إيطاليا وإسبانيا في عين عاصفة «كورونا»

بعد انتقال بؤرة الإصابات من آسيا إلى أوروبا وأميركا الشمالية

إيطاليا وإسبانيا في عين عاصفة «كورونا»
TT

إيطاليا وإسبانيا في عين عاصفة «كورونا»

إيطاليا وإسبانيا في عين عاصفة «كورونا»

في منتصف شهر سبتمبر (أيلول) من العام الماضي، صدر عن منظمة الأمم المتحدة، بالتعاون مع قسم الدراسات الاستراتيجية في البنك الدولي، تقرير يحذّر من مخاطر جائحة عالمية يمكن أن تودي بحياة عدد كبير من البشر، وتقوّض دعائم الاقتصاد، وتؤدي إلى أجواء من الفوضى الاجتماعية لم يشهد العالم مثيلاً لها في العصور الحديثة. ودعا التقرير الدول إلى الاستعداد لأسوأ الاحتمالات من تداعيات وباء ينتشر عبر أجهزة التنفس في أنحاء المعمورة.
وجاء في التقرير أن مسبباً مرضياً (Pathogen) بهذه الأوصاف يمكن أن ينشأ بشكل طبيعي أو أن يصمم في مختبر بصفته سلاحاً بيولوجياً. كما دعا الدول والمؤسسات الدولية إلى اتخاذ التدابير التي من شأنها أن تحول دون انتشار ما وصفه بالخطر المحدق.
التقرير الأممي يحمل توقيع مجموعة من الخبراء، ترأستهم غرو هارلم بروندلاند، وهي طبيبة سبق أن تولّت رئاسة الحكومة النرويجية، ومنصب المدير العام لمنظمة الصحة العالمية لاحقاً. وقد شدّد التقرير في استنتاجاته على أن تفشّي وباء على نطاق واسع هو «مصدر للقلق العميق بقدر ما هو احتمال واقعي من شأنه أن يدفع العالم إلى وضع يعادل في القرن الحادي والعشرين ما خلّفته (الإنفلونزا الإسبانية) في عام 1918، التي أودت بحياة نحو 50 مليون شخص». كذلك جاء في التقرير أنه لا توجد دولة في العالم جاهزة لمواجهة مثل هذا الوضع، ولا ممتثلة بالكامل لمعايير «اللوائح الصحية الدولية»، رغم موافقة كل الحكومات عليها. وتابع أنه «ليس من المستغرب أن يكون العالم غير مستعد لمواجهة جائحة سريعة تسري عن طريق الهواء».

المفاجئ... غير المفاجئ
نسوّق هذه المعلومات الموثّقة من باب الإشارة إلى أن التصريحات التي تكرّرت على ألسنة كثير من المسؤولين في الأسابيع الأخيرة، بأن أحداً لم يكن بوسعه أن يتوقّع مثل هذه الأزمة، أقل ما يقال فيها أنها تجانب الحقيقة.
الحقيقة أنه ثمّة من توقّع هذه الأزمة، وحذّر من تداعياتها الصحّية والاقتصادية والاجتماعية، والدليل على ذلك أن 3 أطباء فرنسيين تقدّموا بشكوى ضد الحكومة لإهمالها هذه التحذيرات، كما أن أطباء إيطاليين وإسباناً يعدّون ملفّاتهم لتقديم شكاوى مماثلة.
وبعد 3 أشهر تقريباً من ظهور هذا الوباء، وانتشاره بسرعة وكثافة في إقليم هوباي الصيني وعاصمته ووهان، تتأهب بكين لتعلن «انتصارها» عليه، بعدما أوقع 3300 ضحيّة من نحو 82 ألف إصابة، وشفاء 74 ألف مريض، فيما انتقلت بؤرة الانتشار عالمياً إلى أوروبا، وبخاصة إيطاليا واسبانيا حيث تجاوز عدد الإصابات المؤكدة بكل منهما حاجز الـ 100ألف، بينما يشكل مجموع الوفيات نحو نصف عددها عالمياً.
وبعد «نجاح» النموذج الصيني الذي يستحيل تطبيقه في الدول الأخرى لاعتبارات سياسية وتكنولوجية، اتجهت الأنظار إلى النموذج الكوري الجنوبي الذي حقق نتائج سريعة في احتواء الفيروس. ولكن في هذه الأثناء، تسارع انتشار الوباء بكثافة، وأوقع عدداً كبيراً من الضحايا في الشمال الإيطالي الذي يعد من أغنى المناطق الأوروبية وأكثرها تطوراً على صعيد الخدمات الصحية، إضافة إلى كونه مركزاً لعدد من المصانع الكبيرة للأدوية. ومن إيطاليا انتقل إلى إسبانيا، حيث تفشّى أيضاً بسرعة قياسية وضعت إسبانيا منذ مطلع هذا الأسبوع في المرتبة الثانية عالمياً، من حيث عدد الوفيات والإصابات.
وفي الرابع والعشرين من الشهر الماضي، أعلنت منظمة الصحة العالمية أنها على شفا إعلان الوباء جائحة على الصعيد العالمي. إلا أنه رغم ذلك، وما كان الجميع يشهده من تداعيات هذا الوباء في عدد من الدول، واصلت الحكومات الأوروبية، وبخاصة تلك التي كان الفيروس قد بدأ ينتشر فيها، مثل إيطاليا وإسبانيا، التحرّك ببطء شديد وتردد في اتخاذ التدابير التي ظهرت فعاليتها بوضوح في الحالتين الصينية والكورية الجنوبية.

