ماشادو دي أسيس يفضح البرجوازية البرازيلية في «مذكرات براس كوباس»

كتبها في 1881 ويطل منها على عالمنا الراهن

استلهم دي أسيس حكاية حلاق بغداد في ألف ليلة وليلة  كما وردت في الليلتَيْن الثامنة والثلاثين والتاسعة والثلاثين من طبعة بولاق المصرية
استلهم دي أسيس حكاية حلاق بغداد في ألف ليلة وليلة كما وردت في الليلتَيْن الثامنة والثلاثين والتاسعة والثلاثين من طبعة بولاق المصرية
TT

ماشادو دي أسيس يفضح البرجوازية البرازيلية في «مذكرات براس كوباس»

استلهم دي أسيس حكاية حلاق بغداد في ألف ليلة وليلة  كما وردت في الليلتَيْن الثامنة والثلاثين والتاسعة والثلاثين من طبعة بولاق المصرية
استلهم دي أسيس حكاية حلاق بغداد في ألف ليلة وليلة كما وردت في الليلتَيْن الثامنة والثلاثين والتاسعة والثلاثين من طبعة بولاق المصرية

بدعم من المكتبة الوطنية بالبرازيل صدر حديثاً في القاهرة النسخة العربية من رواية «مذكرات براس كوباس يكتبها بعد الموت» ترجمها عن البرتغالية الكاتب المصري مارك جمال، وتعد من أهم أعمال الكاتب البرازيلي ماشادو دي أسيس، فقد كانت رواية طليعية في وقت كتابتها عام 1881 سواء على مستوى بطلها الراوي، الذي كان ميتاً يكتب مذكراته، أو على مستوى السرد الذي تنوّع بين كتابة التاريخ، والسياسة، والفلسفة، فضلاً عن الوصف والحوار بين الشخصيات، وتفتيت الحدث.
بطل الرواية وراويها هو براس كوباس الذي توفي بمرض في الرئة، عن عمر يناهز 64 عاماً، دون وريث، ودون أن يحقق شيئاً في حياته، فلا حب اكتمل ولا طموحات تحققت ولا أسرة ولا زواج التأمت به نفسه. راح يمسك منذ البداية بتلابيب القارئ، ويستحضره دائماً ويذكّره في اللحظات المفصلية من تفاصيل حكايته بما قاله من قبل في فصول سابقة. يحكي دي أسيس على لسان بطله براس كوباس كل ما فعله وعاناه من إحباطات، وما قام به من أعمال مخجلة أو حسنة، فهو ميت، والموتى لا يكذبون ولا يخفون جرائمهم.
يستهلُّ براس كوباس مُذكِراته، التي ظهرت ضمن مطبوعات دار «صفصافة» المصرية، بوقائع موته، ثم يسرد قصة حياته الحافلة، حياة برجوازي برازيلي في القرن التاسع عشر، مروراً بأسفاره الملهمة وغرامياته الجامحة ونجاحاته وإخفاقاته وأحاديثه المثيرة للاهتمام مع صديقه الفيلسوف المجنون. وتتمرد الرواية على قوالب الرومانسية من جهة، وتستشرف التقنيات الأدبية الطليعية من جهة أخرى، فهي مُطعَمة بالفكر والفلسفة والنقد اللاذع المُوجَّه إلى مجتمع يصفه الكاتب بأنه في طور الطفولة.
وقد تشكلت شخصيته عبر العديد من النواقص منها حبُّ المظاهر البرَّاقة والأضواء، وضعف العزيمة، والخضوع لسيطرة النزوات، وكان كل ذلك نتيجة لتراخي أبيه وجنون عمه الأول، أما عمه الثاني فقد كان كاهناً طموحاً لا يستطيع فرض قناعاته، ولم يكن هناك من مؤثر سوى خالته، لكنها لم تكن مقيمة لتُعمل فيه نظامها في التربية.
ظهور «مُذكِّرات براس كوباس» في البداية لم يكن في كتاب، بل نُشرت على أجزاء، في مجلة «ريڤيزتا برازيليرا»، في ثمانينات القرن التاسع عشر. وعند جمعها لاحقاً في كتاب واحد، صوَّب دي أسيس النص في عدة مواضع، وقد اضطُر إلى مراجعة النص لإصدار الطبعة الثالثة، وأدخل المزيد من التعديلات، وحذف عدداً من الأسطر.
وعبر 160 مقطعاً قصيراً جداً يستعرض كوباس تاريخ عائلته بلغة تفيض بالسخرية والتهكم، يبسط مسيرة جده الأول «دامياو كوباس» صانع البراميل، ثم يتعقب سلساله المُتقلِّب الذي يتَّسع لكل شيء، بدءاً من لويس كوباس الابن الذي تلقَّى دراسته في كويمبرا وبلغ منزلة رفيعة في الدولة، وكان واحداً من الأصدقاء المُقرَّبين إلى نائب الملك، كونت دي كونيا، وحتى الأب الذي كان راح يلفق تاريخاً كاذباً عن العائلة بعدما استشعر رائحة البراميل من لقب كوباس.
ومع تنامي حركة السرد يستمر البطل في حكايته، ويقول إن ما يقوم به من كتابة لمذكراته عمل مغرق في الفلسفة التي تتَّسم بالزهد حيناً، واللهو حيناً، وهي شيء لا يبني ولا يهدم، ولا يبعث على السخط ولا الرضا، ورغم ذلك تعد أكثر من هواية وأقل من رسالة رسول.
