في الوقت الذي تتسابق شركات الأدوية والمختبرات العلمية على تطوير لقاح لفيروس «كوفيد - 19» قد يحمل الأمل في إنهاء تأثيرات هذه الجائحة التي ضربت سبل عيش معظم شعوب العالم وإنقاذ أرواح الملايين، يرفض الألوف من معتقدات وأديان ودول مختلفة تلقي اللقاح الموعود.
وفي الولايات المتحدة يرفض عدد كبير من الأميركيين تلقي اللقاح لتجنب فيروس الجائحة، ويكثّفون جهودهم، مع مجموعات سياسية ومدنية وحركية – يعضها مسلّح – من رافضي قرارات إغلاق البلاد. ويتظاهر هؤلاء للمطالبة بوقف سياسة التباعد الاجتماعي وإعادة فتح الاقتصاد، في خطوة يرى البعض أنها تلتقي مع شعارات الرئيس الأميركي دونالد ترمب، الساعي جاهدا لوقف تلك الإجراءات، على أمل تحسين ظروف الاقتصاد الأميركي، وذلك قبل موعد الانتخابات الرئاسية والعامة المقرّرة في الثالث من نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل، للفوز بولاية ثانية.
ظاهرة رفض اللقاح ليست طارئة أو حديثة، إذ لطالما شهد العالم الصراع بين المؤمنين بالعلم والتقنيات الحديثة وتأثيراتها على سبل حياة البشر من جهة، وأصحاب المعتقدات والعديد من الجماعات المتدينة التي تشدد على أن للعلم حدوداً لا يمكنه تجاوزها.
بيد أن الأمر لا يعفي من طرح التساؤل عن تجذّر هذه الظاهرة في بلد يعتبر أكبر وأهم وأكثر الدول المتطورة علميا كالولايات المتحدة... البلد الذي كان ولا يزال سبّاقا في اكتشاف الأدوية والعقاقير واللقاحات، التي خرجت من مختبراته وشركات الأدوية فيه لعلاج البشرية.
إن الحركة المناهضة للقاح أو التطعيم وخصوصا للأطفال، قديمة قدم ظهور اللقاح أو التطعيم نفسه، رغم نتائجه المذهلة وتوفره. ولقد صنّفت منظمة الصحة العالمية تلك الحركات بأنها واحدة من بين أكبر 10 تهديدات للصحة في العالم عام 2019. ويشمل هذا التصنيف: الرفض التام للتطعيم وتأخير اللقاحات أو التشكيك بقبولها واستخدامها، أو استخدام لقاحات معينة دون غيرها. وتتناقض الحجج التي يقدمها المناهضون للتطعيم مع الإجماع العلمي الساحق حول سلامة اللقاحات وفعاليتها.
- ادعاءات وأسباب وحيثيات
يناقش مناهضو التطعيم بأن ترددهم في قبوله يقوم على عوامل رئيسية، بينها: انعدام ثقة الشخص باللقاح أو بمقدم الرعاية الصحية وقلة إحساسهم بالراحة، أو أنهم لا يشعرون بالرضى ولا يرون حاجة إلى اللقاح وقيمته. وهذا الرفض وجد منذ اختراع التطعيم، وسبق تاريخ صياغة مصطلحي «لقاح» و«تطعيم» بحوالي 80 سنة. لا، بل إن الحركات المضادة للتطعيم تعود على الأقل إلى العام 1796. عندما اخترع البريطاني إدوارد جينر لقاح الجدري. لكن العديد من الخبراء يقولون إن السبب الحالي يمكن إرجاعه إلى العام 1982. عندما بثّت شبكة «إن بي سي» الأميركية فيلما وثائقياً أثار جدلا في بريطانيا، يربط بشكل مزعوم بين لقاح السعال الديكي (الشهقة)، وهو مرض قاتل يمكن أن يسبب مشاكل في الرئة، ونوبات عند الأطفال الصغار. ورغم انتقاد الأطباء الشديد للفيلم لافتقاره إلى الدقة بشكل خطير، فإن الخوف كان قد انتشر، وأخذت تتشكل مجموعات مناهضة للتطعيم، فأوقفت العديد من الشركات إنتاج اللقاح، مفضلة الخسارة على الصداع.
وفي العام 1998، نشر أندرو ويكفيلد، اختصاصي أمراض الجهاز الهضمي البريطاني، دراسة في دورية «لانسيت» الطبية، ربطت بين اللقاح ضد الحصبة والنكاف والحصبة الألمانية... ومرض التوحّد. وثبت لاحقاً بطلان ما زعمته هذه الدراسة. غير أن بعض الآباء اعتبر أن الإجابة كانت واضحة - رغم أن معظمهم لم يعرف تلك الأمراض، لأن اللقاحات ببساطة كانت قد قضت عليها - لكنهم كانوا يعرفون التوحّد.
