خمسة أفلام ذات اتجاهات أسلوبية وسياسية مختلفة

قراءة لمسابقة أوسكار الفيلم الأجنبي

«عمر»
«عمر»
TT

خمسة أفلام ذات اتجاهات أسلوبية وسياسية مختلفة

«عمر»
«عمر»

من بين المخرجين الخمسة المرشـحين لأوسكار أفضل فيلم أجنبي، وحده هاني أبو أسعد رشـح مرتين: مرة عن فيلمه «الجنة الآن»، ومرة أخرى عن فيلمه الجديد «عمر». الباقون يطأون أرض الأوسكار لأول مرة حتى ولو كان بعضهم أطول باعا من المخرج الفلسطيني بالنسبة لعدد الأفلام التي حققها.
إنهم مجموعة غير متجانسة من المخرجين، حققوا أفلاما استحوذت إعجاب أعضاء أكاديمية علوم وفنون السينما، موزعة الأوسكار، فرشـحوها لتنتهي إلى قائمة رسمية سيجري اختيار واحد منها للإعلان عن فوزه.. «الرابح هو...» ويأتي الصوت - المفاجأة وسيصعد صاحب الاسم ليتسلم التمثال المذهب وفي باله كلمات شكر عليه إلقاؤها في ثلاث دقائق.
هوليوود تتابع الترشيحات الأجنبية، كونها جزءا من حفلة الأوسكار التي تستمر لنحو ثلاث ساعات وتشتمل على كل باب وقسم من حقول صنع الأفلام. لكن اهتمام هوليوود بهذه الجائزة يختلف تبعا لاختلاف موقع المهتم وصلته. غالبية السينمائيين يعدونها صفحة في وسط الحفل ويمضون. قد يشكل الفيلم الفائز مناسبة للتصفيق وإظهار الفضول بما سيقوله هذا السينمائي غير الأميركي حول هوليوود والأوسكار والفرصة السماوية التي أتاحت له تحقيق هذا الفيلم والفوز به، لكن الاهتمام الأكبر سيبقى منصبـا على الأقسام الأميركية ذاتها: الممثلون والممثلات والمخرجون، و- بالطبع - الأفلام الأميركية التي سيجري انتخاب واحد منها للفوز بتلك الجائزة.

* عروض عمل
هذه الأقسام (التي سنخصص لكل منها بحثا منفصلا) أحيانا ما تلهم حماس المخرج الأجنبي للعودة إلى هذا الحفل بفيلم آخر... هوليوودي. كثيرون ممن فازوا بأوسكار أفضل فيلم أجنبي سنحت لهم فرص تحقيق أفلام أميركية، أو، على الأقل، تواصلوا مع منتجين وضعوا قدرا من الاستعداد لتمويل فيلم أميركي إعجابا بأسلوب المخرج وطريقته في سرد القصـة، و- لا ننسى - توظيفا لاسمه اللامع اليوم الذي قد لا يبقى لامعا في الغد. الإسباني بدرو ألمادوفار تسلم عروضا للبقاء في هوليوود وإنجاز بضعة أفلام، وذلك عندما فاز فيلمه «كل شيء عن أمي» بالأوسكار. في مذكراته، كتب الهنغاري استفان شابو أنه جلس عام 1981 مع بعض منتجي شركة «يونايتد آرتستس» بعد يومين من فوزه بالأوسكار عن فيلمه «مفيستو». والفرنسي برتران بلاييه عاد من هوليوود إلى باريس ومعه سيناريو دسـه له منتج أعجب بفيلمه «أخرجوا محارمكم» بعدما فاز بالجائزة عام 1978.
بالنسبة لهاني أبو أسعد، جاء ترشيحه للأوسكار عن «الجنة الآن» عام 2006 مناسبة لكي يبقى في هوليوود يعاين فيها عروضا تسلمها بالفعل. شركات التوزيع الأميركية عادة ما تكون الأكثر حماسا بين كل قطاعات هوليوود للأفلام الأجنبية الواصلة إلى خط النهاية ومخرجيها، وأبو أسعد وجد أن شركة «وورنر إندبندنت بيكتشرز» (وهي شركة إنتمت لوورنر وعاشت بضع سنوات قبل أن تقفل دكانها) مستعدة لإبقائه في هوليوود على حسابها للبحث في عدد من المشاريع التي بحوزتها. خلال ذلك، تقدمت منه شركتا «فوكاس» و«فوكس» بمشاريع أخرى. بعد بضعة أشهر وفي مقهى بشرقي ويلشير بوليفارد، قال لهذا الناقد: «هي مشاريع جيدة، مكتوبة جيدا، لكنها نمطية. لأن فيلمي («الجنـة الآن») يتحدث عن انتحاري بقنبلة مربوطة إلى وسطه، غالبية المشاريع المعروضة علي تدور حول قصص مشابهة، وأنا لا أريد أن أنمـط».
نتيجة رفضه أن حقق بعد ذلك الفيلم عملين: واحد تركي («لا تنسيني يا إسطنبول»)، والآخر أميركي («الحمـال»)، لكنه لا يدعوك لمشاهدتهما. «عمر»، هو الفيلم الذي هو فخور به والذي يتمنى له أن يفوز في السباق لأفضل جائزة أجنبية.