وتطال مذكرات كوباس الكثير من الشخصيات التي تعامل معها أو عرفها، وتحظى الشخصيات النسائية بالكثير من اهتمامه، فمع بعضهن مضى في نزواته، التي بدأت في مراهقته مع مارسيلا، وهي سيدة إسبانية، أطلق عليها الفتيان اسم مارسيلا الجميلة، كانت ابنة مزارع من أستورياس، وأفضَت إلى البطل بذلك في ساعة صفاء، أما النسخة المتداولة من سيرتها فتقول إنها ابنة محامٍ من مدريد راح ضحية الغزو الفرنسي، إذ جُرِح، وسُجِن، ثم أعدم رمياً بالرصاص، وهي لا تكاد تبلغ من العمر اثني عشر عاماً. وهناك فرجيليا، ابنة دوترا المستشار صاحب النفوذ السياسي الواسع، التي لم يفلح في الزواج منها، لكنه يقيم معها فيما بعد علاقة في الخفاء، أما أوجينيا ابنة أوزيبيا صديقة أمه، فقد كانت عرجاء ولم يستطع كوباس مواصلة رحلته الرومانسية معها، ثم تأتي دونا إولاليا، أو نيالولو، الفتاة صاحبة الصوت الشجي التي ماتت بالصفراء وكانت آخر فرصة لدى كوباس ليكون صاحب بيت ورب أسرة، ولا يغفل كوباس أخته سابينا التي تتصف بالطمع والجشع.
ومع استمرار حركة السرد يتابع بطل الرواية تاريخ فشله وإحباطه ليس على المستوى العاطفي فقط ولكن أيضاً على المستوى السياسي ويسخر من عقليات الساسة أصحاب التصورات السطحية والأفكار الساذجة والتي تتشاءم من أشياء بعينها، وتتردد في اتخاذ خطوات مهمة في حياتها خشية إصابتها بمكروه، ولا يستثنى من ذلك شخصيات مرموقة مثل لوبو نيفيس زوج عشيقته الذي يرفض منصباً كبيراً لأن مرسوم تعيينه صدر في الثالث عشر من الشهر، الرقم الذي يستحضر إليه ذكريات مشؤومة. ونهايةً بدونا پلاسيدا، خادمته التي تقرّ بأنها لا تحتمل رؤية حذاء مقلوب.
وعلى مدار المذكرات ينشئ كوباس نوعاً من الحكمة التي يمكن تسميتها بالحكمة الانتهازية، وهي تؤسس لنوع من الأنانية والمتع الحسية، وتخلق لها نوعاً ما من المبررات، مثل «مَنْ أفلت مِن الخطر أحبَّ الحياة بقوة جديدة»، و«الحقيقة المطلقة والمكانة الاجتماعية الرفيعة لا يتوافقان»، و«إن سلام المدن لا يتحقَّق إلا عَبْر الخديعة المُتبادَلة»، هذه المقولات تمضي بالتوازي مع فلسفة صديقه المجنون كينكاس بوربا وحديثه عما سماها «الجيولوجيا الأخلاقية، وقوانين الهيومانيتيزمو»، وقوله إن الأوبئة نافعة للجنس البشري، رغم كونها كارثية على شريحة بعينها من الأفراد.
يقول كوباس متذكراً حديثه مع صديقه بوربا: «لفت انتباهي إلى مزية عظيمة ينطوي عليها الأمر، مهما بلغ المشهد من البشاعة... نجاة الغالبية العظمى، وسألني إن كنتُ لا أشعر بشيء من السعادة السرية كوني قد أفلتُّ من براثن الوباء، وسط الحداد العام، ولكن سؤاله كان في غاية العبث، حتى إنه ظلَّ بلا جواب»، من هنا يمكن ملاحظة أن الرواية تحتقر، رغم ما تتسم به من أحداث واقعية، المثاليات الرومانسية، كما يكسر السرد بجرأة تقاليدها، بقصٍّ يتسم بالحداثة والجرأة والأسلوب الحر، وإن كان أضفى على أجوائها الكثير من الغموض والقسوة والمرارة، وقد فضح العلاقات الأسرية والطمع العائلي والرغبة في الاستحواذ.
وخلال الأحداث يستلهم دي أسيس حكاية حلاق بغداد كما وردت في «ألف ليلة وليلة»، وقد راعى في نقلها ما يلائم القصة الأصلية كما وردَت في الليلتَيْن الثامنة والثلاثين والتاسعة والثلاثين من طبعة بولاق، وقد اعتمد على الترجمة الفرنسية التي وضعها المستشرق أنطوان غالان (1646 – 1715) بما يلائم الذائقة الفرنسية في ذلك العصر.
وُلِد جواكين ماريا ماشادو دي أسيس عام 1839، ونال قدراً من التعليم في المدارس الحكومية، إلا أنه لم يلتحق بالجامعة طيلة حياته. ورغم من ذلك تعلم الإنجليزية والفرنسية والألمانية بنفسه، كما تقلد عدة مناصب حكومية رفيعة المستوى وانتُخب أول رئيس لأكاديمية الآداب البرازيلية. تطرَق ماشادو إلى ألوان الكتابة شتى، وعاصر حقبة حافلة بالتغيرات والزخم، كما شهد تحوُّل البرازيل من النظام الملكي إلى النظام الجمهوري وحَظْر العبودية. ويُعدُ واحداً من أعظم أدباء البرازيل على مرِّ العصور. توفي عام 1908 تاركاً ميراثاً أدبياً بالغ الثراء والتنوع.


