أميركا: دولة للبيض وأخرى للسود... تتصارعان في حلقة مفرغة

ثقافة «التفوق العرقي» تغذيها عقود من عنف الشرطة وقصور الطبقة السياسية عن تغييرها

أميركا: دولة للبيض وأخرى للسود... تتصارعان في حلقة مفرغة
TT

أميركا: دولة للبيض وأخرى للسود... تتصارعان في حلقة مفرغة

أميركا: دولة للبيض وأخرى للسود... تتصارعان في حلقة مفرغة

«الرد على العنف بالعنف يضاعفه، ويزيد العتمة ظلاماً أعمق في ليلة خالية من النجوم... لا يمكن للكراهية أن تطرد الكراهية: الحب وحده يمكنه فعل ذلك».
إنها واحدة من جمل وخطابات عديدة أطلقها الدكتور مارتن لوثر كينغ، أشهر مناضل أميركي أسود، تعبّر عن واقع حال يكاد ينفجر بوتيرة مستدامة، ويدور معها العنف العنصري في دائرة مفرغة في الولايات المتحدة.
مارتن لوثر كينغ، كان ذلك القسّ الذي أمضى حياته داعياً لإصلاحات جذرية للقوانين وتبنّى مبدأ اللاعنف والمقاومة السلمية. وقُتل أيضا على يد أحد المتعصبين البيض. أما اليوم، فإن العنف الذي انفجر أخيراً في مدينة مينيابوليس، كبرى مدن ولاية مينيسوتا، وامتد منها ليشمل المدن الأميركية الكبيرة الأخرى بعد مقتل جورج فلويد، فيشكّل حلقة أخيرة في لائحة طويلة وتاريخية من أعمال الشغب العنصرية في الولايات المتحدة.
سلّط موت جورج فلويد، الرجل الأميركي المتحدّر من أصول أفريقية إبان توقيفه من قبل الشرطة، وهو يستغيث تحت قدم رجل شرطي أبيض كان يضغط على رقبته، الضوء على قضية سياسية لها عدة أبعاد.
قضية تصاعد ارتباطها المنهجي بالعنف الذي مورس ويمارس على الأقليات، من قبل الشرطة في الولايات المتحدة، وذلك في ظل اتهامات وجهت إلى الرئيس الأميركي دونالد ترمب، بأنه يتحمّل قدراً كبيراً من المسؤولية في جعل رجال الأمن يشعرون بالحصانة عن أفعالهم. ذلك أن ترمب قال في مطلع عهده، وفي حفل ضمّ شرطيين وشرطيات: «لا تُفرطوا في الرقّة. أراكم تضعون أيديكم على رؤوسهم (رؤوس الموقوفين) إذ تدخلونهم السيارات مكبّلين، كي لا يرتطم الرأس بحافة الباب. دعكم من هذا!».

أميركا «دولتان»
البعض يقول: في الولايات المتحدة «دولتان»: واحدة يستطيع الناس فيها اقتحام المنازل والمؤسسات الرسمية، وتهديد المسؤولين المنتخبين بمسدساتهم وأسلحتهم الرشاشة والصراخ في وجه رجال الشرطة، كما جرى أخيراً في ولاية ميشيغان، ثم يغادرون سالمين من دون أي اعتراض. ودولة ثانية حيث يمكن للمواطنين الذين يسيرون بسلام أو يقفون على شرفات منازلهم، أن يتعرّضوا للاعتقال وللرصاص المطاطي وقنابل الغاز أمام الكاميرات.
هناك أميركا حيث يرفض الناس أوامر بارتداء الكمامات، وأميركا ثانية حيث يفتش الناس بيأس عن أقنعة للوقاية من الغاز. وباختصار وبلاغة أكثر: هناك أميركا البيضاء حيث يحقّ للمواطنين توقّع الحصول على الخدمة والحماية، وأميركا السوداء حيث ليس بوسعهم توقع ذلك.
لقد بدا أن الدعوة إلى «لا مزيد من العنصرية» ليس تغييراً يمكن تنفيذه بين ليلة وضحاها. ومع تجذر انعدام المساواة في أسس الدولة والأمة الأميركيتين، في ظل قصور الطبقة السياسية عن تقديم حلول جذرية، يغدو من الطبيعي أن تتحول الفوارق العرقية إلى نظام يتحكم بالحياة الأميركية خارج نطاق تطبيق القانون. وهذا الواقع، لا شك، يتطلب تغييراً منهجياً، اقتصادياً وثقافياً واجتماعياً. ويستوجب العمل على تحريك الدولة واستخدامها أدوات معقدة لعلاج القصور القانوني والتجاوزات الأخلاقية، في مشروع قد يستغرق عقوداً من العمل الدؤوب عبر أجيال عديدة لتحقيق هذا التغيير. إلا أن الحد من عنف الشرطة، بما في ذلك العنف الذي يستهدف عرقاً معيناً أكثر من غيره، قد يكون أسهل على الأرجح.
مكافحة تجاوزات الأمن
دول متقدمة عدة، ليس من بينها الولايات المتحدة، تمكنت من إيجاد «معادلة» مكّنتها من خفض عدد عمليات القتل على أيدي رجال الشرطة خلال تطبيقهم القانون، وهذا حتى في البلدان التي تعاني من التحيز والقلق الذي يثيره التنوع العرقي. ففي الولايات المتحدة أطلقت الشرطة النار في العام الماضي وحده، وقتلت أكثر من 1000 شخص، في حين أنه في بريطانيا قتل أقل من 100 شخص في إطلاق النار من قبل الشرطة على مدى العقدين الماضيين. وعند قياس قتلى الأسلحة النارية بسبب الشرطة من حيث نصيب الفرد، لا يبدو سجلّ الولايات المتحدة مشجعاً. ولعل، جزءاً مهماً من المشكلة توافر السلاح بكثرة، سواءً بين رجال الشرطة أو حتى المواطنين. وعلى سبيل المثال، فإن معظم ضباط الشرطة البريطانيين لا يحملون أسلحة نارية. وعلى الرغم من أنه من غير المرجح أن تنزع أسلحة الشرطة الأميركية، يرى البعض أنه بالإمكان العثور على سبل وسياسات أخرى.

