الإعلام في لبنان... أي مصير مأساوي ستفرضه الأزمة المالية؟

بين صرف موظفين ودفع نصف راتب وتوجه إلى الإقفال

مراسلو «إم تي في» أثناء تغطيتهم انتفاضة الشعب اللبناني
مراسلو «إم تي في» أثناء تغطيتهم انتفاضة الشعب اللبناني
TT

الإعلام في لبنان... أي مصير مأساوي ستفرضه الأزمة المالية؟

مراسلو «إم تي في» أثناء تغطيتهم انتفاضة الشعب اللبناني
مراسلو «إم تي في» أثناء تغطيتهم انتفاضة الشعب اللبناني

لم تكن «انتفاضة» الشعب اللبناني التي انطلقت في شوارع بيروت 17 أكتوبر (تشرين الأول)، سبباً رئيسياً لتدهور الوضع المادي في البلد، لكنّها ضاعفت عجلة الانهيار الاقتصادي الذي طال جميع المؤسسات والشركات الخاصة والعامة كما وسائل الإعلام اللبنانية برمّتها، المسموعة والمكتوبة والمرئية، التي بدأت ترزح تحت وطأة هذه الضائقة بعد تحوّلها إلى أزمة نقدية ومالية. فكانت الصحف والمجلات أول من خارت قواها أمام موجة الإفلاس، ما دفع بها إلى اتخاذ إجراءات داخلية قاسية في محاولة منها لتجاوز هذه المرحلة الصعبة.
ليست الأزمة لبنانية وحسب، فقد شهدنا خلال السنوات الأخيرة الماضية، كيف انهارت دور صحف عالمية وتوقفت عن الصدّور. إنّه عصر التكنولوجيا، وسرعة وصول الخبر بهاتف جوال.
وبيروت اليوم، التي طالما كانت مركز الثقل في الصحافة اللبنانية والعربية، وعاصمة الإعلام العربي، تواجه مؤسساتها الإعلامية أسوأ فترة في تاريخ إعلامها. ومع تدنّي نسبة الإعلانات التجارية على شاشاتها التي لامست الصفر في أولى فترات الانتفاضة راحت بعض المحطات التلفزيونية تركن إلى عصر نفقاتها.
وكان العنوان العريض لهذه المرحلة التقنين في المصاريف إلى حدّ جعل بعضها يتأخر عن تسديد أجر موظفيه، فيما قرّرت غالبيتها دفع نصف الأجر الشهري لهم، ولا يُخفى ما لتراجع الدّعم السياسي المادي الخارجي والدّاخلي من تأثير مادي سلبي عليها.
يذكر الشارع اللبناني خبر انهيار «دار الصياد» هذا الصّرح الإعلامي التاريخي في عام 2018، لتكر المسبحة بعده وتتهاوى الجرائد مودّعة قراءها الواحدة تلو الأخرى كـ«السفير» و«الحياة» و«المستقبل».
أمّا تلفزيون «المستقبل» فكان أوّل المهزومين بين نظرائه، بعد إعلانه العام الماضي عن واقعه المالي المتأزم، وتعليق أعماله بعد مرور 26 سنة على تأسيسه.
بدأت محطات التلفزة الأخرى، لا سيما بعيد انطلاق ثورة «لبنان ينتفض»، وقبلها بسنوات البحث عن سبل إنقاذ تنتشلها من محنتها، إمّا عبر مساعدات مالية داخلية وخارجية، وإما من خلال اتفاقيات ثنائية مع قنوات فضائية عربية.
- التشفير
وكان آخر ما لجأت إليه قنوات التلفزة، هو إعلان كل من محطتي «إل بي سي آي» و«الجديد» انتقال بثّهما من المفتوح المجاني إلى المشفّر المدفوع.
صحيح أنّ تاريخ بدء العمل بهذا القرار لم يحدد بعد إلّا أنّ التدابير والإجراءات اللازمة أصبحت جاهزة، ولا ينقصها سوى اتفاق الشركة المولجة من قبل المحطات بتنفيذ الفكرة «هولكوم» مع موزعي الكابلات، لتكتمل الصورة ويُنفّذ القرار.
بيار الضاهر، رئيس مجلس إدارة محطة «إل بي سي آي» يعلّق على القرار بقوله إنّ «الفكرة ليست وسيلة إنقاذ بقدر ما هي وسيلة تطوير. فالبثّ المشفّر أصبح منتشراً في العالم أجمع، وقد بدأنا بتناول هذه الخطة منذ عام 2018. واليوم أصبحنا جاهزين لها بعدما اكتملت جميع عناصرها. وقريباً نعلن عن تاريخ تطبيقها». وعمّا إذا الضائقة المالية التي تعاني منها محطات التلفزة قد تودي ببعضها إلى الإقفال، يجيب: «لدينا اليوم حكومة جديدة نتأمل بها خيراً، ونتمنّى أن تحدث إصلاحات تنعش البلاد. كما أنّنا نعيش في وضع استثنائي لا يسعنا أن نتوقّع أو نؤكد خلاله أي شيء. وإذا بقي الوضع المتدهور على حاله فالأمل ضئيل، ولكن الأمور يمكن أن تصلح وتذهب نحو الأفضل».
