هل ينهي الفيروس العولمة كمرحلة؟

كأن بني البشر ارتدّوا إلى الكهوف كما في بدايتهم الأولى

رينيه ديكارت
رينيه ديكارت
TT

هل ينهي الفيروس العولمة كمرحلة؟

رينيه ديكارت
رينيه ديكارت

خرق فيروس كورونا النظام العالمي ككائن ما بعد مجهري ينذر البشرية بالفجيعة، ويضعها على شفا حفرة من هلاك تام، والسبب قوة تفشيه التي أيقظت العالم على مرحلة جديدة صار يعايشها مذهولاً ويحاول أن يعيها مرغماً بفزع كبير. وطبيعي جداً أنْ تتخذ هذه المرحلة اسمها من اسم الذي أرعبها لتكون (كورونية) نسبة لهذا الكائن الذي اجتاحها بلا سابق إنذار وجعلها مهددة بمخاوف لا حصر لها ولا عد.
ويبدو أنّ الكورونية ستُنهي العولمة كمرحلة عالمية سعت نحو تحقيق الاندماج والتداخل والانفتاح فكانت النتيجة شكلاً مستجداً من فيروس يهدد العموم البشري جاعلاً العالم عبارة عن جماعة تربطها قرابة متخيلة بوصف بندكت أندرسن. ولم يعد العالم قرية صغيرة كما كان زمن العولمة. إنه الآن بيت صغير وأفراده متضايفون فرضاً لا اختياراً، وواجب كل واحد التكاتف لمواجهة الخطر الذي إذا وقع على الواحد شمل المجموع لا محالة، وكأن بني البشر ارتدوا كما في بدايتهم الأولى إلى الكهوف.
وها قد غدا ما ألقته العولمة على كاهل البشرية من مسائل وأزمات في كفة، وما سببه فيروس كورونا على طارئيته وحداثة حضوره في الكفة الأخرى وصار الفرد يحسب لنفسه وللجماعة حساباً جسدياً تباعدا وتقاربا.
وبدت الكرة الأرضية بمحيطاتها وقاراتها وأقاليمها وبلدانها وأممها وشعوبها ومنظماتها في مواجهة عدو هو أصغر من الصغر لا يعرف الجهات بشرقيها وغربيها ولا يعنيه التفوق التكنولوجي والصناعي غير مفرِّق بين الأغنياء والفقراء ولا ناطحات السحاب والمساكن العشوائية وليس مهتماً أن يكون مضيفه شاباً أو كهلاً، متعلماً أو جاهلاً، أسود أو أبيض، مؤمناً أو غير مؤمن.
ولأن العولمة لم تعط الأجساد أهمية وجدت البشرية نفسها فجأة وبشكل طارئ وغير محسوب أمام عدو يترصدها بالتهلكة ويهددها بالعدوى متفشياً في كل ميادينها وقد توقفت بظهوره برامج التسلح ومشاريع غزو الفضاء وأرجئت مشاكل البيئة كالاحتباس الحراري وتناقص موارد المياه وتأجلت أزمات اقتصادية بدءاً من نضوب الطاقة إلى كوارث المجاعة والبطالة والهجرة وغدا الاهتمام موجها للأجساد التي صارت لها الأولوية، وصار الهم كله محددا في كيفية الحفاظ على هذه الأجساد سليمة ومعافاة.
لقد فشلت العولمة في صنع مجتمع ما بعد أنواري كوسوموبولتي معطية الدليل على بلاهة استراتيجياتها التي لم تجلب للبشرية سوى الدمار ولم تحقق لها الرفاهية؛ بل خصخصتها بلا طائل نفعي وهكذا استسلمت ورفعت راياتها البيض من الوهلة الأولى التي ظهر فيها الفيروس المستجد، لتبدأ مرحلة جديدة هي جسدية فيها الجسم البشري يتعالى على كل مفاهيم الاستقطاب دامجاً ليبراليها براديكاليها ومؤمركها بروسيها وقد ترسملت الاشتراكية وتأشركت الرأسمالية وصار المهيمن بلا تابع والتابع بلا مهيمن والمستقطب غير أحادي وما من صراع هويات ولا حضارات لكنه صراع صحة وأمراض.
