كاتب شبح... وشخصيات بأكثر من قناع

المغربي أحمد الويزي ينبش في تاريخ المغرب مطلع القرن العشرين

أحمد الويزي
أحمد الويزي
TT

كاتب شبح... وشخصيات بأكثر من قناع

أحمد الويزي
أحمد الويزي

قد يتعذر على «كاتب» ما التعبير عن نفسه بلغة الأدب والسرد، فيلجأ إلى كاتب «مجهول» أو مغمور، يكتب عنه يومياته أو أحداث روايته، يطلق عليه اسم «الكاتب الشبح» (Ghost Writer).
والروائي والمترجم المغربي أحمد الويزي، المتمكن من أدوات فنه بأكثر من لغة، ليس بحاجة إلى كاتب شبح ينسج له على الورق. إلا أنه في رواية «الملك يموت مرتين» يتقنع مرتين، وربما أكثر من مرة وبأكثر من قناع، كي يقول ما يريد قوله. يبذل الويزي جهداً كبيراً، وهو ينبش في تاريخ المغرب خلال مطلع القرن العشرين، في أشد مراحل تحرش الاستعمار ببلاده، فينتقي شخصيات حقيقية من ذلك الزمن، وأخرى متخيلة كي يمنح القارئ قناعة بما يريد قوله.
إنه لا يفعل أكثر من أن يحقق ما يقوله الكاتب ميلان كونديرا، حول فن كتابة الرواية: «الشيء الجوهري في الرواية هو ما لا يمكن قوله إلا في الرواية؛ وفي كل اقتباس لا يبقى سوى الشيء غير الجوهري. وفي هذه الأيام على كل من يتوافر لديه القدر الكافي من الجنون كي يستمر اليوم في كتابة الروايات، أن يكتبها بطريقة يجعل اقتباسها متعذراً، حماية لها. بعبارة أخرى، طريقة تجعلها غير قابلة لأن تُروى».
يتقنع الكاتب مرة في المقدمة، حين ينسب الرواية إلى كاتب فرنسي مغمور (جان بيير هانس) كتبها في خمسينيات القرن الماضي، فلم تحظَ مع الأسف باهتمام أيّ أحد، رغم أنه ابن فرنسا. يقول لنا: «ربّما رام من وراء ما ضمنه فيها (بنية بريئة أو بغيرها)، التشويش على بُناة الإجماع الوطني، والتشكيك في نوايا حُماته الرّسميين، في مرحلة عصيبة وفارقة من حياة الأمة». ثم يتقنع مرة أخرى ليقول لنا إنه ترجم هذه الرواية عن الفرنسية قناعة منه بأن المترجم ساعٍ يقتفي أثر ساعٍ قبله غاب، إما لانتمائه إلى بلد غريب، وإما لأنه عاش في زمن غير زمن الترجمة، وإما لأنه شخصية ماكرة لا تريد الكشف عن وجهها المتخفي وراء قناع».
وطبيعي أنّ الهدف الوحيد لأحمد الويزي في عمله هذا لم يكن هو التقنّع لكشف المستور على طريقة «باتمان» و«سوبرمان» وغيرهما من أبطال «الكوميكس» الخارقين، لأنّه يخوض تجربة كتابة حداثويّة تجمع في آن واحد، بين التجديد في الأسلوب والمتعة. فهي رواية تاريخية، ورواية سجون، وسيرة غيريّة، وكتاب رحلات وأسفار، فيه وصف للمدن والبوادي والزرع والضرع. يصف مغاربة ذلك الزمن في موغادور، ومراكش، وفاس، والصويرة... إلخ؛ ويشرح لباسهم وعاداتهم وأهواءهم ونفسياتهم.