من جانبه، يقول إبراهيم الحلبي مدير العلاقات العامة بقناة «الجديد» في اتصال مع «الشرق الأوسط»: «في اعتقادي لن تخسر (الجديد) مشاهديها. أولاً القناة مطلوبة في لبنان تحديداً، وفي محيطه طبعاً، ويستطيع أي مشاهد أن يأخذها من أي مزوّد للقنوات يقدم الخدمة. وهنا لا بدّ من لفت النظر إلى أن هذه الخدمة التي تتقسّم عبر المحطات التي توزّع الأقنية، ليست باهظة الثّمن في لبنان، فالمشاهد يستطيع أن يشارك ويشاهد قنوات كثيرة بمبلغ لا يتعدى 10 دولارات. وهذه الخدمة موجودة أصلاً، ومشاهدة القنوات اللبنانية لا تنحصر على المواطنين اللبنانيين في لبنان فقط، بل هي مطلوبة تحديداً من أجل الاستماع إلى الأخبار وبعض البرامج التي تقدّمها القناة. ولا بدّ من ذكر أنّ الاشتراك في البث المشفر المدفوع يؤمن بالإضافة إلى القنوات المحلّية مئات المحطات الأخرى، لذا لا أعتقد أنّ (الجديد) ستخسر من مشاهديها».
هل تستطيع «الجديد» دفع رواتب موظفيها أم بدأت بدفع النصف؟ يقول الحلبي: «حتى الآن تدفع القناة كامل الرّواتب لجميع الموظفين. رغم هذه الضائقة المالية». ويتابع: «لن أناور في الموضوع وأقول إنه ليس من ضائقة مالية، بل هي موجودة، وليست (الجديد) وحدها التي تتعرض لها إنّما كل القطاع الإعلامي. والمسألة ليست فقط بسبب ثورة 17 أكتوبر (تشرين الأول)، فمسألة الإعلام في العالم كله الآن بوجود هذا التحدي الكبير لمواقع التواصل الاجتماعي والإنترنت خسرت قليلاً من المداخيل التي تعود بها الإعلانات عليها، ومن الطبيعي أن تؤثر الحالة الاقتصادية إلى حد ما في موضوع المداخيل، ولكن الآن يعني حتى يناير (كانون الثاني) 2020، لا تزال (الجديد) تدفع كامل الرواتب لجميع الموظفين».
- تراجع تغطية الانتفاضة
«إنّ تغطية المحطة للانتفاضة الشّعبية لم تتراجع يوماً، ومراسلو القناة موجودون دوماً لنقل لأي تحرك شعبي»، تقول مريم البسام مديرة الأخبار والبرامج السياسية بقناة «الجديد» في اتصال مع «الشرق الأوسط». وتوضح أنّه «خيار بعض الناشطين والثوّار الذين قرّروا التخفيف من الوجود الكثيف في الشارع لصالح مبادرات. وأصبحنا اليوم نشهد كم كان عمل الفريق الذي قرّر التوجه إلى قطاع الاتصالات مهماً مع (مبادرة وعي)، وكيف استطاع توقيف قطاع خدمات الخليوي لشركتي touch وalfa. وفرق أخرى توجّهت إلى القضاء والمصارف. فبعد 100 يوم، بات المنتفضون المتخصصون بقضايا، يركزون على الأهداف».
وتتابع: «نحن الصحافيين لم نتراجع ولا المؤسسات تراجعت، بل كنّا نبحث عن المنتفضين في الشوارع والطرقات. وبعد تشكيل الحكومة خفّ هذا الدّفق والتوافد الكثيف على ساحات الثورة، تحديداً في رياض الصلح وساحة الشّهداء».
وتستطرد البسام: «واكبنا أيضاً المفكرة القانونية التي أنجزت عملاً مهنياً يكاد يوازي مظاهرة بكامل حشودها، عندما استعانت هذه المفكرة بنخبة من المحامين وحماية المستهلك ورفعت دعاوى على جمعية المصارف. ومحامو الثورة المتطوعون عقدوا مؤتمراً في نقابة المحامين وسجلوا الاعتداءات التي مارستها الأجهزة والعناصر الأمنية على المتظاهرين من 19 نوفمبر (تشرين الثاني) حتى اليوم، وتحدّثوا عمّا قامت به هذه القوى وكيف اعتقل عناصرها الناس واعتدوا عليهم. فالتغطية إذن لم تتراجع، بل تموضع المنتفضون لصالح التركيز على بنك أهداف وقضايا محدّدة نحن نواكبها يومياً، ونكون في الشارع متى وجدوا هم أو حتى قبل ذلك».
- إلى متى الصّمود؟
