عن الوباء والأدب

الميكروب والبكتيريا لا يستطيعان أن يلغيا أصواتنا حتى وإن ذبلت الأجساد

ماري  شيلي رائدة رواية الوباء
ماري شيلي رائدة رواية الوباء
TT

عن الوباء والأدب

ماري  شيلي رائدة رواية الوباء
ماري شيلي رائدة رواية الوباء

أدب الوباء كان موجوداً دائماً، لأن الأوبئة كانت موجودة دائماً أيضاً. ما يميز أدب الوباء، الطاعون، والجائحة هو الالتزام باكتشاف إن لم يكن نوعاً من التفسير فإنه نوع من المعنى المستخرج من التجربة الحية للذعر، الرعب، واليأس. السرد محاولة لإبعاد اللامعنى، وفي الفراغ الذي يحدثه الوباء، يضطلع الأدب بالسعي لإيقاف النزيف، مهما كان ذلك السعي يائساً. إن من المنطقي أن يكون العمل الأدبي الأكثر شهرة الذي أفرزه الوباء هو «الديكاميرون» (1353) لجيوفاني بوكاتشيو، بحكايته الإطارية المثيرة التي تتضمن 100 قصة جنسية داعرة وصاخبة ترويها سبع نساء وثلاثة رجال على مدى 10 أيام بينما هم معزولون في فيلاّ توسكانية خارج فلورنسا. وبينما يفتك الوباء بشمال إيطاليا يسلي شخوص بوكاتشيو أنفسهم بالحكايات المضحكة الفاضحة، ولكن الهدف المقلق لتلك النساء والرجال الذين عزلوا أنفسهم ضمن جدران مسقوفة هو أن «لكل شخص ولد في هذا العالم حقاً طبيعياً في الإبقاء والحفاظ والدفاع عن» حياته، بالقدر الذي يجعل القص مسكّناً ذاتياً يصم الآذان عن عويل أولئك الذين يموتون على الجانب الآخر من الجدران الحجرية المغطاة بأشجار اللبلاب.
إن وجود أدب الوباء ليس مقصوراً على تحليل الأسباب التي أدت إلى ذلك الوباء - قد لا يكون ذلك حتى هدفاً رئيساً من أهدافه. رواية القصص هي في حقيقة الأمر وسيلة للتذكير بأن العقل لا يزال موجوداً في مكان ما، أنه إن غاب المعنى خارج منطقة العزل، فإن ثمة معنى على الأقل داخل الحكايات المخترعة. الأدب عملية إصلاح تواجه ما يمثله المرض - وهو أن العالم ليس لنا. حسب ما يقول الراوي في رواية «الطاعون» لألبير كامي بينما يعيث المرض تدميراً في مدينة وهران في الجزائر الفرنسية، هناك «عنصر تجريدي ولا واقعي في المصيبة. لكن حين يبدأ التجريد بقتلك، فعليك أن تشتغل عليه». في مواجهة غرابة علم الأمراض، اعتباطية الإصابة، فوضوية المرض، علينا أن نواجه الواقع الذي يقول إننا لسنا سادة هذا العالم. لقد بدا أننا صرنا سادة للطبيعة إلى الحد الذي أدى بنا إلى تغيير المناخ نفسه، وأطلق الجيولوجيون على حقبتنا اسم حقبة الإنسانية، ومع ذلك يأتي فيروس بارد، ليمتلك من القوة ما يفوق جيشاً. المرض ليس مجازاً، أو رمزاً، أو حكاية رمزية، إنه ببساطة ذلك الذي يقتلك دون اعتبار. القصة محاولة لصنع ذلك الاعتبار الذي تتجاهله الطبيعة.
إن ضرورة الأدب في أعقاب الوباء تتضح على نحو مؤثر في رواية إيميلي سانت جون مانديل «المحطة الحادية عشرة». معظم أحداث الرواية تقع بعد بضع سنوات من تسبب «الإنفلونزا الجورجية» بقتل عدد ضخم من البشر على الأرض، وبعد انهيار الحضارة. تتتبع الرواية فرقة من الممثلين الشكسبيريين أثناء ترحالهم في عربات عبر منطقة البحيرات الكبرى المشوهة على جانبي الحدود الأميركية - الكندية. تقول مانديل: «تحسرنا على لا مبالاة العالم الحديث، لكن تلك كانت كذبة». «المحطة الحادية عشرة» رسالة حب بمعنى ما موجهة إلى عالم مفقود، أي العالم الذي يعيش فيه القارئ (حالياً). تقول إن وجودنا «لم يكن يوماً لا مبالياً أبداً»، والرواية تقدم ابتهالات مؤثرة حول كل ذلك الذي ضاع في رؤيا السرد، من المسابح بما فيها من كلور إلى حماقة الإنترنت. ثمة حب رقيق لكل وجه من وجوه عالمنا الغبي، ولذا فإن التفسير الوحيد لحدوث الأزمة يعود إلى حقيقة أننا كنا مترابطين بقوة: «كانت هناك دائماً بنية أساسية ضخمة وهشة من الناس، كلهم يعملون حولنا دون أن يلاحظهم أحد، وحين يتوقف الناس عن الذهاب إلى العمل فإن العملية تتوقف كلياً». وبينما يجاهد