* صورة تاريخية
هذا لن يكون هيـنا. الفيلم الذي ربح هذه الجائزة عام 2006 هو «تسوتسي»، المنتج من قبل شركات جنوب أفريقية، الذي أخرجه الأميركي مواطنها كـفن هود (لاحقا ما أنجز مشاريع أميركية آخرها «لعبة إندر» في العام الماضي). بين حكاية شابـين يترددان في تنفيذ مهمـة انتحارية وحكاية صبي يرأس عصابة أشقياء في مدينة جوهانسبورغ، وربما تبعا لبعض الملامح الفنية الخاصة، نال الفيلم الأفريقي الجائزة لا عنوة عن الفيلم الفلسطيني فقط، بل عن أفلام أوروبية، إذ توزعت الترشيحات الأخرى بين الفيلم الإيطالي «لا تبح» لكريستينا كومنشيني، والفيلم الفرنسي «نوول المرح» لكريستيان كاريو، والفيلم الألماني «صوفي شول» لمارك روثموند.
هذه المرة المشاركون مختلفون، وكما ذكرت، هاني أبو أسعد هو الوحيد الذي جرى ترشيحه من قبل. هذه الميزة قد تفيده بمعدل محدود قد لا يزيد على 10 في المائة من أصحاب الأصوات الذين منحوه أساسا فرصة الترشيح هذه والذين قد يرون أنه يستحق هذه المرة الوصول إلى المنصـة ولو من باب التعويض عن المرة السابقة. لكن، إذا ما كان هذا الفيلم سينال الأوسكار فعلا، فإن الأمر سيعود للمشكلة التي ما زالت قابعة على المجالس السياسية والاجتماعية باحثة عن حل.
على أن هذه المشكلة ليست الوحيدة المطروحة على أنظار ستـة آلاف عضو. هناك «الصورة المفقودة»، الذي يتحدث عن التاريخ العنيف لدولة كمبوديا حينما استولت عصبة «خمير روج» على السلطة وأودت بحياة مئات الألوف بمن فيهم أقارب المخرج ريثي بانه. الاختلاف بين «عمر» و«الصورة المفقودة»، هو أن الأول لا يزال عاكسا لوضع حاضر، بينما ينقل الفيلم الكمبودي من الأمس صورا انتهى مفعولها الحدثي. إلى ذلك، لا ينتمي الفيلم تماما إلى السينما الروائية، بل هو معالجة مع تعليق صوتي، يقربانه من صنف الأفلام التسجيلية، ويستخدم الدمى عوض الممثلين، مما يجعله ينتمي إلى فن الرسوم (ولو غير المتحركة لأن الدمى جامدة).
الأفلام الأخرى هي: «انهيار الحلقة المكسورة»، وهو فيلم بلجيكي لمخرج طموح اسمه فيلكس فان غروننجن، سبق أن حاول قبل أربع سنوات ترويج فيلم فوضوي الشكل بعنوان «غير المحظوظين»، لكن فيلمه الجديد أكثر انضباطا (جرى عرضه على الـ«غولدن غلوب» ولم يحظ بالاهتمام الكافي). يدور حول قصـة حب وما يتبعها من مشاكل بين مغن ومغنية في فرقة موسيقية واحدة. ربما خرج بالأوسكار لنواح عاطفية أكثر منها تقديرا لإجادته الفنية.
الفيلم الرابع «جمال عظيم» للإيطالي باولو سورنتينو، هو الأجدر بالفوز من «الصورة المفقودة» و«انهيار الحلقة المكسورة»، ويتعامل مع موضوع أوسع نطاقا من «عمر»، إذ يطرح مسائل ذهنية وتاريخية وثقافية منع الموضوع السياسي مخرج «عمر» الوصول إليها.
الفيلم الخامس هو من شغل الدنمارك «الصيد» لتوماس فينربيرغ صاحب ثمانية عشر عملا مختلفا؛ من بينها «الاحتفال» (1998)، و«كله عن الحب» (2003)، و«سامبارينو» (2011)، وكلها مرت من تحت رادار الأكاديمية فلم يجر ترشيح أي منها. «الصيد» معضلة فرد حيال المجتمع (كما حال «جمال عظيم») تحمل في طيـاتها نقدا للرأي السائد والاتهام الجاهز، مما يدمر حياة بطله. فقط، نهايته هي التي تربك العمل من أساسه، لكنه فيلم قد ينأي بنفسه عن باقي المواضيع المثارة ويفوز.

