«أوراقٌ من دفاتر حقوقي»... أحلام مرحلة من تاريخ المغرب

«أوراقٌ من دفاتر حقوقي»... أحلام مرحلة من تاريخ المغرب
TT

«أوراقٌ من دفاتر حقوقي»... أحلام مرحلة من تاريخ المغرب

«أوراقٌ من دفاتر حقوقي»... أحلام مرحلة من تاريخ المغرب

صدر أخيراً عن دار النشر المغربية مؤلف لنقيب المحامين وعضو المكتب السياسي السابق لحزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية المغربي، محمد الصديقي بعنوان «أوراق من دفاتر حقوقي»، وهو كتابٌ حمل في طيّاته مذكرات وآراء ومواقف بارزة عن سلسلة من المواضيع والأحداث التي طبعت تاريخ المغرب السياسي في صفحاته الحديثة.
ومن خلال مطالعة الصفحات الأولى للمؤلف، تبرز ملامح التشويق والإثارة التي استدعاها الكاتب في سياق استعراضه للمداخلات والكلمات الرئيسية على نحوٍ ضمني وصريحٍ وفي قالب قانوني صرف. عناصر التشويق تبدأ مع ذكر أسماء الشخصيات التي كانت موضوع جملة من المحاكمات والمواقف، أسماء من الحركة الوطنية في المغرب ومناضلين من الصف الأول حملواْ لواء العمل السياسي منادين بالتغيير في حقبة خاصة جداً من تاريخ المغرب سنوات ما بعد الاستقلال، ولنا أن نذكر هنا على سبيل المثال شخصية مثل المهدي بن بركة الزعيم الاشتراكي المختفي منذ 29 أكتوبر (تشرين الأول) 1965. ورفيقه المُبعد لسنوات عبد الرحمن اليوسفي، والذي أصبح فيما بعد زعيماً للحزب وقائداً لحكومة التناوب التي أوجدها الملك الراحل الحسن الثاني كنافذة للانفراج السياسي والاجتماعي بعد عقود من الاحتقان والجمود... أسماء أخرى غير بعيدة ووازنة استضافها المؤلف، من بينها عبد الرحيم بوعبيد الزعيم الاشتراكي المعارض ووزير الاقتصاد في حكومة عبد الله بن إبراهيم أشهر حكومات فترة ما بعد الاستقلال، وعبد الرحمن القادري الذي أصبح رئيساً للاتحاد الوطني لطلبة المغرب بعد مؤتمر فاس سنة 1957... وغيرها من الأسماء.
هذا المؤلَّف الجامِع تضمّن سبعة كتب فرعية، كل واحد منها يحمل بيانات مفصّلة يتعلق أولها بمسار النقيب، مسارٌ كان بالتناغم مع عدّة مسارات موازية لشخصيات تقاسم معها الرّاوي معطيات المرحلة وأحلامها وصعوباتها، وهو كذلك مسارٌ كانت خطواته بالتوازي مع المعتركات التي خاضها الوطن برمّته، وهو ما يجعله مساراً ملحميّاً جمع فيه الكاتب بين الهمّ الخاص والعام، بين رحلته الفردية بكل ما فيها من عقبات وتحدّيات وطموحات مناضل حالم، وبين الهم العام الذي لم يكن غائباً عنه بالضرورة، بل كان بوصلة تقود الخُطى وتحدّد الاختيارات.
