فايزة أبو النجا.. «امرأة بـ100 رجل»

مستشارة الأمن القومي المصري اختارها السيسي لتكون أول أنثى تتولى المنصب بعد خلوه 41 عاما

فايزة أبو النجا.. «امرأة بـ100 رجل»
TT

فايزة أبو النجا.. «امرأة بـ100 رجل»

فايزة أبو النجا.. «امرأة بـ100 رجل»

رحل مبارك ومن بعده المجلس العسكري ثم جاء السيسي، وبقيت فايزة أبو النجا، أحد أكبر مصادر ثقة الأنظمة السياسية في مصر، لتستحق وعن جدارة لقب «سيدة دولة»، وذلك بعد مشوار سياسي طويل، حصدت خلاله لقب «الأولى» في عدة مناصب مهمة، دشنت خلالها
دخول المرأة المصرية إلى عدد كبير من المواقع
الحساسة في الدولة، كان آخرها
الأسبوع الماضي.
أبو النجا، التي لقبت في مجلس الوزراء بأنها «امرأة بمائة رجل»، وزيرة التعاون الدولي أكثر من 11 عاما قضتها مع 4 حكومات متعاقبة، واشتهرت بمواقفها الحادة تجاه الولايات المتحدة، أعادها الرئيس عبد الفتاح السيسي إلى دائرة صنع القرار مجددا، بعد أن خرجت منها خلال حكم الإخوان المسلمين العام الماضي. حين عينها الرئيس المصري مطلع نوفمبر (تشرين الثاني) الحالي مستشارة لشؤون الأمن القومي. وهو ما شكل مفاجأة لم يتوقعها مؤيدوها قبل المعارضين، ولتصبح بذلك أول سيدة تتولى هذا المنصب الرفيع، الذي ظل شاغرا نحو 41 عاما، حين تقلده اللواء محمد حافظ إسماعيل، في عهد الرئيس الراحل أنور السادات.
دلالات كثيرة وحيثيات متنوعة فجرها قرار تعيين أبو النجا، (63 عاما)، في ذلك المنصب الأمني. فما بين من اعتبره يوما فارقا في تاريخ المرأة المصرية، كونها أول سيدة تتولى هذا المنصب بالغ الحساسية والدقة، وفي ظل ظروف أمنية وسياسية معقدة تعيشها البلاد في أعقاب ثورتين شعبيتين في 25 يناير (كانون الثاني) 2011 و30 يونيو (حزيران) 2014، وأنه اختيار سديد نظرا إلى ما يحمله من بُعد مختلف، فاختيار وزيرة سابقة بدأت حياتها دبلوماسية، لذلك المنصب الأمني بعيدا عن رجال الاستخبارات والعسكريين، يثبت أن رؤية الرئيس السيسي للأمن القومي ليست عسكرية فقط ولكنها تحمل أبعادا أهم من ذلك لتشمل العلاقات الاقتصادية والاجتماعية إضافة إلى مقتضيات الأمن التقليدية، بجانب أنها تعد خبيرة في أمور الدولة.
أبو النجا التي احتلت المركز الـ19 في قائمة مجلة «فورين بوليسي» لأقوى 25 امرأة في العالم عام 2012، تعد أول سيدة تتولى وزارة التعاون الدولي عام 2001، في حكومة وزارة الدكتور عاطف عبيد، واستمرت في عهد حكومتي الدكتور أحمد نظيف (2004 - 2011) وحتى قيام ثورة 25 يناير.
وبعد الإطاحة بنظام مبارك، كانت السيدة أبو النجا من القليلين من أعضاء الحكومة الذين حافظوا على مناصبهم وتفادت أجواء الثورة والتغيير، حيث استمرت في حكومة الفريق أحمد شفيق، لكن التحدي الأبرز كان استمرارها في حكومة الدكتور عصام شرف التي تشكلت في مارس (آذار) 2011، وأضيفت لها وزارة التخطيط، لتندمج في وزارة واحدة «التخطيط والتعاون الدولي».
بدت أبو النجا أشبه بالقدر مع بقائها في حكومة الدكتور كمال الجنزوري، التي أصبحت فيها بخلاف وزارتها الجديدة، متحدثة أيضا باسم الحكومة في الفترة من (25 نوفمبر 2011 - 24 يوليو «تموز» 2012)، واستمرت حتى انتخاب الرئيس الإخواني محمد مرسي، حيث خرجت من حكومة الدكتور هشام قنديل.
وتولت أبو النجا الدفاع عن حكومة الجنزوري حتى داخل البرلمان الذي هيمن عليه تيار الإسلام السياسي، وفي وقت كان حزب الأكثرية الإخواني، يقاتل من أجل الإطاحة بها (حكومة الجنزوري). وقد كافأ الجنزوري المرأة الحديدية في حكومته بقبلة شهيرة على جبينها تناقلتها طويلا وسائل الإعلام في اجتماع وداعي، خروجا عن المألوف.