بطء وتقصير وخروق
هذا التحرّك البطيء لمواجهة الوباء، وما رافقه من عدم اتخاذ التدابير الشديدة منذ المراحل الأولى لجهود الاحتواء، إضافة إلى «الخروق» الكثيرة لهذه التدابير حتى الآن، أدى في الحالتين الإيطالية والإسبانية إلى فوضى عارمة على الصعيد الاجتماعي أمام انتشار الفيروس، في أجواء من الهلع وغموض الرؤية في معالجة الأزمة التي بدت وكأنها هبطت من غير إنذار، وكشفت عن هشاشة كبيرة غير متوقعة في النظامين الصحيين اللذين يعدان من بين الأفضل في العالم. ومع مرور الأيام، راح الوضع يتفاقم بشكل خطير في البلدين حتى أصبح مجموع الإصابات والوفيات فيهما يتجاوز نصفها في أوروبا، وربعها في العالم.
وهنا، تجدر الإشارة إلى أنه قبل أن يبدأ الفيروس بالانتشار في أوروبا وآسيا، كان عدد الوفيّات في الصين قد بلغ 2600 من أصل 77 ألف إصابة مؤكدة، أي ما يعادل 3.4 في المائة. ومن ناحية ثانية، مع انتشار الفيروس في محيط الصين الآسيوي والقارة الأوروبية، بدأت تظهر فوارق في نسبة الوفيّات بين الدول التي تسجّل أكبر عدد من الإصابات. ويقول الخبراء إن نسبة الوفّيات تكون عادة مرتفعة في المرحلة الأولى، قبل أن يكون الوباء قد انتشر على نطاق واسع، ثم تتدنّى مع ازدياد عدد الإصابات المؤكدة.
غير أن هذا المنحى التنازلي لنسبة الوفيّات لم يتحقق في إيطاليا وإسبانيا، حيث تسجّل نسبة أعلى بكثير من الصين وكوريا الجنوبية، أو حتى من ألمانيا وفرنسا، إذ بلغت نسبة الوفيات في إيطاليا مثلاً 8 في المائة، بينما لم تتجاوز 1 في المائة في كوريا الجنوبية.
كذلك يلاحظ الخبراء أن النسبة الأعلى بين المصابين في كوريا الجنوبية هم الشباب الذين تتراوح أعمارهم بين 20 و29 سنة، وهي قد بلغت 25 في المائة تقريباً عندما انتشرت الإصابات بكثافة بين إحدى المجموعات الدينية. أما في إيطاليا وإسبانيا، فإن النسبة الأعلى من الإصابات هي بين الذين تزيد أعمارهم على 60 سنة.
أيضاً من الأرقام اللافتة أن نصف الوفيّات في إيطاليا، و40 في المائة منها في إسبانيا، هي بين الذين تزيد أعمارهم على 80 سنة. وفي البلدين، تزيد نسبة الإصابات بين المسنّين عن نسبتهم من العدد الإجمالي للسكان، وهو ما قد يفسّر سبب انتشار الفيروس بسرعة أكبر من سرعة انتشاره في الصين وكوريا الجنوبية.
وعلى صعيد متصل، وبينما تركّز كل المعلومات والبيانات المتداولة على عدد الإصابات والوفيّات، ونسب ارتفاعها أو تراجعها، وعدد الحالات الخطرة، يحذّر بعض الاختصاصيين من الإفراط في التفاؤل أمام «تحسّن» هذه الأرقام التي لا تعكس -في رأيهم- الصورة الحقيقية لانتشار الوباء، بل تعطي فكرة عن مدى خطورته.
وكان مفوّض الحكومة الإيطالية المكلّف بالإشراف على حالة الطوارئ قد أعلن أخيراً، بعد أن بدأ كثيرون يتحدثون عن بلوغ ذروة الإصابات ومعدلات الوفيات اليومية، ويتوقعون تراجعها، أن الأرقام المتداولة عن عدد الإصابات قد لا تعكس سوى 10 في المائة من العدد الفعلي. أما السبب في ذلك، فهو أن عدد الإصابات المؤكدة يتوقّف على عدد الاختبارات التي تُجرى لتحديدها. ففي كوريا الجنوبية، مثلاً، أجرت وزارة الصحة 6200 اختبار لكل مليون شخص، بينما لم يتجاوز هذا العدد في إيطاليا 3400 حتى الآن، وفي إسبانيا ما زال دون الألفين. يضاف إلى ذلك أن الدول لا تنشر أرقام الاختبارات بانتظام، رغم أنها معلومات أساسية، إلى جانب الديموغرافيا، لتحديد النسبة الحقيقية للوفّيات.

