هل ينهي الفيروس العولمة كمرحلة؟

كأن بني البشر ارتدّوا إلى الكهوف كما في بدايتهم الأولى

رينيه ديكارت
رينيه ديكارت
TT

هل ينهي الفيروس العولمة كمرحلة؟

رينيه ديكارت
رينيه ديكارت

خرق فيروس كورونا النظام العالمي ككائن ما بعد مجهري ينذر البشرية بالفجيعة، ويضعها على شفا حفرة من هلاك تام، والسبب قوة تفشيه التي أيقظت العالم على مرحلة جديدة صار يعايشها مذهولاً ويحاول أن يعيها مرغماً بفزع كبير. وطبيعي جداً أنْ تتخذ هذه المرحلة اسمها من اسم الذي أرعبها لتكون (كورونية) نسبة لهذا الكائن الذي اجتاحها بلا سابق إنذار وجعلها مهددة بمخاوف لا حصر لها ولا عد.
ويبدو أنّ الكورونية ستُنهي العولمة كمرحلة عالمية سعت نحو تحقيق الاندماج والتداخل والانفتاح فكانت النتيجة شكلاً مستجداً من فيروس يهدد العموم البشري جاعلاً العالم عبارة عن جماعة تربطها قرابة متخيلة بوصف بندكت أندرسن. ولم يعد العالم قرية صغيرة كما كان زمن العولمة. إنه الآن بيت صغير وأفراده متضايفون فرضاً لا اختياراً، وواجب كل واحد التكاتف لمواجهة الخطر الذي إذا وقع على الواحد شمل المجموع لا محالة، وكأن بني البشر ارتدوا كما في بدايتهم الأولى إلى الكهوف.
وها قد غدا ما ألقته العولمة على كاهل البشرية من مسائل وأزمات في كفة، وما سببه فيروس كورونا على طارئيته وحداثة حضوره في الكفة الأخرى وصار الفرد يحسب لنفسه وللجماعة حساباً جسدياً تباعدا وتقاربا.
وبدت الكرة الأرضية بمحيطاتها وقاراتها وأقاليمها وبلدانها وأممها وشعوبها ومنظماتها في مواجهة عدو هو أصغر من الصغر لا يعرف الجهات بشرقيها وغربيها ولا يعنيه التفوق التكنولوجي والصناعي غير مفرِّق بين الأغنياء والفقراء ولا ناطحات السحاب والمساكن العشوائية وليس مهتماً أن يكون مضيفه شاباً أو كهلاً، متعلماً أو جاهلاً، أسود أو أبيض، مؤمناً أو غير مؤمن.
ولأن العولمة لم تعط الأجساد أهمية وجدت البشرية نفسها فجأة وبشكل طارئ وغير محسوب أمام عدو يترصدها بالتهلكة ويهددها بالعدوى متفشياً في كل ميادينها وقد توقفت بظهوره برامج التسلح ومشاريع غزو الفضاء وأرجئت مشاكل البيئة كالاحتباس الحراري وتناقص موارد المياه وتأجلت أزمات اقتصادية بدءاً من نضوب الطاقة إلى كوارث المجاعة والبطالة والهجرة وغدا الاهتمام موجها للأجساد التي صارت لها الأولوية، وصار الهم كله محددا في كيفية الحفاظ على هذه الأجساد سليمة ومعافاة.
لقد فشلت العولمة في صنع مجتمع ما بعد أنواري كوسوموبولتي معطية الدليل على بلاهة استراتيجياتها التي لم تجلب للبشرية سوى الدمار ولم تحقق لها الرفاهية؛ بل خصخصتها بلا طائل نفعي وهكذا استسلمت ورفعت راياتها البيض من الوهلة الأولى التي ظهر فيها الفيروس المستجد، لتبدأ مرحلة جديدة هي جسدية فيها الجسم البشري يتعالى على كل مفاهيم الاستقطاب دامجاً ليبراليها براديكاليها ومؤمركها بروسيها وقد ترسملت الاشتراكية وتأشركت الرأسمالية وصار المهيمن بلا تابع والتابع بلا مهيمن والمستقطب غير أحادي وما من صراع هويات ولا حضارات لكنه صراع صحة وأمراض.
وليس غريباً أن تكون الكورونية مرحلة غير مبرمجة وهي تواجهنا بالاستحواذ وتشن علينا حرباً من نوع جديد فيها الفيروسات جاهزة لأن تجتاحنا بالأوبئة في كل آن ومكان، والعالم بيت عنكبوت تهزه هذه الكائنات اللامرئية وتهدده بالنكوص وربما العودة للوراء أجيالا وأجيالا. هذا إن لم تستعد لها البشرية استعداداً يضاهي حجم هذه المرحلة الكورونية.
فالسيادة كامنة في الجسد الذي ينبغي أن يحتاط له الإنسان بما حوله وبأبسط أفعاله وممارساتها متعايشا مع العالم بوصفه بيتا يمكن لأحد قاطنيه ـ إذا ما نسي سيادة جسده أو تركها لسيادة شيء آخر ـ أن يكون شره مستطيراً على البيت بمجموع أهله.
ولقد عرفت العولمة خطر الفيروسات الإلكترونية التي بها يمكن أن ينهار نظام مصرفي أو تفلس شركات وتخسر أموالها بيد أن الخطر الذي نواجهه في زمن الكورونية أعتى وأشد، كون الفيروسات لا تستهدف الأنظمة والشركات وإنما تستهدف أجساد وأرواح أصحابها ومنتسبيها والمنتفعين منها.
وفي عصرنا الكوروني أصبحت المساحات متقلصة والمعالم متجاورة والمخاطر والتهديدات واحدة وتحولت أزمنة العولمة السائلة واللايقينية إلى أزمنة هوائية مزمنة حدودها الشهيق والزفير.