لكن، رفض اللقاحات غالباً ما كان يؤدي إلى تفشي الأمراض والوفيات التي كان يمكن تجنبها أو الوقاية منها باللقاحات. واعتمد مناهضو اللقاح الإلزامي على المشاعر المضادة للقاح، أو القلق من أنه ينتهك الحريات المدنية أو يقلل من ثقة الجمهور في التطعيم، أو الشك في الاستفادة من صناعة الأدوية.
- رافضو اللقاح من الحزبين
في أي حال، لم تقتصر الحركة المضادة للقاحات في الولايات المتحدة على حزب سياسي واحد. بل كان من بين المنتقدين منظمة «الدفاع عن صحة الطفل» الليبرالية والسياسي الديمقراطي روبرت كينيدي الابن. واليوم، ثمة، عدد من خبراء البيئة يشتبهون في أن شركات الأدوية الكبرى تساهم في حملات ترويج هدفها الإسراع في تطوير لقاحات للفيروسات التاجية (الكورونا) الخطرة غير المؤكدة بعد - بحسب رأيهم - كجزء من صفقة مربحة لشركات إنتاج الدواء. وهذا، رغم المخاطر المعروفة للملوثات البيئية.
في المقابل، يعارض العديد من المحافظين المناهضين للقاحات دعوات الحكومة للتحصين لأنهم ببساطة لا يثقون بـ«جهاز الحكومة الكبير»... أو «الدولة العميقة». وهؤلاء، في هذا ينسجمون مع أيديولوجيتهم المحافظة الداعية إلى خفض حجم الدولة والقطاع العام ورفض تدخلها في حياة الناس. وعلى سبيل المثال دعت مجموعة تسمى «التكساسيون من أجل خيار التطعيم» حاكم ولاية تكساس إلى التعهد بألا يجبر أي شخص على الحصول على لقاح ضد فيروس «كوفيد - 19» قبل الذهاب إلى العمل أو المدرسة. كذلك دعت مجموعة يمينية تدعى «خيار الصحة» وأخرى تدعى «ملائكة الحرية» في ولاية كاليفورنيا التي يهيمن عليها الديمقراطيون، في منشورات على موقع «فيسبوك» إلى التصدي لإجبار السكان على التطعيم، وشككت الجماعتان في أوامر «البقاء في المنزل» وإغلاق متاجر الأسلحة، واتهمتا الحكومة والمسؤولين برفض «الاعتراف بالأوامر الخطأ»، وبالاعتداء على الإعلان الدستوري الثاني. بل ترى «ملائكة الحرية» أن حمل الأسلحة قد يكون ضرورياً للحماية من الشغب والنهب خلال فترة تفشي الجائحة، علما بأن مبيعات السلاح في الولايات المتحدة سجلت ارتفاعا قياسيا منذ بدء انتشارها.
وفي حين تسعى المجموعات المناهضة للقاحات الآن لتغيير اسمها إلى «مدافعين عن الحرية الطبية»، يترافق ذلك مع الاحتجاجات التي اقتصرت حتى الآن على بضع مئات من الأشخاص، انطلقت ضد التباعد الاجتماعي في ولاية ميشيغان أولا، وامتدت لاحقا إلى ولايات تكساس وكولورادو ونيفادا وماريلاند وويسكونسن وكاليفورنيا وأماكن أخرى.
غير أن إدارات الشرطة في عدد من الولايات ألغت في وقت لاحق تصاريح مستقبلية للاحتجاجات لتلك المجموعات، بحجة انتهاكها قواعد التباعد الاجتماعي التي أصدرها حكامها.
وينقل موقع الأخبار التابع لمؤسسة «كايسر» الصحية عن الدكتور ديفيد غورسكي عالم الأورام، قوله إن الذراع المحافظة لحركة مكافحة اللقاح تعد حليفا طبيعيا لأولئك الذين يقودون مسيرات «إعادة فتح أميركا»، وكلاهما لديه شكوك حول سلطة الحكومة.