وماذا عن مستقبل القناة وإلى متى ستظل تقاوم وتصمد؟ يقول الحلبي: «عملياً مجلس الإدارة وتحديداً رئيس مجلس الإدارة، أخذ قراراً بالاستمرار في هذا الخط الإعلامي رغم جميع الضّغوط التي تُمارس، وهي ليست مالية فقط، فنحن نتعرض لضغوط لها علاقة بإيذائنا، كمحطة وكمبنى وكمراسلين ومصوّرين، وهناك مسألة مهمة جداً، هي أن كابلات (الجديد) كانت تُقطع من بعض أتباع الأحزاب في كل المناطق لمنعنا من البث. والتشفير في مثل هذه الحال يحمي القناة. وعن استمرار المحطّة، طبعاً نحن سنواكب المسألة، وهي ليست إعلامية بقدر ما هي مواكبة التقنية الجديدة ليبقى لقناة (الجديد) حيّز عند المشاهد اللبناني والعربي بشكل عام».
وأحدث من انضم إلى لائحة المتعثرين في مجال الإعلام هي الإذاعات اللبنانية، فقد أعلن مؤخراً الإعلامي جو معلوف صاحب ومدير إذاعة «جرس سكوب» إغلاقها. واتخذت إذاعات أخرى كـ«صوت الغد» و«أغاني أغاني» إجراءات مغايرة، ولكنّها تصبّ في خانة عصر النفقات، فأوقفت برامجها الصباحية التي تعد الفترة التي تحقق أكبر نسبة استماع لديها.
ويقول عماد خازن مدير إذاعة «صوت لبنان - ضبية»، إنّ «ما يجري تناوله عن ضائقة مالية حادة تمر بها المحطات الإذاعية هو حقيقي وصحيح».
يضيف في حديث لـ«الشرق الأوسط»: «إن إيراداتنا الإعلانية بدأت تتدنى منذ فترة لتصل إلى نسبة 70 في المائة.
ومع انطلاق الثورة اختفت الإعلانات كلياً وبنسبة 90 في المائة». ويتابع في سياق حديثه: «يعود السبب الأساسي في تدني هذه النسبة إلى وسائل التواصل الاجتماعي وكل ما يعرف بـ(أون لاين) التي سرقت من الإذاعات نسبة كبيرة من الإعلانات التجارية. كما أنّ عدم الالتزام بقانون المرئي والمسموع أسهم في تفشي هذه الحالة.
فالمعروف أنّ هناك 12 إذاعة مرخصة رسمياً من الدّولة اللبنانية. ولكنّنا اليوم في ظل الفوضى التي نعيشها يصل عدد الإذاعات العاملة في لبنان إلى نحو 49 إذاعة. وفي غالبيتها تبث مناطقياً، وباتت تستقطب معظم المعلنين في مناطقها والمستفيدين المباشرين من أهاليها».
ويرى عماد الخازن أنّ تسلم حكومة جديدة قد ينعكس إيجاباً على هذا القطاع في حال جرت العودة إلى تطبيق قانون المرئي والمسموع من ناحية، وتوحيد مواقع الإرسال من ناحية ثانية. وكذلك دعم الإذاعات بمادة المازوت وأمور أخرى كان وزير الإعلام السابق ملحم رياشي قد أثارها في موضوع إيجاد حلول لمشاكل وسائل الإعلام المتعثّرة.
وعما إذا اضطر إلى عصر نفقات الإذاعة وصرف موظفين وتخفيف أجر العاملين فيها، يرد الخازن: «لقد اضطررنا أن نوقف برامج نتعامل مع أصحابها بالقطعة، وكذلك مع المقدمين المتعاقدين معنا وغير المسجلين في الإذاعة كموظفين أساسيين. ولكنّي في الوقت نفسه، ما زلت أدفع أجر جميع العاملين عندي كاملاً».
- سلطة المال تنتصر على السلطة الرابعة
> منذ أسبوع، توقفت صحيفة «ديلي ستار» اللبنانية الصادرة باللغة الإنجليزية، التي أسسها الصحافي كامل مروة عام 1952، عن طباعة نسختها الورقية لأسباب مالية. وقالت في بيان نشرته على موقعها الرّسمي إنها علّقت النسخة المطبوعة مؤقتاً بسبب التحديات المالية التي تواجه الصحافة اللبنانية، والتي تفاقمت مع تدهور الوضع الاقتصادي في البلاد، موضحة أنّ موقعها الإلكتروني ومنصاتها على وسائل التواصل الاجتماعي مستمرة في أداء عملها. إبان الحرب الأهلية بين عامي 1975 و1990، توقفت الصحيفة عن الصدور لتنطلق مجدداً عام 1996. بيد أن السؤال يفرض نفسه اليوم: هل تستطيع أي مؤسسة إعلامية في ظل هذه الأزمة التي تنهش بها أن تعلّق أعمالها اليوم لتنطلق غداً؟ أم أنّها ستموت وتدفن في ذاكرة الزّمن الجميل للإعلام اللبناني؟