يسير على خطى روبير هاس، ويصبح ظلاً له تحت شمس مراكش الحارقة، ويدفعنا للتساؤل عما إذا كان مغاربة اليوم، أو مغرب اليوم يختلف كثيراً عما كان عليه قبل أكثر من قرن. لا يكتفي الويزي بـ«تلبيس» نفسه وشخصياته أقنعة غيرهم، بل يضع قناع أبو عبد الله حسين بن منصور الحلاج على وجه السلطان عبد الحفيظ بن الحسن، في الصفحة الأولى من الرواية، وينقل عنه، على لسان الصحفي جاك هيبير (1912): «إنهم قيدوا يدي، وكبلوا رجلي، ثم ألقوا بي في اللجّة... وها هم يريدون مؤاخذتي الآن، على ما طال لباسي من بلل».
تتحدث الرواية عن الصحفي الفرنسي روبير هاس، المولود في الجزائر، الذي يكتب من زنزانته في سجن «لاسانتي» الفرنسي سنة 1937، حيث يقبع بتهمة الخيانة العظمى والتجسس لصالح ألمانيا.
يخوض هاس مغامرة الكتابة الصحفية في فرنسا ثم ينتقل إلى المغرب بحثاً عن سبق صحافي يرفع اسمه إلى قبة المجد الإعلامي المرصعة بالنجوم. يكتب من المغرب إلى صحيفته «لوتان» بحماس جمهوري عن «الغوغاء» الذين قتلوا الطبيب إيميل موشان سنة 1907 في المغرب بتهمة التجسس. ويستمر في هذا النهج الحماسي المدافع لتدخل فرنسا بذريعة فرض الأمن في الشمال الأفريقي إلى حين عودة الوفد المغربي خالي الوفاض من مؤتمر الجزيرة الخضراء، في زمن السلطان مولاي عبد العزيز، ومن ثم القصف الوحشي الفرنسي للدار البيضاء سنة 1907، الذي خلف دماراً بشرياً واقتصادياً هائلاً. تتم بيعة السلطان مولاي عبد الحفيظ خلفاً لأخيه مولاي عبد العزيزي الذي عرف بتهاونه مع الأطماع الاستعمارية في المغرب. ويبذل روبير، بالتعاون مع زميله كريستيان هويل، جهداً لتحقيق مجده الصحفي من خلال لقاء السلطان الجديد، وهو يتزيّا بزي عربي، ويخوض غمار رحلات محفوفة بالخطر، وصولاً إلى مراكش حيث يتحقق حلمه.
ويبدو أن قصف الدار البيضاء، ومن ثم اللقاء بمولاي عبد الحفيظ، أدار دفة روبير الحالم بقدرته على إيصال الحقيقة حول السلطان إلى الجمهور الفرنسي المنقسم بين مؤيد ومعارض لدور فرنسا في المغرب. يكتب بدافع نقل الحقيقة عن الدور الفرنسي في عزل مولاي عبد الحفيظ، ويثير الأسئلة حول موت السلطان المريب واختفاء أرشيفه. توجه السلطات الفرنسية له تهمة الخيانة العظمى، والتجسس لألمانيا، وترسله إلى سجن لاسانتي.
يكتب روبير من السجن أن الصحافة التي ولدت من رحم الديمقراطية وقعت في أسر السلطة والمال. ويعود إلى موضوعة التقنع في نهاية الرواية، بعدما يفشل محاميه في انتشاله من كابوس لاسانتي، ولا تنتصر له الصحافة في رسالته التي آمن بها، ويعترف أن الصحافة نفسها تلجأ إلى التقنع وكتم الحقيقة، أو الاكتفاء بكشف نصف الحقيقة، واللجوء إلى الترميز واللامباشرة في «هذا الزمن». وهو لم يهاجم الدولة، ولم يفضح دسائسها، ولم يحرج عالم الصحافة الحر، ولم يفعل أكثر من أنه نقل الحقيقة.