الباقون لإعادة البناء، فإن وظيفة السرد أن يوفر المعنى في الفراغ الذي تركه المرض، أو كما يقول الشعار المرسوم على عربة القافلة المسافرة: «البقاء لا يكفي». الحاجة إلى رواية الحكايات، إلى استعمال السرد لإثبات استمرار ماض محاه المرض، هو الهاجس الذي يحرك أستاذ اللغة الإنجليزية جيمس سميث، الشخصية الرئيسة في رواية جاك لندن ما بعد الرؤيوية والمنسية إلى حد بعيد «الوباء الوردي» (1912). يتخيل لندن، بظلال مستمدة من إدغار ألن بو، تفشي حمى نزيفية عام 2013 اسمها «الموت الأحمر». سريع العدوى والانتشار وقاتل، إنه مرض يقضي على معظم سكان العالم إلى حد أنه بعد ستة عقود من اكتشاف الوباء لا يستطيع سميث أن يصدق أن ما يتذكره عن حضارة كانت ذات يوم متطورة ليس مجرد وهم. ومع ذلك فإن المعلم السابق مضطر إلى إخبار أحفاده عن عالم سبق الموت الأحمر، حتى وإن بدا له أحياناً أن تلك مجرد أكاذيب. يقول لندن: «الأنظمة المتوارية تنهار مثل الرغوة. نعم - رغوة ومتوارية. كل كدح الإنسان على الكوكب كان مجرد رغوة».
ينتهي «الوباء الأحمر» في عام بعيد هو 2073، العام نفسه الذي تدور فيه أحداث رواية ماري شيلي «الإنسان الأخير» (1826) التي كانت رائدة لرواية الوباء. تلك الرواية، المنسية غالباً والأقل شهرة من رواية شيلي الأخرى «فرانكنشتاين»، تحقق فتحاً مشابهاً. مثل «المحطة الحادية عشرة»، هنا يتركز الاهتمام على الحكاية والطبيعة النصوصية للرواية؛ حين يذكر الإنسان الأخير أنه «اختار كتباً قليلة؛ الرئيسي من بينها هوميروس وشكسبير - ولكن مكتبات العالم مفتوحة لي»، ثمة إحساس بأنه حتى في نهائية موقفه لا تزال هناك طريقة يمكن للكلمات أن تحدد واقعنا، مهما كانت ضعيفة الآن. تخترع شيلي، بعدم الارتياح إزاء فكرة التخييل التي تسم روايات القرن التاسع عشر غالباً، خدعة مفادها أن ما تقرؤه مستنسخ من مخطوطة تحتوي على نبوآت قديمة اكتشفتها الكاتبة نفسها، بينما كانت تستكشف كهوفاً خارج نابولي احتوت ذات يوم معبد الكاهنات كيوماي.
شخصيتها الرئيسية شخصية ذكورية هي قناع لها، رجل أرستوقراطي اسمه لايونيل فيرني تمتد حياته من ظهور الوباء الكوني عام 2073 حتى بداية القرن الثاني والعشرين، حين يكتسب لقبه الظاهر في عنوان الرواية: «الإنسان الأخير». كل شخصيات شيلي تمثل أصدقاءها، أعلام العصر الرومانتيكي الغارب بسرعة، ابتداء بلورد بايرون الذي يتحول إلى لورد راندولف، وهو قائد متحمس وإن كان فاشلاً لإنجلترا بإفشاله ردة فعل بلاده تجاه الوباء، امتداداً إلى زوجها بيرسي الذي يصبح أدريان، ابن ملك سابق اختار مناصرة النظام الجمهوري. بحلول الوقت الذي يبدأ فيه فيرني رحلته المقدسة وحيداً عبر عالم مقفر، مصحوباً بأشباح هوميروس وشكسبير وكلب حراسة ألزاسي يتخذه صاحباً، نجده ما يزال يتحدث بضمير المتكلم الأول مخاطباً جمهوراً لا وجود له. «هكذا حول شواطئ أرض مهجورة، والشمس ما تزال مرتفعة، والقمر يخفت ضوؤه، والملائكة، وأرواح الموتى، والعين المفتوحة أبداً للعظيم، سيرون (الإنسان الأخير)». هكذا، في عالم خالٍ من البشر، يصبح فيرني الكتاب ويصير العالم الهامد القارئ.
استعمال ضمير المتكلم الأول لسرد «الإنسان الأخير»، الموجه ظاهرياً إلى عالم من الناس الغائبين الذين ما يزالون قادرين على قراءته فعلياً، ينقض سبباً أعمق لوجود اللغة من أن تكون لمجرد التواصل - بناء عالم على الأنقاض، لكي يكون شاهداً، حتى وإن كان معزولاً. ليس من الضروري أن تكون اللغة للآخرين؛ يكفي أن تكون لنا نحن. وهكذا يصبح الأدب تأكيداً؛ أكثر من أن يكون تمرداً، وسيلة للقول من خلال الوباء أننا وُجدنا ذات يوم، وأن الميكروب والبكتيريا لا تستطيع أن تلغي أصواتنا، حتى وإن ذبلت الأجساد.
* (هذه ترجمة لجزء من مقالة نشرت في صحيفة «ذا مليونز» الإلكترونية بدت مناسبة للظروف التي يمر بها العالم اليوم)