وبهذه المسافة التنفسية تتقارب التوقعات وتلغى الحدود وتتآكل الأعراف وتتهالك الفواصل الطبقية وتتشرذم الحدود الاصطناعية وتغدو أواصر الروابط متمحورة حول الجسد التزاماً تجاه المجموع وتشاركاً في الأزمة مع ضرورة توفر حسن النية في توكيد اللحمة المجتمعية.
والأفراد في المجتمع البشري لا يعانون الوحدة؛ وإنما يخافونها وكل فرد في المجتمع رأسماله غيره الذي خوفه منه هو ترسانة اطمئنانه إليه. هذا الخوف الذي لا يقيه من الشعور به كاميرات مراقبة ولا شركات الحراسة ونظم التأمين؛ بل يقيه اهتمامه بجسده الذي هو غير مسوّر ولا مفصول عن أجساد الآخرين أصحاء ومرضى وأغنياء وفقراء.
ولا يسعنا اليوم أن ننظر للبشر فلسفياً على أنهم على أعتاب نهاية تاريخية كما ذهب فرنسيس فوكوياما ولا هم نفايات كما وصفهم ريغمونت باومان، ولا حياتهم عارية كما قال اغامبين، بل البشر اليوم مجسدنون بديمقراطية هي شعبية وهي مدنية وعسكرية وإيديولوجية وبيولوجية. ودرجة الخوف في كل ذلك متصاعدة وبوتيرة متأهبة، وديمومة حياتية تتعايش جسديا.
ولن تصبح الكورونية عصرا اعتياديا ومستقبلها متكهنا به ما لم تكن الأجساد مركزية فلسفيا ومعرفيا وقد تأنسن كل شيء حتى التكنولوجيا التي ستضع الإنسان في اعتبارها عمليا وجماليا وتواصليا.
وسيكون من متطلبات الاهتمام بالجسد التجريب فيه بصورة لا نمطية والتنظير له معرفيا والتفكير في مستقبله حيث كل جزيئة فيه لها دورها الخاص والمركزي اتصالا بالأجزاء الأخرى وباختيار أخلاقي.
وبسبب هذه الأهمية لم يغب الجسد ككينونة معرفية عن اهتمام الفلاسفة الإغريق كأفلاطون وأرسطو كما نال اهتمام فلاسفة العقل مثل رينيه ديكارت وكانط وصار له وجود في كل ميادين المعرفة من الفلسفة والدين وعلم النفس إلى العلم المعرفي والأنثروبولوجي واللساني والتاريخي والنقدي وكل أنواع الفنون. واحتل الجسد في فلسفة موريس ميرلوبونتي المركزية مالكا قصديته الخاصة ولكل فرد جسمه الخاص فهو الرائي والمرئي وهو الوسيلة لامتلاك العالم وكل إنسان عبارة عن جسم حي هو الموضوع كما هو الذات.
بيد أن هذه الأهمية وتلك المعرفية صارت معززة اليوم بالمرحلة الكورونية كمرحلة عبور حضاري وحوار (بين ثقافي)، فيها الجسد البشري هو المركز بناء على حقيقة كونه هو المارد الكبير حين لا ينال تلك المركزية وتكون له الأولوية في الترسانة المعرفية المعاصرة.
وإذا كان العقل في مرحلة الحداثة هو المركز وكان الفكر في مرحلة ما بعد الحداثة هو المركز؛ فإن الجسد في مرحلتنا الكورونية هو المركز وترسانته تصوراته وإمكانياته الحقيقية الكامنة في كل خلية حيوية تحوسب أهميتها حوسبة دقيقة على وفق سيرورات ومتواليات ليس فيها تفوق لعضو على آخر أو استحواذ لجزء أو استهانة بأجزاء أخرى. لتغدو معطيات الجسد كلها باعتياديها وغير اعتياديها هي أساس وجودنا.
بهذه النظرة الكلية للجسم تتوضح خطورة المرحلة الكورونية التي تختلف عن المراحل التي سبقتها في أن المعرفة فيها مجسدنة. وإذا كنا قد عرفنا كيف أن النمذجة بالذكاء البشري أتاحت مجالا معرفيا لبرمجيات الذكاء الصناعي وبرامج الحاسوب الآلي؛ فإن في خارطة الجسد البشري مناطق بحث معرفية ما زالت بكرا وأهميتها تتعدى كل أجندات التكنولوجيا النووية والهندسة الجينية وأنظمة التحكم بالصواريخ وحمل الرؤوس النووية، التي ما استطاعت إنقاذ البشرية من خطر ما بعد مجهري داهمها على حين غفلة.
وفي هذا درس تتعلمه البشرية وهي تواجه الكائنات الفيروسية كعدوة أزلية للبشر تتحداهم، والبشر يتحدون أنفسهم في مواجهتها كأنموذج تواصلي به يثبت البشر ذكاءهم ويدللون على تقدم علومهم ومستواهم الدماغي والرمزي والسلوكي والذاكراتي والتعلمي والبصري.
ومثلما قالوا قديما العقل السليم في الجسم السليم صار الجسد هو السمة المتعالية في الكون، ولم يعد العقل بمفرده هو الجوهر والسبب صلته الوثيقة بالأجزاء الجسمية الأخرى التي لا يمكن إنكارها أفعالا واستجابات مادية وتجريدية. والجسم لا يتطور إلا وهو متشكل بالعقل الذي هو متطور باستمرار بما يشبه التطورية الدارونية ومتحرر بحياة مشاعية واعتيادية وروح مشتركة نعيش فيها ضمن نسق تصوري كلي.
ولأن الإنسان بكليته هو الكيان المجسدن الذي فيه يكمن ما يهدده صار فرضاً عليه وواجباً أن يعيد التفكير في حقيقة هذا الجسد وأهمية معرفة ألغاز كينونته: مم يكون؟ وكيف يكون؟ ولماذا يكون؟