مقالات ذات صلة

كتب شركة ناشئة تخطط لنشر ما يصل إلى 8 آلاف كتاب العام المقبل باستخدام الذكاء الاصطناعي (أرشيفية)

وسط اعتراض كتّاب ودور نشر… شركة ناشئة تسعى لإنتاج 8 آلاف كتاب العام المقبل باستخدام الذكاء الاصطناعي

ينتقد كتّاب وناشرون إحدى الشركات الأميركية الناشئة التي تخطط لنشر ما يصل إلى 8 آلاف كتاب العام المقبل باستخدام الذكاء الاصطناعي.

«الشرق الأوسط» (لندن)
ثقافة وفنون «أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

في كتابها «رحِم العالم... أمومة عابرة للحدود» تزيح الكاتبة والناقدة المصرية الدكتورة شيرين أبو النجا المُسلمات المُرتبطة بخطاب الأمومة والمتن الثقافي الراسخ

منى أبو النصر (القاهرة)
تكنولوجيا شركات الذكاء الاصطناعي تتفق مع دور النشر بما يتيح لهذه الشركات استخدام الأعمال المنشورة لتدريب نماذجها القائمة على الذكاء الاصطناعي التوليدي (رويترز)

شركات الذكاء الاصطناعي التوليدي تلجأ إلى الكتب لتطوّر برامجها

مع ازدياد احتياجات الذكاء الاصطناعي التوليدي، بدأت أوساط قطاع النشر هي الأخرى في التفاوض مع المنصات التي توفر هذه التقنية سعياً إلى حماية حقوق المؤلفين.

«الشرق الأوسط» (باريس)
يوميات الشرق كاميلا ملكة بريطانيا تحصل على الدكتوراه الفخرية في الأدب بحضور الأميرة آن (رويترز)

قدمتها لها الأميرة آن... الملكة كاميلا تحصل على دكتوراه فخرية في الأدب

حصلت الملكة البريطانية كاميلا، زوجة الملك تشارلز، على الدكتوراه الفخرية؛ تقديراً لـ«مهمتها الشخصية» في تعزيز محو الأمية.