يقول عنها الدكتور نبيل العربي الأمين العام لجامعة الدول العربية الحالي: «خلال الشهور الأربعة التي كنت فيها وزيرا للخارجية إثر ثورة 25 يناير تزاملت مع فايزة في مجلس الوزراء، وشاهدت بنفسي الدور المحوري الذي كانت تباشره.. واعتماد رؤساء الوزراء عليها في أهم الموضوعات، كما كان تحليلها الأحداث وشجاعتها في التعبير عن آرائها مثار إعجاب وتقدير من جميع الوزراء، حتى إن المستشار محمد عبد العزيز الجندي وزير العدل الأسبق، قال عنها عن حق إنها امرأة بـ100 رجل».
ويضيف، في مقال نشره بمناسبة تعيين أبو النجا في موقعها الجديد، «أثق تماما بأن اختيار رئيس الجمهورية لها لتولى المنصب يصب في مصلحة الوطن، فذلك منصب يتطلب تنسيقا وتعاونا وثيقين مع مختلف جهات الدولة، وعلى وجه الخصوص مع وزارة الخارجية».
الأمر الأبرز في تداعيات قرار تعيين أبو النجا مستشارة للأمن القومي، ذلك الذي يتعلق بالقلق الذي أثارته عودتها للحياة السياسية من جديد، لدى منظمات المجتمع المدني العاملة في مصر، المحلية والأجنبية على حد سواء، التي لديها خشية من مرحلة جديدة يتم فيها التضييق على عملها الحقوقي، بالنظر إلى المواقف السابقة للمسؤولة الجديدة.
وقادت أبو النجا حملة ضارية ضد جمعيات المجتمع المدني في ديسمبر (كانون الأول) عام 2011، بلغت ذروتها مع توجيه التهم لـ43 موظفا في ثلاث منظمات أميركية غير حكومية تعمل في مجال دعم الديمقراطية، وهي (المعهد الجمهوري الدولي، والمعهد الديمقراطي الوطني، وفريدوم هاوس)، منهم 19 أميركيا منعوا من مغادرة مصر، بما في ذلك المديرون القُطريون.
وقد أثارت الحملة آنذاك أزمة دبلوماسية بين القاهرة وواشنطن، كادت تنهي المعونة السنوية التي تمنحها أميركا لمصر منذ التوقيع على اتفاقية السلام بين القاهرة وتل أبيب والبالغة 1.3 مليار دولار.
وخلال تلك الفترة، داهمت قوات الشرطة المصرية مكاتب تلك المنظمات بالقاهرة وصادرت أجهزة الكومبيوتر والوثائق وفرضت حظر سفر على موظفيها، بما في ذلك سام لحود، نجل وزير النقل الأميركي راي لحود، حيث وجهت النيابة العامة اتهامات بالعمل دون تراخيص وتلقي تمويل غير مصرح به من الخارج، وتهما تتعلق بتمويل أعمال العنف في الشارع. ووفقا لمصادر في تلك الفترة، أبلغت أبو النجا النيابة العامة في جلسة مغلقة أن الولايات المتحدة ضخت أموالا إلى المنظمات غير الهادفة للربح، الممولة من الحكومة الفيدرالية، في مسعى لنشر الفوضى، وإحباط نمو مصر كدولة قوية وديمقراطية، وتحويل الثورة لمصالح الولايات المتحدة وإسرائيل.
تقول صحيفة «نيويورك تايمز» الأميركية، التي وصفت قرار تعيين أبو النجا مستشارة للأمن القومي المصري بـ«تصعيد السيدة المعادية لواشنطن»، إن «الوزيرة السابقة أثارت واحدة من كبرى الأزمات خلال 35 عاما من تحالف واشنطن والقاهرة، وأجبرت نجل وزير النقل الأميركي على الاختباء داخل السفارة الأميركية في القاهرة طيلة أسابيع خوفا من الاعتقال». وأمام الإصرار المصري، اضطرت واشنطن إلى دفع كفالة قدرها 4.6 مليون دولار من أجل سماح السلطات المصرية بخروج موظفيها المطلوبين قضائيا، وفقا لما ذكرته وزارة الخارجية الأميركية، حيث خرجوا «سرا» على متن طائرة مستأجرة إلى قبرص، رغم قرار حظر السفر عليهم قضائيا.
وقالت مصادر سياسية حينها، إن قائد الجيش المصري المشير محمد حسين طنطاوي، الذي كان يتولى إدارة البلاد في ذلك الوقت خلفا للرئيس الأسبق حسني مبارك، طالب أبو النجا بانتهاج «لهجة معتدلة مع واشنطن»، رغم رفضها.
وفي جلسة لمجلس الشعب السابق (البرلمان) في مارس 2012، وقفت أبو النجا، وقتها للتحدث عن علاقتها بقضية «التمويل الأجنبي»، قائلة: «ما تم اتخاذه من إجراءات كان في الاتجاه الصحيح، الأمة المصرية ترفض أن تكون سلعة عديمة القيمة تتداولها أيادي الأقوياء».
وأضافت أنها «اعترضت على الأسلوب السافر المتحدي للسيادة المصرية الذي اتبعته الإدارة الأميركية، وإنها تفتخر كمواطنة مصرية بأنها تعمل على حماية استقلال الوطن». كما صرحت قائلة: «كل بلد لديه أوراق ضغط في المجال السياسي، ومصر ليست استثناء». واعتبر محللون أميركيون عودة أبو النجا «تعني تجاهل السيسي المستمر تحالفه مع واشنطن، فضلا عن القلق حيال وضع منظمات المجتمع المدني». ونقلت صحيفة «نيويورك تايمز» عن مايكل حنا، الباحث بمؤسسة سينشري فاونديشن، بنيويورك قوله: «تعيين أبو النجا يمثل صفعة واضحة في وجه الولايات المتحدة، لكنه يتماشى مع الطريقة التي تتعامل بها حكومة السيسي مع العلاقة الثنائية بين البلدين».
وفسر مراقبون عودة أبو النجا إلى المشهد الرسمي بأنه علامة جديدة على أن السلطات المصرية الحالية تعتزم اتخاذ إجراءات صارمة ضد منظمات المجتمع المدني، حيث سبق أن أعلنت الحكومة مهلة انتهت يوم 10 نوفمبر الحالي لامتثال هذه المنظمات لقانون جديد ينظم عملها وتوفيق أوضاعها.
لكن الدكتور أحمد المسلماني، المستشار الإعلامي للرئيس المصري السابق عدلي منصور، علق على تعيين فايزة أبو النجا، قائلا إن «مستشارة الرئيس الجديدة تصغر هيلاري كلينتون (وزيرة الخارجية الأميركية السابقة) بـ7 سنوات.. وأكثر كفاءة من مستشارة الأمن القومي الأميركي سوزان رايس، لذلك من الطبيعي أن تشن الصحف الغربية حملة عليها».
في المقابل، وجهت عدة قوى معارضة، بينها تيارات إسلامية، انتقادات لاختيار أبو النجا، مدعين أنها وجه من وجوه النظام القديم. يقول الدكتور حازم حسني، أستاذ العلوم السياسية بجامعة القاهرة: «أبو النجا قررت الصعود السياسي عبر الحزب (الوطني) الذي ثار عليه المصريون، وتم حله بحكم محكمة». وأضاف: «نحن إذ نعلن رفضنا أبو النجا، فإننا لا نحاسب حساباتها، ولا نحاسبها هي على هذه الحسابات، فهي حرة فيها.. نحن فقط نقول إن عليها أن تشقى بشر هذه الحسابات كما نعمت من قبل بخيرها، لأنها في كل الأحوال كانت حسابات تتناقض مع ما نحسبها تكون حسابات المستقبل الذي لا مكان فيه لأي ارتباط سياسي برجل ثار عليه المصريون».
يمكن وصف أبو النجا بأنها وبحق «ابنة» الدولة المصرية ونظامها العريق، فهي منذ تخرجها في كلية التجارة بجامعة القاهرة عام 1973، حظيت بثقة أنظمة الدولة على مدار ما يقرب من 40 عاما.
تعد أبو النجا دبلوماسية من طراز رفيع، حيث بدأت مشوارها المهني بالانضمام إلى السلك الدبلوماسي عام 1975، وذلك عندما التحقت بالعمل في وزارة الخارجية المصرية. وكانت أولى مهامها في الخارج عضوية البعثة الدائمة لمصر لدى الأمم المتحدة في نيويورك، حيث مثلت مصر في اللجنة الأولى للجمعية العامة للأمم المتحدة المعنية بنزع السلاح والأمن الدولي، وكذلك في اللجنة الثالثة المعنية بموضوعات الحقوق الاجتماعية وحقوق الإنسان.
وفي عام 1987، انضمت أبو النجا إلى فريق الدفاع المصري برئاسة السفير نبيل العربي في لجنة هيئة تحكيم «طابا» في جنيف، التي أصدرت حكمها لمصلحة مصر بعد جلسات استماع قانونية ودبلوماسية طويلة وشاقة، مما أدى إلى استعادة مصر شبه جزيرة سيناء بالكامل.
ونظرا إلى علاقات العمل الممتدة مع الدكتور بطرس بطرس غالي، عندما كان وزيرا للدولة للشؤون الخارجية، تم اختيار أبو النجا، بصفتها الدبلوماسية المصرية الوحيدة للعمل معه مستشارا خاصا عندما تم انتخابه أمينا عاما للأمم المتحدة عام 1992.
يقول بطرس غالي عن تعيين أبو النجا في منصبها الجديد: «تلميذتي.. عملت معها في الأمم المتحدة 5 سنوات، وهي خبيرة في الشؤون الدولية والداخلية، تمتلك نضجا سياسيا».
ويرصد الدكتور نبيل العربي تلك الفترة التي عايش فيها السيدة أبو النجا من قرب، قائلا: «تعرفت إلى فايزة عندما انضمت إلى الوفد الدائم لمصر في نيويورك عام 1979 وكان الراحل الدكتور عصمت عبد المجيد مندوبا دائما وكنت مندوبا مناوبا، وعلى الرغم من صغر سنها آنذاك فإنها أظهرت كفاءة عالية مقرونة بإخلاص وتفان تام للعمل».
ويتابع: «تزوجت بالسفير المتميز هشام الزميتي، الذي عين عضوا في الوفد الدائم في جنيف، وصاحبته كزوجة في مهمته، وتوافق ذلك مع فترة الإعداد لتحكيم طابا، ونظرا إلى أن إعداد الأسانيد والدفوع المطلوب تضمينها في مذكرات الدفاع المصرية لتقديمها إلى هيئة التحكيم الدولية، كان يتطلب تغطية شاملة لفترة عصبة الأمم، فقد طلبت من فايزة تولي هذا الجانب المهم، وتمكنت بفضل دقتها ومثابرتها من موافاة الإدارة القانونية في وزارة الخارجية المصرية بخرائط ووثائق دعمت وجهة نظر مصر».
ويضيف: «حينما انتخب بطرس غالي سكرتيرا عاما للأمم المتحدة وقع اختياره على فايزة لتعمل مستشارا ومساعدا خاصا له، وقد عملت بمنتهى الإخلاص والتفاني، ثم قررت الاعتذار لخلفه كوفي أنان عن الاستمرار في ذات المنصب المهم والحساس.. رغم سعيه لإقناعها بالاستمرار في منصبها».
خلال الفترة من 1997 حتى 1999، شغلت أبو النجا منصب نائب مساعد وزير الخارجية للعلاقات الأفريقية الثنائية، في عهد وزير الخارجية آنذاك عمرو موسى حيث لعبت دورا بارزا في تحسين علاقات التعاون بين مصر والدول الأفريقية. واعترافا بإسهاماتها الكثيرة لصالح أفريقيا، تم التنويه عنها في كتاب الدكتور شارون فريمان «حوار مع قيادات نسائية أفريقية قوية: الإلهام، والدافع، والاستراتيجية»، باعتبارها واحدة من القيادات النسائية الـ11 الأكثر قوة في أفريقيا.
شغلت أبو النجا قبل انضمامها إلى مجلس الوزراء، في الفترة من 1999 حتى نهاية 2001 منصب مندوب مصر الدائم لدى الأمم المتحدة في جنيف وكل المنظمات الدولية في المدينة السويسرية. كما شغلت منصب مندوب مصر الدائم لدى منظمة التجارة العالمية، ومؤتمر نزع السلاح، وهكذا ومرة أخرى تصبح أول سيدة في مصر تشغل أيا من هذه المناصب.
وقد لعبت أبو النجا من خلال هذه المناصب دورا مؤثرا عبر مشاركتها في الكثير من المؤتمرات الدولية المهمة، التي كان من أهمها المؤتمرات الوزارية لمنظمة التجارة العالمية في كل من سياتل 1999 والدوحة 2001، ومؤتمر مراجعة معاهدة منع انتشار الأسلحة النووية في نيويورك 2000، ومؤتمر الأمم المتحدة العاشر للتجارة والتنمية في بانكوك 2000.
يربط البعض بين مواقف أبو النجا الخاصة برفض الانصياع أو الخضوع للقوى الغربية، وولادتها في بورسعيد (شمال شرقي البلاد)، في 12 نوفمبر 1951، حيث ترعرعت في ظل مقاومة شعبية لأبناء المدينة الباسلة ضد العدوان الثلاثي على مصر عام 1956، وخلال حربي 1967 وحرب 1973 ضد إسرائيل. وقد انتخبت عام 2010 عضوا بمجلس الشعب عن مدينة بورسعيد، حيث فازت بأحد المقعدين المخصصين للنساء عن المحافظة.



الحدود العراقية ــ السورية... وذكريات صيف 2014

شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)
شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)
TT

الحدود العراقية ــ السورية... وذكريات صيف 2014

شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)
شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)

شأن معظم دول المنطقة والإقليم، تسببت الأزمة السورية المتصاعدة في تراجع الاهتمام الرسمي والشعبي العراقي بالحرب التي تشنّها إسرائيل على غزة ولبنان، بعد أن كانت تحظى بأولوية قصوى، خصوصاً بعد التهديدات الإسرائيلية بتوجيه ضربات عسكرية ضد الفصائل المسلحة العراقية التي استهدفتها بأكثر من 200 هجمة صاروخية خلال الأشهر الماضية. وأظهر رئيس الوزراء محمد شيّاع السوداني، موقفاً داعماً للحكومة السورية في ظروفها الحالية منذ اليوم الأول للهجوم الذي شنَّته الفصائل السورية المسلحة وتمكّنت من السيطرة على محافظة حلب ومدن أخرى، إذ أجرى اتصالاً بالرئيس السوري بشار الأسد وكذلك الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان، وأكد دعمه لدمشق.

أعلن رئيس الحكومة العراقي محمد شيّاع السوداني، يوم الثلاثاء الماضي، موقفاً أكثر وضوحاً بالنسبة لدعم نظام دمشق، وذلك خلال اتصال - مماثل لاتصاليه مع القيادتين السورية والإيرانية - أجراه مع الرئيس التركي رجب طيب إردوغان.

ومما قاله السوداني إن «العراق لن يقف متفرجاً على التداعيات الخطيرة الحاصلة في سوريا، خصوصاً عمليات التطهير العرقي للمكوّنات والمذاهب هناك»، طبقاً لبيان حكومي.

كذلك شدّد الزعيم العراقي على أنه سبق لبلاده أن «تضرّرت من الإرهاب ونتائج سيطرة التنظيمات المتطرّفة على مناطق في سوريا، ولن يُسمَح بتكرار ذلك»، مؤكداً «أهمية احترام وحدة سوريا وسيادتها، وأن العراق سيبذل كل الجهود من أجل الحفاظ على أمنه وأمن سوريا».

محمد شياع السوداني (آ ف ب)

السوداني كان قد انهمك بسلسلة اتصالات خلال الأيام القليلة الماضية مع عدد من قادة الدول، بخصوص الوضع في سوريا؛ من «أجل دعم الاستقرار في المنطقة، وعدم حصول أي تداعيات فيها، خصوصاً مع ما تشهده من حرب إجرامية صهيونية مستمرة منذ أكثر من عام» بحسب بيان حكومي.

وأظهرت قوى «الإطار التنسيقي» الشيعية موقفاً مماثلاً وداعماً لحكومة السوداني في مواقفها حيال سوريا، لكنها أعربت خلال اجتماع، الثلاثاء الماضي أيضاً، عن قلقها جراء الأوضاع في سوريا بعد «احتلال الإرهابيين مناطق مهمة» طبقاً لبيان صدر عن الاجتماع. وعدّت «أمن سوريا امتداداً للأمن القومي العراقي للجوار الجغرافي بين البلدين، والامتدادات المختلفة لذلك الجوار».

الحدود المشتركة مؤمّنة

للعلم، مع الشرارة الأولى لاندلاع الأزمة السورية، اتخذت السلطات العراقية على المستوى الأمني إجراءات عديدة «لتأمين» حدودها الممتدة لأكثر من 600 كيلومتر مع سوريا. وصدرت بيانات كثيرة حول جاهزية القوات العراقية وقدرتها على التصدّي لأي محاولة توغّل داخل الأراضي العراقية من قبل الفصائل المسلحة من الجانب السوري، مثلما حدث صيف عام 2014، حين تمكَّنت تلك الجماعات من كسر الحدود المشتركة والسيطرة على مساحات واسعة من العراق.