ويضيف غورسكي إن منتقدي اللقاحات، على سبيل المثال، دافعوا منذ فترة طويلة عن الادعاء الكاذب بأن اللقاحات تسبب مرض التوحّد، وأن مراكز السيطرة على الأمراض والوقاية منها حاولت إخفاء هذه المعلومات. ولا يخفى أن الرئيس ترمب كان قد ربط في بعض الأحيان بين اللقاحات والتوحّد، لكنه عاد ووافق على ضرورة التطعيم ضد وباء الحصبة، الذي عاد وانتشر بقوة عام 2019 في الولايات المتحدة. واليوم ثمة توقعات متشائمة بالنسبة لهذا المرض الشديد العدوى، إذ يُعتقد عادة أن معدل اللقاح لتحقيق «مناعة القطيع»، وهو المصطلح الذي يصف المعدّل الأمثل لحماية السكان بالكامل، هو 95 في المائة. ووجدت مراكز السيطرة على الأمراض والوقاية منها أن معدل التطعيم لحقن الحصبة والنكاف والحصبة الألمانية في رياض الأطفال خلال العام الدراسي 2017 - 2018 انخفض على المستوى الوطني إلى 94.3 في المائة، للعام الثالث على التوالي.
- تصاعد قوة الرافضين للقاح
كان توجيه السؤال عما إذا كان المرء يتلقى التطعيم خجولاً في البداية، إلا أن أحدا لم يكن يتوقع أن يزدهر في نهاية العقد الثاني من القرن الـ21 في الولايات المتحدة، رغم كل التقدم العلمي والطبي الذي تحققه. وفي حين تواجه العائلات خيارات صعبة لإعادة أطفالهم إلى المدارس، يزداد الشعور بمدى نمو الحركات المناهضة للقاح خلال العقود الماضية وتأثيرها على المجتمع الأميركي.
يقول البعض إن نمو هذه الحركات هو نتاج ثانوي أيضا لشائعات ومعلومات مضللة عبر الإنترنت، ضد شركات الأدوية والصيدليات الكبرى، وافتتاناً ببعض الشخصيات الشهيرة المناهضة للتطعيم، كجيني مكارثي وجيم كاري وأليسيا سيلفرستون ومغني «الراب» كيفين غيتس والسياسي روبرت كينيدي. والآن يدعم هؤلاء الرئيس ترمب على «تويتر» في تنظيم مظاهرات في عواصم الولايات «لإعادة فتح أميركا»، وخطاب إدارته المناهض للعلم، الذي عززه انسحابها من اتفاقية المناخ. وفي تحقيق لصحيفة «النيويورك تايمز»، يقول الدكتور بول أوفيت، خبير الأمراض المعدية في مستشفى الأطفال بمدينة فيلادلفيا (ولاية بنسلفانيا): «لقد أصبح العلم مجرد صوت آخر بعدما فقد منصته».
والآن، وبينما ينضم العديد من منتقدي اللقاح نفسه إلى مكافحة أوامر «البقاء في المنزل» وإغلاق الأعمال التي تهدف إلى وقف انتشار الفيروس القاتل، يقترب عدد الوفيات في الولايات المتحدة من 90 ألف شخص، بل هناك ترجيحات تتحدث عن احتمال وصول العدد إلى نحو 250 ألفا إذا ما تجدد انتشار الجائحة في الخريف المقبل. ويقول بيتر هوتز أستاذ طب الأطفال والفيزيولوجيا الجزيئية وعلم الأحياء الدقيقة في كلية بايلور للطب في مدينة هيوستن (ولاية تكساس)، «هذه مجرد طبقة جديدة من الطلاء للحركة المضادة للقاحات في أميركا، ووسيلة استغلالية بالنسبة لهم لمحاولة الحفاظ على أهميتهم». ويضيف أن تلك الجماعات المناهضة للقاحات تستغل المشاعر المعادية للحكومة التي أثارها المتظاهرون الذين يميلون إلى المحافظين لتعزيز قضيتهم... و«لسوء الحظ، قد تنجح استراتيجيتهم». أما الدكتورة جنيفر ريتش، عالمة الاجتماع في جامعة كولورادو بمدينة دنفر، التي تدرس سلوك العائلات المقاومة للقاحات: «إن مجرد القول بأن هؤلاء الآباء جهلة أو أنانيون لهو حكم سطحي».
- انتكاسة للمعارضين عام 2019
في المقابل، تعرض منتقدو اللقاحات لانتكاسات كبيرة في الولايات المتحدة خلال العام الماضي، إذ عززت العديد من الولايات قوانين التحصين استجابة لتفشي الحصبة التي تسبب بها رافضو اللقاحات. وشدّدت ولاية كاليفورنيا، كبرى الولايات الأميركية، قوانينها الإلزامية من اللقاحات في عام 2019 رغم الاحتجاجات، التي ألقى خلالها النشطاء المناهضون للقاحات الدم على أعضاء مجلس شيوخ الولاية، واعتدوا على واضعي قانون اللقاح، ما أدى إلى تعليق المجلس أعماله التشريعية.
