخلي عن الكثير من التدابير القسرية التي اتخذت لكبح تفشي فيروس كورونا، لم يتردد الرئيس في إعلان أن بلاده «حققت انتصاراً» على الوباء، ما سيمكّنها من الخروج بوقت أسرع من حالة الطوارئ الصحية. إلا أن إيمانويل ماكرون، في محاولة منه لاستخلاص العبر من الحرب ضد عدو «غير مرئي»، اعترف بـ«وجود أخطاء» ونواقص، واعداً باتخاذ التدابير اللازمة لسد النواقص وإصلاح القطاع الصحي الذي، رغم الشوائب، بقي واقفاً على قدميه وفق تأكيداته.
بيد أن كثيرين لا يتبنون نظرة ماكرون لا لجهة استعداد فرنسا لمواجهة الوباء وتوافر وسائل الوقاية، وعلى رأسها الكمامات والفحوص المخبرية وأجهزة التنفس الصناعي، ولكن أيضاً، وخصوصاً حالة المستشفيات الحكومية التي تعرف منذ سنوات أوضاعاً بالغة الصعوبة. وستكون هذه المسائل كلها تحت مجهر لجنتي تحقيق برلمانيتين، إحداهما بدأت أعمالها في مجلس النواب والأخرى في مجلس الشيوخ، وستباشر الاستماع للمسؤولين والأطباء والخبراء بداية الشهر المقبل. في أوج أزمة «كوفيد - 19»، كان القطاع الصحي في فرنسا قبلة أنظار الجميع، حيث تدفقت عليه الوعود، بما فيها من ماكرون نفسه. ففي مناسبة زيارته بداية الشهر الحالي لمستشفى «لابيتيه سالبتريار» في باريس، اعترف الرئيس الفرنسي بقصور خطة إصلاح المستشفيات والقطاع الصحي التي أطلقتها حكومته العام الماضي، والتي أنيطت بوزيرة الصحة السابقة أنياس بوزين. فهذا القطاع يعاني منذ سنوات من تراجع ميزانيته وافتقاره إلى الأطباء والممرضين، وتقادم التجهيزات والآلات المتوافرة، والضغوط الكبرى التي يواجهها بما في ذلك أقسام الطوارئ. وجاء وباء كورونا المستجد ليعري قطاعاً كانت إضرابات موظفيه ومطالباتهم شبه متواصلة، بغض النظر عن هوية الحكومة التي تمارس السلطة. وأفدح ما قاله ماكرون اعترافه بـ«حصول خطأ في الاستراتيجية». ولم ينتظر طويلاً موظفو القطاع الذين وُعدوا بمكافآت، وبإعادة النظر بسلسلة الرواتب، وبفتح الأبواب أمام توظيفات إضافية، للنزول مجدداً إلى الشارع، إذ حصلت مظاهرة حافلة في باريس شارك فيها ما لا يقل عن 20 ألف شخص لتذكير الدولة بمطالبهم. ورغم أن مجموعات شغب وعنف اندسّت إليها وحرّفت الأنظار جزئياً عن المطالب، إلا أنه من الواضح أن العاملين في القطاع لا يريدون أن يعايشوا مجدداً اختبار فيروس كورونا الذي أجبر الآلاف منهم على العمل في ظروف بالغة القساوة، وأحياناً دون توافر الحد الأدنى من وسائل الوقاية. ولعل ما جاء على لسان طبيب الأعصاب، الدكتور فرديريك سالاشاس، يعكس الحالة النفسية العامة، إذ قال متوجهاً للرئيس الفرنسي: «باستطاعتك الاعتماد عليّ، لكنني لست واثقاً من قدرتي على الاعتماد عليك». وتطول لائحة مطالب الجسم الطبي التي تتكرر عاماً بعد عام، وكذلك شكاوى الجمهور بسبب إغلاق مؤسسات الاستشفاء أو أقسام منها، بينما يبدو الهم الأول للحكومات المتعاقبة خفض ميزانية ومحاربة ما يعدونه هدراً.
إذا كانت السلطات تعتبر أن فرنسا تغلبت على الوباء، وسيطرت على انتشاره، إلا أن محصلة الضحايا أليمة، إذ إن أعداد الوفيات بلغت عتبة الثلاثين ألف ضحية. وبذلك تحتل فرنسا المرتبة الخامسة عشرة على مستوى العالم. وبالمقارنة مع ألمانيا الجارة، حيث لم تتجاوز أعداد الضحايا الثمانية آلاف شخص، يبدو تحضر باريس للوباء، وطريقة محاربته، متخلفتين عن ألمانيا التي يزيد سكانها عن فرنسا بحوالي 15 مليون نسمة. ومن بين الثلاثين ألفاً، هناك عشرون ألفًا توفوا في المستشفيات وعشرة آلاف في مآوي العجائز ودور استقبال المسنين، حيث برز قصور لا يصدق في التعامل مع الوباء ورعاية كبار السن. والفضيحة الأكبر أن فرنسا افتقرت لأسرة العناية المركزة، حيث اضطرت إلى ترحيل بعض المتقدمين في المرض إلى دول الجوار مثل ألمانيا وسويسرا ولوكسمبورغ. ومنذ بداية الوباء، أدخل 18270 شخصاً غرف العناية المركزة. ومن أصل 103734 شخصاً دخلوا المستشفيات، تعافى منهم 74117 شخصاً. وحالياً، تضم المستشفيات بكافة أقسامها أقل بقليل من 66 ألف مصاب، بينهم 727 في أقسام الرعاية المركزة، ما يشكل 10 في المائة من الأعداد التي كانت تضمها في أوج الأزمة.
يبقى أن عشرات من العاملين في القطاع الصحي ضحوا بحياتهم لمعالجة كبار المصابين والمرضى. ولا تتوافر إحصائيات شاملة لأعداد الضحايا. لكن عرف منهم، من أصل 12 طبيباً، ثلاثة أطباء لبنانيين هم سامي رضا والبروفسور جاك نعمة ونادر زغلول.