لُقى «سمهرم» في محافظة ظُفار

لُقى «سمهرم» في محافظة ظُفار
TT

لُقى «سمهرم» في محافظة ظُفار

لُقى «سمهرم» في محافظة ظُفار

تحوي سلطنة عمان سلسلة من المواقع الأثرية تتوزع على قطاعات متفرقة من أراضيها الواسعة. بدأ استكشاف هذه المواقع بشكل علمي في مطلع الخمسينات من القرن الماضي، إذ أنجزت بعثة أميركية أول حفرية في خور من أخوار ساحل محافظة ظفار، يُعرف محلياً باسم «خور روري». كشفت هذه الحفرية عن قلعة مستطيلة مدعّمة بأبراج، شُيّدت بالحجارة على جبل منخفض يطل على هذا الخور، وحملت اسم «سمهرم» باللغة العربية الجنوبية القديمة، وتبيّن أن هذه القلعة كانت من أهم المواني في جنوب شرقي شبه الجزيرة العربية التي لعبت دوراً كبيراً في تجارة اللبان الدولية. استمرّت أعمال التنقيب في هذا الموقع خلال العقود التالية، وكشفت عن مجموعة من اللقى تشهد لتعدّدية ثقافية تعكس الوجه الدولي الذي عُرقت به سمهرم في الماضي.

تقع سلطنة عُمان في الربع الجنوبي الشرقي من شبه الجزيرة العربية، يحدّها خليج عُمان من الشمال والشرق، وتطوّقها الكثبان الرملية من الجنوب، ممّا يجعلها أشبه بجزيرة بين الصحراء والبحر. تضمّ هذه الجزيرة الشاسعة إحدى عشرة محافظة، منها محافظة ظفار التي تقع في أقصى الجنوب، وعاصمتها مدينة صلالة التي تبعد عن مسقط بنحو 1000 كيلومتر. تبدو ظفار في الظاهر معزولة عن شمال عُمان بأرض قاحلة، غير أنها تشاركه في الكثير من أوجه الشبه، كما يشهد تاريخها الموغل في القدم، حيث عُرفت بأرض اللبان، واشتهرت بتصدير هذا المورد النباتي في العالم القديم، وشكّلت بوابة عُمان الضخمة المفتوحة على المحيط الهندي حلقة الوصل بينها وبين ساحل شرق أفريقيا. برزت تجارة اللبان بشكل خاص منذ منتصف الألف الأول قبل الميلاد، كما تشهد مؤلفات كبار الجغرافيين اليونانيين، وتؤكد هذه المؤلفات أن اللبان كان يُنتج داخل هذه البلاد، ويُجمع في ميناءين يقعان على ساحل يُعرف باسم «موشكا ليمن»، ومن هناك كان يُشحن بالسفن شرقاً إلى الهند والخليج العربي، وغرباً نحو ميناء قنا على ساحل بحر العرب.

زار الرحالة البريطاني جيمس ثيودور بنيت ساحل ظفار في نهاية القرن التاسع عشر، وقضى بداء الملاريا في 1897، وبعد رحيله، نشرت زوجته ومرافقته في رحلاته كتاب «جنوب الجزيرة العربية» في 1900، الذي حوى وصفاً لموقع «خور روري» في ساحل ظفار، ويُعد هذا الوصف أول تقرير ميداني خاص بهذا الموقع. استند الرحالة البريطاني في بحثه الميداني إلى دليل ملاحة يعود على الأرجح إلى منتصف القرن الأول، يُعرف باسم «الطواف حول البحر الإريتري». و«البحر الإريتري» هي التسمية التي عُرف بها خليج عدن، وشملت البحر الأحمر الحالي والخليجين العربي والهندي. ذكر صاحب هذا الدليل ميناء «موشكا ليمن»، ونسبه إلى ملك من جنوب الجزيرة العربية يُدعى إليازوس، ورأى جيمس ثيودور بنيت أن هذا الميناء يقع في «خور روري»، وأثارت هذه القراءة الميدانية البحّاثة العاملين في هذا الحقل.