دور العادات الاجتماعية
العادات الاجتماعية في السياق الديمغرافي، الإيطالي والإسباني، هي أيضاً من الأسباب التي أدت إلى الانتشار الواسع السريع للوباء في هذين البلدين. فالإسبان والإيطاليون يميلون إلى العيش بالقرب من أسرهم، والانتقال يومياً إلى أماكن عملهم، فضلاً عن أن هناك نسبة عالية من الشباب الذين تركوا إقامتهم المنفردة، وعادوا إلى السكن مع أهلهم، بعد أزمة عام 2008 التي أدت إلى ارتفاع نسبة البطالة، وتراجع القدرة الشرائية للطبقة الوسطى.
وبالفعل، بيّنت الدراسات الأخيرة أن التواصل بين الشباب والمسنين هو السبب الرئيسي الذي أدى إلى هذا الانتشار السريع للفيروس في إيطاليا وإسبانيا؛ ذلك أن الشباب هم الناقل الرئيسي الأخطر للفيروس، وهم الأخطر لأنهم في الغالب لا تظهر عليهم عوارض الوباء. وهذا ما دفع أحد خبراء الجراثيم في جامعة ميلانو إلى القول: «الفيروس يسير على أقدام الذين لا تظهر عليهم عوارضه». وفي المقابل، يشكّل المسنّون المجموعة الأضعف والأكثر تعرضاً، لا سيما إذا ما كانوا يعانون من أمراض أخرى.

