«كورونا» يعيد توزيع النفوذ ورسم التحالفات في العالم

أوروبا على خطى أميركا في التشكيك بمعلومات الصين عن منشأ الأزمة وإدارتها

«كورونا» يعيد توزيع النفوذ ورسم التحالفات في العالم
TT

«كورونا» يعيد توزيع النفوذ ورسم التحالفات في العالم

«كورونا» يعيد توزيع النفوذ ورسم التحالفات في العالم

من الإفرازات الأولى البيّنة لجائحة «كورونا» (كوفيد - 19)، خارج المشهد الصحي والاقتصادي، احتدام المنافسة الجيواستراتيجية بين الدول العظمى التي تدرك جيّداً أن العالم على أبواب تغييرات جذرية في معادلة توزيع النفوذ ورسم التحالفات الجديدة.
لم يعد وحده الرئيس الأمريكي دونالد ترمب الذي يطلق سهام الانتقادات في المرمى الصيني بسبب التعتيم الذي مارسته بكين على تطورات أزمة فيروس «كورونا» في مراحلها الأولى والحملة التي تقوم بها لاستغلالها من أجل تلميع صورتها. فمنذ أيام تتوالى التصريحات على ألسنة قادة أوروبيين تشكّك في المعلومات التي قدّمتها الصين عن منشأ الأزمة الصحّية وإدارتها، وتشير إلى حملة إعلامية تهدف إلى التنصّل من المسؤولية.
حكومات أوروبية عدّة، تتقدّمها فرنسا وبريطانيا وألمانيا، بدأت تغيّر في لهجتها تجاه بكين بعد التصريحات التي أدلى بها الأسبوع الماضي الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون وقال فيها إن الصين قد أخفت معلومات بشأن الأزمة في مراحلها الأولى. وفيما كان وزير الخارجية الفرنسي جان لوي لودريان يقول: «نأمل من الصين أن تحترمنا مثلما ترغب هي في أن نبادلها الاحترام»، وصرّح نظيره البريطاني دومينيك راب قائلاً: «لن تعود الأمور إلى ما كانت عليه في السابق طالما لم توضح الصين بشكل كامل ما حصل بشأن الفيروس».
وكان الأوروبيون حتى الآن قد لزموا الحياد على الجبهة التي فتحتها أزمة «كوفيد - 19» لتوسيع دوائر النفوذ بين الولايات المتحدة والصين، علماً بأن الممثل الأعلى للسياسة الخارجية الأوروبية جوزيب بورّيل كان قد حذّر في تصريحات له أواخر الشهر الماضي من «سياسة السخاء التي تُستخدم كسلاح في المعركة العالمية حول النفوذ الجيواستراتيجي».
الكل يتذكّر كيف كانت الطائرات الصينية تهبط يوميّاً بالعشرات في المطارات الأوروبية بينما كان الأوروبيّون يقفلون حدودهم الداخلية في الأسابيع الأولى من الأزمة. ولم يعد أحد يذكر أن الأوروبييّن هبّوا لمساعدة الصين عندما ظهرت فيها الإصابات الأولى مطلع هذا العام. ومع انتشار الوباء وخروجه عن السيطرة في أوروبا، جنح المشهد الإعلامي إلى تسليط الأضواء على القوة الصينيّة الصاعدة تهبّ لنجدة الديمقراطيات الغربية التي تتسوّل القفازات والكمّامات وتعجز عن احتواء الفيروس.
صحيح أن الأوروبيين لم يستخدموا الأسلوب المباشر والصدامي للرئيس الأمريكي الذي تحدّث طوال أيام عن «الفيروس الصيني» ولم يستبعد نظريّة تسرّبه من أحد المختبرات، مهدداً بعواقب، لكن الرسالة هي ذاتها. ويقول مسؤول أوروبي رفيع: «الردّ الذي ورد على لسان بورّيل كان واضحاً وشديداً على الحملة الدبلوماسية الصينية لتسويق إدارتها للأزمة، واليوم أصبحت الشكوك تحوم على نطاق واسع فوق شفافيّة وصحّة المعلومات التي قدّمتها بكّين بشأن مصدر الفيروس وإدارة الأزمة في مرحلتها الأولى، وأيضاً حول كشفها عن خطورة الوضع في ووهان وإقليم هوباي».
ويذكّر أحد الخبراء في خليّة إدارة أزمة «كوفيد - 19» التي شكّلتها المفوضية الأوروبية، أن وزير الخارجية الفرنسي كان قد استدعى السفير الصيني في باريس بعد نشر الموقع الرسمي للسفارة مجموعة من المقالات التي تتهمّ الحكومات الغربية بسوء إدارة الأزمة وتهاجم وسائل الإعلام الغربية، وأعرب له عن احتجاجه الشديد لتلك الافتراءات. ومن الاتهامات التي وردت في تلك المقالات، التي اعتذرت عنها الصين لاحقاً، أن أفراد الطواقم الصحّية المكلّفة بعناية المرضى في بعض دور العجزة غادروا مواقعهم بين ليلة وضحاها تاركين المسنّين يموتون من الجوع والمرض.
وفي معلومات لـ«الشرق الأوسط» أن هذا الموضوع الذي تصفه أوساط دبلوماسية بأنه «حسّاس جداً بالنسبة لأوروبا في مثل هذا الظرف»، سيكون على طاولة القمة الأوروبية غداً الخميس، وأن هناك توافقاً مبدئياً على «عدم التصعيد مع بكين، لكن مع التشديد على ضرورة إجراء مراجعة معمّقة وشفّافة لكل ما حصل منذ بداية الأزمة وطرح الأسئلة حول مصدرها، وما إذا كان من الممكن تحاشيها».
ويدرك الأوروبيّون أنهم لا يملكون، على الأقل في هذه المرحلة، أوراق السير في ركاب الموقف الأمريكي تجاه الصين، خاصة أن معظم الدول الأوروبية ستطلّ بعد نهاية الأزمة الصحية على مشهد اقتصادي كارثي قد يمتد لسنوات قبل الخروج منه. وكان رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون عند وصوله إلى داونينغ ستريت قد اختار المحافظة على الشراكة مع الصين لتطوير شبكات الاتصال الجديدة G 5 رغم تحذيرات واشنطن ومعارضة الصقور في حزبه. وقد حافظ الأوروبيون حتى الآن، على دبلوماسية الأسلوب في التعاطي مع هذا الموضوع ولم يوفّروا مناسبة للتنويه بالتعاون مع بكين في مجال تبادل المعدات الصحية والمساعدة على احتواء الوباء ومعالجته.
لكن الانطباع الذي يسود منذ فترة في الأوساط السياسية الأوروبية، هو أن التصعيد مع بكين بات محتوماً بعد أن تحوّلت هذه الأزمة إلى معركة، بأسلحة جديدة، في المواجهة بين القوى العظمى، خاصة أن «بكّين تراهن على شرذمة الاتحاد الأوروبي»، كما قال مؤخراً وزير الخارجية الفرنسي الذي اعتبر أن الصين ترى نفسها جاهزة لدور الزعامة العالمية الجديدة. ودعا الولايات المتحدة إلى القيام بمسؤوليتها والمحافظة على علاقات الثقة مع حلفائها. وتلتزم الحكومتان الإيطالية والإسبانية الصمت الرسمي التام في هذه المواجهة التي يتحرّك الجميع فيها بحذر شديد، خاصة أن الأزمة الصحيّة ما زالت مفتوحة على كل الاحتمالات. لكن وسائل الإعلام في البلدين هي التي تتكفّل بتوجيه أصابع الاتهام يومياً إلى بكين وعدم شفافيتها واستغلالها الأزمة.
ألمانيا من جهتها مستمرّة في حرصها على عدم المواجهة مع الصين، شريكتها التجارية الكبرى، خاصة أنها دخلت منذ فترة في مرحلة ركود وتعتمد على المواد الطبيّة الصينية في معركتها ضد الفيروس. لكن رغم الحرص الشديد الذي تتميّز به المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل في تصريحاتها العلنية، غمزت من قناة بكين مؤخراً في مقابلة صحافية عندما قالت إن «شفافية الصين حول نشوء الفيروس من شأنها أن تساعد العالم بأسره على معرفته بشكل أفضل».
الاعتقاد السائد في الأوساط الأوروبية هو أن المواجهة مع الصين لن تتعدّى التصعيد في اللغة الدبلوماسية ولن تذهب بعيداً كما تطالب بعض الجهات المتطرفة. ولا أحد يتوقّع أن تجازف أي دولة أوروبية بعلاقاتها التجارية مع الصين في هذه المرحلة، خاصة أن بلدانا عديدة، وفي طليعتها ألمانيا، تعتمد على الإمدادات الصحّية والطبية الصينية لمواجهة الجائحة.


مقالات ذات صلة

متحور جديد لـ«كورونا» في مصر؟... نفي رسمي و«تخوف سوشيالي»

شمال افريقيا «الصحة» المصرية تنفي رصد أمراض فيروسية أو متحورات مستحدثة (أرشيفية - مديرية الصحة والسكان بالقليوبية)

متحور جديد لـ«كورونا» في مصر؟... نفي رسمي و«تخوف سوشيالي»

نفت وزارة الصحة المصرية رصد أي أمراض بكتيرية أو فيروسية أو متحورات مستحدثة مجهولة من فيروس «كورونا».

محمد عجم (القاهرة)
الولايات المتحدة​ أظهر المسح الجديد تراجعاً في عدد الأطفال الصغار المسجلين في الدور التعليمية ما قبل سن الالتحاق بالمدارس في أميركا من جراء إغلاق الكثير من المدارس في ذروة جائحة كورونا (متداولة)

مسح جديد يرصد تأثير جائحة «كورونا» على أسلوب حياة الأميركيين

أظهر مسح أميركي تراجع عدد الأجداد الذين يعيشون مع أحفادهم ويعتنون بهم، وانخفاض عدد الأطفال الصغار الذين يذهبون إلى الدور التعليمية في أميركا.

«الشرق الأوسط» (واشنطن)
شمال افريقيا الزحام من أسباب انتشار العدوى (تصوير: عبد الفتاح فرج)

مصر: تطمينات رسمية بشأن انتشار متحور جديد لـ«كورونا»

نفى الدكتور محمد عوض تاج الدين مستشار الرئيس المصري لشؤون الصحة والوقاية وجود أي دليل على انتشار متحور جديد من فيروس «كورونا» في مصر الآن.

أحمد حسن بلح (القاهرة)
العالم رجلان إندونيسيان كانا في السابق ضحايا لعصابات الاتجار بالبشر وأُجبرا على العمل محتالين في كمبوديا (أ.ف.ب)

الاتجار بالبشر يرتفع بشكل حاد عالمياً...وأكثر من ثُلث الضحايا أطفال

ذكر تقرير للأمم المتحدة -نُشر اليوم (الأربعاء)- أن الاتجار بالبشر ارتفع بشكل حاد، بسبب الصراعات والكوارث الناجمة عن المناخ والأزمات العالمية.

«الشرق الأوسط» (فيينا)

هل يمكن رفع عقوبات الأمم المتحدة عن «هيئة تحرير الشام» والجولاني؟

أبو محمد الجولاني يتحدث في الجامع الأموي بدمشق 8 ديسمبر 2024 (أ.ب)
أبو محمد الجولاني يتحدث في الجامع الأموي بدمشق 8 ديسمبر 2024 (أ.ب)
TT

هل يمكن رفع عقوبات الأمم المتحدة عن «هيئة تحرير الشام» والجولاني؟

أبو محمد الجولاني يتحدث في الجامع الأموي بدمشق 8 ديسمبر 2024 (أ.ب)
أبو محمد الجولاني يتحدث في الجامع الأموي بدمشق 8 ديسمبر 2024 (أ.ب)

تخضع «هيئة تحرير الشام»، التي قادت قوات المعارضة للإطاحة بالرئيس السوري بشار الأسد، لعقوبات من الأمم المتحدة منذ فترة طويلة، وهو ما وصفه المبعوث الخاص للمنظمة الدولية إلى سوريا غير بيدرسون، بأنه «عامل تعقيد لنا جميعاً».

كانت «هيئة تحرير الشام» تُعرف في السابق باسم «جبهة النصرة»، الجناح الرسمي لتنظيم «القاعدة» في سوريا، حتى قطعت العلاقات بالتنظيم في عام 2016. ومنذ مايو (أيار) 2014، أُدرجت الجماعة على قائمة مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة لعقوبات تنظيمي «القاعدة» و«داعش»، كما فُرض عليها تجميد عالمي للأصول وحظر أسلحة.

ويخضع عدد من أعضاء «هيئة تحرير الشام» أيضاً لعقوبات الأمم المتحدة مثل حظر السفر، وتجميد الأصول، وحظر الأسلحة، ومنهم زعيمها وقائد إدارة العمليات العسكرية أحمد الشرع، المكنى «أبو محمد الجولاني»، المدرج على القائمة منذ يوليو (تموز) 2013.

