الوصايا العشر لما بعد «كورونا»

كتاب فرنسي يدعو لمجتمع أكثر إنسانية محوره المواطن والتطور التكنولوجي

الوصايا العشر لما بعد «كورونا»
TT

الوصايا العشر لما بعد «كورونا»

الوصايا العشر لما بعد «كورونا»

رسم كتاب فرنسي صدر بالأسواق منذ أيام قليلة، صورة للمجتمع الفرنسي والعالم فيما بعد كارثة انتشار فيروس كورونا، مشيراً إلى أن ظلال هذه الكارثة على المجتمع الدولي لن تقتصر على الوقت الراهن، وإنما سيمتد تأثيرها بقوة في المستقبل، أي إننا بصدد عهد جديد مختلف يسمي بـ«عهد ما بعد كورونا»، يجب على الجميع الاستعداد له، والتعاطي مع ما يفرضه من متغيرات جديدة.
الكتاب الذي يعد الأول من نوعه صدر عن دار «روبير لافون» بعنوان «وماذا بعد كوفيد - 19؟ الوصايا العشر لعقد إنساني جديد»، يقع 170 صفحة من القطع المتوسط. ويؤكد مؤلفاه فريدريك لفيبفر، وزير سابق للتجارة، وبيرنارد شوسجرو، وهو خبير في قانون الشركات والعمل، على أن الأزمة الصحية غير المسبوقة التي نشهدها اليوم على خلفية انتشار فيروس كورونا المستجد قد كشفت إخفاقات المجتمع الفرنسي، إلا أنها في المقابل زادت من الوعي المجتمعي، وكشفت عن فرص مدهشة يوضحها الكتاب عبر صفحاته في إطار الاستعداد لعهد ما بعد «كورونا»، ومن أبرز هذه الفرص: العمل على إنهاء التبعية الاقتصادية والتكنولوجية للمجتمع الفرنسي، والمضي قدماً نحو الحوكمة، وإضفاء الطابع الإنساني على المجتمع لأنه أقل تدميراً لموارده، وتفعيل نطاق الشراكات بين القطاعين العام والخاص، والبعد تدريجياً عن العمل الإلكتروني الذي جاء على حساب دور العنصر البشرى الذي يتعين دمجه في قلب الاقتصاد الفرنسي في إطار إعادة صياغة الأولويات الرئيسية للدولة.
ويرى الكتاب أنه «قد حان وقت إحداث تغيير جذري في الاقتصاد الفرنسي يساهم المواطن فيه، ويكون هو جوهر الأمر»، داعياً إلى التوجه نحو مجتمع أكثر إنسانية وأقل تدميراً للموارد، لأنه في ضوء العولمة والعمل الإلكتروني الكامل، تراجع البعد الإنساني، وانعكس سلباً على المجتمع ككل.
يشدد الكتاب على أن جوهر التغير المنشود يكمن في إحداث تحول اجتماعي عميق، وتبني بعض المفاهيم الجوهرية مثل الترقب والوقاية، بالإضافة إلى ضرورة تبني عقد إنساني جديد ودائم، لأنه هو فقط الكفيل بضمان استقرار وسلامة المجتمع في ضوء المتغيرات المفروضة علينا في ظل انتشار فيروس كورونا المستجد.
ومن واقع خبرتهما السياسية والقانونية والعملية، يدعو مؤلفا الكتاب إلى حسن الاستفادة من الأزمة الراهنة، التي وصفها الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، بـ«الحرب الصحية»، ويوضحان أنه مع كل أزمة تولد فرصة، لأن عقول الأفراد تكون خلال وقت الأزمة أكثر انفتاحاً وتقبلاً لتغيير قناعتها، وأن العادات التي ينتهجونها الآن لم تنجح في الحيلولة دون حدوث الأزمة التي يجابهونها. ومن ثم تكون عقولهم بمثابة عقلية المحارب المرن في تعامله مع عدوه، هذا مع ضرورة التأكيد على أهمية تنوع مصادر دخل الدولة واعتماد اقتصادها على مصادر مختلفة بنسب ومعدلات متباينة، حتى يكون الاقتصاد قادراً على امتصاص الأزمات وتحمل تبعاتها المختلفة، هذا مع تعظيم