وليس غريباً أن تكون الكورونية مرحلة غير مبرمجة وهي تواجهنا بالاستحواذ وتشن علينا حرباً من نوع جديد فيها الفيروسات جاهزة لأن تجتاحنا بالأوبئة في كل آن ومكان، والعالم بيت عنكبوت تهزه هذه الكائنات اللامرئية وتهدده بالنكوص وربما العودة للوراء أجيالا وأجيالا. هذا إن لم تستعد لها البشرية استعداداً يضاهي حجم هذه المرحلة الكورونية.
فالسيادة كامنة في الجسد الذي ينبغي أن يحتاط له الإنسان بما حوله وبأبسط أفعاله وممارساتها متعايشا مع العالم بوصفه بيتا يمكن لأحد قاطنيه ـ إذا ما نسي سيادة جسده أو تركها لسيادة شيء آخر ـ أن يكون شره مستطيراً على البيت بمجموع أهله.
ولقد عرفت العولمة خطر الفيروسات الإلكترونية التي بها يمكن أن ينهار نظام مصرفي أو تفلس شركات وتخسر أموالها بيد أن الخطر الذي نواجهه في زمن الكورونية أعتى وأشد، كون الفيروسات لا تستهدف الأنظمة والشركات وإنما تستهدف أجساد وأرواح أصحابها ومنتسبيها والمنتفعين منها.
وفي عصرنا الكوروني أصبحت المساحات متقلصة والمعالم متجاورة والمخاطر والتهديدات واحدة وتحولت أزمنة العولمة السائلة واللايقينية إلى أزمنة هوائية مزمنة حدودها الشهيق والزفير.
وبهذه المسافة التنفسية تتقارب التوقعات وتلغى الحدود وتتآكل الأعراف وتتهالك الفواصل الطبقية وتتشرذم الحدود الاصطناعية وتغدو أواصر الروابط متمحورة حول الجسد التزاماً تجاه المجموع وتشاركاً في الأزمة مع ضرورة توفر حسن النية في توكيد اللحمة المجتمعية.
والأفراد في المجتمع البشري لا يعانون الوحدة؛ وإنما يخافونها وكل فرد في المجتمع رأسماله غيره الذي خوفه منه هو ترسانة اطمئنانه إليه. هذا الخوف الذي لا يقيه من الشعور به كاميرات مراقبة ولا شركات الحراسة ونظم التأمين؛ بل يقيه اهتمامه بجسده الذي هو غير مسوّر ولا مفصول عن أجساد الآخرين أصحاء ومرضى وأغنياء وفقراء.
ولا يسعنا اليوم أن ننظر للبشر فلسفياً على أنهم على أعتاب نهاية تاريخية كما ذهب فرنسيس فوكوياما ولا هم نفايات كما وصفهم ريغمونت باومان، ولا حياتهم عارية كما قال اغامبين، بل البشر اليوم مجسدنون بديمقراطية هي شعبية وهي مدنية وعسكرية وإيديولوجية وبيولوجية. ودرجة الخوف في كل ذلك متصاعدة وبوتيرة متأهبة، وديمومة حياتية تتعايش جسديا.
ولن تصبح الكورونية عصرا اعتياديا ومستقبلها متكهنا به ما لم تكن الأجساد مركزية فلسفيا ومعرفيا وقد تأنسن كل شيء حتى التكنولوجيا التي ستضع الإنسان في اعتبارها عمليا وجماليا وتواصليا.
وسيكون من متطلبات الاهتمام بالجسد التجريب فيه بصورة لا نمطية والتنظير له معرفيا والتفكير في مستقبله حيث كل جزيئة فيه لها دورها الخاص والمركزي اتصالا بالأجزاء الأخرى وباختيار أخلاقي.