وقال دبلوماسيون إنه لا يوجد حالياً أي مناقشات عن رفع العقوبات التي فرضتها الأمم المتحدة على الجماعة. ولا تمنع العقوبات التواصل مع «هيئة تحرير الشام».

لماذا تفرض الأمم المتحدة عقوبات على «هيئة تحرير الشام» والجولاني؟ (رويترز)

لماذا تفرض الأمم المتحدة عقوبات على «هيئة تحرير الشام» والجولاني؟

فرضت الأمم المتحدة عقوبات على «جبهة النصرة»، لأن الجماعة مرتبطة بتنظيم «القاعدة»، ولأنها كانت «تشارك في تمويل أو تخطيط أو تسهيل أو إعداد أو ارتكاب أعمال أو أنشطة» مع «القاعدة» أو دعماً لها وتستقطب أفراداً وتدعم أنشطة «القاعدة».

وجاء في قائمة العقوبات التي فرضتها الأمم المتحدة: «في يناير (كانون الثاني) 2017، أنشأت جبهة النصرة (هيئة تحرير الشام)، وسيلة لتعزيز موقعها في التمرد السوري وتعزيز أهدافها باعتبارها فرعاً لتنظيم (القاعدة) في سوريا»... ورغم وصف ظهور «هيئة تحرير الشام» بطرق مختلفة (على سبيل المثال كاندماج أو تغيير في الاسم)، فإن جبهة «النصرة» استمرت في الهيمنة والعمل من خلال «هيئة تحرير الشام» في السعي لتحقيق أهدافها.

وفُرضت عقوبات على الجولاني بسبب ارتباطه بتنظيم «القاعدة» وعمله معه.

كيف يمكن رفع عقوبات الأمم المتحدة؟

تستطيع أي دولة عضو في الأمم المتحدة في أي وقت تقديم طلب لرفع العقوبات عن كيان أو شخص إلى لجنة عقوبات تنظيمي «داعش» و«القاعدة» التابعة لمجلس الأمن الدولي المؤلف من 15 دولة.

وإذا جاء الطلب من دولة لم تقترح في البداية فرض عقوبات الأمم المتحدة، فإن اللجنة تتخذ القرار بالإجماع.

وإذا تقدمت الدولة التي اقترحت في البداية فرض العقوبات بطلب الشطب من القائمة، فسيمحى الاسم من القائمة بعد 60 يوماً، ما لم توافق اللجنة بالإجماع على بقاء التدابير.

لكن إذا لم يتم التوصل إلى إجماع، يستطيع أحد الأعضاء أن يطلب إحالة الطلب إلى مجلس الأمن للتصويت عليه في غضون 60 يوماً.

ولم تتضح بعد الدول التي اقترحت فرض عقوبات على جبهة «النصرة» والجولاني.

ويستطيع أيضاً الشخص أو الكيان الخاضع للعقوبات أن يطلب إزالة التدابير عن طريق الاتصال بأمين عام المظالم، وهو منصب أنشأه المجلس في عام 2009، ليقوم بمراجعة الطلب.

وإذا أوصى أمين عام المظالم بإبقاء اسم ما على القائمة، فسيظل مدرجاً على القائمة. وإذا أوصى أمين عام المظالم بإزالة اسم ما، فسترفع العقوبات بعد عملية قد تستغرق ما يصل إلى 9 أشهر، ما لم توافق اللجنة في وقت أسبق بالإجماع على اتخاذ إجراء أو الإحالة إلى المجلس لتصويت محتمل.

هل هناك استثناءات من العقوبات؟

يستطيع الأشخاص الخاضعون لعقوبات الأمم المتحدة التقدم بطلب للحصول على إعفاءات فيما يتعلق بالسفر، وهو ما تقرره اللجنة بالإجماع.

ويقول المجلس إن عقوباته «لا تستهدف إحداث عواقب إنسانية تضر بالسكان المدنيين».

وهناك استثناء إنساني للأمم المتحدة ومنظمات الإغاثة يسمح «بتوفير أو معالجة أو دفع الأموال أو الأصول المالية الأخرى أو الموارد الاقتصادية، أو توفير السلع والخدمات اللازمة لضمان تقديم المساعدات الإنسانية في الوقت المناسب، أو لمساندة الأنشطة الأخرى التي تدعم الاحتياجات الإنسانية الأساسية».