مسؤولية الجمهوريين والديمقراطيين
من جهة أخرى، فإن مسؤولية الرئيس ترمب ومناصريه من الجمهوريين والمتشددين والمحافظين ليست حصرية أو فريدة في تغذية الانقسام إبان سنة انتخابية حاسمة. إذ إن الاتهامات توجه أيضا لمعارضيه، وخصوصاً للديمقراطيين، المتهمين بالوقوف موقف المتفرج على أعمال التخريب والعنف المدني والسرقة... إذ إنهم يبدون مكتفين بترداد خطاب لا يقدم حلولاً ولا يردع المخربين. وحتى مبادرتهم في الكونغرس لإقرار اقتراح تعديلات على قوانين الشرطة، لا تبدو كافية، علماً بأن تبنّيها يتطلب تعاون الجمهوريين وتوقيع ترمب عليها. ولذا، ثمة من يتهم الديمقراطيين، صراحةً، بأنهم إنّما يريدون في النهاية إلحاق الهزيمة بترمب فقط، ولو احترقت المدن وتعطلت الأعمال... وأنهم يعملون على استغلال الأحداث الجارية، لمضاعفة الضرر الذي لحق بأميركا والأميركيين، جراء كارثة جائحة «كوفيد - 19».
وحقاً، بعض الأصوات الجمهورية تتحدث عن «تضخيم مفتعل» لأرقام الوفيات الناجمة عن الجائحة التي تجاوزت الـ100 ألف شخص، بحسب «إحصاءات رسمية»، في محاولة للإبقاء على حالة الخوف من إعادة فتح الاقتصاد. ورغم أن استعادة الحياة الطبيعية قد يخدم ترمب والجمهوريين، فإن خطاب هؤلاء هو الآخر لا يقدم حلا للعنف العنصري، سوى استخدام القبضة الأمنية.
لقد هدّد ترمب باللجوء إلى قانون يعود إلى العام 1807 يسمح بنشر الجيش في المدن الأميركية لوضع حد للتظاهرات العنيفة، في أعقاب مقتل جورج فلويد. وقال في تصريحات في حديقة البيت الأبيض: «إذا رفضت مدينة أو ولاية اتخاذ القرارات اللازمة للدفاع عن أرواح وممتلكات سكانها، فسأنشر الجيش الأميركي لحل المشكلة سريعاً، بدلاً عنها». غير أن تصريحات الرئيس أثارت العديد من الانتقادات، لا سيما، وأنها أقحمت الجيش في الخلافات الداخلية، وجاء الانتقاد الأبرز من وزير دفاعه مارك إسبر، الذي رفض زجّ الجيش في الأحداث الجارية. أما وزير الدفاع السابق الجنرال جيم ماتيس فقد اتهم ترمب «بتقسيم الأميركيين بدلا من توحيدهم».
قرار نشر الجيش يحتاج إلى تفعيل «قانون الانتفاضة»، الذي استخدم في عقد الخمسينات لإلغاء الفصل العنصري، وبعدها في الستينات للتعامل مع أحداث شغب في مدينة ديترويت كبرى مدن ولاية ميشيغان. وكانت آخر مرة استخدم فيها القانون عام 1992 من أجل التصدّي لما يُعرف بـ«أحداث شغب لوس أنجليس»، التي أعقبت قرار تبرئة أربعة عناصر شرطة من البيض من تهمة استخدام العنف المفرط ضد رجل أسود يدعى رودني كينغ. وخارج النطاق العنصري، استخدم القانون قبل ذلك في عام 1989 خلال أعمال نهب واسعة وقعت في سانت كروي في «الجزر العذراء» بالبحر الكاريبي في أعقاب الإعصار «هيوغو». ويرى ترمب أن تفعيل القانون يهدف إلى التصدي لمحتجي منظمة «أنتيفا» أي من «المناهضين للفاشية» اليسارية المناهضة لليمين المتطرف. وهي جماعة يتهمها بالوقوف وراء أعمال التخريب التي أدت إلى عمليات النهب.
على أي حال، هذا ما تؤكده المنظمة نفسها، التي يصف أعضاؤها أنفسهم بأنهم فوضويون، يرفضون التسلسل الهرمي في المجتمع، ويسعون إلى مواجهة جسدية باستخدام وسائل عنيفة وإسقاط ما يعتبرونه يميناً متطرفاً. غير أن مسؤولين جمهوريين وديمقراطيين أشاروا أيضاً إلى مسؤولية منظمة «بوغالو» اليمينية المتطرفة، التي تُتهم بالسعي إلى إشعال حرب أهلية ثانية في البلاد. وحسب السناتور الجمهوري ماركو روبيو «هناك قصة كبيرة يجري تغييبها وهي أنه في مدينة بعد الأخرى، لدينا إرهابيون من جماعات من «أنتيفا» إلى «بوغالو» يشجّعون على العنف ويرتكبون أعمال عنف». وتابع روبيو، الذي يترأس لجنة الاستخبارات في مجلس الشيوخ، «قد لا تكون لديهم الآيديولوجيا ذاتها لكنهم يتشاطرون كراهية إزاء الشرطة والحكومة، ويستغلون الاحتجاجات». وأردف قائلا: «هؤلاء الأفراد يريدون هدم النظام بالكامل، حتى ولو تطلب ذلك حرباً أهلية جديدة».
«مؤتمر القيادة حول الحقوق المدنية وحقوق الإنسان» وحملة «زيرو»، في بداية عام 1950، كان بهدف المساواة الكاملة للجميع، وتوسّع من 30 إلى 200 منظمة. وأصدر توصيات تهدف إلى نزع السلاح من أيدي المجتمع الأميركي، وأعدّ مع منظمات أخرى مجموعة من أدوات السياسة والتشريعات النموذجية وقوانين الشرطة، وقدّم توصيات مدعومة بأبحاث اجتماعية. وأكد «المؤتمر» أن هذه السياسات لا تقوم فقط على ما يمكن معاينته في الظاهر، بل إن «الدور الذي تلعبه الكاميرات المثبتة التي يرتديها رجال الشرطة، لا تزال نتائجه محل نقاش». وبالفعل، يستطيع رجل الأمن تعطيلها إذا شاء، كما جرى خلال الأحداث الأخيرة، بعد اكتشاف أن كاميرات رجال الشرطة لم تكن مفعّلة أثناء مقتل رجل أسود يدعى ديفيد مكاتي، خلال مظاهرات شهدتها مدينة لويفيل كبرى مدن ولاية كنتاكي، الأسبوع الماضي.
وتشير الدراسات إلى أن النتائج جارٍ تحسينها من خلال زيادة الرقابة المجتمعية، والتقليل من الحواجز التي تحول دون الإبلاغ عن سوء سلوك الشرطة وتدابير المساءلة الأخرى. وهذا أمرٌ يتضمن تغيير عقود التوظيف التي تحمي رجال الشرطة من مواجهة عواقب سوء السلوك. إذ إحساسهم بالقدرة على الإفلات من العقاب النسبي، يجعلهم يقدمون على أفعالهم العنيفة.