تولّت بعثة أميركية مهمة التنقيب في هذا الموقع بشكل متواصل خلال عام 1950، وعاودت العمل لفترة قصيرة خلال عام 1962، وتبيّن أن الموقع يضمّ قلعة حملت اسم سمهرم، شيّدها ملك من ملوك حضرموت في تاريخ غير محدد، كما يؤكّد نقش كتابي كُشف عنه في هذا الموقع. تبنّت البعثة الأميركية قراءة جيمس ثيودور بنيت، ورأت أن سمهرم هي «موشكا ليمن»، وحُددت هوية الملك «إليازوس» على ضوء هذه القراءة، وهو ملك يَرِد ذكره بشكل مشابه في نقوش تعود إلى أكسوم في الحبشة. قيل إن ميناء سمهرم واصل نشاطه من القرن الأول إلى القرن الثالث للميلاد، كما توحي الكتابات المنقوشة واللُّقى التي عُثر عليها في الموقع، غير أن الأبحاث اللاحقة أثبتت أن هذه القراءة تحتاج إلى المراجعة. تولّت بعثة تابعة لجامعة بيزا مهمة مواصلة البحث في هذا الموقع منذ عام 1997، ونشرت تباعاً تقارير رصدت اكتشافاتها، وأظهرت الدراسات التي رافقت هذه التقارير أن ميناء سمهرم شُيّد في نهاية القرن الثالث قبل الميلاد، بالتزامن مع نشوء التجارة البحرية وتطوّرها في المحيط الهندي، وقبل وصول الرومان إلى مصر بزمن طويل، ولم يُهجر قبل القرن الخامس للميلاد، حين تراجع نشاطه تدريجياً مع اندحار مملكة حضرموت، وخضوعها لملوك حمير بعد سلسلة من الحروب في القرن الرابع للميلاد.

منذ نشوئه، تميّز ميناء سمهرم بطابع «كوسموبوليتي»، كما تشهد القطع الفخارية المتعدّدة المصادر التي عُثر عليها بين أطلاله. خلال تاريخه الذي دام عدة قرون، نسج هذا الميناء كما يبدو علاقات متينة مع سائر أنحاء العالم القديم، من حضرموت إلى قتبان في جنوب جزيرة العرب، إلى أكسوم في الحبشة، ومن الخليج العربي إلى آسيا ومصر وسواحل البحر الأبيض المتوسط. في هذا الموقع، عثرت البعثة الأميركية على تمثال هندي صغير من البرونز، يبلغ طوله 8 سنتيمترات، وهو من محفوظات متحف فنون آسيا التابع لمؤسسة «سميثسونيان» في واشنطن. يُمثل هذا التمثال الذي فقد رأسه وذراعه اليسرى امرأة تلوي خصرها، وتثني ساقها اليسرى خلف ساقها اليمنى. تُميل هذه الراقصة وركيها وتحني كتفيها إلى الجهة اليمنى، ويتميّز لباسها المحلّي بحلله المتعددة، ومنها حزام عريض يحوي أربعة صفوف من الدرر، وقطعة قماش تنسدل من طرف هذا الحزام على الفخذ الأيمن، وثلاث قلائد من الدرر تلتف حول الرقبة. صيغ هذا التمثال وفقاً لناموس الجمالية الهندية ويُجسّد كما يبدو سيدة الشجر في العالم الهندي. كذلك عثرت البعثة الإيطالية على قطعة مما تُعرف بـ«عملة كوشان» تحمل اسم كانيشكا، ملك كابل وكشمير وشمال غربي الهند. ونقع على مجموعة من الكسور واللُّقى الصغرى تعكس هذا الأثر الهندي الذي برز بشكل خاص في سمهرم.

في المقابل، يظهر أثر حضرموت في مجموعات أخرى من اللُّقى، منها المسكوكات، والأواني المتعددة، والأنصاب الحجرية المزينة بالنقوش الحجرية. من هذه الأنصاب يبرز حجر مستطيل يحمل نقشاً يصوّر ثوراً في وضعية جانبية، مع كتابة تسمّيه، بقي جزء منها فحسب. تُماثل هذه القطعة في تأليفها الكثير من القطع التي خرجت من نواحٍ متعددة من جنوب الجزيرة العربية، وهي على الأغلب من القطع التي تحمل في العادة طابعاً دينياً. في هذا الميدان، تحضر مجموعة من المجامر الحجرية تتميز بنقوشها التزيينية الجميلة. تحمل هذا المجموعة طابعاً جامعاً، كما أنها تحمل في بعض الأحيان طابعاً محلياً خاصاً، وتحتاج إلى دراسة مستقلّة خاصة بها.