عالم تداعت فيه الفروق بين الجلاد والضحية

وحيد الطويلة يكشف عن أقنعته في «جنازة جديدة لعماد حمدي»

غلاف الرواية
غلاف الرواية
TT

عالم تداعت فيه الفروق بين الجلاد والضحية

غلاف الرواية
غلاف الرواية

هناك دائماً جلادون يعبثون في فراغ المشهد من أجل أن يظل محكوماً ومنضبطاً على أمن النظام، أو على الأقل أمنهم الخاص، حتى وهم يصارعون أنفاسهم الأخيرة في الحياة... مشهد يتجدد بقوة في رواية وحيد الطويلة «جنازة جديدة لعماد حمدي»، الصادرة حديثاً عن دار الشروق بالقاهرة، وهو مشهد ليس ببعيد عن مشهد الختام في روايته السابقة «حذاء فلليني»، حيث يتدخل المخرج الإيطالي الشهير لضبط إيقاع الجريمة ومفارقاتها الدامية، لتليق بأبطالها الذين اختلطت في ذواتهم خيانة الذات بخيانة الوطن والحب والحياة.
كانت صرخة فلليني الشهيرة «استوب» كلمة السر لضبط هذا الإيقاع، لكن المشهد لم ينضبط على مسرح الرواية والواقع معاً، فلا يزال يعج بالدم والحروب وأشتات اللاعبين من كل صنف ولون في بلاد نخرها سوس السلطة حتى أصبحت غريبة عن نفسها... في الطريق نفسه شكلت جملة «كل شيء يحدث في الحمام» في روايته الأسبق «أبواب الليل» كلمة السر الموجعة في فضاء مقهى «لمة الأحباب» التونسية، حيث عالم متهرئ من البشر، يقتات على ما يتساقط من بلطة النضال من ذكريات وأحلام، صارت ومضاً متخثراً في أزقة العمر والثورة.
لا يبتعد عماد حمدي عن هذا السياق، فرغم أنه رمز عابر وشجي في الرواية، عاش البطل وقائع جنازته في أثناء خدمته بالبوليس، فإنه منح الرواية اسمها، ويتردد صداه في قصصها ومفارقاتها، وجرائمها كزمن هارب، ورمانة ميزان تبحث عن كفتين عادلتين، ربما تعيد إلى المشهد سخونته وهو يصرخ في وجه عبد الحليم حافظ، بعد أن لطمه «انت مش ابني... انت لقيط».
لطمة شهيرة، في فيلم شهير وبطل غادر الدنيا وحيداً مفلساً ليس في جعبته شيء من مجده الغابر، سوى زفرات من الألم والحزن، هي الزفرات نفسها التي يحصدها بطل الرواية في صراعه مع كينونة تساوى فيها الـمع والضد، تغلفها فجوة من عبث الحياة والأقدار، تضيق وتتسع كل يوم، لكنها لم تستطع أن تردم عاطفياً المسافة بين الرغبة والفعل، أو بين الحلم والواقع فيتحول كلاهما إلى عقدة، تتناثر حولها الحكايات والخطايا، يشد خيوطها الجلاد من طرف، بينما تشدها الضحية من الطرف الآخر، وكأن كليهما قناع للآخر، يمكن أن يتبادلا الأدوار، كلما اقتضت الحاجة... «اسمع قولاً واحداً، ضابط المباحث الناجح يقاس نجاحه بتعدد مصادره بالمسجلين خطراً، يتمشون داخل عباءته، ويربطهم من شواربهم في سلسلة مفاتيحه».
ينتصب سرادق عزاء «هوجان» ابن «ناجح»، الوريث الشرعي لوالده، الملك المتوج على عالم المسجلين خطراً، والذي قتل غدراً بعد أن ارتفع سقف نفوذه، مشكلاً بمفارقات الحزن والسخرية والحيرة في معرفة القاتل، زمن الرواية الخاص المفتوح على قوسي البداية والنهاية، بينما يشكل الإهداء الذي يستهل به الطويلة لعبته الروائية «إلى المسجلين خطراً: تصحبكم السلامة»، تحفيزاً للقارئ، للدخول في اللعبة، عبر ضمائر المخاطب بوتيرتها المباشرة، والمستترة، المسكونة بلطشات حريفة من العامية والحكم والنوادر والأمثال ابنة الذاكرة الخاصة والوجدان الشعبي، لإثارة حواس القارئ بشكل أعمق حتى لا يدخل إلى الحكاية بجسده فقط تاركاً روحه على العتبات. وفي الوقت نفسه، تجعل السرد وكأنه طائر يحلق باللغة.
يبدو الصراع مثقلاً بعذابات الضمير والواجب، فبطل الرواية، ضابط البوليس السابق، تحت وطأة ماضيه الطيب يقدم رجلاً ويؤخرها لتقديم واجب العزاء لرجل يدين له بالكثير عما حققه من نجاحات في مهنته... «ناجح» كبير مرشدي الحكومة ومرشده الخاص، وعينه الأخرى، والذراع التي لا تتأخر لمساعدته في الكشف عن الجريمة ومرتكبيها، وتقديم الأدلة ضدهم، بل تلفيقها أحياناً. حين ضاقت مسافة العلاقة بينهما بدوافع إنسانية محضة، تحولت إلى تهمة، غادر على أثرها المهنة، إثر تحقيق عبثي معه... «أنا ضابط مباحث يا باشا، إذا لم أقابل المجرمين والمسجلين والمرشدين لأمارس عملي فماذا أفعل، هل أقابل نقيب الأطباء؟!».