يمين ويسار متطرفان
تاريخ العنف العنصري في العقود الأخيرة الذي كانت تمثله أفضل تمثيل المواجهات شبه اليومية بين أفراد الشرطة والأقليات - وخصوصا السود منهم - تعود جذوره إلى قرون عدة، حين كانت العبودية ضد السود هي نظام الحكم الذي قامت عليه الولايات المتحدة قبل استقلالها عن بريطانيا.
وما يُكر أنه مقابل ثورات السود على الظلم، نمت منظمات عنصرية للبيض، أشهرها منظمة الـ«كوكلوكس كلان» التي ذاع صيتها نتيجة عمليات القمع والقتل الجماعية التي كان ينفذها أفرادها بحق السود. والـ«ك ك ك» - كما تعرف شعبياً - من أقدم المنظمات العنصرية ولا تزال موجودة حتى يومنا هذا، على الرغم من تراجع أنشطتها العنفية.
عليه، كما نمت منظمات للدفاع عن السود تحت شعار «حياة السود مهمة»، وحركات يسارية متشددة مثل «أنتيفا» و«أناركيون» (فوضويون)، خلال السنوات الأخيرة، نمت في المقابل منظمات يمينية متطرفة تدعو وتدعم تفوق العرق الأبيض، ويعتنق بعضها أفكارا نازية، تعزّز حضورها مع نمو موجات اليمين المتطرف والحركات النازية الجديدة والفاشيين، في أوروبا والولايات المتحدة على حد سواء.

