رغم التمايز في المواقف السابقة، نجح الرئيس الفرنسي والمستشارة الألمانية في الاتفاق على خطة لإعادة إنهاض الاقتصاد الأوروبي الذي أصابته موجة الوباء في الصميم. وتوصل إيمانويل ماكرون وأنجيلا ميركل في اجتماعهما عن بعد أمس إلى ردم الهوة بين موقفين متباعدين، وبيّنا مجدداً أن فرنسا وألمانيا ما زالتا القاطرة التي تشد العربة الأوروبية. والتحدي اليوم بالنسبة للمسؤولين، أن يتوصلا إلى إقناع بقية أعضاء الاتحاد الأوروبي بقبول اتفاقهما القائم على توفير مبلغ 500 مليار يورو تستدينه المفوضية الأوروبية باسم جميع الدول الأعضاء، وأن يوزع لاحقاً على الدول والمناطق والقطاعات الأكثر تأثراً بتبعات «فيروس كورونا». وهذا المبلغ يجب أن يضاف إلى «خطة الطوارئ» التي أقرها وزراء المالية والاقتصاد ووافق عليها القادة المعنيون في قمتهم في 26 مارس (آذار) الماضي في بروكسل، وهي بقيمة 540 مليار يورو من القروض المتأتية من تفعيل «آلية الاستقرار الأوروبية» ومن صندوق ضمانات القروض والصندوق الأوروبي لمواجهة البطالة. وفي حال قبل مقترح ماكرون - ميركل، يكون الاتحاد الأوروبي قد وفر أكثر من ألف مليار يورو لمواجهة الخسائر الضخمة غير المسبوقة التي أصابت اقتصاده من جهة، ومن جهة ثانية، الاتكاء على هذا المبلغ الضخم لإعادة إطلاق الاقتصاد المنكوب الناتج من توقف الجدولة الاقتصادية ومواجهة المؤسسات والشركات أوضاعاً مالية بالغة الخطورة. وأكثر من ذلك، تتعين إضافة هذا المبلغ إلى ما أقرته الحكومات الأوروبية كافة على الصعيد الوطني. ويحذر الخبراء الاقتصاديون من موجات إفلاس ستضرب آلاف الشركات، ومن ملايين العاطلين عن العمل حديثاً الذين سينضمون إلى القافلة الكبرى من الباحثين عن فرص عمل ومن تأثير الكساد الاقتصادي الذي تقدر مراكز الأبحاث أنه قد يصل إلى 10 في المائة في الفضاء الأوروبي.
يعتبر الطرف الفرنسي أنه نجح في «تحريك» الجانب الألماني من المتراس الذي كانت ترابط داخله، وهو رفض التشارك في المديونية الجماعية ورفض مقترح «كورونابوندز» الذي طرحته في بروكسل بلدان مثل إيطاليا، وإسبانيا، وفرنسا، والبرتغال بدعم من اليونان وقبرص. وبالفعل، فإن ميركل عدلت موقفها وتخلت عن معارضتها السابقة، لكن لم تذهب لحد القبول بما كان مقترحاً سابقاً، بل قبلت أن تقوم المفوضية الأوروبية باقتراض 500 مليار يورو من الأسواق المالية؛ ما يعني المشاركة في المديونية وأن يتم تسديد الديون من الميزانية المشتركة. ويعني هذا عملياً أنه لن يكون على كل دولة غرفت من «الصندوق المشترك» أن تفي دينها، بل إن التسديد سوف يتم من الميزانية الأوروبية التي يشارك بها كل عضو وفق حصة «كوتا» معينة ومحددة سلفاً. ووفق هذا التصور، ستساهم الدول المدينة في تسديد ديونها، لكن لن يكون ذلك مساوياً بالضرورة لما استدانته. وعملياً، تكون هذه الدول قد استفادت من «تضامن» الآخرين معها وهو ما كانت تطالب به منذ اندلاع أزمة «كوفيد – 19».
بيد أن ما تحقق على الصعيد الثنائي «الفرنسي ــ الألماني» لن يصبح واقعاً إلا بعد أن يقر على مستوى الاتحاد ككل. والحال أن النمسا بادرت مباشرة بعد الإعلان عنه إلى التعبير عن رفضها بينما رحبت به إيطاليا وإسبانيا واعتبره رئيس الوزراء الإيطالي «خطوة أولى» في الطريق الصحيحة. وسيكون على ميركل وماكرون إقناع الدول المترددة والمتمثلة بـ«مجموعة الشمال» التي كانت تضم، إلى جانب ألمانيا، هولندا، والدنمارك، ودول أوروبا الشمالية وبعض دول وسط وشرق أوروبا وعلى رأسها النمسا. واعترف ماكرون في المؤتمر الصحافي المشترك مع ميركل عقب اجتماعهما، بأنه «لن نصل إلى اجتماع (القمة المرتقب) متأبطين خطة منتهية وتحظى بالإجماع» ما يعني أن صعوبات تنتظر الثنائي. ولا يستبعد أن تخضع الخطة إلى تعديل أو أن توضع شروط للاستفادة من القروض وأخرى خاصة بالتسديد.