مقالات ذات صلة

«إيه بي سي نيوز» تدفع 15 مليون دولار لمكتبة ترمب الرئاسية لتسوية دعوى تشهير

الولايات المتحدة​ الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (إ.ب.أ)

«إيه بي سي نيوز» تدفع 15 مليون دولار لمكتبة ترمب الرئاسية لتسوية دعوى تشهير

وافقت شبكة «إيه بي سي نيوز» على دفع 15 مليون دولار لصالح مكتبة دونالد ترمب الرئاسية، لتسوية دعوى قضائية تتعلق بتصريح غير دقيق من المذيع جورج ستيفانوبولوس.

«الشرق الأوسط» (واشنطن)
يوميات الشرق الفيلم يتناول مخاطرة صحافيين بحياتهم لتغطية «سياسات المخدّرات» في المكسيك (الشرق الأوسط)

«حالة من الصمت» يحصد «جائزة الشرق الوثائقية»

فاز الفيلم الوثائقي «حالة من الصمت» للمخرج سانتياغو مازا بالنسخة الثانية من جائزة «الشرق الوثائقية».

«الشرق الأوسط» (جدة)
رياضة عربية المهندس خالد عبد العزيز رئيس المجلس الأعلى للإعلام في مصر (صفحة المجلس على «فيسبوك»)

مصر: قرارات جديدة لمواجهة «فوضى الإعلام الرياضي»

أصدر المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام في مصر، برئاسة المهندس خالد عبد العزيز مجموعة قرارات، اعتماداً لتوصيات لجنة ضبط أداء الإعلام الرياضي.