* العلاقة الكانيـة
أربعة من الأفلام المنافسة في جائزة أفضل فيلم أجنبي شاركت في مهرجان «كان» السنة الماضية. واحد منها فقط فاز بجائزة أساسية وهو «عمر» (جائزة لجنة التحكيم الخاصة بتظاهرة «نظرة ما»). الأفلام الثلاثة الأخرى هي: «الصيد»، و«جمال عظيم»، و«الصورة المفقودة».
في أوسكار العام السابق، جاء الفيلم الفائز بأوسكار أفضل فيلم أجنبي من نصيب «حب» لميشيل هنيكه الذي كان فاز كذلك بسعفة مهرجان «كان».



كل شيء عن قائمة الأوسكار القصيرة

من اليمين: هيام عباس، صالح بكري، آن ماري جاسر وبيلي هاول في «فلسطين 36» (ووترمالون بيكتشرز).
من اليمين: هيام عباس، صالح بكري، آن ماري جاسر وبيلي هاول في «فلسطين 36» (ووترمالون بيكتشرز).
TT

كل شيء عن قائمة الأوسكار القصيرة

من اليمين: هيام عباس، صالح بكري، آن ماري جاسر وبيلي هاول في «فلسطين 36» (ووترمالون بيكتشرز).
من اليمين: هيام عباس، صالح بكري، آن ماري جاسر وبيلي هاول في «فلسطين 36» (ووترمالون بيكتشرز).

أربعة أفلام لأربعة مخرجين عرب آلت إلى القائمة القصيرة في سباق الأوسكار التي أعلنت عنها أكاديمية العلوم والفنون السينمائية قبل يومين. إنها الجوائز الأكثر استقطاباً للاهتمام بين كل المناسبات السنوية في مثل هذا الموسم. المناسبة التي باتت، منذ سنوات، محط آمال الكثير من السينمائيين، في مختلف المجالات، ومن خارج الولايات المتحدة، كما من داخلها.

القائمة القصيرة تشمل فروعاً مختلفة ليس من بينها بعد سباق الأفلام الرئيسية أو سباق الممثلين والمخرجين. هي تمهيد مثير للاهتمام يسبق الحفل الثامن والتسعين لتوزيع الجوائز يوم 15 من مارس (آذار) المقبل.

توقعات

لا بد من التذكير أنه في العام ما قبل الماضي ظهر فيلمان عربيان فقط في هذه القائمة، هما «أم كل الأكاذيب» لأسماء المدير (المغرب) و«أربعة بنات» لكوثر بن هنية (تونس). في العام التالي، 2024، مثّل «من المسافة صفر» الذي أشرف على إنتاجه الفلسطيني رشيد مشهراوي، السينما العربية وحيداً. أما هذا العام، فإن الأفلام المدرجة في قائمة الأوسكار القصيرة تحمل دلالة مهمّة كونها المرّة الأولى التي تدخل أربعة أفلام من إخراج سينمائيين عرب هذه القائمة معاً.