وبسبب هذه الأهمية لم يغب الجسد ككينونة معرفية عن اهتمام الفلاسفة الإغريق كأفلاطون وأرسطو كما نال اهتمام فلاسفة العقل مثل رينيه ديكارت وكانط وصار له وجود في كل ميادين المعرفة من الفلسفة والدين وعلم النفس إلى العلم المعرفي والأنثروبولوجي واللساني والتاريخي والنقدي وكل أنواع الفنون. واحتل الجسد في فلسفة موريس ميرلوبونتي المركزية مالكا قصديته الخاصة ولكل فرد جسمه الخاص فهو الرائي والمرئي وهو الوسيلة لامتلاك العالم وكل إنسان عبارة عن جسم حي هو الموضوع كما هو الذات.
بيد أن هذه الأهمية وتلك المعرفية صارت معززة اليوم بالمرحلة الكورونية كمرحلة عبور حضاري وحوار (بين ثقافي)، فيها الجسد البشري هو المركز بناء على حقيقة كونه هو المارد الكبير حين لا ينال تلك المركزية وتكون له الأولوية في الترسانة المعرفية المعاصرة.
وإذا كان العقل في مرحلة الحداثة هو المركز وكان الفكر في مرحلة ما بعد الحداثة هو المركز؛ فإن الجسد في مرحلتنا الكورونية هو المركز وترسانته تصوراته وإمكانياته الحقيقية الكامنة في كل خلية حيوية تحوسب أهميتها حوسبة دقيقة على وفق سيرورات ومتواليات ليس فيها تفوق لعضو على آخر أو استحواذ لجزء أو استهانة بأجزاء أخرى. لتغدو معطيات الجسد كلها باعتياديها وغير اعتياديها هي أساس وجودنا.
بهذه النظرة الكلية للجسم تتوضح خطورة المرحلة الكورونية التي تختلف عن المراحل التي سبقتها في أن المعرفة فيها مجسدنة. وإذا كنا قد عرفنا كيف أن النمذجة بالذكاء البشري أتاحت مجالا معرفيا لبرمجيات الذكاء الصناعي وبرامج الحاسوب الآلي؛ فإن في خارطة الجسد البشري مناطق بحث معرفية ما زالت بكرا وأهميتها تتعدى كل أجندات التكنولوجيا النووية والهندسة الجينية وأنظمة التحكم بالصواريخ وحمل الرؤوس النووية، التي ما استطاعت إنقاذ البشرية من خطر ما بعد مجهري داهمها على حين غفلة.
وفي هذا درس تتعلمه البشرية وهي تواجه الكائنات الفيروسية كعدوة أزلية للبشر تتحداهم، والبشر يتحدون أنفسهم في مواجهتها كأنموذج تواصلي به يثبت البشر ذكاءهم ويدللون على تقدم علومهم ومستواهم الدماغي والرمزي والسلوكي والذاكراتي والتعلمي والبصري.
ومثلما قالوا قديما العقل السليم في الجسم السليم صار الجسد هو السمة المتعالية في الكون، ولم يعد العقل بمفرده هو الجوهر والسبب صلته الوثيقة بالأجزاء الجسمية الأخرى التي لا يمكن إنكارها أفعالا واستجابات مادية وتجريدية. والجسم لا يتطور إلا وهو متشكل بالعقل الذي هو متطور باستمرار بما يشبه التطورية الدارونية ومتحرر بحياة مشاعية واعتيادية وروح مشتركة نعيش فيها ضمن نسق تصوري كلي.
ولأن الإنسان بكليته هو الكيان المجسدن الذي فيه يكمن ما يهدده صار فرضاً عليه وواجباً أن يعيد التفكير في حقيقة هذا الجسد وأهمية معرفة ألغاز كينونته: مم يكون؟ وكيف يكون؟ ولماذا يكون؟