الاستفادة من التطور التكنولوجي في المجال الاقتصادي بما يعزز من شأنه دور الفرد في قلب الاقتصاد وليس تهميشه، وأيضاً على المواطن ضرورة تنويع مصادر دخله، والاعتماد بشكل أكثر فاعلية على التعامل عبر «الإنترنت»، والعمل الإلكتروني من المنزل، بما ينعكس إيجاباً على وضعه الاقتصادي، ويحدث تنوعاً في مصادر دخله، الأمر الذي ينعكس إيجاباً أيضاً على الاقتصاد الكلى للدولة، ويحصن المواطن من الآثار السلبية للأزمات، ويجعله قادراً على تحملها وتجاوزها بأقل قدر ممكن من الخسائر.
ويدعو الكتاب إلى تعظيم مبدأ «روح الفريق»، واتخاذ القرار بشكل جماعي وتشاوري، وليس فردياً، ليكون مبنياً على قاعدة واسعة من الرؤى والأفكار المتباينة لضمان حسن فاعليتها وقدرتها على تجاوز الأزمة، هذا مع التشديد على البعد عن الانعزالية وقت الأزمة، خصوصاً حال اتخاذ القرار.
ويرى المؤلفان أن تداعيات الأزمة «تفرض علينا التفكير ملياً في تحقيق اكتفاء ذاتي من المنتجات الزراعية، ليس فقط على مستوى الدولة ككل، ولكن أيضاً على مسار المدن والمقاطعات الرئيسية المختلفة لتقليل معدل التنقل وقت الأزمات قدر المستطاع».
ويشددان في هذا السياق على ضرورة الاستفادة من التطور التكنولوجي الحديث في مجال الزراعة مثل نظام «الأكوابونيك»، الذي يعد أحد نظم الزراعة المستدامة، مع استخدام تطبيق ذكي مسؤول عن ثلاثة محاور. يكمن الأول في التأهيل على استخدام الآليات الحديثة للزراعة عبر الإنترنت، بينما يعتمد المحور الثاني على التنسيق والإدراك، ويركز المحور الثالث على الإدارة والتنسيق بين المراحل المختلفة واحتياجات المدن من الإنتاج الزراعي، وتحديد الأولويات بهدف تحقيق الاكتفاء الذاتي من الغذاء للمدن. وهذا «التطبيق الذكي» لا يهدف فقط لإنتاج الغذاء والاستهلاك، ولكن أيضاً إلى ضمان إنتاج غذائي يتمتع بالاستمرارية مع ضمان المعدل الكمي المناسب.
بالإضافة إلى ذلك، يؤكد مؤلفا الكتاب على أن إنتاج الخضروات والأسماك عن طريق نظام «الأكوابونيك» لا يعد هدفاً في حد ذاته، ولكن يأتي ضمن السعي لتحويل هذه المنتجات وتصنيعها إلى منتجات أخرى لتحقيق اكتفاء ذاتي من الغذاء، فمثلاً يتم تحويل المنتجات الزراعية إلى صناعات مختلفة ومتنوعة تلبية لمتطلبات الاستهلاك وطبيعته. كما أنه يمكن الاستفادة من مخلفات الأسماك التي يتم تربيتها أسفل أحواض النباتات في تسميد النباتات، لتتمتع بالصفة العضوية ما ينعكس إيجاباً على قدرتها الإنتاجية.
ويسوق الكتاب بعض الحقائق العلمية الخاصة بهذا النوع من الزراعة، إذ توفر ربع احتياجات النباتات من المياه، فمثلاً يحتاج كل كيلو طماطم إلى 60 لتراً من المياه في الأسلوب الزراعي العادي، أي الأسلوب «المفتوح»، بينما يتطلب إنتاج كيلو الطماطم 15 لتراً فقط في نظام الزراعة المغلق، أي نظام «الأكوابونيك».
ويخلص مؤلفا الكتاب إلى التأكيد على أن مجتمع ما بعد «كورونا» سيتسم بدور أوسع للعنصر البشري، مع حسن الاستفادة من التطور التكنولوجي، هذا مع ضرورة إنهاء التبعية والهيمنة الصناعية والزراعية والتكنولوجية، ليس فقط على مستوى الدول، ولكن أيضاً داخل القطر الواحد، أي بين المدن والولايات الرئيسية.