من خلال الجدران التي تطبق على قلم روبير يحس القارئ بعدة أصوات تصل إلى سماعه. إذ يسرد الكاتب الأحداث مرة بصوت روبير، ومرة أخرى بصوت المؤرخ المحايد، وثالثة بصوت الكاتب نفسه. ويجري كل ذلك بلغة عالية تكشف مدى تمكن أحمد الويزي من أدوات الكتابة، سواء في النص الذي يتحفنا به، أو في الترجمة التي يدعيها للنص الفرنسي الأصلي «المجهول».
تدور أحداث الرواية في المغرب وفرنسا، وهما مسرحا الأحداث في«الملك يموت مرتين». أما زمان الرواية الظاهر «1907» فليس أكثر من قناع زمني آخر يستر الكاتب به وجهه. فالأزمنة في الرواية تختلط بين الماضي والحاضر في لعبة شيقة في أبعادها الدلالية ولا تغيب عن القارئ الحصيف. ألا تستدعي قصة ارتفاع «البغّال» المراكشي بو بكر الغنجاوي من طبقة «الحمير» إلى طبقة السباع (الأثرياء) في الماضي الأسئلة عن أمثلة من عالم اليوم؟ وهل يخلو المغرب بعد مائة سنة من «محميّين» يتمتعون بحقوق لا تتوفر للمغربي نفسه؟ وهل تخلو فرنسا اليوم، أو غيرها من البلدان، من أمثلة عما حل بالصحفي روبير قبل نحو 80 سنة؟ لا يقود الكاتب القارئ في متاهات تاريخية تجعله يحيد عن الهدف من النص، ويلجأ لذلك إلى كثير من الهوامش، التي لا بد منها، للتعريف بشخصيات الرواية والشخصيات التاريخية والأماكن والأحداث. كما صاغ العديد من تساؤلات بطله في إطارات داخل النص بصفة ملاحظات هامشية. ووضع الويزي العديد من الأحداث التاريخية والبرقيات والمذكرات واليوميات والآراء داخل إطارات وملاحق أخرى لا يشعر القارئ أنها خرجت عن سياق الأحداث.
يقول الفيلسوف جورج فيلهلم فريدريش هيغل: «إن كشف الغطاء عن التناقض ليس قضية فكرية ذات أهمية، لأن تصوير الأجواء التي تتحرك فيها هذه التناقضات هو القضية». وهو ما يفعله أحمد الويزي في روايته التاريخية التنويرية الذكية، ويقف بالتالي بالضد من صناع الظلامية من السياسيين في سعيهم لتجهيل شعوبهم. هذا يذكر بما قاله بسمارك عن أكثر الوجبات شعبية في ألمانيا «النقانق». يقول إنه «كلما عرف الألمان أقل عن محتويات النقانق كلما ناموا أحسن».
هل كان الملك على علم بما يخبئه الفرنسيون له من مصير؟ يلاعب السلطان مولاي عبد الحفيظ، بعد نهاية لقاء صحفي، روبير هاس الشطرنج. ويحذره من ألّا يتعمد الهزيمة أمامه هذه المرة إكراماً للعرش. وبعد عدة نقلات يلاحظ الملك عبد الحفيظ المعزول أن روبير شارد الذهن لا يتقي الهجوم على ملكه، فيطيح قطع الشطرنج عن الرقعة ويقول ضاحكاً: لا أريد مواصلة مباراة يموت فيها الملك مرتين!