انطلاقاً من هذا الواقع، يتوقع المراقبون عمليات لي ذراع في القمة الأوروبية القادمة، كما أنهم سيرصدون ما إذا كانت مقترحات المفوضية الأوروبية تستعيد تماماً مضمون الاتفاق الألماني - الفرنسي لجهة الآلية «عبر المفوضية» وقيمة الصندوق وشروط إعطاء القروض والمساعدات. وبحسب مطلعين على تفاصيل المداولات التي استولدت الاتفاق الثنائي، فإن مسألة حساسة ستكون موضع جدال خلال القمة الأوروبية القادمة؛ إذ إن «مجموعة الشمال» أصرت دوماً على أن المساعدات ستكون بشكل قروض يتعين على الدول المستفيدة منها إيفاءها ولن تكون بشكل من الأشكال بمثابة «هبات». وهكذا، ستكون شروط الإيفاء وزمنيته وأوجه صرف القروض موضع تنازع؛ إذ إن هناك تياراً أوروبياً يريد أن يربط القروض بالأجندة البيئوية والانتقال من استخدام الطاقة الملوثة إلى الطاقة النظيفة في حين تترد دول أخرى في قبول شروط كهذه.
وبعد موافقة القادة على الخطة، يتعين نقلها إلى البرلمان الأوروبي ليصوت عليها. وينتظر الجميع ما ستقترحه رئيسة المفوضية الأوروبية الألمانية أورسولا فان دير لايين يوم 27 من مايو (أيار) الحالي الذي على أساسه ستدور مناقشات رؤساء الدول والحكومات الأوروبية بداية الشهر المقبل. ولخص البيان الفرنسي - الأماني المشترك ما تحقق كالتالي: أن باريس وبرلين «تدعمان إنشاء صندوق طموح، مؤقت ومحدد الهدف غرضه توفير الدعم من أجل انتعاش دائم يعزز النمو (الاقتصادي) للاتحاد الأوروبي»، وذلك في إطار الميزانية القادمة للاتحاد. وأضاف البيان، أنه سوف يتم بعد ذلك تحويل هذه الأموال كـ«نفقات في الموازنة» إلى الدول الراغبة وإلى «القطاعات والمناطق الأكثر تضرراً».
حقيقة الأمر، أن الاتفاق لا يرقى لمستوى مطلب «اليوربوندز» الذي رفضته مجموعة الشمال. إلا أنه يقترب منها كثيراً من حيث إن الاستدانة أصبحت جماعية وسوف تتم باسم المفوضية الأوروبية. ووصف الرئيس الفرنسي هذا التطور الذي كانت بلاده تدفع باتجاهه منذ انطلاق أزمة الوباء وتبعاتها الاقتصادية غير المسبوقة بأنه «مرحلة مهمة» في تاريخ القروض الأوروبية. وإذا كان التمويل وكيفيته «حصولاً وإيفاءً» شكّل أساس الاتفاق، فإن ميركل وماكرون اتفقا على «أولوية» التنسيق الصحي بين دول الاتحاد وإنشاء ما سماه «أوروبا الصحية» وتوفير «مخزونات استراتيجية»، عبر مخزونات مشتركة من الكمامات والفحوص وقدرات شراء مشتركة ومنسقة للعلاجات واللقاحات، وخطط للوقاية من الأوبئة ووسائل مشتركة لإحصاء الحالات». وتم التفاهم أيضاً على تعزيز «السيادة الاقتصادية» ومنها الصحية عن طريق تخفيف الاعتماد على الصين. ودعت باريس وبرلين الاتحاد الأوروبي إلى العمل على إنشاء آلية رقابة على الاستثمارات الخارجية في القطاعات الاستراتيجية مثل الصحة والدفاع والطاقة. والخوف الأوروبي أن تستفيد مجموعات أجنبية من الضعف المالي الذي تعاني منه الكثير من الشركات العاملة نتيجة للوباء لتضع اليد عليها.
خطة ماكرون - ميركل لإنعاش الاقتصاد أمام تحدي إقناع القادة الأوروبيين
تساؤلات حول شروط الاستفادة من الـ500 مليار يورو والتسديد
خطة ماكرون - ميركل لإنعاش الاقتصاد أمام تحدي إقناع القادة الأوروبيين
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة