شعرية الضحك و«اللحظات الحميمة»

عبد الحفيظ طايل في ديوانه «عائلة يموت أفرادها فجأة»

شعرية الضحك و«اللحظات الحميمة»
TT

شعرية الضحك و«اللحظات الحميمة»

شعرية الضحك و«اللحظات الحميمة»

تهيمن شعرية «اللحظات الحميمة» على أجواء ديوان «عائلة يموت أفرادها فجأة» للشاعر عبد الحفيظ طايل، حيث يذهب للشعر وكأنه خفقات أجنحة، وجريمة بيضاء تبحث عن شر عاقل يرتكبها بحنكة أكثر بياضاً في فضاء اللغة والحياة. هكذا يطالعنا المعنى في الديوان الصادر حديثاً عن دار «ميريت» بالقاهرة، وهو معنى لا يخلو من مراوغة ملتبسة تعززها لطشة زمنية مباغتة تأتي على سبيل التوكيد المباغت (فجأة)، حول واقعة مفترضة ومتخيلة، تاركة الدلالة تراوح في دورانها فنيّاً بين الواقع والخيال.
يتسع فضاء هذه المراوحة في الديوان بصفحاته الـ88، وفي مشهدية متوترة صاخبة في العمق، هادئة فوق السطح؛ يتنوع إيقاعها بدفق اللحظات الحميمة ملامساً مناخات القرية والمدينة، الأسرة والعائلة والأصدقاء، فيكتب عن «عمتي سميحة» و«ستي خضرة»، وضحكَتَيْ صديقه وأخيه، ويكتب عن الثورة والتمرُّد ومتاهة الواقع.
يتشكل ذلك المزيج الإنساني الحميم من خلال عنوانين رئيسيين ينفتحان على تخوم النهايات والبدايات، كل عنوان بمثابة كتلة شعرية، تنضوي تحتها مجموعة من النصوص، تتراوح ما بين الومضة الخاطفة والنص الطويل نسبيّاً... ويبدو أن الشاعر قصد من خلال هذا البناء الاعتماد على ما يمكن تسميته «مراوحة الأضداد»، التي تتجسد ما بين العنوان الأول «البعوضة الضخمة التي خطفت أكياس المعرفة»، والثاني «الأشياء لم تزل على حالها»، فكلاهما يضمر شكلاً من المراوحة بين الحركة والسكون، تتجسد الحركة في فعل الخطف، والفاعل «البعوضة الضخمة»، بينما تجسّد «أكياس المعرفة» رمزيّاً «المصير الإنساني»، في تشتته بين ما هو كائن بالفعل، وما يجب أن يكون. ويكشف النص عن حالة من العبث تشتبك فيها الفانتازيا بروح المزاح والتهكُّم والسخرية، فيما يبرز الولع بالموسيقي والغناء كمحاولة لإكساب الكائن البشري معنى الخفة والتحليق والأمل... تحت وطأة هذه المفارقات يقول النص:
«يخبئ نطفاً
سرقها من حبال الغسيل
ومن محطات إعادة تدوير المياه
وعويل الريح الذي نسمعه
هو صراخ أجنَّة محرومة من لعب الأطفال
المعروضة في الفتارين».
ثمة أحساس ساخر بالمرارة والحرمان من تحوُّل جوهر الحياة إلى مادة هشة قابلة للسرقة وإعادة التدوير، ويبدو النص وكأنه هو الذي يمارس هذا التلصص على نفسه، من نافذته الخاصة ونافذة الخارج معاً، في محاولة لاستجلاب ضحكة مفتَقَدة ومهزومة تتناثر فوق حواف الذكريات واللحظات الحميمة المنقضية... إنها الضحكة الشارة والعلامة، تتراءى كسؤال عصي عن الإجابة والطرح، لكنه يمشي في طوايا الداخل محمَّلاً بانكسارات الذات وآلامها... يمشي كأغنية شجية أحياناً، وكمرثية لم تنضج بعدُ، أحياناً أخرى... يقول الشاعر في النص الذي وسم العنوان:
«كانوا يضحكون
يلقون النكات ويضحكون
يتوسَّطُهم طبق فاكهة وإبريق شاي
وبينما يضحكون يصعد أحدهم بيسر
كأنما صعد مع أبخرة الشاي
وكان المارة يميزونهم بضحكاتهم
ثمة ضحكة مكتومة
ضحكة للداخل
كزغرودة
ترنّ في فضاء القلب
ضحكة واضحة
ثمة ضحكة بالعين الوسيعة
ملؤها فدان قطن
ولا تصدر صوتاً
وكان المارة كلما مرَّت لحظة صمت
قالوا: إنه يضحك
كانوا كلما غابت ضحكة
عرفوا مَن صَعَد».
يبدو الضحك هنا، وكأنه رحلة صعود فوق حجر الموت، متخففاً من أعباء الحياة وضغوطها، بل من أعباء الضحك نفسه، حين يصبح مجرد صدى للصمت. وتشف اللغة عن تراسلات بصرية لافتة، مسكونة بروح الحكاية، بينما تتواتر حركة الداخل والخارج وكأنها محاولة للإمساك بالزمن في ضحكة، تتناثر في زوايا المشهد، بإيقاع كتوم، لكنه يضفي على فعل الصعود معنى السر، والحقيقة المضطربة الناقصة دوماً، حقيقة العائلة التي لم تعد أبخرة الشاي والضحكات تدل عليها.