مقالات ذات صلة

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

ثقافة وفنون «أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

في كتابها «رحِم العالم... أمومة عابرة للحدود» تزيح الكاتبة والناقدة المصرية الدكتورة شيرين أبو النجا المُسلمات المُرتبطة بخطاب الأمومة والمتن الثقافي الراسخ

منى أبو النصر (القاهرة)
تكنولوجيا شركات الذكاء الاصطناعي تتفق مع دور النشر بما يتيح لهذه الشركات استخدام الأعمال المنشورة لتدريب نماذجها القائمة على الذكاء الاصطناعي التوليدي (رويترز)

شركات الذكاء الاصطناعي التوليدي تلجأ إلى الكتب لتطوّر برامجها

مع ازدياد احتياجات الذكاء الاصطناعي التوليدي، بدأت أوساط قطاع النشر هي الأخرى في التفاوض مع المنصات التي توفر هذه التقنية سعياً إلى حماية حقوق المؤلفين.

«الشرق الأوسط» (باريس)
يوميات الشرق كاميلا ملكة بريطانيا تحصل على الدكتوراه الفخرية في الأدب بحضور الأميرة آن (رويترز)

قدمتها لها الأميرة آن... الملكة كاميلا تحصل على دكتوراه فخرية في الأدب

حصلت الملكة البريطانية كاميلا، زوجة الملك تشارلز، على الدكتوراه الفخرية؛ تقديراً لـ«مهمتها الشخصية» في تعزيز محو الأمية.

«الشرق الأوسط» (لندن)
كتب سوزان بلاكمور وابنتها أميلي تروسيانكو  أثناء حفل توقيع كتاب "الوعي: مقدمة"

الشبحُ في الآلة

شغل موضوع أصل الأشياء The Origin مكانة مركزية في التفكير البشري منذ أن عرف البشر قيمة التفلسف والتفكّر في الكينونة الوجودية.

لطفية الدليمي
كتب سيمون سكاما

قصة اليهود... من وادي النيل حتى النفي من إسبانيا

يروي الكاتب البريطاني اليهودي «سيمون سكاما»، في كتابه «قصة اليهود»، تفاصيل حياة اليهود ابتداءً من استقرارهم في منطقة الألفنتين

سولافة الماغوط (لندن)

الشبحُ في الآلة

سوزان بلاكمور وابنتها أميلي تروسيانكو  أثناء حفل توقيع كتاب "الوعي: مقدمة"
سوزان بلاكمور وابنتها أميلي تروسيانكو أثناء حفل توقيع كتاب "الوعي: مقدمة"
TT

الشبحُ في الآلة

سوزان بلاكمور وابنتها أميلي تروسيانكو  أثناء حفل توقيع كتاب "الوعي: مقدمة"
سوزان بلاكمور وابنتها أميلي تروسيانكو أثناء حفل توقيع كتاب "الوعي: مقدمة"

شغل موضوع أصل الأشياء The Origin مكانة مركزية في التفكير البشري منذ أن عرف البشر قيمة التفلسف والتفكّر في الكينونة الوجودية. الموضوعات التأصيلية الأكثر إشغالاً للتفكير البشري منذ العصر الإغريقي ثلاثة: أصل الكون، أصل الحياة، أصل الوعي.

الوعي بين هذه الموضوعات الثلاثة ظلّ اللغز الأكثر إثارة ورهبة واستجلاباً للأسطرة والمقاربات غير العلمية، وربما تكون عبارة «الشبح في الآلة The Ghost in the Machine» التي شاعت منذ أيام الفلسفة الديكارتية تمثيلاً للوعي تتفق مع ثنائية العقل-الجسد The Mind-Body Duality. بمقتضى هذه الثنائية الديكارتية يكون الوعي كينونة غير مادية (الشبح) وقد استوطن في كينونة مادية (الآلة أو الجسد البشري).