مقالات ذات صلة

«فلسفة هيوم»... زيارة جديدة لأحد أهم مفكري القرن الثامن عشر

ثقافة وفنون «فلسفة هيوم»... زيارة جديدة لأحد أهم مفكري القرن الثامن عشر

«فلسفة هيوم»... زيارة جديدة لأحد أهم مفكري القرن الثامن عشر

عن دار «أقلام عربية» بالقاهرة، صدرت طبعة جديدة من كتاب «فلسفة هيوم: بين الشك والاعتقاد» الذي ألفه الباحث والأكاديمي المصري د. محمد فتحي الشنيطي عام 1956

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
يوميات الشرق ذاكرة إسطنبول المعاصرة ورواية أورهان باموك الشهيرة في متحف واحد في إسطنبول (الشرق الأوسط)

«متحف البراءة»... جولة في ذاكرة إسطنبول حسب توقيت أورهان باموك

لعلّه المتحف الوحيد الذي تُعرض فيه عيدان كبريت، وبطاقات يانصيب، وأعقاب سجائر... لكن، على غرابتها وبساطتها، تروي تفاصيل "متحف البراءة" إحدى أجمل حكايات إسطنبول.

كريستين حبيب (إسطنبول)
كتب فرويد

كبار العلماء في رسائلهم الشخصية

ما أول شيء يتبادر إلى ذهنك إذا ذكر اسم عالم الطبيعة والرياضيات الألماني ألبرت آينشتاين؟ نظرية النسبية، بلا شك، ومعادلته التي كانت أساساً لصنع القنبلة الذرية

د. ماهر شفيق فريد
كتب ناثان هيل

«الرفاهية»... تشريح للمجتمع الأميركي في زمن الرقميات

فلنفرض أن روميو وجولييت تزوَّجا، بعد مرور عشرين سنة سنكتشف أن روميو ليس أباً مثالياً لأبنائه، وأن جولييت تشعر بالملل في حياتها وفي عملها.

أنيسة مخالدي (باريس)
كتب ترجمة عربية لـ«دليل الإنسايية»

ترجمة عربية لـ«دليل الإنسايية»

صدر حديثاً عن دار نوفل - هاشيت أنطوان كتاب «دليل الإنسايية» للكاتبة والمخرجة الآيسلندية رند غنستاينردوتر، وذلك ضمن سلسلة «إشراقات».

«الشرق الأوسط» (بيروت)

الرياض تحتفي بمئوية كتاب «ملوك العرب» لأمين الريحاني

أمين الريحاني (الشرق الأوسط)
أمين الريحاني (الشرق الأوسط)
TT

الرياض تحتفي بمئوية كتاب «ملوك العرب» لأمين الريحاني

أمين الريحاني (الشرق الأوسط)
أمين الريحاني (الشرق الأوسط)

يعود المفكر والأديب والمؤرخ والرحالة والشاعر والرسام العربي اللبناني أمين الريحاني، إلى الواجهة مجدداً، بعد 85 عاماً على رحيله، من خلال احتفاء دارة الملك عبد العزيز، بمضيّ قرن على صدور كتابه «ملوك العرب»، الذي يعد خلاصة رحلة المؤرخ الراحل إلى الجزيرة العربية بين عامي 1922 و 1924.

ويرعى الأمير فيصل بن سلمان بن عبد العزيز، رئيس مجلس إدارة دارة الملك عبد العزيز، ندوة علمية، تنظمها الدارة، بالتعاون مع مؤسسة أمين الريحاني، الأربعاء 15 يناير (كانون الثاني)، للاحتفاء بمئوية صدور كتابه «ملوك العرب»، وذلك في قاعة الملك عبد العزيز للمحاضرات.

الأمير فيصل بن سلمان بن عبد العزيز (الشرق الأوسط)

ووفقاً للمؤرخ الراحل الدكتور عبد الرحمن الشبيلي، فإن أمين الريحاني يعد أحد مصادر التاريخ السعودي، وكان على درجة من الدقة فيما يتعلق بالمعلومات والأحداث التاريخية، مشيراً إلى أن ابن أخي الأديب المهجري اللبناني أمين الريحاني أصدر عام 2000 كتابه «الرسائل المتبادلة بين الملك عبد العزيز والريحاني»، تناول ومضات الإعلام الخارجي في تلك الرسائل، إذ أبانت الحسّ الإعلامي الفطري عند الملك، واهتمامه بالرأي العام الخارجي، وأشارت إلى تنفيذ الريحاني مبادرات وصيَغ إعلاميّة متقدّمة، إذا ما قيست بظروف عشرينات القرن الماضي ومعاييره، كالمقالات السياسيّة في الصحف اللبنانيّة والمصرية، وإلقاء المحاضرات في الجمعيّات الأميركيّة والكنديّة والأوروبيّة وإذاعتها في الإذاعات، مما قام به الريحاني ودّيّاً بوصفه صديقاً للملك، خدمةً للإعلام السياسي للدولة السعودية الناشئة.

وأضاف الشبيلي في مقالة كتبها في «الشرق الأوسط» نهاية أبريل (أيار) 2018: «وقد وقعتُ على كتابين قديمين -نادرين بالنسبة لي- يتّصلان بسيرة أمين الريحاني وتراثه: الأول؛ أصدره عام 1951 ألبرت، وهو الشقيق الأصغر للريحاني، ونشرته دار الريحاني ببيروت في 570 صفحة، متضمّناً رسائل خاصة أمكن العثور عليها حتى عام صدور الكتاب، تبادلها مع عدد من الساسة والمفكّرين، يقع تاريخ كتابتها بين عام 1896 والعام الذي توفي فيه 1940، وهي تضمّ خمائل من أدب الريحاني، وألواناً من إبداعاته في الفكر والشعر والفن والسياسة والعلوم، وتكشف عن أهوائه وهواياته، وهمومه وآلامه وتجلّياته، وتعرض جوانب من شخصيّته، وهي أولاً وأخيراً، لون متميّز معروف في التراث العربي (أدب الرسائل) وقد أضاف إليها ابن أخيه عام 2000 مخاطبات عمّه مع الملك عبد العزيز، كما سبق».

غلاف كتاب «ملوك العرب» الذي سيحتفى بمضي 100 عام على صدوره

وزاد بالقول: «أما الكتاب الثاني؛ فهو بالغ الأهميّة كذلك، صدر عام 1979 بمناسبة الذكرى السنويّة لمولد الريحاني (عام 1879) واعتنى بإصداره أخوه ألبرت أيضاً، ويتضمّن فهارس بيبلوغرافيّة في 550 صفحة، لمجمل ما نُشر عن الريحاني ومنه حتى ذلك العام، في المطبوعات العربيّة والأجنبيّة في الشرق وفي المهجر، نشرته المؤسّسة العربيّة للدراسات والنشر في بيروت».

وشدد على أنه «رغم قِدَم الكتابين، وأنه مضى على صدورهما حين من الزمن، فإِنهما يُشكّلان ذخيرة نفيسة لمن يسعى للاطّلاع على تراث هذا الأديب العربي الكبير، الذي توفي في حادث سقوطه من دراجة في بلدته (الفريكة) بلبنان عام 1940 عن 63 عاماً، ولا غنى لمن يعمل على سيرته والتنقيب في أعماله عن كتابيه المشار إليهما، ولا يملك من يطّلع عليهما إِلا أن يتمنّى تحديثهما، وإضافة ما جدّ عليهما خلال العقود الماضية».

ومع أن الريحاني لم يُعمّر طويلاً، وأنه أمضى زهرة شبابه في المهجر (أميركا)؛ فإنه مع بداية العشرينات زار الحجاز ونجداً وعدداً من الدول العربيّة والأوروبيّة، واتّصل بكثير من القادة والساسة، وراسلهم وكوّن صداقات معهم، ومن بينهم الملك عبد العزيز، والشريف حسين بن علي، ملك الحجاز، ويحيى حميد الدين، إمام اليمن، وأحمد الجابر الصباح، أمير الكويت، وسلمان آل خليفة، أمير البحرين، وفيصل الأول، ملك العراق، ومن المفكّرين العرب جرجي زيدان، وأحمد شوقي، ومحمد كرد علي، وبشارة الخوري (الأخطل الصغير) وغيرهم.