اللواء يحيى رسول، الناطق باسم القائد العام للقوات المسلحة العراقية، أوضح (الثلاثاء) أبرز الإجراءات المُتَّخذة لتحصين الحدود مع سوريا. وقال في تصريحات صحافية إن «الحدود مؤمَنة ومُحكمة بشكل كبير من تحكيمات وتحصينات، وهناك وجود لقوات الحدود على خط الصفر الذي يربطنا مع الجارة سوريا مدعومة بالأسلحة الساندة والجهد الفني، المتمثل بالكاميرات الحرارية وأبراج المراقبة المحصّنة». وأضاف رسول: «لا خوف على الحدود العراقية، فهي مؤمّنة ومحكمة ومحصّنة، وأبطالنا منتشرون على طولها»، مشيراً إلى أنه «تم تعزيز الحدود بقطاعات من الألوية المدرعة وهي موجودة أيضاً عند الحدود».

أيضاً، وصل وفد أمني برئاسة الفريق أول قوات خاصة الركن عبد الأمير رشيد يارالله، رئيس أركان الجيش، يوم الأربعاء، إلى الشريط الحدودي العراقي - السوري. وذكر بيان عسكري أن «هدف الزيارة جاء لمتابعة انتشار القطعات الأمنية وانفتاح خطوط الصد».

غموض في الموقف

إلا أنه حتى مع المواقف الحكومية الداعمة لدمشق في أزمتها الراهنة، يبدو جلياً «الالتباس» بالنسبة لكثرة من المراقبين، وبالأخص لجهة شكل ذلك الدعم وطبيعته، وما إذا كانت السلطات الحكومية العراقية ستنخرط بقوة لمساعدة نظام الأسد عسكرياً، أم أنها ستبقى عند منطقة الدعم السياسي والدبلوماسي، تاركة أمر الانخراط والمساعدة الميدانية للفصائل المسلحة.

وهنا يلاحظ إياد العنبر، أستاذ العلوم السياسية في جامعة بغداد، وجود «التباس واضح حيال الموقف من الحدث السوري، وهذا الالتباس نختبره منذ سنوات، وليس هناك تمييز واضح بين العراق الرسمي وغير الرسمي». وتابع العنبر لـ«الشرق الأوسط» أن «مستويات تفعيل المساهمة العراقية في الحرب غير واضحة، وإذا ما قررت الحكومة البقاء على المستوى الدبلوماسي بالنسبة لقضة دعم سوريا، أم أن هناك مشاركة عسكرية».

غير أن إحسان الشمري، أستاذ الدراسات الاستراتيجية والدولية في جامعة بغداد، يعتقد بأن «العراق الرسمي عبَر عتبة التردّد، وبات منخرطاً في الأزمة السورية». وفي لقاء مع «الشرق الأوسط» بنى الشمري فرضيته على مجمل المواقف الرسمية التي صدرت عن رئيس الوزراء، والناطق الرسمي، وزعماء «الإطار التنسيقي»، وشرح قائلاً إن «هذه المواقف بمجملها كسرت مبدأ الحياد وعدم التدخل في شؤون الدول الأخرى الذي يتمسّك به العراق، إلى جانب كونها انخراطاً رسمياً عراقياً بالأزمة السورية».

نتنياهو غير مضمون

ولكن، بعيداً عن الانشغال الراهن بالأزمة السورية، ما زالت التهديدات الإسرائيلية بين أهم القضايا التي تشغل الرأي العام ببعدَيه السياسي والشعبي. وحتى مع الترحيب العراقي بقرار وقف إطلاق النار بين إسرائيل و«حزب الله»، ما زالت مخاوف البلاد من ضربة إسرائيلية محتملة قائمةً.

ولقد قال الناطق باسم الحكومة باسم العوادي، الأربعاء قبل الماضي، في تصريحات صحافية، إنه «مع عملية وقف إطلاق النار في لبنان، نحن أنهينا الجزء الأسهل، فالمعركة انتهت والحرب لم تنتهِ، فالأصعب أنك ستدخل بالمخططات غير المعلومة. ونحن (العراق) واقعون في المنطقة الحرام، لكن السياسة العقلانية المتوازنة استطاعت أن تجنبنا الضرر».

وأجاب، من ثم، عن طبيعة الرد العراقي إذا ما هاجمت إسرائيل أراضيه، بالقول: «إلى حد أيام قليلة كانت تأتي نتائج جيدة من المعادلات التي اشتغل عليها رئيس الوزراء، لكن رغم ذلك فلا أحد يضمن ما الذي يدور في بال حكومة نتنياهو، وما هو القادم مع الإدارة الأميركية الجديدة، وكيف سيتصرف نتنياهو».