فضلاً عن الأهمية الفلسفية لدراسة الوعي فقد صارت المقاربات العلمية في هذه الدراسة تتعاظم يوماً بعد آخر بسبب ارتباطها العضوي مع موضوعات عظيمة الأهمية في مقدّمتها مباحث الذكاء الاصطناعي بكلّ تفريعاته (الذكاء الاصطناعي العام، تعلّم الآلة، الشبكات العصبية...)، بعبارة أخرى: صار الوعي موضوعاً يقع في صميم الجهد البحثي الذي تتأسّس عليه القيمة الجيوستراتيجية للدولة المعاصرة. أمرٌ آخر تتوجّب الإشارة إليه: الوعي بطبيعته جهد بحثي عابر للتخصصات؛ لذا فهو يتناغم مع طبيعة المباحث العلمية المميزة لعصرنا.

لكن، بعيداً عن الأسباب البحثية والاستراتيجية، لماذا يتوجّبُ على كلٍّ منّا أن يهتمّ بأمر الوعي على مستوى شخصي بمقدار قد يزيد أو ينقص بين الأفراد؟ أوّلاً يتوجّبُ علينا الانخراط في هذا المسعى لأنّ الوعي بصورة جوهرية هو الشيء الأساسي الذي يعرفه كلٌّ منّا بشأن العالَم، أو هو بوّابته إلى العالم، وأعني بهذه البوّابة: التجارب الحسية Sensory Experiences، ومن الطبيعي أنّ كلاً منّا يتوق لأن يفهم -بكيفية علمية منسّقة ومنضبطة وليس بتفكّرات شخصية متناثرة- لماذا يعدّ الوعي البوّابة الأساسية لتجاربنا في العالم. يحبّ كلّ منّا هذا المسعى ولا يرغب في جعله اختصاصاً حصرياً للفلاسفة وعلماء الأعصاب ومطوّري الذكاء الاصطناعي بكلّ متفرّعاته. ثانياً: دراسة الوعي في غاية الأهمية أيضاً في جوانب الغاية Purpose والمعنى Meaning في حياتنا البشرية. ليس في قوانين الفيزياء ما يشيرُ إلى المعنى، وليس مِنْ معادلة لحساب المعنى في تلك المعادلات. لا أظنّ -وسيتشارك معي كثيرون كما أحسب- أنّ الاكتفاء بالتطلّع في كوننا يمنحنا معنى لحياتنا هو ما يحقّقُ فعلاً هذا الأمر؛ لأننا نحن من يخلعُ المعنى على كوننا. يحصل هذا الأمر لأننا نمتلك الوعي الذي يتيحُ لنا اختبار الأشياء والتعامل معها. لدينا هنالك بعيداً في تخوم الكون البعيدة مجرّات كثيرة العدد وجميلة بما يفوق التصوّر. لماذا هي جميلة؟ لأنّنا واعون بها. هي صارت جميلة لأننا نمتلك وعياً يخبرنا أنها جميلة. أعيد القول ثانية: الوعي هو ما يخلعُ معنى وغاية على الحياة.

الدراسات الخاصة بالوعي

يُنظرُ في الأوساط الأكاديمية العالمية إلى سوزان بلاكمور Susan Blackmore على أنّها مؤلفة الكتاب المرجعي في دراسة الوعي، وأقصدُ بهذا كتابها الشائع بين دارسي علم النفس والعلوم العصبية والإدراكية وفلسفة العقل والذكاء الاصطناعي، وأشيرُ بهذا إلى كتابها الموسوم «الوعي: مقدّمة Consciousness: An Introduction» الذي صدرت طبعته الرابعة عن دار نشر «راوتليدج Routledge» قبل بضعة شهور. سوزان بلاكمور عالمة نفس وكاتبة حرة ومحاضرة جامعية بريطانية، ألّفت الكثير من المقالات العلمية وأسهمت في تأليف عددٍ من الكتب. تكتب في مجلات وصحف كثيرة، وكثيراً ما تشارك في برامج إذاعية وتلفازية في المملكة المتحدة أو خارجها. قدّمت الكثير من البرامج التلفازية التي نالت شهرة واسعة بما في ذلك برنامجٌ وثائقيٌ حول ذكاء القردة. من بين كتبها الأخرى سيرة ذاتية بعنوان: «بحثاً عن النور» 1996، و«حوارات عن الوعي» 2005.