وذكر الشبيلي أن من مؤلّفاته النثريّة والأدبيّة الثلاثين، والخمسة والعشرين بالإنجليزيّة، كتابين اثنين، هما؛ ملوك العرب (1924 - جزآن) وتاريخ نجد الحديث (1927)، والثاني يُعدّ قطعة من تاريخ السعودية، وعلى درجة من الدقّة فيما يتعلّق بالمعلومات التاريخيّة، بحكم أنه استقى كثيراً منها برواية الملك عبد العزيز نفسه، وكان الملك يطّلع على تطوّر إصداره، ومرتاحاً لما تضمّنه من مواد، وإن كانت تردّدت شبهات حول زيادات فيه من تصرّف الريحاني، قد تكون ناتجة عن غيرة، كما يحدث أحياناً بين المتنافسين.

وحسب الزركلي، فإن للريحاني كتاباً ثالثاً نشره بالإنجليزيّة بعنوان «ابن سعود ونجد»، صدر بعد عام 1927، ومما ذكرته الجريدة الرسميّة السعودية «أم القرى» عن الريحاني، حضوره عام 1926 استقبال أعيان الحجاز للملك عبد العزيز، في منزل الشيخ محمد حسين نصيف، عند مَقدمه لأول مرّة، وإلقاء كلمة فيه.

استمر التواصل واللقاءات بين الملك عبد العزيز والريحاني نحو عشرين عاماً، تدور مراسلاتهما حول النزاع بين السعوديين والأشراف في مطلع العشرينات، والأحداث الحدوديّة الجارية مع اليمن في أوائل الثلاثينات، وحرص القيادة السعودية على إطلاع الرأي العام الداخلي والخارجي بصراحة وموضوعيّة على مجريات تلك الأحداث أوّلاً بأول، كما كان يتلقّى التأكيد على إيلاء القضيّة الفلسطينيّة الاهتمام الواجب، وذلك قبل نشوء دولة الاحتلال بأعوام.

هدف كتاب «ملوك العرب» إلى التعريف بسِيَر ثَمَانيَة من قادة العرب، من خلال معرفة المؤلّف بهم، فيما تطرّق كتابه الثاني «تاريخ نجد الحديث» إلى سيرة الملك عبد العزيز، وتاريخ الدولة الجديدة التي جمع شتاتها، وأنه بصدد إعلان توحيدها سياسياً في دولة واحدة (1932) وقد استقى المؤلّف كثيراً من التفاصيل من الملك مباشرةً كما سلف، فضلاً عن نشر الوثائق والرسائل التي كانت بحوزة المؤلّف، وتَحَرّى الدقّة في ضبط أسماء الأعلام والبلدان، كما ضمّ الكتاب ثلاث نُبَذ عن نواحي نجد، والوهابيّة، والأسرة السعودية الحاكمة.

وبعد؛ لعل مما يُسجّل دليلاً على حنكة الملك عبد العزيز، ضمن جهوده في تأسيس الدولة طيلة مدّة حكمه (54 عاماً) أنه أحاط ديوانه بمستشارين رسميين من جميع الأقطار العربيّة (منهم يوسف ياسين من سوريا، ورشدي مَلحَس من فلسطين، وفؤاد حمزة من لبنان، وحافظ وهبة من مصر، وعبد الله الدملوجي ورشيد عالي الكيلاني من العراق)، وبأصدقاء مفكّرين (منهم عبد الله فيلبي من بريطانيا، ومحمد أسد من النمسا، وأمين الريحاني من لبنان)، فضلاً عن نخبة من المستشارين المثقفين السعوديين (منهم أحمد بن ثنيّان آل سعود، وعبد الله بن عبد الرحمن آل سعود، وخالد السديري، وإبراهيم المعمّر، وحمزة غوث) يلتقيهم كل يوم، ويناقش آراءهم، ويتخاطبون معه مباشرةً، ومع ذلك يكون الرأي الأخير له، والقرار إرادته، ومن هنا صارت له الغَلَبة والتوفيق، بفضل الحكمة والدهاء والمشورة والثقة بالنفس.