إسرائيل ستشارك في «يوروفيجن 2026»

المغنية الإسرائيلية إيدن جولان الممثلة لبلدها على خشبة المسرح خلال التدريبات قبل الجولة النهائية لمسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2024 في مالمو بالسويد يوم 10 مايو 2024 (رويترز)
المغنية الإسرائيلية إيدن جولان الممثلة لبلدها على خشبة المسرح خلال التدريبات قبل الجولة النهائية لمسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2024 في مالمو بالسويد يوم 10 مايو 2024 (رويترز)
TT

إسرائيل ستشارك في «يوروفيجن 2026»

المغنية الإسرائيلية إيدن جولان الممثلة لبلدها على خشبة المسرح خلال التدريبات قبل الجولة النهائية لمسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2024 في مالمو بالسويد يوم 10 مايو 2024 (رويترز)
المغنية الإسرائيلية إيدن جولان الممثلة لبلدها على خشبة المسرح خلال التدريبات قبل الجولة النهائية لمسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2024 في مالمو بالسويد يوم 10 مايو 2024 (رويترز)

قال مصدران في دولتين من أعضاء اتحاد البث الأوروبي، لوكالة «رويترز»، إن إسرائيل ستتمكن من المشاركة في مسابقة «يوروفيجن» 2026، بعد أن قرر أعضاء الاتحاد، اليوم (الخميس)، عدم الدعوة إلى التصويت بشأن مشاركتها، رغم تهديدات بمقاطعة المسابقة من بعض الدول.