لكن... ما الذي يمكن أن يؤنس الروح، وينتشلها من هذه العتمة؟! هنا تؤكد الذات الشاعرة على الخلاص بالموسيقى والغناء، فالأشياء مستقرة في ظلالها، تدور على نفسها ببطء... هكذا تبدو أجواء القسم الثاني من الديوان، وتطل من هذا النص:
«أغني قليلاً قبل دخولي البيت
أرفو نصيحتين ألقاهما صديق
وأغني
ليس للهواء نافذة تطل عليه
ربما سلم طائرة
أغني قليلاً
ربما أوقف حريقاً
سوف ينشب في الطريق إلى البيت
أو أجعل غيمة ترقص
للهواء أغني فربما أصنع نافذة
تطل على غياب
كاختفاء رائحة،
كهيكل عظمي يدندن وحيداً في مقبرة».
تخف وتيرة الدراما في هذا القسم وتتحول إلى ما يشبه الذبذبة الشعرية في النصوص، وعلى عكس القسم الأول تتخلص عناوين القصائد هنا من ثقل ألف التعريف المسكون بإشارات إلى أشياء ودلالات محددة، ويبدو الفصل وكأنه «فصل الخفة»، في مقابل أقدام الزمن والواقع بخطاهما الغليظة... وتغادر شعرية اللحظات الحميمة حجر الضحك، أو على العاقل تضعه في خلفية المشهد، لتصبح القصائد، وكأنها مسامرة للسكون المشمس، تتبدى ثمارها عل شكل: «فوتوغرافيا - أوهام - محبة - ثورة - جنون - حنين - يحدث - يقع - لا شيء».
بروح هذه المسامرة، واللعب على حبائل الاسم والرائحة واللون كمقوم معرفي دال، يصنع الشاعر تناصّاً حميماً من الخفة مع الشاعر عبد المقصود عبد الكريم، أحد شعراء جيل السبعينات في مصر، موجّهاً الخطاب له في نص طويل بعنوان «حنين» يقول فيه:
«لماذا أحنّ إلى قصائد عبد المقصود عبد الكريم؟
هل لأنني أيضاً دلقتُ حليب القبيلة؟
لكن كيف عرف هو؟
كيف عرف أنني العبد اللئيم؟
نتشارك أنا وهو في المقطع الأول من الاسم
عبد
كيف عرف إذن أن لؤماً ما يكمن في اسمي
أنا عبد الحفيظ السيد
وسموني بالعبودية
وحاولوا جاهدين أن يدربوني على حفظ الحليب
(حليب القبيلة)
لتتأكد سيادة أبي
أبي المسكين.
أنا العبد اللئيم:
دائماً كنت أردد بيني وبين نفسي هذه المقولة
ولكن كيف يكون العبد لئيماً؟
كنت (أرعي الغنم وأجتزّ صوفها) وأحلبها
كنتُ خازن القبيلة
كان حليب القبيلة محتفظاً بمكوناته حين اندلق
لكن القبيلة كانت قد تفككت»
يشير هذا النص إلى آلية التناص الشعري، وهي من مناطق الجدارة اللافتة في الديوان، فالذات الشاعرة لا تتعامل مع التناص كمعطى دلالي ورمزي منتَج سلفاً. إنما تتعامل معه كمفتاح للنص، ضمن مفاتيح وأبواب جمة، تشي ضمنيّاً بأن النصّ حمالُ أوجهٍ ومعارف ورؤى، قابلة للأخذ والعطاء، للحذف والإضافة. إنه التناص العابر المقيم، وهذا سر تجدده وحيويته، ومقدرته على أن يصنع نوعاً من الموازاة مع الحياة. وعلى سبيل المثال، يأتي «أثر الفراشة» لمحمود درويش، وتأتي ممازحة بشار ابن برد لخادمته:
«ربابة ربّةُ البيتِ
تصب الخلِّ في الزيت»، ودعبل الخزاعي:
«إني لأفتح عيني حين أفتحها
على كثيرٍ ولكن لا أرى أحدا»، وأيضاً أبو فراس الحمداني:
«أراك عصي الدمع شيمتك الصبر»... وغيرهم.
وبعد... في غبار هذه الحميمية التي صنعها الديوان بثراء وتنوع ولغة سلسلة موحية، لا يخلو المشهد من بعض الأشياء جانَبَها الصواب، ألفتُ إليها هنا، حتى يصفو النصُّ لنفسه من دون الوقوع في الاستطراد والتكرار... من أبرزها ضرورة إعادة النظر في علاقة التشبيه، وتخليص الصورة الشعرية برتوشها وزخمها من قبضة ثنائية رخوة تنهض على تبعية طرف للآخر، فتصبح الصورة أسراً لعلاقة عير متكافئة، بين المشبَّه والمشبه به، حبذا لو حُذِف أحد طرفي العلاقة أو جرى إخفاؤه والتمويه علية بنسق دلالي آخر، يكسر تراتبيتها. أيضاً هناك بعض الاستطراد والترهُّل في بنية النصوص الطويلة يُفقِد المشهد الانسجام والتماسك الفني، خاصة بين لطشتي البداية والنهاية.
على سبيل المثال نص «سأمضي دون ملاحظة» وهو من النصوص الجيدة، كان يمكن أن تقف لطشة النهاية على عتبة «وجميعهم يرددون نفس المقاطع من خطب الرئيس»، فما عدا ذلك وقع في الاجترار لرذاذ السخرية السياسية، خاصة أنه تم التلميح له بشكل مكثف ومتهكم في الجزء الأول من النص... رغم هذا يبقى أن أؤكد أن هذا الديوان يستحق الاحتفاء والفرح بالشعر.