وتابع العوادي، أن «الإسرائيليين عملوا على تفكيك الساحات، وتوجيه ضربات إلى اليمن وسوريا، لكن الطرف العراقي هو الوحيد الذي لم يستطيعوا الوصول إليه بفضل المعادلة... وقد يكونون وضعونا للحظات الأخيرة أو الأيام الأخيرة بنوع ما، وهذا وارد جداً، وتتعامل الحكومة العراقية مع ذلك».

شبح هجوم إسرائيلي

وحقاً، لا يزال شبح هجوم إسرائيلي واسع يخيم على بغداد، إذ تناقلت أوساط حزبية تحذيرات جدية من شنِّ ضربات جوية على العراق. وفي وقت سابق، قال مصدر مقرّب من قوى «الإطار التنسيقي» الشيعية، لـ«الشرق الأوسط»، إنَّ «مخاوف الأحزاب الشيعية من جدية التهديد دفعتها إلى مطالبة رئيس الحكومة للقيام بما يلزم لمنع الهجمات». وأكَّد المصدر أنَّ «فصائل عراقية مسلّحة لجأت أخيراً إلى التحرك في أجواء من التكتم والسرية، وقد جرى بشكل مؤكد إبدال معظم المواقع العسكرية التابعة لها».

وفي سياق متصل، تتحدَّث مصادر صحافية عمَّا وصفتها بـ«التقديرات الحكومية» التي تشير إلى إمكانية تعرّض البلاد لـ«300 هجوم إسرائيلي». وفي مطلع الأسبوع الماضي، شدَّدت وزارة الخارجية العراقية، في رسالة إلى مجلس الأمن، على أهمية «تدخل المجتمع الدولي لوقف هذه السلوكيات العدوانية لإسرائيل».

كما أنَّه حيال التهديدات الجدية والخشية الحقيقية من عمل عسكري إسرائيل ضد البلاد، اهتدت بعض الشخصيات والأجواء المقرّبة من الحكومة والفصائل إلى «رمي الكرة» في الملعب الأميركي، مستندين بذلك إلى اتفاقية «الإطار الاستراتيجي» المُوقَّعة منذ عام 2011، بين بغداد وواشنطن، وهو العام الذي خرجت فيه القوات الأميركية من العراق.

التهديدات الإسرائيلية من أهم القضايا التي تشغل الرأي العام العراقي

هادي العامري (رووداو)

العامري يلوم واشنطن

أيضاً، وجد هادي العامري، زعيم منظمة «بدر»، بنهاية أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، الفرصة ليحمّل واشنطن مسؤولية حماية الأجواء العراقية، بعدما شنَّت إسرائيل هجوماً عسكرياً ضد إيران، مستخدمةً الأجواء العراقية في هجماتها. ويومذاك، حمّل العامري الجانب الأميركي «المسؤولية الكاملة» على انتهاك إسرائيل سيادة الأجواء العراقية في طريقها لضرب إيران. وقال، إن «الجانب الأميركي أثبت مجدّداً إصراره على الهيمنة على الأجواء العراقية، وعمله بالضد من مصالح العراق وشعبه وسيادته، بل سعيه لخدمة الكيان الصهيوني وإمداده بكل ما يحتاج إليه لممارسة أساليبه العدوانية، وتهديده للسلام والاستقرار في المنطقة».

وأضاف العامري: «لهذا باتت الحاجة ماسة أكثر من أي وقت مضى لإنهاء الوجود العسكري الأميركي في العراق بأشكاله كافة». وللعلم، فإن منظمة «بدر» - التي يقودها العامري - وردت ضمن لائحة المنظمات التي اتهمتها إسرائيل بشنِّ هجمات ضدها خلال الشكوى التي قدمتها إلى مجلس الأمن في 18 نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي.

وبناءً على تصريحات العامري السالفة، وتصريحات أخرى لشخصيات مقرّبة من الفصائل المسلحة وقوى «الإطار التنسيقي» الشيعية، تبلورت خلال الأسبوع الأخير، قناعة داخل أوساط هذه القوى مفادها، بأن واشنطن «ملزمة وبشكل مباشر بحماية الأجواء العراقية» من أي هجوم محتمل من إسرائيل أو غيرها، أخذاً في الاعتبار الاتفاقية الاستراتيجية الموقعة و«سيطرتها على الأجواء العراقية».

وبالتوازي، سبق أن حمّل فادي الشمري، المستشار السياسي لرئيس الوزراء، الولايات المتحدة، أيضاً وفقاً لـ«اتفاقية الإطار الاستراتيجي والاتفاقية الأمنية»، مسؤولية «الردع، والرد على أي هجمات خارجية تمسّ الأمن الداخلي العراقي».