وذكر المصدران أن الأعضاء صوتوا بأغلبية ساحقة لدعم القواعد الجديدة التي تهدف إلى ثني الحكومات والجهات الخارجية عن الترويج بشكل غير متكافئ للأغاني للتأثير على الأصوات، بعد اتهامات بأن إسرائيل عززت مشاركتها هذا العام بشكل غير عادل.

انسحاب 4 دول

وأفادت هيئة البث الهولندية (أفروتروس)، اليوم (الخميس)، بأن هولندا ستقاطع مسابقة «يوروفيجن» 2026؛ احتجاجاً على مشاركة إسرائيل.

وذكرت وكالة «أسوشييتد برس» أن إسبانيا انسحبت من مسابقة «يوروفيجن» للأغنية لعام 2026، بعدما أدت مشاركة إسرائيل إلى حدوث اضطراب في المسابقة.

كما ذكرت شبكة «آر تي إي» الآيرلندية أن آيرلندا لن تشارك في المسابقة العام المقبل أو تبثها، بعد أن قرر أعضاء اتحاد البث الأوروبي عدم الدعوة إلى تصويت على مشاركة إسرائيل.

وقال تلفزيون سلوفينيا الرسمي «آر تي في» إن البلاد لن تشارك في مسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2026، بعد أن رفض أعضاء اتحاد البث الأوروبي اليوم (الخميس) دعوة للتصويت على مشاركة إسرائيل.

وكانت سلوفينيا من بين الدول التي حذرت من أنها لن تشارك في المسابقة إذا شاركت إسرائيل، وفقاً لوكالة «رويترز».

وقالت رئيسة تلفزيون سلوفينيا الرسمي ناتاليا غورشاك: «رسالتنا هي: لن نشارك في مسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) إذا شاركت إسرائيل. نيابة عن 20 ألف طفل سقطوا ضحايا في غزة».

وكانت هولندا وسلوفينيا وآيسلندا وآيرلندا وإسبانيا طالبت باستبعاد إسرائيل من المسابقة؛ بسبب الهجوم الذي تشنّه على المدنيين الفلسطينيين في غزة.

وتنفي إسرائيل استهداف المدنيين خلال هجومها، وتقول إنها تتعرض لتشويه صورتها في الخارج على نحو تعسفي.


صور الجمال وتجلياته في أدب الغرب

صور الجمال وتجلياته في أدب الغرب
TT

صور الجمال وتجلياته في أدب الغرب

صور الجمال وتجلياته في أدب الغرب

لم يكن الجمال بوجوهه المتغايرة مثار اهتمام الفلاسفة والعلماء وحدهم، بل بدت أطيافه الملغزة رفيقة الشعراء إلى قصائدهم، والفنانين إلى لوحاتهم والموسيقيين إلى معزوفاتهم، والعشاق إلى براري صباباتهم النائية. والأدل على تعلق البشرفي عصورهم القديمة بالجمال، هو أنهم جعلوا له آلهة خاصة به، ربطوها بالشهوة تارة وبالخصب تارة أخرى، وأقاموا لها النصُب والمعابد والتماثيل، وتوزعت أسماؤها بين أفروديت وفينوس وعشتروت وعشتار وغير ذلك.