ما يميّزُ كتاب بلاكمور هو جمعها بين الخبرة الأكاديمية وتقنيات التعامل مع النطاق العام، فهي معروفة باهتمامها بموضوعات التأمّل والامتلاء الروحي والذهني والباراسايكولوجيا، وقد أفردت كتاباً كاملاً للحديث عن تجربة شخصية خاصة بها شهدت فيها ما تُدعى تجربة مغادرة الجسد Out of Body Experience، وقد حكت عن هذه التجربة في سيرتها الذاتية.

الخصيصة الثانية في كتابها هو مشاركة ابنتها لها في تأليف الكتاب، وتلك علاقة نادرة للغاية بين المؤلفين. لن نتغافل بالتأكيد عن النكهة الفلسفية الأنيقة التي طبعت لغة الكتاب (مثل تناول الإرادة الحرّة وعلاقتها بالوعي)، وهذا أمرٌ متوقّعٌ فيمن يكتب عن موضوع الوعي.

ثمّة موضوعان علينا الانتباه إليهما عند دراسة الوعي: هل سنبلغُ يوماً مرحلة الفهم العلمي الكامل للوعي؟ تؤكّد بلاكمور: لا أظنّ ذلك. الفرق بين حيوان حيّ وآخر ميّت ليس محض فرق نوعي يكمنُ في أنّ الحيوان الحيّ (الإنسان على سبيل المثال) يمتلك نوعاً من مصدر للحياة السرية فيه (بكلمة أخرى: الوعي). الحيوانات الحيّة ميكانيزمات فعّالة دينامية دائمة التغيّر؛ في حين أنّ انكساراً أصاب ميكانيزمات الحركة والتغيّر في الحيوانات الميتة.

تكمن صعوبة وتعقيد دراسة الوعي في حتمية اقتران دراسة الشيء مع موضوع الدراسة؛ بمعنى آخر: استخدام الوعي في دراسة الوعي ذاته! يحضرني هنا مثالاً عبارةٌ قالها جون ناش في الفيلم السينمائي الرائع الذي يحكي سيرته الذاتية «عقل جميل». أخبر ناش طبيبه أنّه سيستخدم عقله في علاج اضطرابه الذهاني، فأجابه طبيبه: ولكن كيف تعالجُ نفسك بما هو المتسبّبُ في مرضك؟ لن تستطيع هذا. في السياق ذاته تصف بلاكمور صعوبة دراسة الوعي وتعريفه فتقول:

«يبدو أنه يَلزمنا إما أن نستخدم الوعي لدراسته هو نفسه، وهي فكرة غريبة نوعاً ما، وإما أن نحرِّرَ أنفسَنا من الوعي الذي نودُّ دراستَه. ولا عجب أن الفلاسفة والعلماء قد بذلوا جهوداً مضنيةً على مدى قرنين من الزمان من أجل الوصول إلى مفهوم الوعي، ولا عجب أيضاً أن العلماء رفضوا الفكرةَ برمَّتها لفترات طويلة؛ بل رفضوا أيضاً دراستَها. الانعطافة الإيجابية أنّ «الدراسات الخاصة بالوعي» أخذَتْ في الازدهار بدءاً من القرن الحادي والعشرين. وصل علم النفس وعلم الأحياء وعلم الأعصاب إلى نقطةٍ يمكن عندها مواجَهةُ بعضِ الأسئلة المحيِّرة على غرار: ما الذي يفعله الوعيُ؟ وهل كان لنا أن نتطوَّر من دونه؟ وهل يمكن أن يكون الوعي وَهْماً؟ وما الوعي على أي حال؟».