هذه الأفلام هي «كعكة الرئيس» لحسن هادي (العراق) و«كل ما بقي منك» لشيرين دعيبس (الأردن) و«فلسطين 36» لآن ماري جاسر (فلسطين) و«صوت هند رجب» لكوثر بن هنية (تونس).

من «كعكة الرئيس» (مايدن فوياج فيلمز)

باستثناء «كعكة الرئيس»، فإن الأفلام الثلاثة الأخرى مرتبطة بالقضية الفلسطينية كتاريخ («فلسطين 36» و«كل ما بقي منك») أو كحاضر («صوت هند رجب»)؛ ما يدل على أن المقترعين يريدون لهذه الأفلام أن تعبّر علناً عما يقع في فلسطين لدرجة أن فيلماً إسرائيلياً ناقداً للوضع المفروض على الفلسطينيين في الداخل، وهو «البحر» لشاي كارميلي - بولاك، لم يُتح له الوصول إلى هذا الخط قبل النهائي.

بما أن الترشيحات الرسمية التي ستُعلن في الثاني والعشرين من الشهر المقبل تضم، في سباق «الأفلام العالمية» خمسة أفلام فقط؛ فإنه ليس من المتوقع وجود أكثر من فيلم عربي واحد. وما هو مؤكد أنه سيكون واحداً من هذه الأفلام الثلاثة ذات الموضوع الفلسطيني.

المخرجة شيرين دعيبس (أي أم بي فايرووركس)

هذا ما يعني أن المنافسة بين أفلام كوثر بن هنية، وآن ماري جاسر وشيرين دعيبس ستكون حادّة خلال التصويت على القائمة الرسمية في الشهر المقبل.

يزيد من هذا الاحتمال وجود أفلام أجنبية مهمّة في القائمة القصيرة ستتنافس فيما بينها كما ستنافس الأفلام المذكورة في سعيها لتحقيق الوثبة صوب الأوسكار.

الأفلام الأجنبية

هناك أحد عشر فيلماً آخر تتنافس في هذا المحور، وهي:

> «صراط» (Sirat) لأوليڤر لاكس (أسبانيا)

> «العميل السري» (The Secret Agent) لكلايبر مندوزا فيلو (البرازيل)

> «لا خيار آخر» (No Other Choice) لبارك - تشان ووك (كوريا الجنوبية)

> «مناوبة متأخرة» (Late Shift) لبترا بيوندينا ڤولبي (سويسرا)

> «الفتاة ذات اليد اليسرى» (The Left‪-‬Handed Girl) لشيه تسينغ تساو (تايوان)

> «بَلِن» (Belén) لدولوريس فونزي (الأرجنتين)

> «كانت مجرد حادثة» (It Was Just an Accident) لجعفر بناهي (فرنسا)

> «باتجاه البلد» (Homebound) لنيراج غاوان (الهند)

> «كوكيهو» (Kokuho) لسانغ إلي لي (اليابان)

> «قيمة عاطفية» (Sentimental Value) لواكيم ترايير (النرويج)

الصوت النسائي

لا بد من العودة إلى الأفلام العربية ضمن هذا الجمع من الأعمال لملاحظة أن الأفلام التي تداولت الموضوع الفلسطيني، وهي، مرّة أخرى، «صوت هند رجب» و«فلسطين 63» و«كل ما بقي منك» هي من إخراج نساء (ليس من بينها فيلم رجالي)، وهذا مقابل فيلم «كعكة الرئيس» الذي حققه العراقي حسن هادي. ربما يكون ذلك تعبيراً عن اهتمام أعلى أو ربما لأن المخرجات المذكورات (بن هنية، جاسر ودعيبس) سبقن الرجال العرب في السنوات الأخيرة صوب التقاط ما هو مهم وناجح.

المخرجات العربيات جزء من حضور أكبر في هذا السباق المهم؛ إذ إن هناك سبع مخرجات في هذه القائمة التي تحتوي على 15 فيلماً. كذلك، وفي نطاق قائمة الأفلام التسجيلية الطويلة المؤلفة أيضاً من 15 فيلماً، نجد عشرة أفلام من إخراج نسائي.