محمد الكفراوي (القاهرة)
أوروبا مراسلات يتحدثن أمام الكاميرات خلال تغطية صحافية في البرازيل (رويترز)

ثلثهم على أيدي الجيش الإسرائيلي... مقتل 54 صحافياً في عام 2024

قُتل 54 صحافياً حول العالم أثناء قيامهم بعملهم أو بسبب مهنتهم في عام 2024، ثلثهم على أيدي القوات الإسرائيلية، وفق ما أظهر تقرير سنوي.

«الشرق الأوسط» (باريس)
يوميات الشرق الصحافي سامح اللبودي والزميلة بيسان الشيخ من «الشرق الأوسط»

«الشرق الأوسط» تفوز ببرونزية «أريج» للصحافة الاستقصائية

فازت «الشرق الأوسط» بالجائزة البرونزية للصحافة الاستقصائية العربية التي تمنحها مؤسسة «أريج»، عن تحقيق: قصة الإبحار الأخير لـ«مركب ملح» سيئ السمعة.

«الشرق الأوسط» (لندن)

إعلاميو فرنسا أمام معضلة البقاء مع «إكس» أو الابتعاد عنها

الصحف الفرنسية أمام التحدي
الصحف الفرنسية أمام التحدي
TT

إعلاميو فرنسا أمام معضلة البقاء مع «إكس» أو الابتعاد عنها

الصحف الفرنسية أمام التحدي
الصحف الفرنسية أمام التحدي

يرى البعض في فرنسا أن موسم رحيل «العصافير الزرقاء» يلوح في الأفق بقوة، وذلك بعدما أعلنت مجموعة كبيرة من الشخصيات والمؤسسات الإعلامية انسحابها من منصّة التواصل الاجتماعي «إكس» (تويتر سابقاً).

الظاهرة بدأت تدريجياً بسبب ما وصف بـ«الأجواء السامة» التي اتسّمت بها المنصّة. إذ نقلت صحيفة «كابيتال» الفرنسية أن منصة «إكس» فقدت منذ وصول مالكها الحالي إيلون ماسك أكثر من مليون مشترك، إلا أن الوتيرة أخذت تتسارع في الآونة الأخيرة بعد النشاط الفعّال الذي لعبه ماسك في الحملة الانتخابية الأميركية، ومنها تحويله المنصّة إلى أداة دعاية قوية للمرشح الجمهوري والرئيس العائد دونالد ترمب، وكذلك إلى منبر لترويج أفكار اليمين المتطرف، ناهيك من تفاقم إشكالية «الأخبار الزائفة» أو «المضللة» (الفايك نيوز).

نقاش إعلامي محتدم

ومهما يكن من أمر، فإن السؤال الذي صار مطروحاً بإلحاح على وسائل الإعلام: هل نبقى في منصّة «إكس»... أم ننسحب منها؟ حقاً، النقاش محتدم اليوم في فرنسا لدرجة أنه تحّول إلى معضلة حقيقية بالنسبة للمؤسسات الإعلامية، التي انقسمت فيها الآراء بين مؤيد ومعارض.

للتذكير بعض وسائل الإعلام الغربية خارج فرنسا كانت قد حسمت أمرها باكراً بالانسحاب، وكانت صحيفة «الغارديان» البريطانية الأولى التي رحلت عن المنصّة تاركة وراءها ما يناهز الـ11 مليون متابع، تلتها صحيفة «فون غوارديا» الإسبانية، ثم السويدية «داكنز نيهتر».

أما في فرنسا فكانت أولى وسائل الإعلام المنسحبة أسبوعية «ويست فرنس»، وهي صحيفة جهوية تصدر في غرب البلاد، لكنها تتمتع بشعبية كبيرة، إذ تُعد من أكثر الصحف الفرنسية قراءة بأكثر من 630 ألف نسخة تباع يومياً ونحو 5 ملايين زيارة على موقعها عام 2023. ولقد برّر نيكولا ستارك، المدير العام لـ«ويست فرنس»، موقف الصحيفة بـ«غياب التنظيم والمراقبة»، موضحاً «ما عاد صوتنا مسموعاً وسط فوضى كبيرة، وكأننا نقاوم تسونامي من الأخبار الزائفة... تحوّلت (إكس) إلى فضاء لا يحترم القانون بسبب غياب المشرفين». ثم تابع أن هذا القرار لم يكن صعباً على الأسبوعية الفرنسية على أساس أن منصّة التواصل الاجتماعي هي مصدر لأقل من واحد في المائة من الزيارات التي تستهدف موقعها على الشبكة.