وحيث كان الجمال ولا يزال، محلّ شغف الشعراء والمبدعين واهتمامهم الدائم، فقد انشغل به الأدب والفن الغربيان على نحو واسع، وكتبت عنه وفيه القصائد والمقطوعات والأغاني. كما تلمّسته النظرات الذاهلة للواقعين في أشراكه، بأسئلة ومقاربات ظلت معلقة أبداً على حبال الحيرة والقلق وانعدام اليقين. وقد بدا ذلك القلق واضحاً لدى الشاعر الروماني أوفيد الذي لم يكد يُظهر شيئاً من الحكمة والنضج، حين دعا في ديوانه «الغزليات» الشبان الوسيمين إلى أن «يبدعوا لأنفسهم روحاً مشرقة صيانةً لجمالهم»، حتى أوقعه الجمال المغوي بنماذجه المتعددة في بلبلة لم يعرف الخروج منها، فكتب يقول: «لا يوجد جمال محدد يثير عاطفتي، هنالك آلاف الأسباب تجعلني أعيش دائماً في الحب، سواء كنت أذوب حباً في تلك الفتاة الجميلة ذات العينين الخجولتين، أو تلك الفتاة اللعوب الأنيقة التي أولعتُ بها لأنها ليست ساذجة. إحداهن تخطو بخفة وأنا أقع في الحب مع خطوتها، والأخرى قاسية ولكنها تغدو رقيقة بلمسة حب».

على أن الجمال الذي يكون صاعقاً وبالغ السطوة على نفوس العاجزين عن امتلاكه، يفقد الكثيرمن تأثيراته ومفاعيله في حالة الامتلاك. ذلك أن امتناع المتخيل عن تأليف صورة الآخر المعشوق، تحرم هذا الأخير من بريقه الخلاب المتحالف مع «العمى»، وتتركه مساوياً لصورته المرئية على أرض الواقع. وفضلاً عن أن للجمال طابعه النسبي الذي يعتمد على طبيعة الرائي وثقافته وذائقته، فإن البعض يعملون على مراوغة مفاعيله المدمرة عن طريق ما يعرف بالهجوم الوقائي، كما هو شأن الشعراء الإباحيين، وصيادي العبث والمتع العابرة، فيما يدرب آخرون أنفسهم على الإشاحة بوجوههم عنه، تجنباً لمزالقه وأهواله. وهو ما عبر عنه الشاعر الإنجليزي جورج ويذر المعاصر لشكسبير، بقوله:

«هل عليّ أن أغرق في اليأس

أو أموت بسبب جمال امرأة

لتكن أجمل من النهار ومن براعم أيار المزهرة

فما عساني أبالي بجمالها إن لم تبدُ كذلك بالنسبة لي».

وإذ يعلن روجر سكروتون في كتابه «الجمال» أن على كل جمال طبيعي أن يحمل البصمة البصرية لجماعة من الجماعات، فإن الشاعر الإنجليزي الرومانسي وردسوورث يعلن من جهته أن علينا «التطلع إلى الطبيعة ليس كما في ساعة الشباب الطائشة، بل كي نستمع ملياً للصوت الساكن الحزين للإنسانية».

والأرجح أن هذا الصوت الساكن والحزين للجمال يعثر على ضالته في الملامح «الخريفية» الصامتة للأنوثة المهددة بالتلاشي، حيث النساء المعشوقات أقرب إلى النحول المرضي منهن إلى العافية والامتلاء. وقد بدوْن في الصور النمطية التي عكستها القصائد واللوحات الرومانسية، مشيحات بوجوههن الشاحبة عن ضجيج العصر الصناعي ودخانه السام، فيما نظراتهن الزائغة تحدق باتجاه المجهول. وإذا كان بعض الشعراء والفنانين قد رأوا في الجمال الساهم والشريد ما يتصادى مع تبرمه الشديد بالقيم المادية للعصر، وأشاد بعضهم الآخر بالجمال الغافي، الذي يشبه «سكون الحسن» عند المتنبي، فقد ذهب آخرون إلى التغني بالجمال الغارب للحبيبة المحتضرة أو الميتة، بوصفه رمزاً للسعادة الآفلة ولألق الحياة المتواري. وهو ما جسده إدغار آلان بو في وصفه لحبيبته المسجاة بالقول: «لا الملائكة في الجنة ولا الشياطين أسفل البحر، بمقدورهم أن يفرقوا بين روحي وروح الجميلة أنابيل لي، والقمر لا يشع أبداً دون أن يهيئ لي أحلاماً مناسبة عن الجميلة أنابيل لي، والنجوم لا ترتفع أبداً، دون أن أشعر بالعيون المتلألئة للجميلة أنابيل لي».