«الشرق الأوسط» (لندن)

«كتاب وخنجر»: أكاديميون في سلك الجاسوسية

أليس
أليس
TT

«كتاب وخنجر»: أكاديميون في سلك الجاسوسية

أليس
أليس

يطيح «كتاب وخنجر: هكذا أصبح الأكاديميون وأمناء المكتبات الجواسيس غير المتوقعين في الحرب العالمية الثانية» للباحثة الأميركية إليز غراهام بالنموذج التقليدي الذي غلب على أذهان الجمهور حول شخصيّة الجاسوس عميل الاستخبارات، والتي تكرّست عبر مئات الروايات والأفلام السينمائيّة والمسلسلات التلفزيونيّة على مثال «جيمس بوند» - بطل روايات الكاتب البريطاني إيان فلمنغ - فيقدّم من خلال سيرة أربع من عملاء مكتب الخدمات الاستراتيجية (OSS) - كان نواة تأسيس وكالة الاستخبارات الأميركيّة لاحقاً - الذين لم يأتوا من خلفيات أمنية أو عسكريّة، ولا حتى من أقسام الفيزياء والتكنولوجيا بالجامعات الأميركية والبريطانية المرموقة - كما كان الحال في مشروع مانهاتن لإنتاج القنبلة النووية، بل من أقسام الأكاديمية النظريّة في الأنثروبولوجيا والتاريخ واللغات، فكأنما تضع «أقل الناس لمعاناً في العالم، في المهنة الأكثر بريقاً في العالم»، على حد تعبير المؤلفة.

تعود بدايات هذه العلاقة غير المتوقعة بين العلوم النظريّة ووكالات الجاسوسية إلى أيّام الحرب العالميّة الثانية، التي دخلتها الولايات المتحدة دون جهاز استخبارات مدني كما كان الحال في بعض أمم أوروبا - تأسس جهاز الاستخبارات البريطاني في عام 1909 – إذ اعتمدت دائماً لجمع المعلومات الاستراتيجية والحساسة من العالم على جهاز الاستخبارات العسكرية التابع للجيش الأميركي.

على أن الحاجة إلى نهج جديد يوسع دائرة جمع المعلومات لما وراء الإطار العسكري بدت ماسة بعد اندلاع الحرب على البر الأوروبي في 1939 مع غزو ألمانيا لبولندا، فعمد الرئيس فرانكلين روزفلت إلى تكليف المحامي البارز ويليام دونوفان بتأسيس ما سمي وقتها بمكتب الخدمات الاستراتيجية الذي استمر في نشاطه عامين بعد انتهاء الحرب عام 1945 ليخلفه في مهماته وكالة الاستخبارات المركزية من 1947 والتي تعد اليوم أقوى أجهزة الاستخبارات في العالم على الإطلاق.

غلاف الكتاب

وتقول غراهام إنّ تصور دونوفان عن جهاز مدني للاستخبارات تمحور حول بناء منظومة لجمع كميات هائلة من البيانات وتحليلها للوصول إلى استنتاجات ذات فائدة، مما يحتاج إلى مهارات احترافيّة في التعامل مع المعلومات والأرشيف إلى جانب أساسيات العمل الميداني، ولذلك استقصد البحث عن مهنيين متخصصين من عالم الأكاديميا والسعي لتجنيدهم كعملاء.

كان أساتذة الجامعات وأمناء المكتبات وخبراء الأرشيف منجماً غنياً للمواهب التي يمكن أن تلعب دور الجاسوس المفترض ببراعة: أذكياء ويمكنهم التعلّم بسرعة، يحسنون التعامل مع المعلومات، ومعتادون على العمل المضني، ويتسمون عادة بالتحفظ في سلوكياتهم، مما يسهل ذوبانهم في الأجواء من حولهم دون لفت الانتباه، ومنهم بنى دونوفان أول شبكة تجسس أميركيّة محترفة في الفضاء المدنيّ.

تتبع غراهام في «كتاب وخنجر» دونوفان بينما يتصيد هذه المواهب في أروقة الكليّات النظريّة للجامعات الأميركيّة، وتضئ على قصص أربع منهم ممن تم تجنيدهم بأسلوب أدبي رفيع يمزج بين حقائق التاريخ ورومانسيّة الدراما، لتكون الولادة الأولى للجهد الاستخباراتي الأميركي في أجواء من الرّفوف المديدة من الكتب ورائحة الورق، وصناديق الوثائق والبحث عن معلومة في كومة من البيانات بعيداً عن الأنظار بدلاً من الصورة التلفزيونية لمطاردات العميل رقم 007 بالسيارات الرياضيّة الفارهة، والقفز من الطائرات، وترك المغلّفات للعملاء في نقاط الالتقاط. وبالنسبة للمؤلفة فإن كتابها بمثابة تذكّر لهؤلاء الكوادر الذين ساعدوا الولايات المتحدة على كسب الحرب، وتالياً مد مظلّة الهيمنة الأميركيّة على العالم لعقود.