بصمات ماسك غيّرت «إكس» (تويتر سابقاً)

«سلبيات» كثيرة بينها بصمات إيلون ماسك

من جهتها، قررت مجموعة «سود ويست» - التي تضم 4 منشورات تصدر في جنوب فرنسا هي «سود ويست»، و«لاروبوبليك دي بيريني»، و«شارانت ليبر» و«دوردون ليبر» - هي الأخرى الانسحاب من منصّة «إكس»، ملخصّة الدوافع في بيان وزع على وسائل الإعلام، جاء فيه أن «غياب الإشراف والمراقبة، وتحديد عدد المنشورات التابعة لحسابات وسائل الإعلام، وإبدال سياسة التوثيق القديمة بواسطة أخرى مدفوعة الثمن، كانت العوامل وراء هذا القرار».

أيضاً الموقع الإخباري المهتم بشؤون البيئة «فير» - أي «أخضر» - انسحب بدوره من «إكس»، تاركاً وراءه عشرين ألف متابع لدوافع وصفها بـ«الأخلاقية»، قائلا إن مضامين المنصّة تتعارض مع قيمه التحريرية. وشرحت جولييت كيف، مديرة الموقع الإخباري، أنه لن يكون لهذا القرار تأثير كبير بما أن الحضور الأهم الذي يسجّله الموقع ليس في «إكس»، وإنما في منصّة «إنستغرام»، حيث لديه فيها أكثر من 200 ألف متابع. ولكن قبل كل هؤلاء، كان قرار انسحاب برنامج «لوكوتيديان» الإخباري الناجح احتجاجاً على التغييرات التي أحدثها إيلون ماسك منذ امتلاكه «إكس» قد أطلق ردود فعل كثيرة وقويّة، لا سيما أن حساب البرنامج كان يجمع أكثر من 900 ألف متابع.

سالومي ساكي

... الفريق المتريّث

في المقابل، وسائل إعلام فرنسية أخرى فضّلت التريّث قبل اتخاذ قرار الانسحاب، وفي خطوة أولى اختارت فتح باب النقاش لدراسة الموضوع بكل حيثياته. وبالفعل، عقدت صحيفة «ليبيراسيون»، ذات التوجّه اليساري، جلسة «تشاور» جمعت الإدارة بالصحافيين والعمال يوم 19 نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي للبحث في مسألة «البقاء مع منصّة (إكس) أو الانسحاب منها؟». وفي هذا الإطار، قال دون ألفون، مدير الصحيفة، في موضوع نشر بصحيفة «لوموند»، ما يلي: «نحن ما زلنا في مرحلة التشاور والنقاش، لكننا حدّدنا لأنفسنا تاريخ 20 يناير (كانون الثاني) (وهو اليوم الذي يصادف تنصيب دونالد ترمب رئيساً للمرة الثانية) لاتخاذ قرار نهائي».

الوضع ذاته ينطبق على الأسبوعية «لاكروا» التي أعلنت في بيان أن الإدارة والصحافيين بصّدد التشاور بشأن الانسحاب أو البقاء، وكذلك «لوموند» التي ذكرت أنها «تدرس» الموضوع، مع الإشارة إلى أن صحافييها كانوا قد احتفظوا بحضور أدنى في المنصّة على الرغم من عدد كبير من المتابعين يصل إلى 11 مليوناً.

من جانب آخر، إذا كان القرار صعب الاتخاذ بالنسبة لوسائل الإعلام لاعتبارات إعلانية واقتصادية، فإن بعض الصحافيين بنوا المسألة من دون أي انتظار، فقد قررت سالومي ساكي، الصحافية المعروفة بتوجهاتها اليسارية والتي تعمل في موقع «بلاست» الإخباري، إغلاق حسابها على «إكس»، ونشرت آخر تغريدة لها يوم 19 نوفمبر الماضي. وفي التغريدة دعت ساكي متابعيها - يصل عددهم إلى أكثر من 200 ألف - إلى اللّحاق بها في منصّة أخرى هي «بلو سكاي»، من دون أن تنسى القول إنها انسحبت من «إكس» بسبب إيلون ماسك وتسييره «الكارثي» للمنّصة.