التجربة الإيطالية
عندما تأكدت الإصابة الأولى في إيطاليا، في منتصف الشهر الماضي، قالت وزارة الصحة إن الفيروس ينتشر في البلاد منذ أواسط يناير (كانون الثاني). ولكن رغم ذلك، ومع ظهور الإصابات الأولى، لم تتخذ السلطات الصحية الإجراءات التي كانت قد أوصت بها منظمة الصحة العالمية، علماً بأن الفيروس بدأ انتشاره في مناطق الشمال، حيث متوسط عمر السكان هو الأعلى. ويفيد المعهد الوطني للإحصاء أن هناك 14 مليون شخص تتجاوز أعمارهم 65 سنة، يشكّلون 22 في المائة من مجموع السكان في إيطاليا، وتصل هذه النسبة إلى 27 في المائة في الأقاليم الشمالية. وكان خبراء منظمة الصحة العالمية الذين شاركوا في مكافحة الفيروس في الصين قد أفادوا بأن نسبة الوفيات بين المصابين الذين تتجاوز أعمارهم 80 سنة تبلغ 14.8 في المائة، في حال ما كانوا يعانون من أمراض أخرى، وهي ترتفع أكثر في حالات الإصابة بأمراض القلب وجهاز التنفس والسكري وضعف المناعة.
وللعلم، كانت الإصابة الأولى في إيطاليا قد ظهرت يوم 21 فبراير (شباط)، في بلدة كودونيو التي تبعد 70 كيلومتراً عن مدينة ميلانو، ثم ارتفع عدد الإصابات فيها إلى 100 في غضون يومين، ما أدى إلى اتخاذ قرار بعزلها كلياً، مع 11 بلدة أخرى محيطة بها، وتكليف الجيش وقوى الأمن بإنفاذ الحجر الصحي الإلزامي لفترة 14 يوماً. وقد تمكنّت الأجهزة الصحية من تحديد «المريض رقم 1»، لكن تعذّر عليها تحديد «المريض صفر»، أي الذي جاء من الصين، ونقل الفيروس إلى المريض الأول. ويقول الاختصاصيون إن الفترة التي انتقل فيها الفيروس من «المريض صفر» إلى «المريض 1» يرجّح أنها كانت طويلة نسبياً، ما أدى إلى انتشار الوباء بصمت في مناطق الشمال، قبل اتخاذ التدابير الأولى.
ومن جانب آخر، أدت أجواء البلبلة والتردد في اتخاذ القرارات خلال تلك المرحلة إلى تشتيت الجهود وتضارب التدابير التي كانت تتخذها السلطات المحلية من غير تنسيق بينها ومع السلطات المركزية. ومن ثم، تحوّل الموضوع إلى مسرح للمواجهة بين الحكومة والمعارضة، بعدما أدلى رئيس الحكومة جيوزيبي كونتي بتصريح تحدث فيه عن «إدارة غير سليمة في مستشفى كودونيو ساهمت في انتشار الفيروس لقلة احترام التدابير المعتمدة». وهدّد كونتي حينذاك بتعليق الصلاحيات الصحّية المنوطة بالسلطات المحلية، قبل أن يعلن حالة الطوارئ التي بموجبها وُضعت كل الصلاحيات الإقليمية تحت إشراف السلطة المركزية وخليّة إدارة الأزمة.
يضاف إلى ما تقدم، قول الخبراء إن تدابير العزل التي اتخذتها السلطات الإيطالية في مناطق الشمال كانت تدريجية، وجرت من غير تنسيق بين المناطق. وهذا ما أدى إلى الحد من فعاليتها، ووضع المنشآت والطواقم الصحية تحت ضغط كبير بسبب الانتشار السريع للوباء، وتضاعف عدد الإصابات كل 3 أو 4 أيام. وحقاً، اعتذر رئيس بلدية ميلانو جيوزيبي سالا أخيراً عن القرار الخاطئ الذي اتخذه عندما أطلق حملته «ميلانو لا تتوقف» في عز انتشار الوباء، ودعا إلى مواصلة الحركة الاقتصادية والحياة الطبيعية.
وأصبح واضحاً اليوم أن ذلك القرار، الذي كان الهدف منه وقف الخسائر المادية التي تنجم عن توقف العجلة الاقتصادية، لم يحقق الهدف المنشود، بل كانت له آثار سلبية جداً على كثافة انتشار الفيروس في ميلانو ومحيطها. وبالتالي، اضطرت الحكومة المركزية إلى اتخاذ قرار بعزل المناطق الشمالية بكاملها في العاشر من هذا الشهر، قبل أن تفرض العزل التام على جميع أنحاء البلاد، ووقف العجلة الاقتصادية، باستثناء المرافق الاستراتيجية، لكن بعدما كان عدد الوفيّات قد تجاوز 3 آلاف، والإصابات 40 ألفاً. ولقد دفعت الطواقم الطبية ثمنا باهظاً لهذه الأزمة, إذ أصيب الآلاف من أفرادها وفقد الجسم الطبي حتى الآن 66 طبيباً بسببها.

ما حدث في إسبانيا
في إسبانيا، أعلن عن ظهور الحالات الأولى أواخر الشهر الماضي في أرخبيل جزر الكناري وفي جزر الباليار، مع أشخاص وافدين من مقاطعات الشمال الإيطالية، لكن تبيّن لاحقاً أن الوفاة الأولى وقعت في 13 من الشهر الماضي، ولم يعلن عنها إلا بعد 16 يوماً على وقوعها. ويجمع الاختصاصيون على أن الحكومة تأخرت في اتخاذ التدابير اللازمة، خاصة أن الجميع كان يراقب تطور الأزمة في إيطاليا، ويقتدي بالأمثولات المستخلصة منها.
ولعلّ الخطأ الأكبر الذي ارتكبته الحكومة الإسبانية إبان إدارة الأزمة في مراحلها الأولى كان السماح بمظاهرة حاشدة، شارك فيها أكثر من مائة ألف شخص في مدريد يوم الثامن من هذا الشهر، بمناسبة اليوم العالمي للمرأة. ويقول الخبراء إن هذا ما يفسّر العدد المرتفع من الإصابات في العاصمة ومحيطها، حيث يسجّل أكثر من نصف الإصابات والوفيات في البلاد، بل وقد تأكدت إصابة 3 وزيرات شاركن في تلك المظاهرة، إضافة إلى زوجة رئيس الحكومة.
أيضاً أدى الارتفاع الكبير في عدد الإصابات في مدريد إلى عجز مستشفياتها عن استيعاب المصابين بحالات خطرة، علماً بأن هذه المستشفيات تعد درّة تاج المنظومة الصحية الإسبانية. وتفاقمت الأزمة، رغم إلغاء هذه المستشفيات منذ أسبوعين جميع العمليات الجراحية غير الضرورية، وتحويل أقسام الطوارئ وغرف العملّيات إلى وحدات للعناية الفائقة (المركزة).
وإلى جانب الكارثة الصحّية، التي ليس معروفاً بعد حجم خسائرها وجدولها الزمني، تواجه الحكومتان الإيطالية والإسبانية كارثة اقتصادية غير مسبوقة. ومعلوم أن إيطاليا وإسبانيا -إلى جانب اليونان- قد دفعتا ثمناً باهظاً جرّاء أزمة عام 2008 المالية، حيث ارتفعت نسبة البطالة فيهما إلى مستويات غير مسبوقة، وتراجع النمو الاقتصادي بنسبة عالية، وألغيت خدمات اجتماعية كثيرة بسبب المديونية العالية التي يرزح تحتها البلدان. وقدرت وزارة الاقتصاد الإيطالية في تقريرها الشهري مطلع هذا الأسبوع أن إجمال الناتج المحلي قد تراجع بنسبة 11% في الفصل الأول من هذا العام. وأعلنت الحكومة الإسبانية يوم الأربعاء الماضي أن 835 ألف شخص فقدوا أعمالهم منذ بداية الأزمة, منهم 300 ألف خلل الشهر الماضي.