روزنامة أحداث عنصرية الطابع
> أحداث مدينة مينيابوليس اليوم تكاد تكون نسخة لأحداث مشابهة، تتكرر في دائرة مغلقة مستمرة منذ أكثر من نصف قرن من تاريخ الولايات المتحدة الحديث.
- في عام 1965، في مدينة لوس أنجليس بولاية كاليفورنيا، أدى توقيف رجال شرطة أبيض لشاب أسود يدعى ماركيت فراي خلال عملية تدقيق مرتبطة بمخالفة مرور، إلى وقوع شجار مع أقربائه، تطور إلى تمرد في أحد المعازل أو «الغيتو» في المدينة. وتحوّل حي «واتس» الفقير لستة أيام، إلى ساحة قتال نظمت فيها دوريات الحرس الوطني المسلحة برشاشات ثقيلة، بدوريات في سيارات عسكرية وفرِضت منع التجول لاحتواء أعمال العنف. وبلغت حصيلة هذه الحوادث 34 قتيلا، بينما جرى توقيف 4 آلاف شخص، وأدت إلى أضرار قدّرت بعشرات الملايين من الدولارات.
-في عام 1967، أفضت مشادّة بين شرطيين من البيض في نيوجيرسي وسائق سيارة أجرة أسود إلى أعمال شغب ونهب استمرت خمسة أيام، وقتل فيها 26 شخصا وجرح 1500 آخرون.
-في عام 1967 أيضاً، اندلعت في مدينة ديترويت بولاية ميشيغان أعمال عنف بعد تدخل رجال الشرطة في الشارع 12 الذي تقطنه غالبية من السود. وخلال أربعة أيام أدت المواجهات إلى مقتل 43 شخصا وجرح نحو ألفين آخرين. وامتدت أعمال العنف إلى ولايات أخرى بينها إيلينوي ونورث كارولاينا وتينيسي وماريلاند.
- في عام 1968، وعلى أثر اغتيال القس مارتن لوثر كينغ - أشهر وأهم المناضلين الأميركيين السود - في مدينة ممفيس بولاية تينيسي في الرابع من أبريل (نيسان)، انفجر العنف في 125 مدينة، ما أدى إلى سقوط 46 قتيلا على الأقل و2600 جريح. وامتدت أعمال العنف إلى العاصمة الاتحادية واشنطن، حيث كان السود يشكلون ثلثي عدد سكانها، وأضرمت الحرائق ووقعت أعمال نهب. وفي اليوم التالي، امتدت الاضطرابات إلى الأحياء التجارية في وسط المدينة وصولاً إلى منطقة تبعد نحو 500 متر فقط عن البيت الأبيض. واستدعى الرئيس (يومذاك) ليندون جونسون الجيش، الذي تدخل أيضاً في مدن نيوآرك (ضواحي نيويورك) وشيكاغو وبوسطن وسنسناتي.
- في عام 1980، قتل في حي السود «ليبرتي سيتي» بمدينة ميامي في ولاية فلوريدا 18 شخصا وجرح أكثر من 400 خلال ثلاثة أيام من أعمال العنف. واندلعت أعمال العنف هذه بعد تبرئة السلطات في مدينة تامبا (في غرب الولاية) أربعة شرطيين من البيض كانوا متهمين بقتل سائق دراجة نارية أسود تجاوز إشارة المرور.
- في عام 1992، في مدينة لوس أنجليس أيضاً، أدت تبرئة أربعة شرطيين بيض بعد محاكمتهم، من تهمة قتل رودني كينغ، وهو سائق سيارة أسود، في 3 مارس (آذار) عام 1991، إلى اشتعال المدينة. وامتدت الاضطرابات إلى مدن سان فرنسيسكو ولاس فيغاس وأتلانتا ونيويورك وأسفرت عن مقتل 59 شخصا وجرح 2328 آخرين.
- في عام، قتل شرطي أبيض شاباً أسود يدعى تيموثي توماس ويبلغ 19 سنة، أثناء مطاردته في مدينة سنسناتي بولاية أوهايو. وتلت الحادثة أربعة أيام من أعمال العنف والشغب جرح خلالها نحو 70 شخصا، ولم تستعد المدينة هدوءها إلّا بعد فرض حالة الطوارئ ومنع التجول فيها.
- في عام 2014، أدى مقتل الشاب الأسود مايكل براون، الذي كان في الـ 18 من العمر، برصاص أطلقه شرطي أبيض في مدينة فيرغوسن بولاية ميزوري، إلى أعمال عنف استمرت 10 أيام، بين السود وقوات الأمن التي استخدمت بنادق هجومية وآليات مصفحة. وفي نهاية نوفمبر (تشرين الثاني)، أسقطت الملاحقات ضد الشرطي ما أدى إلى موجة ثانية من أعمال العنف.
- في عام 2015، في مدينة بولتيمور - القريبة من العاصمة واشنطن، وهي كبرى مدن ولاية ماريلاند - توفي فريدي غراي، وهو شاب أسود يبلغ من العمر 25 سنة، بعد إصابته بكسور في فقرات العنق خلال نقله بشاحنة صغيرة للشرطة إلى مركزها. وفي أعقاب نشر تسجيلات فيديو لعملية توقيفه، التي قيل إن نظراته لم ترُق لعناصر الشرطة، اندلعت أعمال شغب ونهب في المدينة التي يبلغ عدد سكانها 620 ألف نسمة، يشكل السود حوالي ثلثيهم. ومن ثم، أعلنت حالة الطوارئ واستدعت السلطات الجيش والحرس الوطني لإعادة فرض الأمن في المدينة التي تعاني ظروفاً اقتصادية سيئة، كانت سبباً لانتقادات أطلقها الرئيس دونالد ترمب ضد الديمقراطيين متهماً إياهم بالتقصير في تحسين ظروفها.
-في عام 2016، اندلعت في مدينة شارلوت، كبرى مدن ولاية نورث كارولاينا، تظاهرات عنيفة بعد مقتل كيث لامونت سكوت. سكوت رجل أسود في الـ43 من العمر، قتل عند خروجه من آلية بينما كان يطوّقه شرطيون، وقالت قوات الأمن إنه رفض تسليم سلاحه. لكن أقرباءه أكّدوا أنه لم يكن يحمل سوى كتاب بيده وينتظر بسلام ابنه عند موقف للحافلات. وبعد مظاهرات استمرت عدة ليال، أعلن حاكم الولاية حالة الطوارئ وطلب تعزيزات من الحرس الوطني.
- في عام 2017، دهست سيارة يقودها متطرّف من البيض امرأة ما أدى إلى مقتلها، بعد تصدّي متظاهرين غاضبين لمسيرة في مدينة شارلوتسفيل، بولاية فيرجينيا تدعو إلى توحيد قوى اليمين و«سيادة» البيض. وضمّت تلك المظاهرة جماعات من اليمين المتطرف و«اليمين البديل» و«الكونفدرالية الجديدة» و«الفاشيين الجدد» وغُلاة القوميين البيض و«النازيين الجدد» والـ«كو كلوكس كلان» وميليشيات مختلفة. وخلال تلك التظاهرة هتف المتظاهرون بشعارات عنصرية ومعادية للسامية، وحملوا بنادق نصف آلية، ورموزاً نازية وأعلاماً كونفدرالية (من حقبة الحرب الأهلية الأميركية). وشملت أهدافهم أيضا معارضة إزالة تمثال الجنرال روبرت لي، أحد رموز الحرب الأهلية، من «لي بارك». هذا، وتعرّض الرئيس دونالد ترمب لانتقادات حادة بسبب رفضه إدانة التظاهرة وقوله: «لدى الجانبين أشخاص جيدون».



لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
TT

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)

يواجه لبنان جملة من التحديات السياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية، خصوصاً في مرحلة التحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة وترخي بثقلها على واقعه الصعب والمعقّد. ولا شك أن أهم هذه التحوّلات سقوط نظام بشّار الأسد في سوريا، وتراجع النفوذ الإيراني الذي كان له الأثر المباشر في الأزمات التي عاشها لبنان خلال السنوات الأخيرة، وهذا فضلاً عن تداعيات الحرب الإسرائيلية وآثارها التدميرية الناشئة عن «جبهة إسناد» لم تخفف من مأساة غزّة والشعب الفلسطيني من جهة، ولم تجنّب لبنان ويلات الخراب من جهة ثانية.

إذا كانت الحرب الإسرائيلية على لبنان قد انتهت إلى اتفاق لوقف إطلاق النار برعاية دولية، وإشراف أميركي ـ فرنسي على تطبيق القرار 1701، فإن مشهد ما بعد رحيل الأسد وحلول سلطة بديلة لم يتكوّن بعد.

وربما سيحتاج الأمر إلى بضعة أشهر لتلمُّس التحدّيات الكبرى، التي تبدأ بالتحدّيات السياسية والتي من المفترض أن تشكّل أولوية لدى أي سلطة جديدة في لبنان. وهنا يرى النائب السابق فارس سُعَيد، رئيس «لقاء سيّدة الجبل»، أنه «مع انهيار الوضعية الإيرانية في لبنان وتراجع وظيفة (حزب الله) الإقليمية والسقوط المدوّي لحكم البعث في دمشق، وهذا إضافة إلى الشغور في رئاسة الجمهورية، يبقى التحدّي الأول في لبنان هو ملء ثغرات الدولة من أجل استقامة المؤسسات الدستورية».

وأردف سُعَيد، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، إلى أنه «بعكس الحال في سوريا، يوجد في لبنان نصّ مرجعي اسمه الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني، وهذا الدستور يجب أن يحترم بما يؤمّن بناء الدولة والانتقال من مرحلة إلى أخرى».