وفي الاتجاه عينه، قال غيوم إرنر، الإعلامي والمنتج في إذاعة «فرنس كولتو»، بعدما انسحب إنه يفضل «تناول طبق مليء بالعقارب على العودة إلى (إكس)». ثم ذهب أبعد من ذلك ليضيف أنه «لا ينبغي علينا ترك (إكس) فحسب، بل يجب أن نطالب المنصّة بتعويضات بسبب مسؤوليتها في انتشار الأخبار الكاذبة والنظريات التآمرية وتدّني مستوى النقاش البنّاء».

«لوفيغارو»... باقية

هذا، وبين الذين قرّروا الانسحاب وأولئك الذين يفكّرون به جدياً، يوجد رأي ثالث لوسائل الإعلام التي تتذرّع بأنها تريد أن تحافظ على حضورها في المنصّة «لإسماع صوتها» على غرار صحيفة «لوفيغارو» اليمينية. مارك فويي، مدير الصحيفة اليمينية التوجه، صرح بأنها لن تغيّر شيئاً في تعاملها مع «إكس»، فهي ستبقى لتحارب «الأخبار الكاذبة»، وتطالب بتطبيق المراقبة والإشراف بحزم وانتظام.

ولقد تبنّت مواقف مشابهة لـ«لوفيغارو» كل من صحيفة «لي زيكو» الاقتصادية، ويومية «لوباريزيان»، وقناة «تي إف1» و«إم 6»، والقنوات الإخبارية الكبرى مثل «بي إف إم تي في»، و«سي نيوز». وفي حين تتّفق كل المؤسّسات المذكورة على أن المنّصة «أصبحت عبارة عن فضاء سام»، فهي تعترف في الوقت نفسه باستحالة الاستغناء عنها، لأن السؤال الأهم ليس ترك «إكس»، بل أين البديل؟ وهنا أقرّ الصحافي المعروف نيكولا دوموران، خلال حوار على أمواج إذاعة «فرنس إنتير»، بأنه جرّب الاستعاضة عن «إكس» بواسطة «بلو سكاي»، لكنه وجد الأجواء مملة وكان النقاش ضعيفا، الأمر الذي جعله يعود إلى «إكس»، حيث «الأحداث أكثر سخونة» حسب رأيه.

أما الصحافي المخضرم جان ميشال أباتي، فعلى الرغم من انتقاده الشديد للمنصّة وانسحاب برنامج «لوكوتيديان» - الذي يشارك فيه - من «إكس» - فإنه لم يفكر في إغلاق حسابه لكونه الإعلامي الفرنسي الأكثر متابعة؛ إذ يسجل حسابه أكثر من 600 ألف متابع.

في هذه الأثناء، وصفت كارين فوتو، رئيسة موقع «ميديا بارت» الإخباري المستقّل الوضع «بالفخ الذي انغلق على وسائل الإعلام»، حيث «إما البقاء وتعزيز أدوات الدعاية لليمين المتطرّف وإما الانسحاب والتخلّي عن مواجهة النقاش». وللعلم، من الملاحظ أن المنصّة غدت حاجة شبه ماسة لأصحاب القرار والساسة، حيث إن بعضهم يتوجه إليها قبل أن يفكّر في عقد مؤتمر صحافي، وهذا ما حدا بالباحث دومينيك بوليي، من معهد «سيانس بو» للعلوم السياسية، إلى القول في حوار لصحيفة «لوتان» إن منصّة «إكس» بمثابة «الشّر الذي لا بد منه»، إذ تبقى المفضّلة لدى رجال السياسة للإعلان عن القرارات المهمة، وللصحافيين لتداولها والتعليق عليها، مذكّراً بأن الرئيس الأميركي جو بايدن اختار «إكس» للإعلان عن انسحابه من السباق الرئاسي الأخير.