الحدود العراقية ــ السورية... وذكريات صيف 2014

شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)
شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)
TT

الحدود العراقية ــ السورية... وذكريات صيف 2014

شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)
شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)

شأن معظم دول المنطقة والإقليم، تسببت الأزمة السورية المتصاعدة في تراجع الاهتمام الرسمي والشعبي العراقي بالحرب التي تشنّها إسرائيل على غزة ولبنان، بعد أن كانت تحظى بأولوية قصوى، خصوصاً بعد التهديدات الإسرائيلية بتوجيه ضربات عسكرية ضد الفصائل المسلحة العراقية التي استهدفتها بأكثر من 200 هجمة صاروخية خلال الأشهر الماضية. وأظهر رئيس الوزراء محمد شيّاع السوداني، موقفاً داعماً للحكومة السورية في ظروفها الحالية منذ اليوم الأول للهجوم الذي شنَّته الفصائل السورية المسلحة وتمكّنت من السيطرة على محافظة حلب ومدن أخرى، إذ أجرى اتصالاً بالرئيس السوري بشار الأسد وكذلك الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان، وأكد دعمه لدمشق.

أعلن رئيس الحكومة العراقي محمد شيّاع السوداني، يوم الثلاثاء الماضي، موقفاً أكثر وضوحاً بالنسبة لدعم نظام دمشق، وذلك خلال اتصال - مماثل لاتصاليه مع القيادتين السورية والإيرانية - أجراه مع الرئيس التركي رجب طيب إردوغان.

ومما قاله السوداني إن «العراق لن يقف متفرجاً على التداعيات الخطيرة الحاصلة في سوريا، خصوصاً عمليات التطهير العرقي للمكوّنات والمذاهب هناك»، طبقاً لبيان حكومي.

كذلك شدّد الزعيم العراقي على أنه سبق لبلاده أن «تضرّرت من الإرهاب ونتائج سيطرة التنظيمات المتطرّفة على مناطق في سوريا، ولن يُسمَح بتكرار ذلك»، مؤكداً «أهمية احترام وحدة سوريا وسيادتها، وأن العراق سيبذل كل الجهود من أجل الحفاظ على أمنه وأمن سوريا».

محمد شياع السوداني (آ ف ب)

السوداني كان قد انهمك بسلسلة اتصالات خلال الأيام القليلة الماضية مع عدد من قادة الدول، بخصوص الوضع في سوريا؛ من «أجل دعم الاستقرار في المنطقة، وعدم حصول أي تداعيات فيها، خصوصاً مع ما تشهده من حرب إجرامية صهيونية مستمرة منذ أكثر من عام» بحسب بيان حكومي.

وأظهرت قوى «الإطار التنسيقي» الشيعية موقفاً مماثلاً وداعماً لحكومة السوداني في مواقفها حيال سوريا، لكنها أعربت خلال اجتماع، الثلاثاء الماضي أيضاً، عن قلقها جراء الأوضاع في سوريا بعد «احتلال الإرهابيين مناطق مهمة» طبقاً لبيان صدر عن الاجتماع. وعدّت «أمن سوريا امتداداً للأمن القومي العراقي للجوار الجغرافي بين البلدين، والامتدادات المختلفة لذلك الجوار».

الحدود المشتركة مؤمّنة

للعلم، مع الشرارة الأولى لاندلاع الأزمة السورية، اتخذت السلطات العراقية على المستوى الأمني إجراءات عديدة «لتأمين» حدودها الممتدة لأكثر من 600 كيلومتر مع سوريا. وصدرت بيانات كثيرة حول جاهزية القوات العراقية وقدرتها على التصدّي لأي محاولة توغّل داخل الأراضي العراقية من قبل الفصائل المسلحة من الجانب السوري، مثلما حدث صيف عام 2014، حين تمكَّنت تلك الجماعات من كسر الحدود المشتركة والسيطرة على مساحات واسعة من العراق.