ملاحظة أخيرة، وهي أن الأفلام العربية الأربعة ليست من إنتاج بلد واحد وإن انتمت، في قائمة الأوسكار كما لو كانت كذلك. «صوت هند رجب» المتقدّم باسم تونس هو أيضاً إنتاج مشترك بين فرنسا، وبريطانيا، والسعودية والولايات المتحدة. فيلم آن ماري جاسر الذي يرفع الراية الفلسطينية يُداخله تمويل سعودي، وقطري، وفرنسي، وبريطاني، وسويدي، وأسترالي ونرويجي. كذلك الحال مع «كل ما بقي منك»؛ إذ بجانب نسبة تمويل أردنية هناك مشاركة سعودية، ومصرية، وقطرية، وألمانية، ويونانية وأميركية.

أما «كعكة الرئيس»، فتمويله الأساسي ورد من قطر والولايات المتحدة.


شاشة الناقد: 3 أفلام نسائية الإخراج ذات شؤون مختلفة


«والأسماك» تطير فوق رؤوسنا (أرجوان فيلمز)
«والأسماك» تطير فوق رؤوسنا (أرجوان فيلمز)
TT

شاشة الناقد: 3 أفلام نسائية الإخراج ذات شؤون مختلفة


«والأسماك» تطير فوق رؤوسنا (أرجوان فيلمز)
«والأسماك» تطير فوق رؤوسنا (أرجوان فيلمز)

والأسماك تطير فوق رؤوسنا ★★★★And the Fish Fly Above Our Heads

• إخراج: ‪ ديما الحر‬

• لبنان | تسجيلي

• عروض 2025: مهرجان مراكش

تؤلف المخرجة اللبنانية ديما الحر فيلمها الجديد من أشباح مدينة بيروت القابعة على شاطئ البحر. حين تنتقل إلى داخل تلك المدينة تكشف عن حزنها حتى من دون أن تصوّره في نماذج وقصص. يفتقد الفيلم ما كانت عليه يوماً ويلمح لما هي عليه الآن.

ما ينصبّ اهتمام المخرجة عليه هم رجال وحيدون جعلوا البحر صديقهم الوحيد. بغياب أمل ما، حلم فقد طريقه أو حب جرفته الأيام بعيداً لمدينة أو لإنسان، يُمضي رضا وعادل وعلي أيامهم على ذلك الشاطئ. لا شيء آخر يشدّهم كما البحر في صفائه أو في هيجانه. لا شيء يحرّكهم بعيداً سوى العودة إلى داخل المدينة التي تؤويهم ليلاً. لا تعرض المخرجة مشاهد لهم وهم يغادرون البحر ولا منازلهم وكيف يعيشون ومع مَن، بل تنتقل من نهار بارد إلى آخر مع رجال يرتدون لباس البحر ويستلقون فوق صخوره أو يقفزون إليه.

تتناول المخرجة بنجاح لافت هذه الشخصيات التي باتت تعيش على الهامش. يبتسمون أحياناً لكن كلماتهم لا تخفق في فتح دواخلهم الحزينة. يتذكرون وربما يضحكون أحياناً لكنه الضحك الذي يُخفي الحزن. وبينما تُمضي الكاميرا وقتاً طويلاً بصحبة هؤلاء (منفردين غالباً) تتيح كذلك النظر إلى المدينة في وصفٍ لا يحتاج إلى كلمات. كل هذا لأن «والأسماك تطير فوق رؤوسنا» ليس فيلماً عنها بل عن نماذج بشرية هجرتها الروح وأقبلت على البحر كأملٍ وحيد باقٍ.

العنوان ممتزج بمشهد مؤلَّف على نحو تجريبي جيد يعكس وصف من يغطس في الماء بعيداً إلى أن تصبح الأسماك بمنزلة طيور تحلِّق فوق رأسه. نرى البحر في لقطة تميل مقلوبة على نفسها حتى يصبح البحر فوق والمدينة تحتها. تعبير جميل لفيلم معنيّ بتعابيره متحدّثاً عن شخوص تعيش بمنأى عن كل شيء آخر.

ضع روحك على يدك وامشِ★★★★ PUT YOUR SOUL ON YOUR HAND AND WALK

• إخراج: زبيدة فارسي

‫• فرنسا | تسجيلي | ألوان (110 د) ‬

• جائزة «غولدن أثينا» في مهرجان أثينا.