مقالات ذات صلة

الحميدان أميناً لمكتبة الملك فهد الوطنية

يوميات الشرق الأمير فيصل بن سلمان يستقبل الأمير خالد بن طلال والدكتور يزيد الحميدان بحضور أعضاء مجلس الأمناء (واس)

الحميدان أميناً لمكتبة الملك فهد الوطنية

قرَّر مجلس أمناء مكتبة الملك فهد الوطنية تعيين الدكتور يزيد الحميدان أميناً لمكتبة الملك فهد الوطنية خلفاً للأمير خالد بن طلال بن بدر الذي انتهى تكليفه.

«الشرق الأوسط» (الرياض)
ثقافة وفنون قراءات المثقفين المصريين في عام 2024

قراءات المثقفين المصريين في عام 2024

مرَّت الثقافة العربية بعام قاسٍ وكابوسي، تسارعت فيه وتيرة التحولات بشكل دراماتيكي مباغت، على شتى الصعد، وبلغت ذروتها في حرب الإبادة التي تشنّها إسرائيل على غزة

رشا أحمد (القاهرة)
كتب كُتب المؤثرين بين الرواج وغياب الشرعية الأدبية

كُتب المؤثرين بين الرواج وغياب الشرعية الأدبية

صانع محتوى شاب يحتل بروايته الجديدة قائمة الكتب الأكثر مبيعاً في فرنسا، الخبر شغل مساحات واسعة من وسائل الإعلام

أنيسة مخالدي (باريس)
كتب «حكايات من العراق القديم» و«ملوك الوركاء الثلاثة»

«حكايات من العراق القديم» و«ملوك الوركاء الثلاثة»

صدر عن دار «السرد» ببغداد كتابان مترجمان عن الإنجليزية للباحثة والحكواتية الإنجليزية فران هزلتون.

«الشرق الأوسط» (بغداد)
كتب كتاب جديد يكشف خبايا حملة نابليون على مصر

كتاب جديد يكشف خبايا حملة نابليون على مصر

يتناول كتاب «حكايات في تاريخ مصر الحديث» الصادر في القاهرة عن دار «الشروق» للباحث الأكاديمي، الدكتور أحمد عبد ربه، بعض الفصول والمحطات من تاريخ مصر الحديث

«الشرق الأوسط» (القاهرة)

سوريا الماضي والمستقبل في عيون مثقفيها

هاني نديم
هاني نديم
TT

سوريا الماضي والمستقبل في عيون مثقفيها

هاني نديم
هاني نديم

بالكثير من التفاؤل والأمل والقليل من الحذر يتحدث أدباء وشعراء سوريون عن صورة سوريا الجديدة، بعد الإطاحة بنظام الأسد الديكتاتوري، مشبهين سقوطه بالمعجزة التي طال انتظارها... قراءة من زاوية خاصة يمتزج فيها الماضي بالحاضر، وتتشوف المستقبل بعين بصيرة بدروس التاريخ، لواحدة من أجمل البلدان العربية الضاربة بعمق في جذور الحضارة الإنسانية، وها هي تنهض من كابوس طويل.