اللواء يحيى رسول، الناطق باسم القائد العام للقوات المسلحة العراقية، أوضح (الثلاثاء) أبرز الإجراءات المُتَّخذة لتحصين الحدود مع سوريا. وقال في تصريحات صحافية إن «الحدود مؤمَنة ومُحكمة بشكل كبير من تحكيمات وتحصينات، وهناك وجود لقوات الحدود على خط الصفر الذي يربطنا مع الجارة سوريا مدعومة بالأسلحة الساندة والجهد الفني، المتمثل بالكاميرات الحرارية وأبراج المراقبة المحصّنة». وأضاف رسول: «لا خوف على الحدود العراقية، فهي مؤمّنة ومحكمة ومحصّنة، وأبطالنا منتشرون على طولها»، مشيراً إلى أنه «تم تعزيز الحدود بقطاعات من الألوية المدرعة وهي موجودة أيضاً عند الحدود».

أيضاً، وصل وفد أمني برئاسة الفريق أول قوات خاصة الركن عبد الأمير رشيد يارالله، رئيس أركان الجيش، يوم الأربعاء، إلى الشريط الحدودي العراقي - السوري. وذكر بيان عسكري أن «هدف الزيارة جاء لمتابعة انتشار القطعات الأمنية وانفتاح خطوط الصد».

غموض في الموقف

إلا أنه حتى مع المواقف الحكومية الداعمة لدمشق في أزمتها الراهنة، يبدو جلياً «الالتباس» بالنسبة لكثرة من المراقبين، وبالأخص لجهة شكل ذلك الدعم وطبيعته، وما إذا كانت السلطات الحكومية العراقية ستنخرط بقوة لمساعدة نظام الأسد عسكرياً، أم أنها ستبقى عند منطقة الدعم السياسي والدبلوماسي، تاركة أمر الانخراط والمساعدة الميدانية للفصائل المسلحة.

وهنا يلاحظ إياد العنبر، أستاذ العلوم السياسية في جامعة بغداد، وجود «التباس واضح حيال الموقف من الحدث السوري، وهذا الالتباس نختبره منذ سنوات، وليس هناك تمييز واضح بين العراق الرسمي وغير الرسمي». وتابع العنبر لـ«الشرق الأوسط» أن «مستويات تفعيل المساهمة العراقية في الحرب غير واضحة، وإذا ما قررت الحكومة البقاء على المستوى الدبلوماسي بالنسبة لقضة دعم سوريا، أم أن هناك مشاركة عسكرية».

غير أن إحسان الشمري، أستاذ الدراسات الاستراتيجية والدولية في جامعة بغداد، يعتقد بأن «العراق الرسمي عبَر عتبة التردّد، وبات منخرطاً في الأزمة السورية». وفي لقاء مع «الشرق الأوسط» بنى الشمري فرضيته على مجمل المواقف الرسمية التي صدرت عن رئيس الوزراء، والناطق الرسمي، وزعماء «الإطار التنسيقي»، وشرح قائلاً إن «هذه المواقف بمجملها كسرت مبدأ الحياد وعدم التدخل في شؤون الدول الأخرى الذي يتمسّك به العراق، إلى جانب كونها انخراطاً رسمياً عراقياً بالأزمة السورية».

نتنياهو غير مضمون

ولكن، بعيداً عن الانشغال الراهن بالأزمة السورية، ما زالت التهديدات الإسرائيلية بين أهم القضايا التي تشغل الرأي العام ببعدَيه السياسي والشعبي. وحتى مع الترحيب العراقي بقرار وقف إطلاق النار بين إسرائيل و«حزب الله»، ما زالت مخاوف البلاد من ضربة إسرائيلية محتملة قائمةً.

ولقد قال الناطق باسم الحكومة باسم العوادي، الأربعاء قبل الماضي، في تصريحات صحافية، إنه «مع عملية وقف إطلاق النار في لبنان، نحن أنهينا الجزء الأسهل، فالمعركة انتهت والحرب لم تنتهِ، فالأصعب أنك ستدخل بالمخططات غير المعلومة. ونحن (العراق) واقعون في المنطقة الحرام، لكن السياسة العقلانية المتوازنة استطاعت أن تجنبنا الضرر».

وأجاب، من ثم، عن طبيعة الرد العراقي إذا ما هاجمت إسرائيل أراضيه، بالقول: «إلى حد أيام قليلة كانت تأتي نتائج جيدة من المعادلات التي اشتغل عليها رئيس الوزراء، لكن رغم ذلك فلا أحد يضمن ما الذي يدور في بال حكومة نتنياهو، وما هو القادم مع الإدارة الأميركية الجديدة، وكيف سيتصرف نتنياهو».