مثل فيلم كوثر بن هنية «صوت هند رجب» يعمد هذا الفيلم إلى إيجاز حياة أنثى في أثناء النكبة الكبرى المتمثّلة في العدوان الإسرائيلي على غزّة. مثله أيضاً تنتهي حياة تلك الأنثى بالموت قتلاً. أكثر من ذلك، يتشابه الفيلمان في أنهما يعمدان إلى توظيف الحقائق وسردها عبر تواصل بين جهتين تتابعان ما يحدث من لحظة التقاط كل فيلم شخصيّته حتى موتها. كل ما في الأمر أن فيلم بن هنية روائيٌّ، وفيلم فارسي تسجيليٌّ.

«ضع روحك على يدك وامش» (Rêves d‪’‬Eau Produtions).

فارسي مخرجة إيرانية خرجت من السجن السياسي في إيران لانتقادها النظام عندما كانت تعمل داخل بلادها. انتقلت للعيش والعمل في باريس. بعد عدّة أفلام تناولت فيها جوانب الحياة في بلدها اختارت أن تقدّم هذا الفيلم التسجيلي القائم على ما تبادلته عبر الكمبيوتر والهاتف مع المصوّرة الصحافية فاطمة حسّونة.

لم تكن أي منهما تعلم أن حياة حسّونة ستنتهي بعد يومين من إعلان قبول الفيلم للعرض في مهرجان «كان» (حيث شهد عرضه العالمي الأول) بسبب قصف جوي نالها وأفراداً من عائلتها. لكن فاطمة، ابنة الخامسة والعشرين ومن خلال المكالمات المصوّرة مع المخرجة، تتنبأ بقرب نهايتها؛ فالموت والحياة يتجاوران كل يوم.

عنوان الفيلم مأخوذ عن عبارة تذكرها فاطمة في أحد المشاهد واصفةً حالها، وهي تسجّل بكاميرتها مدينة تم تدميرها بإمعان وقسوة. تصف حالها وحال من تراه يوماً ثم يغيب عنها في يوم آخر. فاطمة ذات ابتسامة عريضة دائمة لكن ما يتفاعل في داخلها يخرج في لحظات مؤثرة. هذا فيلم يقصد أن يبلغ رسالته على نحو مباشر لأنه لا مجال لنحو آخر.

فتاة عسراء ★★★LEFT‪-‬HANDED GIRL

• إخراج: شي-تشينغ تساو

• تايوان، فرنسا، الولايات المتحدة | دراما

• عروض 2025: ترشيحات الأوسكار.

هناك هجرة من بلد لآخر (أو من قارة لأخرى أيضاً) وهجرة داخلية من الريف إلى المدينة أو العكس. ما تختار المخرجة تساو سرده هو حال ومشكلات عائلة مؤلّفة من أم وابنتيها من قرية ريفية إلى مدينة تايباي بهدف الانتماء والعمل.

«فتاة عسراء» (Cinema Inutile)

تفتتح الأم شو (جانل تساي) مطعم «نودلز» في سوق مكتظة لكن العيش في مدينة كبيرة له تأثيران مختلفان. بالنسبة إلى الفتاة الكبرى آي آن (شي- يوان ما) تمثّل المدينة مرحلة مهمّة في حياة المراهقة التي تريد أن تعيش سنوات حياتها كما تراها: فرصة لممارسة حرّيتها. أما بالنسبة إلى آي جينغ (نينا يَ) ذات السنوات الخمس فإن الوقت مبكر جداً لكي تتأثر بعوارض الاغتراب. هي الفتاة المعنية بالعنوان التي يخبرها جدّها بأن استخدام اليد اليسرى كعادتها يُعد فعلاً شيطانياً. كونها محوراً فعلياً بين شخصيات الفيلم لا يعني أن هناك الكثير مما يقع لها. اهتمام المخرجة بها هو جزء من اهتمامها بما يقع لهذه العائلة الصغيرة والتوتر الذي يسود العلاقة بين الأم وابنتها الكبيرة.