لكن المفهوم الرومانسي للجمال سرعان ما أخلى مكانه لمفاهيم أكثر تعقيداً، تمكنت من إزالة الحدود الفاصلة بينه وبين القبح، ورأت في هذا الأخير نوعاً من الجمال الذي يشع من وراء السطوح الظاهرة للأشياء والكائنات. إنه القبح الذي وصفه الفيلسوف الألماني فريدريك شليغل بقوله «القبح هو الغلبة التامة لما هو مميز ومتفرد ومثير للاهتمام. إنه غلبة البحث الذي لا يكتفي، ولا يرتوي من الجديد والمثير والمدهش». وقد انعكس هذا المفهوم على نحو واضح في أعمال بودلير وكتاباته، وبخاصة مجموعته «أزهار الشر» التي رأى فيها الكثيرون المنعطف الأهم باتجاه الحداثة. فالشاعر الذي صرح في تقديمه لديوانه بأن لديه أعصابه وأبخرته، وأنه ليس ظامئاً إلا إلى «مشروب مجهول لا يحتوي على الحيوية أو الإثارة أو الموت أو العدم»، لم يكن معنياً بالجمال الذي يؤلفه الوجود بمعزل عنه، بل بالجمال الذي يتشكل في عتمة نفسه، والمتأرجح أبداً بين حدي النشوة والسأم، كما بين التوله بالعالم والزهد به.

وليس من المستغرب تبعاً لذلك أن تتساوى في عالم الشاعر الليلي أشد وجوه الحياة فتنة وأكثرها قبحاً، أو أن يعبر عن ازدرائه لمعايير الجمال الأنثوي الشائع، من خلال علاقته بجان دوفال، الغانية السوداء ذات الدمامة الفاقعة، حيث لم يكن ينتظره بصحبتها سوى الشقاء المتواصل والنزق المرَضي وآلام الروح والجسد. وليس أدل على تصور بودلير للجمال من قوله في قصيدة تحمل الاسم نفسه:

«أنا جميلة، أيها الفانون، مثل حلمٍ من الحجر

وصدري الذي أصاب الجميع بجراح عميقة

مصنوعٌ لكي يوحي للشاعر بحب أبدي وصامت كالمادة

أنا لا أبكي أبداً وأبداً لا أضحك».

وكما فعل آلان بو في رثائه لجمال أنابيل لي المسجى في عتمة القبر، استعار رامبو من شكسبير في مسرحيته «هاملت» صورة أوفيليا الميتة والطافية بجمالها البريء فوق مياه المأساة، فكتب قائلاً: «على الموج الأسود الهادئ، حيث ترقد النجوم، تعوم أوفيليا البيضاء كمثل زنبقة كبيرة. بطيئاً تعوم فوق برقعها الطويل، الصفصاف الراجف يبكي على كتفيها، وعلى جبينها الحالم الكبير ينحني القصب». وإذا كان موقف رامبو من الجمال قد بدا في بعض نصوصه حذراً وسلبياً، كما في قوله «لقد أجلست الجمال على ركبتيّ ذات مساء، فوجدت طعمه مراً» فهو يعود ليكتب في وقت لاحق «لقد انقضى هذا، وأنا أعرف اليوم كيف أحيّي الجمال».

ورغم أن فروقاً عدة تفصل بين تجربتي بودلير ورامبو من جهة، وتجربة الشاعر الألماني ريلكه من جهة أخرى، فإن صاحب «مراثي دوينو» يذهب بدوره إلى عدّ الجمال نوعاً من السلطة التي يصعب الإفلات من قبضتها القاهرة، بما دفعه إلى استهلال مراثيه بالقول:

«حتى لو ضمني أحدهم فجأة إلى قلبه

فإني أموت من وجوده الأقوى

لأن الجمال بمثابة لا شيء سوى بداية الرعب

وكلُّ ملاكٍ مرعب».

انشغل به الأدب والفن الغربيان على نحو واسع وكتبت عنه وفيه القصائد والمقطوعات والأغانيrnولا يزال الشغف به مشتعلاً

وفي قصيدته «كلمات تصلح شاهدة قبر للسيدة الجميلة ب»، يربط ريلكه بين الجمال والموت، مؤثراً التماهي من خلال ضمير المتكلم، مع المرأة الراحلة التي لم يحل جمالها الباهر دون وقوعها في براثن العدم، فيكتب على لسانها قائلاً: «كم كنتُ جميلة، وما أراه سيدي يجعلني أفكر بجمالي. هذه السماء وملائكتك، كانتا أنا نفسي».