وتابع العوادي، أن «الإسرائيليين عملوا على تفكيك الساحات، وتوجيه ضربات إلى اليمن وسوريا، لكن الطرف العراقي هو الوحيد الذي لم يستطيعوا الوصول إليه بفضل المعادلة... وقد يكونون وضعونا للحظات الأخيرة أو الأيام الأخيرة بنوع ما، وهذا وارد جداً، وتتعامل الحكومة العراقية مع ذلك».

شبح هجوم إسرائيلي

وحقاً، لا يزال شبح هجوم إسرائيلي واسع يخيم على بغداد، إذ تناقلت أوساط حزبية تحذيرات جدية من شنِّ ضربات جوية على العراق. وفي وقت سابق، قال مصدر مقرّب من قوى «الإطار التنسيقي» الشيعية، لـ«الشرق الأوسط»، إنَّ «مخاوف الأحزاب الشيعية من جدية التهديد دفعتها إلى مطالبة رئيس الحكومة للقيام بما يلزم لمنع الهجمات». وأكَّد المصدر أنَّ «فصائل عراقية مسلّحة لجأت أخيراً إلى التحرك في أجواء من التكتم والسرية، وقد جرى بشكل مؤكد إبدال معظم المواقع العسكرية التابعة لها».

وفي سياق متصل، تتحدَّث مصادر صحافية عمَّا وصفتها بـ«التقديرات الحكومية» التي تشير إلى إمكانية تعرّض البلاد لـ«300 هجوم إسرائيلي». وفي مطلع الأسبوع الماضي، شدَّدت وزارة الخارجية العراقية، في رسالة إلى مجلس الأمن، على أهمية «تدخل المجتمع الدولي لوقف هذه السلوكيات العدوانية لإسرائيل».

كما أنَّه حيال التهديدات الجدية والخشية الحقيقية من عمل عسكري إسرائيل ضد البلاد، اهتدت بعض الشخصيات والأجواء المقرّبة من الحكومة والفصائل إلى «رمي الكرة» في الملعب الأميركي، مستندين بذلك إلى اتفاقية «الإطار الاستراتيجي» المُوقَّعة منذ عام 2011، بين بغداد وواشنطن، وهو العام الذي خرجت فيه القوات الأميركية من العراق.

التهديدات الإسرائيلية من أهم القضايا التي تشغل الرأي العام العراقي

هادي العامري (رووداو)

العامري يلوم واشنطن

أيضاً، وجد هادي العامري، زعيم منظمة «بدر»، بنهاية أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، الفرصة ليحمّل واشنطن مسؤولية حماية الأجواء العراقية، بعدما شنَّت إسرائيل هجوماً عسكرياً ضد إيران، مستخدمةً الأجواء العراقية في هجماتها. ويومذاك، حمّل العامري الجانب الأميركي «المسؤولية الكاملة» على انتهاك إسرائيل سيادة الأجواء العراقية في طريقها لضرب إيران. وقال، إن «الجانب الأميركي أثبت مجدّداً إصراره على الهيمنة على الأجواء العراقية، وعمله بالضد من مصالح العراق وشعبه وسيادته، بل سعيه لخدمة الكيان الصهيوني وإمداده بكل ما يحتاج إليه لممارسة أساليبه العدوانية، وتهديده للسلام والاستقرار في المنطقة».

وأضاف العامري: «لهذا باتت الحاجة ماسة أكثر من أي وقت مضى لإنهاء الوجود العسكري الأميركي في العراق بأشكاله كافة». وللعلم، فإن منظمة «بدر» - التي يقودها العامري - وردت ضمن لائحة المنظمات التي اتهمتها إسرائيل بشنِّ هجمات ضدها خلال الشكوى التي قدمتها إلى مجلس الأمن في 18 نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي.

وبناءً على تصريحات العامري السالفة، وتصريحات أخرى لشخصيات مقرّبة من الفصائل المسلحة وقوى «الإطار التنسيقي» الشيعية، تبلورت خلال الأسبوع الأخير، قناعة داخل أوساط هذه القوى مفادها، بأن واشنطن «ملزمة وبشكل مباشر بحماية الأجواء العراقية» من أي هجوم محتمل من إسرائيل أو غيرها، أخذاً في الاعتبار الاتفاقية الاستراتيجية الموقعة و«سيطرتها على الأجواء العراقية».

وبالتوازي، سبق أن حمّل فادي الشمري، المستشار السياسي لرئيس الوزراء، الولايات المتحدة، أيضاً وفقاً لـ«اتفاقية الإطار الاستراتيجي والاتفاقية الأمنية»، مسؤولية «الردع، والرد على أي هجمات خارجية تمسّ الأمن الداخلي العراقي».