الشخصيّات الأربعة التي اختارتها غراهام لسرد هذه المرحلة كانوا لدى تجنيدهم قد سلكوا في حياتهم خطوطاً مهنيّة أكاديمية في عدد من جامعات النخبة عندما تحدث إليهم موظفون فيدراليون لطلب مساعدتهم في المجهود الحربيّ. جوزيف كيرتس كان يدرّس اللغة الإنجليزية في جامعة ييل، وأديل كيبري أستاذة تاريخ العصور الوسطى في جامعة شيكاغو والخبيرة بعبور الأرشيفات وأقسام المحفوظات، وكارلتون كون أستاذ الأنثروبولوجيا في جامعة هارفارد، وأيضاً شيرمان كينت الباحث الملحق بقسم التاريخ في جامعة ييل.

تلقى المجندون الأكاديميون الجدد تدريبات مكثّفة على أساليب الخداع، ومراوغة المطاردين وطرائق التشفير وأساسيات القتال الفردي، ويبدو أنهم لم يجدوا صعوبة في التقاط هذه المهارات الجديدة، لكن الجزء الأصعب كما لاحظ مدربوهم كان تعليمهم نسيان خلفيّة اللياقة والتهذيب التي قد تمنعهم من ضرب الخصم تحت الحزام أو استغلال نقاط ضعفه.

أرسل بعدها كيرتس وكيبري تحت غطاء مهمّة أكاديمية لشراء الكتب من دور النشر المحليّة. كيرتس إلى إسطنبول - التي كانت تمور بالجواسيس من كل الدّول - وكيبري إلى استوكهولم - للبحث في مكتبات دولة محايدة عن مواد ألمانية قد تكون ممنوعة من التوزيع في مناطق أخرى من أوروبا: مثل الصحف والمجلات، والصّور، والخرائط.

أكوام المواد الأوليّة التي جمعتها كيبري كانت بحاجة إلى تنظيم وتحليل، وتلك كانت مهمة أوكلت لكينيث، الذي قاد فريقاً من المحللين تولى مثلاً تحديد مواقع المطارات ونقاط توزيع الكهرباء ومحطات السكك الحديدية ومكاتب التلغراف على امتداد الأراضي الفرنسيّة للعمل على منع قوات الاحتلال النازي من الانتفاع بها، وفي الوقت ذاته تحديد مبانٍ ومساحات قد يتسنى للحلفاء الاستفادة منها عند الحاجة لإنشاء مستشفيات ميدانيّة ونقاط ارتكاز.

وتقول غراهام إن فريق كينت نجح مستفيداً من الخرائط السياحيّة وأدلة الأعمال التي أرسلتها كيبري في تحديد مواقع معامل تنتج مكونات أساسيّة لصناعة أسلحة المحور والتي استهدفها الحلفاء بالتخريب بشكل ممنهج. أما كون فيبدو أنّه لم يكن مفيداً كثيراً خلال فترة الحرب، وكانت أفضل فكرة له كما تقول غراهام هي إخفاء العبوات الناسفة في أكوام الفضلات التي تتركها البغال على جوانب الطرق.

عاد هؤلاء الأكاديميون إلى جامعاتهم بعدما وضعت الحرب أوزارها: كيرتس استعاد وظيفته أستاذاً في جامعة ييل، واستأنفت كيبري عملها في عبور المجموعات الأرشيفية المغلقة التي تحتفظ بها الحكومات ومراكز البحث وجهات ذات حيثية مثل الفاتيكان. أما كينت فلم يعد يجد نفسه في عالم الأكاديميا، فالتحق بعد عدّة سنوات بوكالة الاستخبارات المركزية وأسس مجلتها البحثية الداخلية، «دراسات في الاستخبارات»، فيما تورط كون في نشر نظريات أنثروبولوجيّة ذات نفس عنصري ما لبثت أن فقدت قيمتها العلميّة خلال الخمسينيات فخسر سمعته وانتهى إلى الإهمال.

وتقول غراهام إن هذه البدايات المشجعة للتقاطع بين عالمي الكتاب والخنجر جعلت من مجموعة جامعات النخبة الأميركيّة - التي تسمى برابطة اللبلاب - بمثابة مزارع مفتوحة لاستقطاب المواهب المميزة إلى العمل الاستخباراتي، وهو الأمر الذي لا أحد ينكر أنه مستمر إلى الآن.