تميّز الكتاب الثاني بعنصر الإثارة التي قدّمتها مقتطفات من معارك الدفاع في مرافعات قانونية مشتركة كان للنقيب الصديقي دوره البارز في صنع تفاصيلها، من خلال ما تطرق إليه من استدلالات وتحليلات منطقية حرص فيها على ترك أثر للأدلة الدامغة كعنصرٍ شاهدٍ على الوضعية القانونية لتلك المرحلة بكل أحداثها وصعوباتها الذاتية والموضوعية. المحاكمات هذه، كان أبطالها شخصيات بوزن بن بركة واليوسفي وبوعبيد وعمر بنجلون، شخصيات توبعت بقضايا تمس الأمن العام والمساس برموز النظام السياسي للدولة، وقد خاض فيها صاحب الكتاب وزملاؤه من المحامين نصيبهم من معارك الترافع عن متهمين وضعُهم القانوني صعب للغاية، وسياق الأحداث وموازين القوى كلها لم تكن لصالحهم، عناصر صعّبت من مأمورية ليس المتهمين وليس القضاء فقط، بلا حتّى من تولّواْ مهمّة الترافع، وهي في الوقت نفسه معارك قانونية ظّلت معطياتها شاهدة على حقيقة النقاش السياسي الدائر في تلك الفترة حول قضايا وطنية مصيرية كقضية الصحراء المغربية.
أما الكتاب الثالث، فقد تناول فيه الكاتب آراءه وتصوّراته الخاصة حول مواضيع راهنيّة كالفساد ومحاربة الرشوة، وقانون المحاماة وقانون المسطرة الجنائية ومتطلّبات الملاءَمة مع المعايير الدولية لحماية حقوق الإنسان، ويتساءل في إحدى فقرات هذا الكتاب عما إذا كان قد حان الوقت فعلاً لإعداد ميثاق وطني للعدالة! كما تطرّق في فقرات أخرى، إلى موضوع استقلال القضاء كواحد من كلاسيكيات النقاش العمومي في المغرب.
الكتاب الرابع من المؤلف، استعرض فيه النقيب جملة من القضايا التي شكّلت حيثيّاتُها مُعترَكَ الحقوق والحريّات في المغرب، كحدث تأسيس المنظمة المغربية لحقوق الإنسان، وموقع المجلس الاستشاري لحقوق الإنسان بين الاعتبارات السياسية والتطلّعات الحقوقية، وسؤال التغيير الديمقراطي في حقوق الإنسان، وكلّها قضايا أبان فيها الكاتب عن انحياز حقوقي لقيم الحرية والعدالة والديمقراطية كأنجع طريقة للتسيير في العصر الحالي، مشدّداً في الآن ذاته على أنّ أي تغيير في هذا الاتجاه يجب أن ينبع الآن ودوماً من الداخل، وألا يكون مفروضاً أبداً بقوة الإملاءات الخارجية وتدخّلاتها.
الكتاب الخامس تضمّن كلماتٍ حملت سِمات الشهادة عن شخصيات بارزة خبِرَها صاحب الكتاب عن قرب، من بينها الوزير الأول في حكومة التناوب عبد الرحمن اليوسفي من زاويّة عمله الحقوقي هذه المرّة، ومن خلال الإشعاع الذي حققه في اتحاد المحامين العرب، والمناضل عبد العزيز بناني كمثال للحقوقي العنيد والمحامي الذي لا يتنازل عن ممارسة أي حق من حقوقه في الدفاع تحت أي ظرف.
أما الكتاب السادس فشكل فرصة للمُؤلِّف كي يقدّم كلماتٍ في حق شخصيات مؤثرة رحلت إلى العالم الآخر، من بينها عبد الرحيم بوعبيد الذي توفي في الثامن من يناير (كانون الثاني) 1992. متسائلاً عن ماذا كان سيحدث لو بقي حيّاً حتى تاريخ كتابة ورقته التأبينية يوم 8 يناير 1993 أي بعد عام على الرّحيل؟