الرد الأميركي قاطع

في المقابل، تخلي واشنطن مسؤوليتها حيال هذا الأمر. ورداً على المزاعم العراقية المتعلقة بـ«الحماية الأميركية»، قالت ألينا رومانوسكي، السفيرة الأميركية في بغداد، صراحةً إن بلادها غير معنية بذلك. وأردفت رومانوسكي، خلال مقابلة تلفزيونية سابقة، أن التحالف الدولي دُعي إلى العراق لـ«محاربة (داعش) قبل 10 سنوات، وقد حققنا إنجازات على مستوى هزيمة هذا التنظيم، لكنه ما زال يمثل بعض التهديد، ودعوة الحكومة العراقية لنا تتعلق بهذا الجانب حصراً. أما اتفاقية الإطار الاستراتيجي فتلزمنا ببناء القدرات العسكرية العراقية، لكنها لا تتطرق لمسألة حماية الأجواء والدفاع بالنيابة». ونفت السفيرة أن تكون بلادها قد «فرضت سيطرتها على سماء العراق».

والاثنين قبل الماضي، قالت رومانوسكي، خلال لقاء «طاولة مستديرة» لعدد من وسائل الإعلام: «أود أن أكون واضحة جداً، ومنذ البداية، بأن الإسرائيليين وجّهوا تحذيرات ردع للميليشيات المدعومة إيرانياً والموجودة هنا في العراق، التي تعتدي على إسرائيل». وأضافت: «هذه الميليشيات هي التي بدأت الاعتداء على إسرائيل. ولأكون واضحة جداً في هذه النقطة، فإن الإسرائيليين حذّروا حكومة العراق بأن يوقف هذه الميليشيات عن اعتداءاتها المتكررة والمستمرة على إسرائيل... إن رسالتنا إلى حكومة العراق هي أن تسيطر على هذه الميليشيات المنفلتة، والتي لا تعتد بأوامر الحكومة وأوامر القائد العام للقوات المسلحة رئيس الوزراء. إن إسرائيل دولة لها سيادتها، وهي سترد على أي اعتداء من أي مكان ضدها».

جدعون ساعر (آ ف ب)

 

حقائق

قلق عراقي جدّي من التهديدات الإسرائيلية مع مطالبة واشنطن بالتدخّل

خلال الأسبوع قبل الماضي، بعث وزير الخارجية الإسرائيلي جدعون ساعر رسالةً إلى مجلس الأمن تكلّم فيها عمّا أسماه بـ«حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها»، وحمّل فيها الحكومة العراقية المسؤولية عن الهجمات التي تشنها الفصائل العراقية عليها، داعياً مجلس الأمن للتحرك والتأكد من أن الحكومة العراقية تفي بالتزاماتها. ساعر اتّهم بالتحديد «عصائب أهل الحق» و«كتائب حزب الله» و«ألوية بدر» وحركة «النُّجباء» و«أنصار الله الأوفياء» و«كتائب سيد الشهداء»، بمهاجمة إسرائيل، ومعظم هذه الفصائل مشاركة في الحكومة العراقية الحالية ولها نفوذ كبير داخلها. هنا، تجدر الإشارة إلى أنه سبق لرئاسة الوزراء العراقية توجيه وزارة الخارجية لمتابعة ملف التهديدات الإسرائيلية في المحافل الأممية والدولية وأمام هيئات منظمة الأمم المتحدة، واتخاذ كل الخطوات اللازمة، وفق مبادئ القانون الدولي، لحفظ حقوق العراق وردع تهديدات إسرائيل العدوانية. كذلك طالبت رئاسة الوزراء بـ«دعوة جامعة الدول العربية إلى اتخاذ موقف حازم وموحّد ضد تهديدات سلطات الكيان المحتل، يتضمن إجراءات عملية تستند إلى وحدة المصير والدفاع المشترك». وهذا بجانب «مطالبة مجلس الأمن الدولي بالنظر في الشكاوى المقدمة من جمهورية العراق ضد سلطات الكيان المحتل، واتخاذ إجراءات رادعة تكفل تحقيق الاستقرار والسِّلم الإقليمي والدولي»، وباتخاذ الولايات المتحدة مع العراق، من خلال الحوارات الأمنية والعسكرية ضمن إطار القسم الثالث من «اتفاقية الإطار الاستراتيجي»، خطوات فعالة «لردع سلطات الكيان المحتل» مع دعوة «التحالف الدولي والدول الأعضاء فيه إلى كبح هذه التهديدات والحدّ من اتساع رقعة الحرب».