الفيلم من كتابة وتوليف المخرج الأميركي شون باركر (أربع أوسكارات العام الماضي عن فيلمه Andora) وسبق له التعاون مع المخرجة تساو التي قامت بإنتاج بعض أعماله. يُحسن باركر توليف فيلم جيد وسريع الانتقال بين مشاهده، لكنَّ السيناريو يميل إلى ميلودرامية مفرطة ويشبه في تكوينه أفلاماً آسيوية معنية بأشكال استعراضية وبأحداث تفيض عن الحاجة من بينها نهاية غير متوقعة تبدو دخيلة.

★ ضعيف | ★★: وسط| ★★★: جيد | ★★★★ جيد جداً | ★★★★★: ممتاز


«صوت هند رجب»... من المهرجانات العالمية إلى السينما السعودية

الممثل معتز ملحيس وأمامه صورة الطفلة هند رجب في مشهد من الفيلم (أ.م.د.ب)
الممثل معتز ملحيس وأمامه صورة الطفلة هند رجب في مشهد من الفيلم (أ.م.د.ب)
TT

«صوت هند رجب»... من المهرجانات العالمية إلى السينما السعودية

الممثل معتز ملحيس وأمامه صورة الطفلة هند رجب في مشهد من الفيلم (أ.م.د.ب)
الممثل معتز ملحيس وأمامه صورة الطفلة هند رجب في مشهد من الفيلم (أ.م.د.ب)

منذ عرضه الأول في مهرجان البندقية السينمائي، وصولاً إلى عرضه الخاص في مهرجان البحر الأحمر السينمائي بجدة الأسبوع الماضي، أثار فيلم «صوت هند رجب» نقاشاً واسعاً؛ لاعتماده على الصوت بوصفه مركز التجربة السينمائية، وهو عمل توقفت عنده منصات سينمائية عالمية لكونه فيلماً يختبر قدرة مكالمة هاتفية على حمل مأساة كاملة، عبر السرد السمعي وحده.

وفي هذا الأسبوع، يصل الفيلم إلى صالات السينما السعودية ومجموعة من الدول العربية، حاملاً معه ذلك الصدى العالمي، ومطروحاً أمام جمهور جديد يترقّب عرضه يوم الخميس 18 ديسمبر (كانون الأول). الفيلم من كتابة وإخراج كوثر بن هنية، المرشحة مرتين لجوائز الأوسكار، وقد فاز بـ«جائزة الأسد الفضي» وهي الجائزة الكبرى للجنة التحكيم في مهرجان البندقية السينمائي. كما نال تكريمات في مهرجان سان سيباستيان، محققاً أعلى تقييم في تاريخ المهرجان، إلى جانب مشاركته في مهرجان شيكاغو السينمائي، مما أسهم في ترسيخ حضور الفيلم بوصفه أحد أكثر الأفلام غير الإنجليزية تداولاً خلال العام.

المكالمة الهاتفية... نقطة البداية

ينطلق «صوت هند رجب» من واقعة حقيقية شهدها قطاع غزة في يناير (كانون الثاني) 2024، حين حوصرت الطفلة الفلسطينية هند رجب، ذات الأعوام الستة، داخل سيارة تعرّضت لإطلاق نار في أثناء محاولتها الخروج من المدينة برفقة أفراد من عائلتها. ومع تعقّد المشهد الميداني، تتواصل الطفلة عبر الهاتف مع متطوعي الهلال الأحمر، فيما تتتابع محاولات التنسيق للوصول إليها. من هذه اللحظة، يتشكّل البناء السردي للفيلم، حيث يصبح الصوت مساحة الحكاية الوحيدة، ويتحوّل الانتظار إلى عنصر درامي قائم بذاته.

تختار المخرجة التونسية، كوثر بن هنية، أن تضع الهاتف في قلب التجربة السينمائية، وأن تمنح الصوت وظيفة تتجاوز كونه وسيطاً تقنياً إلى كونه حاملاً للزمن والقلق والمعنى. الكاميرا تتابع محيط الحدث، وحركة المسعفين، ومسارات التنسيق المتشابكة، فيما يبقى مركز الثقل معلقاً عند الطرف الآخر من الخط. هذا البناء يفرض على المشاهد حالة إصغاء مستمرة، ويضعه في موقع المشاركة الشعورية، حيث تتقدّم الدقائق بثقلها وتتراكم الأسئلة مع كل محاولة وصول مؤجلة.