البحث عن بطل

البحث عن بطل
TT

البحث عن بطل

البحث عن بطل

في كتاب «البحث عن منقذ» للباحث فالح مهدي شرح مفصّل عن الشعوب التي ترزح تحت نير الظلم والإذلال، وكيف تعلّق أمرُ خلاصها برقبة منقذ تستعير اسمه من أساطين الدّين، تنتظر عودته إلى الحياة عن طريق البعث أو النشور، كي يحقّق العدل الغائب عن وجه الأرض، ويعوّض ناسها ما فاتهم من عيشة هانئة مستقرّة. اكتسى هذا المخلّص عبر مراحل التاريخ بجلابيب أسماء عديدة، منها «كريشنا» المنتظر في الديانة الهندوسيّة، و«بوذيستاوا» أي «بوذا» المنتظر، و«ماهافيرا» المنتظر في الديانة الجاينيّة، و«زرادشت» المنتظر في المجوسيّة، وفي اليهوديّة والمسيحيّة والإسلاميّة لدينا المسيح المنتظر والمهدي المنتظر وإسماعيل المنتظر والسفياني المنتظر واليمانيّ المنتظر والقحطانيّ المنتظر.

تعود هذه الفكرة في الأصل إلى اعتقاد دينيّ قديم مفاده أن الشرّ لا يمكن مواجهته من خلال البشر الفانين؛ لأن كلّ ما يأتي به الشّيطان لا يُهزم بالفعل البدنيّ، ويحتاج الإنسان إلى الاستعانة بالقوى الإلهيّة. وعلى الجميع لهذا السبب المحافظة على تقاليد دينهم وتعاليمه؛ لكي يستعجلوا هذه القوى، وإلّا فهم يقضون حياتهم في حالة انتظار دائم.

هو ليس انتظار اللاشيء، حتماً، لكنّه انتظار من أجل حبّ الانتظار، يعيش المؤمن في ظلّه في حالة وجْد لا يفتُر، يكون الزمن فيه مجمّداً عند المستقبل الأزليّ واللانهائيّ. هل جرّبتم العيش دون حاضر أو ماضٍ؟ عندما تغيب الحيوات والانفعالات والمشاعر «الصعبة» أي الحقيقيّة من المرء، يحلّ اليأس التامّ والمُطلق، وهو أحد شروط تحقيق ما يُدعى بالنيرفانا لدى البوذيّين، الخطوة الأولى في سبيل عودة «بوذا» المنتظر إلى الظهور، ويختلف الأمر كثيراً أو قليلاً بالنسبة إلى بقيّة المخلّصين. ثم يغيب الماضي كذلك، وتختفي معه أحداثه، ويبقى الوقع الأهمّ هو ظهور المُنقذ في القادم من الأيّام والشهور والسنين، وربما حلّ الموعد والمرء نائم في قبره، ويستيقظ عندها ليجد العدل والإنصاف يعمّان الأرض، ويتمّ القصاص من الأشرار والمجرمين والمفسدين.

عندما يتوقّف الدماغ تنشط آلة الخيال، ردّ فعل طبيعيّ لحالة الفقد والحرمان والإذلال، لكنّه خاصّ ببني الإنسان، وهو بالأحرى عقل مرَضيّ مُشِلّ للنّفس والبدن يؤدّي بنا إلى الجنون وخراب الدّيار. الانتظار يولّد انتظاراً آخر، ولا يوجد شيء اسمه فوات الأوان. كما أنّ الخضوع يتبعه انحناءٌ تحت نير جديد. يقول ألبير كامو: «الأمل، عكس ما نظنّ، يُعادل الرُّضوخ. والحياة هي في عدم الرُّضوخ». من فكرة المُنقذ المنتظر جاء حُلم الشعوب المقهورة والضعيفة بالبطل المُرتجى، تبحث عنه كي تؤلّهه، ولن تُرفع إليه الأبصار إن كان حيّاً، وإذا كان ميّتاً تُعينهم ذكراه على تحمُّل الضَّيم الذي يكابدونه. في كلّ بلد ضعيف لا بدّ أن يكون هناك بطلٌ يلجأ إليه الفقراء والبُؤساء، يرسمون له الأساطير التي لا تحكي الواقع بطبيعة الحال، لكنّها تعكس حالة الضعف والخَوَر اللّذيْن يستلبان نفوس المؤمنين بمنقذهم، الذين يُغالون في تبجيله إلى درجة أنهم ربما راحوا يتطلّعون إلى صورته منقوشة على صفحة القمر، وهذا ما جرى حقّاً وفعلاً للعراقيين إِثْرَ مقتل عبد الكريم قاسم على أيدي انقلابيّي «8 شباط»، ثم قام هؤلاء برمي جثمانه في النهر، كي يتخلّصوا من حُبّ النّاس وتقديسهم، فانتقل هذان الفعلان إلى السماء، بعد أن لم يعثر مُريدوه على أثر له على الأرض، وصاروا يتطلّعون إلى صورته في اللّيالي القمراء، والبعض منهم تفيض عيونه بالدُّموع.