«حدوث ما لم يكن حدوثه ممكناً»

خليل النعيمي

بهذا العبارة يصف الكاتب الروائي خليل النعيمي المشهد الحالي ببلاده، مشيراً إلى أن هذه العبارة تلخص وتكشف سر السعادة العظمى التي أحس بها معظم السوريين الذين كانوا ضحية الاستبداد والعَسْف والطغيان منذ عقود، فما حدث كان تمرّداً شجاعاً انبثق كالريح العاصفة في وجه الطغاة الذين لم يكونوا يتوقعونه، وهو ما حطّم أركان النظام المستبد بشكل مباشر وفوري، وأزاح جُثومه المزمن فوق القلوب منذ عشرات السنين. ونحن ننتظر المعجزة، ننتظر حدوث ما لم نعد نأمل في حدوثه وهو قلب صفحة الطغيان: «كان انتظارنا طويلاً، طويلاً جداً، حتى أن الكثيرين منا صاروا يشُكّون في أنهم سيكونون أحياءً عندما تحين الساعة المنتظرة، والآن قَلْب الطغيان لا يكفي، والمهم ماذا سنفعل بعد سقوط الاستبداد المقيت؟ وكيف ستُدار البلاد؟ الطغيان فَتّت سوريا، وشَتّت أهلها، وأفْقرها، وأهان شعبها، هذا كله عرفناه وعشناه. ولكن، ما ستفعله الثورة المنتصرة هو الذي يملأ قلوبنا، اليوم بالقلَق، ويشغل أفكارنا بالتساؤلات».

ويشير إلى أن مهمة الثورة ثقيلة، وأساسية، مضيفاً: «نتمنّى لها أن تنجح في ممارستها الثورية ونريد أن تكون سوريا لكل السوريين الآن، وليس فيما بعد، نريد أن تكون سوريا جمهورية ديمقراطية حرة عادلة متعددة الأعراق والإثنيّات، بلا تفريق أو تمزيق. لا فرق فيها بين المرأة والرجل، ولا بين سوري وسوري تحت أي سبب أو بيان. شعارها: حرية، عدالة، مساواة».

مشاركة المثقفين

رشا عمران

وترى الشاعرة رشا عمران أن المثقفين لا بد أن يشاركوا بفعالية في رسم ملامح سوريا المستقبل، مشيرة إلى أن معجزة حدثت بسقوط النظام وخلاص السوريين جميعاً منه، حتى لو كان قد حدث ذلك نتيجة توافقات دولية ولكن لا بأس، فهذه التوافقات جاءت في مصلحة الشعب.

وتشير إلى أن السوريين سيتعاملون مع السلطة الحالية بوصفها مرحلة انتقالية ريثما يتم ضبط الوضع الأمني وتستقر البلد قليلاً، فما حدث كان بمثابة الزلزال، مع الهروب لرأس النظام حيث انهارت دولته تماماً، مؤسساته العسكرية والأمنية والحزبية كل شيء انهار، وحصل الفراغ المخيف.

وتشدد رشا عمران على أن النظام قد سقط لكن الثورة الحقيقة تبدأ الآن لإنقاذ سوريا ومستقبلها من الضياع ولا سبيل لهذا سوى اتحاد شعبها بكل فئاته وأديانه وإثنياته، فنحن بلد متعدد ومتنوع والسوريون جميعاً يريدون بناء دولة تتناسب مع هذا التنوع والاختلاف، ولن يتحقق هذا إلا بالمزيد من النضال المدني، بالمبادرات المدنية وبتشكيل أحزاب ومنتديات سياسية وفكرية، بتنشيط المجتمع سياسياً وفكرياً وثقافياً.

وتوضح الشاعرة السورية أن هذا يتطلب أيضاً عودة كل الكفاءات السورية من الخارج لمن تسنح له ظروفه بهذا، المطلوب الآن هو عقد مؤتمر وطني تنبثق منه هيئة لصياغة الدستور الذي يتحدد فيه شكل الدولة السورية القادمة، وهذا أيضاً يتطلب وجود مشاركة المثقفين السوريين الذين ينتشرون حول العالم، ينبغي توحيد الجهود اليوم والاتفاق على مواعيد للعودة والبدء في عملية التحول نحو الدولة الديمقراطية التي ننشدها جميعاً.