يركز الفيلم على عجز المسعفين على إنقاذ الطفلة التي تستنجد بهم (أ.م.د.ب)

اختبار العجز الإنساني

في مقاربته الحدث، يختار «صوت هند رجب» مساراً إنسانياً يركّز على الفعل ذاته: الاستغاثة، والمحاولة، والسعي للوصول. هذا التركيز يمنح الفيلم بعداً إنسانياً، ويجعله مفتوحاً على تلقي جمهور واسع يرى في القصة اختباراً أخلاقياً لمعنى الإنقاذ حين تتشابك الظروف وتتأخر الاستجابة. هنا، تتحول السينما إلى مساحة تأمل في حدود الفعل الإنساني، وفي المسافة بين النداء والاستجابة.

كوثر بن هنية، التي راكمت حضوراً بارزاً في المشهد السينمائي الدولي خلال السنوات الماضية، تواصل في هذا العمل مشروعها الفني القائم على مساءلة العلاقة بين الواقع والتمثيل، وذلك بعد أفلام لاقت اهتماماً عالمياً مثل «الرجل الذي باع ظهره» و«بنات ألفة»، حيث تأتي هذه التجربة لتؤكد انشغالها بتحويل الوقائع المعاصرة إلى بناء سينمائي متزن، يعتمد على الشكل بوصفه مدخلاً للفكرة. ففي هذا العمل يظهر هذا الوعي في الاختزال السردي، وفي الثقة بقدرة الصوت على حمل الثقل الدرامي.

يشارك في بطولة الفيلم مجموعة من الممثلين، من بينهم سجا كيلاني، ومعتز ملحيس، وكلارا خوري، وعامر حليحل، في أدوار تتوزع بين محيط الحدث ومسارات التواصل ومحاولات التنسيق، وكل ذلك يحدث في مكان واحد، على مدى ساعة ونصف هي مدة الفيلم، حيث تتحرك الشخصيات ضمن سياق جماعي، تتكشف ملامحه عبر الأصوات وردود الفعل أكثر من الأداء القائم على الصورة.

الصوت في الصدارة

يبرز الصوت في الفيلم بوصفه الشخصية الأهم: صوت الطفلة، وأصوات المسعفين، وأصوات المتطوعين، جميعها تتحول إلى مكوّنات درامية تحمل الخوف والارتباك والأمل المؤجل... ومع امتداد التجربة من دون ذروة تقليدية، يبقى المشاهد داخل حالة توتر مستمرة تعكس طبيعة الحدث، وتمنح العمل ثقله الأخلاقي.

وخلال عرضه الخاص ضمن الدورة الخامسة من مهرجان البحر الأحمر السينمائي الدولي، حظي الفيلم بتفاعل لافت داخل القاعة الرئيسية. فالعرض، الذي اقتصر على مناسبة واحدة فقط، نفدت تذاكره سريعاً، واختُتم بوصلة تصفيق امتدت لنحو 4 دقائق، في مشهد عبّر عن حجم الأثر الذي تركته التجربة لدى الجمهور، وسط تفاعل عاطفي عكس ثقل الموضوع وطبيعة المعالجة التي يفرضها الفيلم على مشاهديه.

في سباق الأوسكار

يمثّل الفيلم الترشيح الرسمي لتونس في فئة أفضل فيلم دولي ضمن سباق جوائز الأوسكار لعام 2026، في منافسة تضم أعمالاً من 86 دولة، وهذا السياق يضع العمل ضمن مسار شديد التنافس، تتقاطع فيه القيمة الفنية مع طبيعة الموضوع ونمط التلقي، مدعوماً بخبرة مخرجته والأصداء التي رافقت عروضه الأولى.

في المحصلة، يقدّم «صوت هند رجب» تجربة سينمائية تنتمي إلى سينما الذاكرة والتوثيق الإنساني، حيث يتحول الصوت إلى أداة لحفظ الأثر، وتصبح المكالمة الهاتفية سجلاً زمنياً للحظة كاملة. ومع وصوله إلى صالات السينما السعودية، يفتح الفيلم مساحة جديدة للنقاش حول دور السينما في مقاربة المآسي المعاصرة، عبر الإصغاء، والتأمل، وتثبيت الذاكرة بوصفها فعلاً ثقافياً وإنسانياً.