تؤكّدُ بلاكمور منذ البدء أنّ ازدهار الجهد البحثي للوعي في القرن الحادي والعشرين لا يعني أنّ الغموض الذي يكتنفه قد اختفى تماماً؛ فالواقع أنه لا يزال متغلغِلاً في هذا الأمر كما كان دائماً. الفرق الآن أننا نعرف عن الدماغ ما يكفينا للاستعداد لمواجَهةِ المشكلة البحثية التالية على نحوٍ مباشِرٍ: كيف يمكن لإطلاق النبضات الكهربائية من ملايين الخلايا العصبية الدماغية أن يُنتج تجربةً واعية ذاتية شخصية؟ إذا أردنا إحرازَ أيِّ تقدُّم فيما يتعلَّق بفهم مسألة الوعي فعلينا التعامُل مع هذا الأمر بجدية تامة. هناك كثير من الأشخاص الذين يدَّعُون أنهم قد وجدوا حلًّاً للغز الوعي؛ فهم يقترحون نظرياتٍ موحِّدةً عظمى، ونظرياتٍ ميكانيكيةً كموميَّة، ونظرياتٍ روحانيةً حول «قوة الوعي»، وغيرها الكثير؛ لكنّ أغلبهم يتجاهلون الفجوةَ العميقة بين العالمين المادي والعقلي.

بعد مقدّمة وتمهيد ابتدائي لموضوع الكتاب (الوعي) اختارت المؤلفّة جعل كتابها موزّعاً في خمسة أقسام، كلّ قسم منها يضمُّ ثلاثة فصول: تناول القسم الأوّل معضلة الوعي تعريفاً ومناظرةً مع مفاهيم أخرى، ثمّ تناولت الوهم الكبير The Grand Illusion في التعامل مع ظاهرة الوعي. في القسم الثاني تناولت موضوع الدماغ بوصفه الحاضنة الطبيعية (مسرح العمليات بلغة المؤلفة) للوعي، وقد أفاضت في شرح العلاقة الوثقى بين دراسة العلوم العصبية وظاهرة الوعي. خصّصت المؤلفة القسم الثالث لتناول موضوع العقل والفعل، وتناولت في القسم الرابع موضوع التطوّر ومنعكساته المهمّة على ظاهرة الوعي، ثمّ تناولت في القسم الخامس الحدود التخمية Borderlands بين الوعي وظواهر أخرى على شاكلة: أشكال الوعي المعدّلة، الواقع والخيال، والأحلام وما بعدها. أما القسم السادس والأخير فتناولت فيه المؤلّفة موضوع «الذات والآخر»؛ فكانت النكهة الفلسفية بيّنة فيه. ألحقت المؤلفة كتابها بسلسلة مصادر مرجعية ضخمة ومتعدّدة امتدّت على عشرات الصفحات من الكتاب.

كتاب بلاكمور هذا قراءة شيّقة رغم رصانته الأكاديمية ومشقّة موضوعه؛ لكنّ من يرغب في قراءة أقلّ تطلباً للجهد والوقت والتفاصيل الصغيرة فيمكنه الرجوع إلى كتاب المؤلفة ذاتها والصادر عن جامعة أوكسفورد بعنوان «الوعي: مقدّمة قصيرة جداً»، وتوجد له ترجمة عربية متاحة بالمجّان على شبكة التواصل العالمية (الإنترنت).

Consciousness: An Introduction

الوعي: مقدمة

المؤلّفتان: Susan Blackmore & Emily Troscianko

سوزان بلاكمور وأميلي تروسيانكو

سنة النشر: 2024

دار النشر: Routledge ) Taylor & Francis Group )

عدد الصفحات: 766 الوعي بصورة جوهرية هو الشيء الأساسي الذي يعرفه كلٌّ منّا بشأن العالَم... أو هو بوّابته إلى العالم