الرد الأميركي قاطع

في المقابل، تخلي واشنطن مسؤوليتها حيال هذا الأمر. ورداً على المزاعم العراقية المتعلقة بـ«الحماية الأميركية»، قالت ألينا رومانوسكي، السفيرة الأميركية في بغداد، صراحةً إن بلادها غير معنية بذلك. وأردفت رومانوسكي، خلال مقابلة تلفزيونية سابقة، أن التحالف الدولي دُعي إلى العراق لـ«محاربة (داعش) قبل 10 سنوات، وقد حققنا إنجازات على مستوى هزيمة هذا التنظيم، لكنه ما زال يمثل بعض التهديد، ودعوة الحكومة العراقية لنا تتعلق بهذا الجانب حصراً. أما اتفاقية الإطار الاستراتيجي فتلزمنا ببناء القدرات العسكرية العراقية، لكنها لا تتطرق لمسألة حماية الأجواء والدفاع بالنيابة». ونفت السفيرة أن تكون بلادها قد «فرضت سيطرتها على سماء العراق».

والاثنين قبل الماضي، قالت رومانوسكي، خلال لقاء «طاولة مستديرة» لعدد من وسائل الإعلام: «أود أن أكون واضحة جداً، ومنذ البداية، بأن الإسرائيليين وجّهوا تحذيرات ردع للميليشيات المدعومة إيرانياً والموجودة هنا في العراق، التي تعتدي على إسرائيل». وأضافت: «هذه الميليشيات هي التي بدأت الاعتداء على إسرائيل. ولأكون واضحة جداً في هذه النقطة، فإن الإسرائيليين حذّروا حكومة العراق بأن يوقف هذه الميليشيات عن اعتداءاتها المتكررة والمستمرة على إسرائيل... إن رسالتنا إلى حكومة العراق هي أن تسيطر على هذه الميليشيات المنفلتة، والتي لا تعتد بأوامر الحكومة وأوامر القائد العام للقوات المسلحة رئيس الوزراء. إن إسرائيل دولة لها سيادتها، وهي سترد على أي اعتداء من أي مكان ضدها».

جدعون ساعر (آ ف ب)

 

حقائق

قلق عراقي جدّي من التهديدات الإسرائيلية مع مطالبة واشنطن بالتدخّل

خلال الأسبوع قبل الماضي، بعث وزير الخارجية الإسرائيلي جدعون ساعر رسالةً إلى مجلس الأمن تكلّم فيها عمّا أسماه بـ«حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها»، وحمّل فيها الحكومة العراقية المسؤولية عن الهجمات التي تشنها الفصائل العراقية عليها، داعياً مجلس الأمن للتحرك والتأكد من أن الحكومة العراقية تفي بالتزاماتها. ساعر اتّهم بالتحديد «عصائب أهل الحق» و«كتائب حزب الله» و«ألوية بدر» وحركة «النُّجباء» و«أنصار الله الأوفياء» و«كتائب سيد الشهداء»، بمهاجمة إسرائيل، ومعظم هذه الفصائل مشاركة في الحكومة العراقية الحالية ولها نفوذ كبير داخلها. هنا، تجدر الإشارة إلى أنه سبق لرئاسة الوزراء العراقية توجيه وزارة الخارجية لمتابعة ملف التهديدات الإسرائيلية في المحافل الأممية والدولية وأمام هيئات منظمة الأمم المتحدة، واتخاذ كل الخطوات اللازمة، وفق مبادئ القانون الدولي، لحفظ حقوق العراق وردع تهديدات إسرائيل العدوانية. كذلك طالبت رئاسة الوزراء بـ«دعوة جامعة الدول العربية إلى اتخاذ موقف حازم وموحّد ضد تهديدات سلطات الكيان المحتل، يتضمن إجراءات عملية تستند إلى وحدة المصير والدفاع المشترك». وهذا بجانب «مطالبة مجلس الأمن الدولي بالنظر في الشكاوى المقدمة من جمهورية العراق ضد سلطات الكيان المحتل، واتخاذ إجراءات رادعة تكفل تحقيق الاستقرار والسِّلم الإقليمي والدولي»، وباتخاذ الولايات المتحدة مع العراق، من خلال الحوارات الأمنية والعسكرية ضمن إطار القسم الثالث من «اتفاقية الإطار الاستراتيجي»، خطوات فعالة «لردع سلطات الكيان المحتل» مع دعوة «التحالف الدولي والدول الأعضاء فيه إلى كبح هذه التهديدات والحدّ من اتساع رقعة الحرب».