الدستور أولاً

الواقع أنه لا يمكن لمعطيات علاقة متداخلة بين لبنان وسوريا طالت لأكثر من 5 عقود، و«وصاية دمشق» على بيروت ما بين عامَي 1976 و2005 - وصفها بعض معارضي سوريا بـ«الاحتلال» - أن تتبدّل بين ليلة وضحايا على غرار التبدّل المفاجئ والصادم في دمشق. ثم إن حلفاء نظام دمشق الراحل في لبنان ما زالوا يملكون أوراق قوّة، بينها تعطيل الانتخابات الرئاسية منذ 26 شهراً وتقويض كل محاولات بناء الدولة وفتح ورشة الإصلاح.

غير أن المتغيّرات في سوريا، وفي المنطقة، لا بدّ أن تؤسس لواقع لبناني جديد. ووفق النائب السابق سُعَيد: «إذا كان شعارنا في عام 2005 لبنان أولاً، يجب أن يكون العنوان في عام 2024 هو الدستور أولاً»، لافتاً إلى أن «الفارق بين سوريا ولبنان هو أن سوريا لا تملك دستوراً وهي خاضعة فقط للقرار الدولي 2254. في حين بالتجربة اللبنانية يبقى الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني المرجعَين الصالحَين لبناء الدولة، وهذا هو التحدي الأكبر في لبنان».

وشدّد، من ثم، على ضرورة «استكمال بناء المؤسسات الدستورية، خصوصاً في المرحلة الانتقالية التي تمرّ بها سوريا»، وتابع: «وفي حال دخلت سوريا، لا سمح الله، في مرحلة من الفوضى... فنحن لا نريد أن تنتقل هذه الفوضى إلى لبنان».

العودة للحضن العربي

من جهة ثانية، يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة عمّا كان الوضع عليه في العقود السابقة. ولا يُخفي السياسي اللبناني الدكتور خلدون الشريف، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن لبنان «سيتأثّر بالتحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة، وحتميّة انعكاس ما حصل في سوريا على لبنان». ويلفت إلى أن «ما حصل في سوريا أدّى إلى تغيير حقيقي في جيوبوليتيك المنطقة، وسيكون له انعكاسات حتمية، ليس على لبنان فحسب، بل على المشرق العربي والشرق الأوسط برمته أيضاً».

الاستحقاق الرئاسي

في سياق موازٍ، قبل 3 أسابيع من موعد جلسة انتخاب الرئيس التي دعا إليها رئيس مجلس النواب نبيه برّي في التاسع من يناير (كانون الثاني) المقبل، لم تتفق الكتل النيابية حتى الآن على اسم مرشّح واحد يحظى بأكثرية توصله إلى قصر بعبدا.

وهنا، يرى الشريف أنه بقدر أهمية عودة لبنان إلى موقعه الطبيعي في العالم العربي، ثمّة حاجة ماسّة لعودة العرب إلى لبنان، قائلاً: «إعادة لبنان إلى العرب مسألة مهمّة للغاية، شرط ألّا يعادي أي دولة إقليمية عربية... فلدى لبنان والعرب عدوّ واحد هو إسرائيل التي تعتدي على البشر والحجر». وبغض النظر عن حتميّة بناء علاقات سياسية صحيحة ومتكافئة مع سوريا الجديدة، يلفت الشريف إلى أهمية «الدفع للتعاطي معها بإيجابية وانفتاح وفتح حوار مباشر حول موضوع النازحين والشراكة الاقتصادية وتفعيل المصالح المشتركة... ويمكن للبلدين، إذا ما حَسُنت النيّات، أن يشكلّا نموذجاً مميزاً للتعاون والتنافس تحت سقف الشراكة».

يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة

النهوض الاقتصادي

وحقاً، يمثّل الملفّ الاقتصادي عنواناً رئيساً للبنان الجديد؛ إذ إن بناء الاقتصاد القوي يبقى المعيار الأساس لبناء الدولة واستقرارها، وعودتها إلى دورها الطبيعي. وفي لقاء مع «الشرق الأوسط»، قال الوزير السابق محمد شقير، رئيس الهيئات الاقتصادية في لبنان، إن «النهوض الاقتصادي يتطلّب إقرار مجموعة من القوانين والتشريعات التي تستجلب الاستثمارات وتشجّع على استقطاب رؤوس الأموال، على أن يتصدّر الورشة التشريعية قانون الجمارك وقانون ضرائب عصري وقانون الضمان الاجتماعي».

شقير يشدّد على أهمية «إعادة هيكلة القطاع المصرفي؛ إذ لا اقتصاد من دون قطاع مصرفي». ويشير إلى أهمية «ضبط التهريب على كل طول الحدود البحرية والبرّية، علماً بأن هذا الأمر بات أسهل مع سقوط النظام السوري، الذي طالما شكّل عائقاً رئيساً أمام كل محاولات إغلاق المعابر غير الشرعية ووقف التهريب، الذي تسبب بخسائر هائلة في ميزانية الدولة، بالإضافة إلى وضع حدّ للمؤسسات غير الشرعية التي تنافس المؤسسات الشرعية وتؤثر عليها».