لا يُشترط في البطل أن يكون غائباً، أو لديه صفات هذه المرتبة الخارقة من القدسيّة والبطولة، بل يمكن أن يكون أحد الذين يعيشون بيننا، أو شخصاً غريباً وقَدَرِيّاً يُرفع إلى هذه المكانة عنوة، ولا يستطيع التراجع عنها لأنّ في ذلك خطراً يتهدّد حياته، فهي صارت أوّلاً وأخيراً بأيدي مريديه. هناك نوع من اشتباك مصائر يعيشه الطرفان: الجماهير تنظر إلى البطل على أنّه حامي ديارها وأرواحها من الخراب والفناء، والمنقذ يتطلّع بدوره إلى هؤلاء، في سبيل بقاء الصفات المبجّلة التي أسبغوها على شخصه.

فكرة البحث عن قائد مظفّر تتوّجه أكاليلُ المجد والغار قديمة لدى الإنسان، وجديدة أيضاً. الأرض تدور كلّ يوم، وفي كلّ سنة من أعمارنا، في شرقنا (السعيد) ثمّة بطل دَوْماً. عندما يغيب العدل في المجتمع يحتاج كلّ جيل إلى ابتكار مُنقذ جديد، من مزاياه أنّه ليس مخلّداً مثل رموز الأساطير الدينيّة، بل هو كائن حيّ له عمرٌ لا يتجاوز عمر البشر، يتمّ دفنه بعد فنائه ليولد بطلٌ جديد يعيش مع الأبناء إلى المحطّة الأخيرة، يترجّل بعدها تاركاً مقعده إلى مُنقذ أكثر جِدّة يواكب الرحلة مع الأحفاد؛ لأنّه لا طاقة لنا على العيش دون هؤلاء الفاتحين.

البطل في الحُلم يُقابله إنسان مهزوم ومأزوم في الواقع، هكذا هي القاعدة في علوم الاجتماع والطبّ والنفس، والفارق بين الاثنين كبير إلى درجة أن الناس يعيشون في ظلّ منقذهم في حال من الرِّقّ الجماعيّ، بكلّ ما في قوّة أنظمة الاسترقاق القديمة من سلطة القانون، وما كانت تحمل من أغلال اجتماعيّة وأخلاقيّة. وإن كان الأمر يحصل بصورة غير ظاهرة للعِيان، لكنّ شكل الحياة الأخير مطابق لذلك الناتج من حالة الاستعباد الجماعي الذي ودّعته البشريّة منذ قرون.

بالإضافة إلى العبوديّة، لا يمثّل البطل في هذا الزمان رمزاً قوميّاً يشدّ من أزر الجميع؛ لأننا نعيش في بلدان متعدّدة الأعراق والمعتقدات والأرومات، ولهذا السبب رحنا نبتكر أكثر من بطلٍ واحد: اثنين أو ثلاثة أو أكثر، يتحوّلون بمرور الوقت إلى أداة للفُرقة، تصيرُ بسبب التشاحن الدائم جزءاً من دمائنا، لتدور عجلة الحرب الأهليّة (الباردة) في البلاد، تدوم طويلاً لأن أسبابها باقية وتتقوّى مع السنين، ويوماً ما سوف تسخن حتماً وتتفجّر إلى هستيريا جماعيّة تستيقظ فيها نوازع الشرّ والتوحّش القديمة النائمة، ويتقاتل عندها الجميع ضدّ الجميع، ليصير الحلّ بتدخّل قوى أجنبيّة (استعماريّة) تُنقذ بقيّة الحياة والعِباد.

عندما تكون حياة الإنسان زهيدة - لأن الشعب عبارة عن مجموعة من الرّقيق - تُرتكبُ أقسى الجرائم بشاعةً. وعندما تكون الحريّة مبذولة، وتسود العدالة الجميع، عندها فقط يختلف وعي الأمة وسوف تجد مُنقذَها من داخلها لا من الغيب. يحتاج الجمهور آنذاك إلى بطل قدوة من نوعٍ ما يتطلّع إلى بلوغ مكانته الجميع، ويحقّق لهم هذه الفكرة الرسّام والموسيقيّ والشاعر والمهندس... مثلما يجري الآن في الأمم المتحضّرة. من هنا جاءت فكرة النجم في المجتمع المستقرّ الهانئ بعيشته، وليس للأمر علاقة بالمال ورأس المال، وغير ذلك من كلام يُضيّق على النفس ويصدّع القلب والرأس.