أما لويس أراغون، أخيراً، فيذهب بعيداً في التأويل، حيث في اللحظة الأكثر مأساوية من التاريخ يتحول الجمال مقروناً بالحب، إلى خشبة أخيرة للنجاة من هلاك البشر الحتمي. وإذا كان صاحب «مجنون إلسا» قد جعل من سقوط غرناطة في قبضة الإسبان، اللحظة النموذجية للتماهي مع المجنون، والتبشير بفتاته التي سيتأخر ظهورها المحسوس أربعة عقود كاملة، فلأنه رأى في جمال امرأته المعشوقة، مستقبل الكوكب برمته، والمكافأة المناسبة التي يستحقها العالم، الغارق في يأسه وعنفه الجحيمي. ولذلك فهو يهتف بإلسا من أعماق تلهفه الحائر:

« يا من لا شبيه لها ويا دائمة التحول

كلُّ تشبيه موسوم بالفقر إذا رغب أن يصف قرارك

وإذا كان حراماً وصفُ الجمال الحي

فأين نجد مرآة مناسبة لجمال النسيان».


فخار مليحة

فخار مليحة
TT

فخار مليحة

فخار مليحة

تقع منطقة مليحة في إمارة الشارقة، على بعد 50 كيلومتراً شرق العاصمة، وتُعدّ من أهم المواقع الأثرية في جنوب شرق الجزيرة العربيَّة. بدأ استكشاف هذا الموقع في أوائل السبعينات من القرن الماضي، في إشراف بعثة عراقية، وتوسّع في السنوات اللاحقة، حيث تولت إدارة الآثار في الشارقة بمشاركة بعثة أثرية فرنسية مهمة إجراء أعمال المسح والتنقيب في هذا الحقل الواسع، وكشفت هذه الحملات عن مدينة تضم أبنية إدارية وحارات سكنية ومدافن تذكارية. دخلت بعثة بلجيكية تابعة لمؤسسة «المتاحف الملكية للفن والتاريخ» هذا الميدان في عام 2009، وسعت إلى تحديد أدوار الاستيطان المبكرة في هذه المدينة التي ازدهرت خلال فترة طويلة تمتدّ من القرن الثالث قبل الميلاد إلى القرن الرابع للميلاد، وشكّلت مركزاً تجارياً وسيطاً ربط بين أقطار البحر الأبيض المتوسط والمحيط الهندي ووادي الرافدين.

خرجت من هذا الموقع مجموعات متعدّدة من اللقى تشهد لهذه التعدّدية الثقافية المثيرة، منها مجموعة من القطع الفخارية صيغت بأساليب مختلفة، فمنها أوانٍ دخلت من العالم اليوناني، ومنها أوانٍ من جنوب بلاد ما بين النهرين، ومنها أوانٍ من حواضر تنتمي إلى العالم الإيراني القديم، غير أن العدد الأكبر من هذه القطع يبدو من النتاج المحلّي، ويتبنّى طرازاً أطلق أهل الاختصاص عليه اسم «فخار مليحة». يتمثّل هذا الفخار المحلّي بقطع متعدّدة الأشكال، منها جرار متوسطة الحجم، وجرار صغيرة، وصحون وأكواب متعدّدة الأشكال، وصل جزء كبير منها على شكل قطع مكسورة، أُعيد جمع بعض منها بشكل علمي رصين. تعود هذه الأواني المتعدّدة الوظائف إلى الطور الأخير من تاريخ مليحة، الذي امتدّ من مطلع القرن الثاني إلى منتصف القرن الثالث للميلاد، وتتميّز بزينة بسيطة ومتقشّفة، قوامها بضعة حزوز ناتئة، وشبكات من الزخارف المطلية بلون أحمر قانٍ يميل إلى السواد. تبدو هذه الزينة مألوفة، وتشكّل من حيث الصناعة والأسلوب المتبع امتداداً لتقليد عابر للأقاليم والحواضر، ازدهر في نواحٍ عدة من الجزيرة العربية منذ الألفية الثالثة قبل الميلاد.