نقطة جمارك المصنع اللبنانية على الحدود مع سوريا (آ ف ب)

لبنان ودول الخليج

يُذكر أن الفوضى في الأسواق اللبنانية أدت إلى تراجع قدرات الدولة، ما كان سبباً في الانهيار الاقتصادي والمالي، ولذا يجدد شقير دعوته إلى «وضع حدّ للقطاع الاقتصادي السوري الذي ينشط في لبنان بخلاف الأنظمة والقوانين، والذي أثّر سلباً على النمو، ولا مانع من قوننة ليعمل بطريقة شرعية ووفق القوانين اللبنانية المرعية الإجراء». لكنه يعبّر عن تفاؤله بمستقبل لبنان السياسي والاقتصادي، قائلاً: «لا يمكن للبنان أن ينهض من دون علاقات طيّبة وسليمة مع العالم العربي، خصوصاً دول الخليج... ويجب أن تكون المهمّة الأولى للحكومة الجديدة ترسيخ العلاقات الجيّدة مع دول الخليج العربي، ولا سيما المملكة العربية السعودية التي طالما أمّنت للبنان الدعم السياسي والاقتصادي والمالي».

ضبط السلاح

على صعيد آخر، تشكّل الملفات الأمنية والعسكرية سمة المرحلة المقبلة، بخاصةٍ بعد التزام لبنان فرض سلطة الدولة على كامل أراضيها تطبيقاً للدستور والقرارات الدولية. ويعتبر الخبير العسكري والأمني العميد الركن فادي داوود، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن «تنفيذ القرار 1701 ومراقبة تعاطيها مع مكوّنات المجتمع اللبناني التي تحمل السلاح، هو التحدّي الأكبر أمام المؤسسات العسكرية والأمنية». ويوضح أن «ضبط الحدود والمعابر البرية مع سوريا وإسرائيل مسألة بالغة الدقة، سيما في ظل المستجدات التي تشهدها سوريا، وعدم معرفة القوة التي ستمسك بالأمن على الجانب السوري».

مكافحة المخدِّرات

وبأهمية ضبط الحدود ومنع الاختراق الأمني عبرها، يظل الوضع الداخلي تحت المجهر في ظلّ انتشار السلاح لدى معظم الأحزاب والفئات والمناطق اللبنانية، وهنا يوضح داوود أن «تفلّت السلاح في الداخل يتطلّب خطة أمنية ينفّذها الجيش والأجهزة الأمنية كافة». ويشرح أن «وضع المخيمات الفلسطينية يجب أن يبقى تحت رقابة الدولة ومنع تسرّب السلاح خارجها، إلى حين الحلّ النهائي والدائم لانتشار السلاح والمسلحين في جميع المخيمات»، منبهاً إلى «معضلة أمنية أساسية تتمثّل بمكافحة المخدرات تصنيعاً وترويجاً وتصديراً، سيما وأن هناك مناطق معروفة كانت أشبه بمحميات أمنية لعصابات المخدرات».