«مطلق العنان»... مذّكرات بوريس جونسون في السلطة

بوريس جونسون والرئيس الأميركي المنتخب ترامب
بوريس جونسون والرئيس الأميركي المنتخب ترامب
TT

«مطلق العنان»... مذّكرات بوريس جونسون في السلطة

بوريس جونسون والرئيس الأميركي المنتخب ترامب
بوريس جونسون والرئيس الأميركي المنتخب ترامب

تفترض بالطبع عندما تقدم على شراء نسخة من مذكرات رئيس الوزراء البريطاني السابق بوريس جونسون الصادرة حديثاً فيما يقرب من 800 صفحة بأنّك حصلت لتوّك على سِفر ثمين من الحكمة السياسيّة وخبرة الإدارة في المنصب التنفيذي الأهم في إحدى دول العالم العظمى، لا سيما أن الرجل جاء إلى فضاء السلطة من الصحافة كاتباً ورئيس تحرير لمجلّة سبيكتاتور الأسبوعيّة العريقة، ومؤرخاً نشر عدّة كتب مهمة - بما فيها سيرة لملهمه وينستون تشرشل رئيس الوزراء البريطاني خلال الحرب العالمية الثانية - قبل أن يُنتخب عمدة للعاصمة لندن ثم رئيساً للوزراء وزعيماً لحزب المحافظين. ولعل مما يرفع وتيرة التوقعات أيضاً أنّه كان في موقع التأثير واتخاذ القرار في مراحل مفصليّة في تاريخ بلاده المعاصر، سواء الأشهر الأخيرة من عصر الملكة الراحلة إليزابيث الثانية، أو خروج المملكة المتحدة من عضويّة الاتحاد الأوروبي، أو وباء «كوفيد 19». أو الحرب في أوكرانيا، ناهيك عن شهرته عبر العالم كنسخة من دونالد ترمب على الجهة الأخرى من المحيط الأطلسي، حتى أنّه ربما يكون السياسي البريطاني الوحيد الذي يعرفه سكان هذا العالم باسمه الأول (بوريس). لكن الحقيقة أن المذكرات ورغم تضمنها مقاطع مهمة هنا وهناك ولحظات صاعقة من الصراحة، فإنها في المحصلة أقرب إلى موجة جارفة من التبرير المقعّر، والإعجاب النرجسي بالذات، وتصفية الحسابات السياسيّة ولوم للجميع لأنهم أضاعوه، ويا ويلهم أي فتى أضاعوا؟

ومع ذلك، فإن «مطلق العنان» قراءة سهلة، يتم سردها بلغة قريبة من لغة الحوار اليومي أكثر منها لغة متعجرفة كما يتوقع من خريجي المدرسة النخبوية في إيتون وجامعة أكسفورد، مع كثير من علامات التعجب، والأصوات الشارعيّة المكتوبة بحروف كبيرة، والصفات المرصوفة كجمل طويلة، والإهانات الشخصيّة لمنافسيه، والأسئلة البلاغيّة عديمة الفائدة، فيما غلب عليها مزاج من السخريّة والهزل حتى في التعاطي مع القضايا التي يفترض أنّه جاد بشأنها.

هذا النّفس الذي اختاره جونسون لسرد مذكراته (والتي قد تدر عليه دخلاً سيتجاوز الثلاثة ملايين جنيه إسترليني وفق تقديرات صناعة النشر) أفقد الكتاب كثيراً من قيمته المتوقعة كوثيقة تاريخيّة، وبدت أجزاء كبيرة منه روايات ربما يتمنى كاتبها لو كانت الحقيقة، أو ربما أعتقد بالفعل أنها كانت الحقيقة كجزء مما يسميه جونسون نفسه التنافر المعرفي الذي يصيب الساسة المغمسين في وظيفتهم القياديّة لدرجة أنهم يصابون بالعمى عن المشاكل السياسية الهائلة التي تتراكم خارج مكاتبهم. هذا سوى بعض الأخطاء التفصيليّة في تسجيل الأحداث أيضاً والتي لا يفترض أن تمرّ على مؤرخ معتّق أو على ناشره المرموق (يقول مثلاً إن حكومة حزب العمال في أسكوتلندا أطلقت سراح الليبي المتهم بتفجيرات لوكربي، فيما الواقع أنها كانت حكومة الحزب القومي الأسكوتلندي).