تختزل هذا الطراز جرة جنائزية مخروطية ذات عنق مدبب، يبلغ طولها 30.8 سنتيمتر، وقطرها 22 سنتيمتراً. عنق هذه الجرة مزين بأربع دوائر ناتئة تنعقد حول فوهتها، تقابلها شبكة من الخطوط الأفقية الغائرة تلتف حول وسطها، وبين هذه الدوائر الناتئة وهذه الخطوط الغائرة، تحلّ الزينة المطلية باللون الأحمر القاتم، وقوامها شبكة من المثلثات المعكوسة، تزين كلاً منها سلسلة من الخطوط الأفقية المتوازية. تشهد هذه الجرة لأسلوب متبع في التزيين يتباين في الدقّة والإتقان، تتغيّر زخارفه وتتحوّل بشكل مستمرّ.

تظهر هذه التحوّلات الزخرفية في قطعتين تتشابهان من حيث التكوين، وهما جرتان مخروطيتان من الحجم الصغير، طول أكبرهما حجماً 9.8 سنتيمتر، وقطرها 8.5 سنتيمتر. تتمثّل زينة هذه الشبكة بثلاث شبكات مطليّة، أولاها شبكة من الخطوط الدائرية الأفقية تلتف حول القسم الأسفل من عنقها، وتشكّل قاعدة له، ثمّ شبكة من المثلثات المعكوسة تنعقد حول الجزء الأعلى من حوض هذا الإناء، وتتميّز بالدقة في الصوغ والتخطيط. تنعقد الشبكة الثالثة حول وسط الجرّة، وهي أكبر هذه الشبكات من حيث الحجم، وتتكوّن من كتل هرمية تعلو كلاً منها أربعة خطوط أفقية متوازية. في المقابل، يبلغ طول الجرة المشابهة 9 سنتيمترات، وقطرها 7.5 سنتيمتر، وتُزيّن وسطها شبكة عريضة تتكون من أنجم متوازية ومتداخلة، تعلو أطراف كلّ منها سلسلة من الخطوط الأفقية، صيغت بشكل هرمي. تكتمل هذه الزينة مع شبكة أخرى تلتفّ حول القسم الأعلى من الجرة، وتشكّل عقداً يتدلى من حول عنقها. ويتكوّن هذا العقد من سلسلة من الخطوط العمودية المتجانسة، مرصوفة على شكل أسنان المشط.

تأخذ هذه الزينة المطلية طابعاً متطوّراً في بعض القطع، أبرزها جرة من مكتشفات البعثة البلجيكية في عام 2009، وهي من الحجم المتوسط، وتعلوها عروتان عريضتان تحيطان بعنقها. تزين هذا العنق شبكة عريضة من الزخارف، تتشكل من مثلثات متراصة، تكسوها خطوط أفقية متوازية. يحد أعلى هذه الشبكة شريط يتكوّن من سلسلة من المثلثات المجردة، ويحدّ أسفلها شريط يتكوّن من سلسلة من الدوائر اللولبية. تمتد هذه الزينة إلى العروتين، وقوامها شبكة من الخطوط الأفقية المتوازية.

من جانب آخر، تبدو بعض قطع «فخار مليحة» متقشّفة للغاية، ويغلب عليها طابع يفتقر إلى الدقّة والرهافة في التزيين. ومن هذه القطع على سبيل المثال، قارورة كبيرة الحجم، صيغت على شكل مطرة عدسية الشكل، تعلوها عروتان دائريتان واسعتان. يبلغ طول هذه المطرة 33.5 سنتيمتر، وعرضها 28 سنتيمتراً، وتزيّن القسم الأعلى منها شبكة من الخطوط المتقاطعة في الوسط على شكل حرف «إكس»، تقابلها دائرة تستقر في وسط الجزء الأسفل، تحوي كذلك خطين متقاطعين على شكل صليب.

يُمثل «فخار مليحة» طرازاً من أطرزة متعددة تتجلّى أساليبها المختلفة في مجموعات متنوّعة من اللقى، عمد أهل الاختصاص إلى تصنيفها وتحليلها خلال السنوات الأخيرة. تتشابه هذه اللقى من حيث التكوين في الظاهر، وتختلف اختلافاً كبيراً من حيث الصوغ. يشهد هذا الاختلاف لحضور أطرزة مختلفة حضرت في حقب زمنية واحدة، ويحتاج كل طراز من هذه الأطرزة إلى وقفة مستقلّة، تكشف عن خصائصه الأسلوبية ومصادر تكوينها.