حقائق

علاقات لبنان مع سوريا... نصف قرن من الهيمنة

شهدت العلاقات اللبنانية - السورية العديد من المحطات والاستحقاقات، صبّت بمعظمها في مصلحة النظام السوري ومكّنته من إحكام قبضته على كلّ شاردة وواردة. وإذا كان نفوذ دمشق تصاعد منذ دخول جيشها لبنان في عام 1976، فإن جريمة اغتيال الرئيس اللبناني المنتخب رينيه معوض في 22 نوفمبر (تشرين الثاني) 1989 - أي يوم عيد الاستقلال - شكّلت رسالة. واستهدفت الجريمة ليس فقط الرئيس الذي أطلق مرحلة الشروع في تطبيق «اتفاق الطائف»، وبسط سلطة الدولة على كامل أراضيها وحلّ كل الميليشيات المسلّحة وتسليم سلاحها للدولة، بل أيضاً كلّ من كان يحلم ببناء دولة ذات سيادة متحررة من الوصاية. ولكنْ ما إن وُضع «اتفاق الطائف» موضع التنفيذ، بدءاً بوحدانية قرار الدولة، أصرّ حافظ الأسد على استثناء سلاح «حزب الله» والتنظيمات الفلسطينية الموالية لدمشق، بوصفه «سلاح المقاومة لتحرير الأراضي اللبنانية المحتلّة» ولإبقائه عامل توتر يستخدمه عند الضرورة. ثم نسف الأسد «الأب» قرار مجلس الوزراء لعام 1996 القاضي بنشر الجيش اللبناني على الحدود مع إسرائيل، بذريعة رفضه «تحويل الجيش حارساً للحدود الإسرائيلية».بعدها استثمر نظام دمشق انسحاب الجيش الإسرائيلي من المناطق التي كان يحتلها في جنوب لبنان خلال مايو (أيار) 2000، و«جيّرها» لنفسه ليعزّز هيمنته على لبنان. غير أنه فوجئ ببيان مدوٍّ للمطارنة الموارنة برئاسة البطريرك الراحل نصر الله بطرس صفير في سبتمبر (أيلول) 2000، طالب فيه الجيش السوري بالانسحاب من لبنان؛ لأن «دوره انتفى مع جيش الاحتلال الإسرائيلي من جنوب لبنان».مع هذا، قبل شهر من انتهاء ولاية الرئيس إميل لحود، أعلن نظام بشار الأسد رغبته بالتمديد للحود ثلاث سنوات (نصف ولاية جديدة)، ورغم المعارضة النيابية الشديدة التي قادها رئيس الوزراء الراحل رفيق الحريري، مُدِّد للحود بالقوة على وقع تهديد الأسد «الابن» للحريري ووليد جنبلاط «بتحطيم لبنان فوق رأسيهما». وهذه المرة، صُدِم الأسد «الابن» بصدور القرار 1559 عن مجلس الأمن الدولي، الذي يقضي بانتخاب رئيس جديد للبنان، وانسحاب الجيش السوري فوراً، وحلّ كل الميليشيات وتسليم سلاحها للدولة اللبنانية. ولذا، عمل لإقصاء الحريري وقوى المعارضة اللبنانية عن السلطة، وتوِّج هذا الإقصاء بمحاولة اغتيال الوزير مروان حمادة في أكتوبر (تشرين الأول) 2004، ثمّ باغتيال رفيق الحريري يوم 14 فبراير (شباط) 2005، ما فجّر «ثورة الأرز» التي أدت إلى انسحاب الجيش السوري من لبنان يوم 26 أبريل (نيسان)، وتبع ذلك انتخابات نيابية خسرها حلفاء النظام السوري فريق «14 آذار» المناوئ لدمشق.تراجع نفوذ دمشق في لبنان استمر بعد انسحاب جيشها بضغط أميركي مباشر. وتجلّى ذلك في «الحوار الوطني اللبناني»، الذي أفضى إلى اتخاذ قرارات بينها «ترسيم الحدود» اللبنانية السورية، وبناء علاقات دبلوماسية مع سوريا وتبادل السفراء، الأمر الذي قبله بشار الأسد على مضض. وأكمل المسار بقرار إنشاء محكمة دولية لمحاكمة قتلة الحريري وتنظيم السلاح الفلسطيني خارج المخيمات - وطال أساساً التنظيمات المتحالفة مع دمشق وعلى رأسها «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين - القيادة العامة» - وتحرير المعتقلين اللبنانيين في السجون السورية. حرب 6002مع هذا، بعد الحرب الإسرائيلية على لبنان في يوليو (تموز) 2006، التي أعلن «حزب الله» بعدها «الانتصار على إسرائيل»، استعاد النظام السوري بعض نفوذه. وتعزز ذلك بسلسلة اغتيالات طالت خصومه في لبنان من ساسة ومفكّرين وإعلاميين وأمنيين - جميعهم من فريق «14 آذار» - وتوّج بالانقلاب العسكري الذي نفذه «حزب الله» يوم 7 مايو 2008 محتلاً بيروت ومهاجماً الجبل. وأدى هذا التطور إلى «اتفاق الدوحة» الذي منح الحزب وحلفاء دمشق «الثلث المعطِّل» في الحكومة اللبنانية، فمكّنهم من الإمساك بالسلطة.يوم 25 مايو 2008 انتخب قائد الجيش اللبناني ميشال سليمان رئيساً للجمهورية، وفي 13 أغسطس (آب) من العام نفسه عُقدت قمة لبنانية ـ سورية في دمشق، وصدر عنها بيان مشترك، تضمّن بنوداً عدّة أهمها: «بحث مصير المفقودين اللبنانيين في سوريا، وترسيم الحدود، ومراجعة الاتفاقات وإنشاء علاقات دبلوماسية، وتبنّي المبادرة العربية للسلام». ولكن لم يتحقق من مضمون البيان، ومن «الحوار الوطني اللبناني» سوى إقامة سفارات وتبادل السفراء فقط.ختاماً، لم يقتنع النظام السوري في يوم من الأيام بالتعامل مع لبنان كدولة مستقلّة. وحتى في ذروة الحرب السورية، لم يكف عن تعقّب المعارضين السوريين الذي فرّوا إلى لبنان، فجنّد عصابات عملت على خطف العشرات منهم ونقلهم إلى سوريا. كذلك سخّر القضاء اللبناني (خصوصاً المحكمة العسكرية) للتشدد في محاكمة السوريين الذين كانوا في عداد «الجيش السوري الحرّ» والتعامل معهم كإرهابيين.أيضاً، كان للنظام السوري - عبر حلفائه اللبنانيين - الدور البارز في تعطيل الاستحقاقات الدستورية، لا سيما الانتخابات الرئاسية والنيابية وتشكيل الحكومات، بمجرد اكتشاف أن النتائج لن تكون لصالحهم. وعليه، قد يكون انتخاب الرئيس اللبناني في 9 يناير (كانون الثاني) المقبل، الاستحقاق الأول الذي يشهده لبنان من خارج تأثير نظام آل الأسد منذ نصف قرن.