من الناحية الإيجابيّة فإن جونسون يضمِّن كتابه تعليقات ذكيّة حول مسائل استراتيجيّة تبدو في ميزان اليوم أفضل من أدائه الفعلي رئيساً للوزراء كما مثلاً في رؤيته لأسباب اللامساواة الاقتصاديّة بين الأجيال، وتفسيره للانقسام الاقتصادي العميق بين العاصمة لندن الكبرى وبقيّة المملكة المتحدة، وتصوّراته حول رفع سويّة الأجزاء الأقل حظاً منها من خلال برامج تحديث البنية التحتية وتكنولوجيا الاتصال والاستفادة من أموال الخزينة العامّة لجذب استثمارات القطاع الخاص، وكذلك تحوّله من منكر لتحولات المناخ إلى منذر من مخاطرها ومفسّر للحجج الأخلاقيّة والاقتصاديّة الدّاعية إلى التصدي لجذورها من أجل مصلحة الأجيال المقبلة.

أثناء زيارة لمكتبه في عام 2017 طلب منه نتنياهو استخدام المرحاض بعد ذلك، وجدت أجهزة الأمن جهاز تنصت تم زرعه هناك

يفشل بوريس في تقديم مرافعة كانت متوقعة منه بشأن دوره فيما يعرف بـ«بريكست»، أو القرار بتخلي بريطانيا عن عضوية الاتحاد الأوروبيّ. وهو يعترف بأنّه كان مشتتاً وقتها بين اعتقاده بضرورة أن تتخلص بلاده من سلطة بروكسل عليها (مقر الاتحاد الأوروبي) من ناحية، وتفهمه لمشاعر كثيرين من عائلته وأصدقائه الذين أرادوا منه دعم حملة البقاء في النادي الأوروبيّ، ويقرّ بأنه في المساء الذي أعلن فيه قراره بدعم التوجه إلى الخروج من الاتحاد، كتب نسختين من المقال نفسه، واحدة (مع) وواحدة (ضد) كي يمكنه اختبار حنكة حججه، ليجد في النهاية أن حملة تأييد البقاء افتقدت إلى الحماس، ولم تمتلك أي رسالة إيجابيّة واضحة لتقولها. في المقابل، فإن جونسون يبدو في هذه المذكرات ليس مفتقراً فحسب لأي شعور بالمسؤولية عن الفوضى التي أعقبت التصويت على المغادرة، والإدارة السيئة للمفاوضات التي قادتها حكومات المحافظين وهو فيها مع الاتحاد الأوروبي، بل يبدو غاضباً حتى على مجرد اقتراح مساءلته من حيث المبدأ متسائلاً: «وماذا بحق الجحيم كان من المفترض علينا أن نفعل؟»، بينما يقفز للعب دور البطولة منفرداً فيما يتعلق برد حكومة المملكة المتحدة على حالات التسمم النووي التي نسبت لروسيا في سالزبوري عام 2018. في وقت صار فيه من المعلوم أن تيريزا ماي، رئيسة الوزراء حينها، هي من كانت وراء ذلك الموقف الحازم. ويخلص جونسون للقول إن حزب المحافظين كان سيفوز في انتخابات هذا العام لو بقي على رأس السلطة ولم يتعرّض للخيانة من رفاقه، وهي مسألة يكاد معظم المراقبين يتفقون على استحالتها بالنظر إلى تراكم سلسلة الفضائح وسوء الإدارة وهزالة الطرح الآيديولوجي لحكومات حزب المحافظين خلال الخمسة عشر عاماً الماضية على نحو تسبب للحزب النخبوي بأقسى هزيمة له في مجمل تاريخه العريق. في المذكرات يكتب جونسون عن زيارة قام بها بنيامين نتنياهو إلى مكتبه في عام 2017، طلب خلالها رئيس الوزراء الإسرائيلي استخدام المرحاض. بعد ذلك، وجدت أجهزة الأمن جهاز تنصت قد تم زرعه هناك. وقال جونسون إنه على وفاق مع نتنياهو وإن القراء يجب ألا يستخلصوا استنتاجات أوسع حول الزعيم الإسرائيلي من تلك الحكاية!