وداعاً «نظام الخوف»

مروان علي

ومن جانبه، بدا الشاعر مروان علي وكأنه على يقين من أن مهمة السوريين ليست سهلة أبداً، وأن «نستعيد علاقتنا ببلدنا ووطننا الذي عاد إلينا بعد أكثر من خمسة عقود لم نتنفس فيها هواء الحرية»، لافتاً إلى أنه كان كلما سأله أحد من خارج سوريا حيث يقيم، ماذا تريد من بلادك التي تكتب عنها كثيراً، يرد قائلاً: «أن تعود بلاداً لكل السوريين، أن نفرح ونضحك ونكتب الشعر ونختلف ونغني بالكردية والعربية والسريانية والأرمنية والآشورية».

ويضيف مروان: «قبل سنوات كتبت عن (بلاد الخوف الأخير)، الخوف الذي لا بد أن يغادر سماء سوريا الجميلة كي نرى الزرقة في السماء نهاراً والنجوم ليلاً، أن نحكي دون خوف في البيت وفي المقهى وفي الشارع. سقط نظام الخوف وعلينا أن نعمل على إسقاط الخوف في دواخلنا ونحب هذه البلاد لأنها تستحق».

المساواة والعدل

ويشير الكاتب والشاعر هاني نديم إلى أن المشهد في سوريا اليوم ضبابي، ولم يستقر الأمر لنعرف بأي اتجاه نحن ذاهبون وأي أدوات سنستخدم، القلق اليوم ناتج عن الفراغ الدستوري والحكومي ولكن إلى لحظة كتابة هذه السطور، لا يوجد هرج ومرج، وهذا مبشر جداً، لافتاً إلى أن سوريا بلد خاص جداً بمكوناته البشرية، هناك تعدد هائل، إثني وديني ومذهبي وآيديولوجي، وبالتالي علينا أن نحفظ «المساواة والعدل» لكل هؤلاء، فهي أول بنود المواطنة.

ويضيف نديم: «دائماً ما أقول إن سوريا رأسمالها الوحيد هم السوريون، أبناؤها هم الخزينة المركزية للبلاد، مبدعون وأدباء، وأطباء، وحرفيون، أتمنى أن يتم تفعيل أدوار أبنائها كل في اختصاصه وضبط البلاد بإطار قانوني حكيم. أحلم أن أرى سوريا في مكانها الصحيح، في المقدمة».

خالد حسين

العبور إلى بر الأمان

ومن جانبه، يرصد الأكاديمي والناقد خالد حسين بعض المؤشرات المقلقة من وجهة نظره مثل تغذية أطراف خارجية للعداء بين العرب والأكراد داخل سوريا، فضلاً عن الجامعات التي فقدت استقلالها العلمي وحيادها الأكاديمي في عهد النظام السابق كمكان لتلقي العلم وإنتاج الفكر، والآن هناك من يريد أن يجعلها ساحة لنشر أفكاره ومعتقداته الشخصية وفرضها على الجميع.

ويرى حسين أن العبور إلى بر الأمان مرهونٌ في الوقت الحاضر بتوفير ضروريات الحياة للسوريين قبل كلّ شيء: الكهرباء، والخبز، والتدفئة والسلام الأهلي، بعد انتهاء هذه المرحلة الانتقالية يمكن للسوريين الانطلاق نحو عقد مؤتمر وطني، والاتفاق على دستور مدني ديمقراطي ينطوي بصورة حاسمة وقاطعة على الاعتراف بالتداول السلمي للسلطة، وحقوق المكوّنات الاجتماعية المذهبية والعرقية، وحريات التعبير وحقوق المرأة والاعتراف باللغات الوطنية.

ويشير إلى أنه بهذا الدستور المدني المؤسَّس على الشرعية الدولية لحقوق الإنسان يمكن أن تتبلور أحلامه في سوريا القادمة، حينما يرى العدالة الاجتماعية، فهذا هو الوطن الذي يتمناه دون تشبيح أو أبواق، أو طائفية، أو سجون، موضحاً أن الفرصة مواتية لاختراع سوريا جديدة ومختلفة دون كوابيس.

ويختتم قائلاً: «يمكن القول أخيراً إنّ مهام المثقف السوري الآن الدعوة إلى الوئام والسلام بين المكوّنات وتقويض أي شكل من أشكال خطاب الهيمنة والغلواء الطائفي وإرادة القوة في المستقبل لكي تتبوّأ سوريا مكانتها الحضارية والثقافية في الشرق الأوسط».