وبالتالي، رغم ذلك، أقدمت الغالبية العظمى من الآباء والأمهات الأميركيين على بتطعيم أطفالهم... وتكاثرت المجموعات التي يقودها هؤلاء لمواجهة المشاعر المضادة للتحصين. وألغت خمس ولايات الإعفاءات لأسباب دينية أو فلسفية، وسمحت فقط بالاستثناءات لأسباب الطبية.
ووفق الأدلة العلمية، منعت فعالية حملات التطعيم الواسعة النطاق مليونين إلى ثلاثة ملايين حالة وفاة كل سنة في جميع أنحاء العالم بسبب التطعيم، وهذا، مع إمكانية منع 1.5 مليون حالة وفاة إضافية كل سنة إذا استخدمت جميع اللقاحات الموصى بها. فلقد ساعدت حملات التطعيم في القضاء على مرض الجدري، الذي قتل في يوم من الأيام طفلاً من بين 7 أطفال في أوروبا، ومن ثم، قضت على شلل الأطفال تقريبا. وفي مثال أكثر تواضعا، انخفضت الإصابات الناجمة عن «المستديمة النزلية» (Hib)، وهو سبب رئيسي لالتهاب السحايا الجرثومي والأمراض الخطيرة الأخرى لدى الأطفال، بأكثر من 99 في المائة في الولايات المتحدة منذ اعتماد اللقاح عام 1988. وتشير التقديرات العلمية، أيضاً، إلى أن التطعيم الكامل، منذ الولادة وحتى سن المراهقة، لجميع الأطفال الأميركيين الذين ولدوا في عام معين... من شأنه أن ينقذ حياة 33 ألف شخص ويمنع 14 مليون إصابة.
في المقابل يجادل البعض بأن هذا الانخفاض في الأمراض المعدية، هو نتيجة لتحسين نظام الصرف الصحي والنظافة الصحية، وليس التطعيم، أو أن هذه الأمراض كانت في انخفاض بالفعل قبل إدخال لقاحات محددة. غير أن هذه الادعاءات غير مدعومة ببيانات علمية، إذ تميل حالات الإصابة بالأمراض التي يمكن الوقاية منها باللقاحات إلى التذبذب بمرور الوقت حتى إدخال لقاحات محددة، ما أدى إلى خفض معدل الإصابة إلى ما يقرب من الصفر.
- خرافات ونظريات مؤامرة
مع هذا، يواصل مناهضو اللقاح الترويج لخرافات ونظريات مؤامرة ومعلومات خاطئة التي تربط بين اللقاحات وبعض الأمراض. ويعتمد هؤلاء على تكتيكات لتعزيز البحث غير ذي الصلة باعتباره تجميعاً نشطاً للعديد من الدراسات البحثية المشكوك فيها أو ذات الصلة في محاولة لتبرير حجج كامنة وراء ادعاءات مشكوك فيها.
وعلى سبيل المثال، يشدد مناهضو اللقاح على «متلازمة موت الرضّع المفاجئة»، وهي الأكثر شيوعا عند الأطفال، عندما يتلقون العديد من اللقاحات في وقت واحد وفي سن معينة. ونظرا لتعذّر تحديد سبب هذه المتلازمة بشكل كامل، سرّت مخاوف بشأن ما إذا كانت اللقاحات، خاصة اللقاحات المضادة للخانوق (الدفتيريا) والكزاز (التيتانوس)، من العوامل المسببة المحتملة. ومع هذا، أثبتت دراسات علمية عديدة منذ العام 2003. أن لا وجود لأي دليل يدعم وجود علاقة سببية بين التطعيم وموت الأطفال المفاجئ، لا بل أظهرت أدلة متزايدة على أن التطعيم قد يحمي الأطفال من الموت المفاجئ.
أيضاً، أثبتت الدراسات العلمية أيضا أن اللقاحات وسيلة فعالة من حيث الكلفة والوقاية لتعزيز الصحة، مقارنة بكلفة معالجة الأمراض الحادة أو المزمنة. وقُدّر التوفير الذي تحققه اللقاحات الروتينية الشائعة الاستخدام للأطفال في الولايات المتحدة، خلال عام 2001. ضد سبعة أمراض، بأكثر من 40 مليار دولار لكل مجموعة ميلاد سنوية من التكاليف الاجتماعية الشاملة... بما في ذلك 10 مليارات دولار في التكاليف الصحية المباشرة، ووفّرت نسبة فوائد اجتماعية بـ16.5 مليار دولار.