يحتدم الصراع محفوفاً بالخوف أحياناً، ومخاطر الغدر أحياناً أخرى، فالسرادق ضخم، عامر بحشود المعزين من كل صنوف الإجرام، وأيضاً صنوف الكيف، والضابط أصبح لا حول له ولا قوة، انتهت رقة المشهد وغلظته أيضاً، وحده ناجح من يملك ضبط الإيقاع، ولو بدمعة حارة، تنزلق عفوياً من عينيه على ابنه... ويعود الزمن بالضابط البطل خطوة للوراء: «ناجح يعمل لصالحي، لكن لصالح نفسه أولاً، يغنم نقوداً وسمعة وتقرباً من الحكومة، ويبقي رأسه بعيداً عن أي مقصلة».
تلعب صيغ السرد بتنويعاتها وحيويتها الفنية دور الوصل والقطع بين قوسي الحضور والغياب، كما توفر للكاتب السارد مسافة ما، بينه وبين الشخوص والوقائع ليرى ما وراء المشهد... وإمعاناً في الغرابة، كثيراً ما يتحول من راوٍ عليم إلى مراقب، ينظر بزاوية أعلى بصرياً من خط الأفق في اللوحة، بينما تومض وظيفة متخفية وراء توريط القارئ في اللعبة، الذي يحذره بين الحين والآخر: «لا تتهور احترس، لا تلتفت يميناً أو يساراً، لا تستجيب لنظرة أحد»، «لا تستغرب»، «قف مكانك»، «في هذه اللحظة ستبدو بهيئة لص أو قاتل، لا ترتكب أدنى حماقة يستشف منها أنه يمكن أن تكون عاشقاً، إلا إذا استطعت أن تبرز عشق الإجرام، وهذه حكاية أخرى».
لا يقتصر هذا التحفيز على تهيئة القارئ للدخول في اللعبة فحسب، وإنما ليلعب دور الونيس، أو بلغة السينما «السنيد» للبطل المتردد في دخول السرادق، كأنه مجس اختبار لما يكمن وراء الحكاية، وما تخفيه في لفائفها من أسرار وألغاز، وأن مفتاحها ليس بيده، ولا بيد الكاتب نفسه، وإنما كلاهما متورط في دهاليز عالم شائك وملتبس، تختلط فيه الألوان والمصائر، فلا الأبيض أبيض، ولا الأسود أيضاً، ثمة منطقة مبهمة تتشكل في عالم القاع ودهاليزه، حيث تتسع الهوة، وتنقلب معادلات الوضوح والغموض: لصوص ومحتالون، نصابون وتجار ممنوعات ومخدرات، باعة ضمير وشهود زور، ضحايا وجلادون محتملون وعابرون، مجرمون بالصدفة وبالسخرة، يعرفون كيف يموهون على جرائمهم، حتى في جيوب النظام... «مخطئ من يتصور أن المسجلين لا يحبون الحكومة، هم يعرفون نظرية المقص جيداً، إذا ما انفتح وجرح رؤوساً، تعود أطرافه لتتجاور، ولو بمسافة، كلاهما يحتاج إلى الآخر، مع أن كل طرف ينظر في طرف آخر».
تحت هذه المظلة تتنوع الحكايات، وينفرط عقدها في الرواية، فلكل مسجل، ولكل ضابط حكاية، وراءها أخرى تتصل بها من طرف ما، تعري الشخوص، وتسقط أقنعة التواطؤ بينهم وبين ذواتهم، وصورتهم البائسة المراوغة في الخارج، صورة مشوشة ومضطربة تثير التعاطف والسخرية والسخط معاً، فهم مهانون تحت الطلب، اغتالتهم ضرورة الحياة والوجود، أدمنوا اللعب على كل الحبال، بأجسادهم ونزواتهم، تتكشف طبيعتهم من أسمائهم (عبقرينو - رجل المطافئ، أبو شفة، قنبل، عماد لون، آيات - جسد المشارط والأمواس، كلبش.. وغيرها)، بل وصل الأمر إلى ما يمكن تسميته «غسل الجريمة»، لتبرئة الجناة الأصليين... «أحياناً تحس أنه مشتاق للحبس كأنه بيته، أحياناً يحضر كأنه ذاهب لامرأة يعرفها جيداً، لا يريدها ولا يرفضها»، «شحتة يأتي لسعادتك كل يوم وأنتم تعيدونه، إنه يسألني كل ساعة، جذمته ذاب قعرها، أصبحت من غير نعل، وصار يمشي على الجورب... إنه يسألني متى تحبسونه يا سعادة البيه». لكن الحبس لعشرات المرات، وبالأجر، لم يستر حياة شحتة، أول مسجل يعتزل بلا مؤثرات خارجية ولا مباراة اعتزال، ويتزوج من آيات بالمحبة، بعد أن دهسها الجميع، ولتأمين حياته فكر أن يبيع كليته، ثم انتهى به المطاف لبيع إحدى خصيتيه، إنه مثل أقرانه من أخوة القاع، مهما ارتفع شأنهم يدركون أن دورهم الحقيقي ومكمن بطولتهم المقموعة أن يظلوا على الحافة لا يبرحون ثوب المسجل خطراً الذي فصله النظام على مقاسهم فقط، ليظلوا هكذا أشبه بعالم لقيط، لا يملك شرف الانتساب للوطن.
يعي ذلك برهافة بطل الرواية «فجنون» عاشق الرسم والموسيقى خريج المدارس الفرنسية، الذي أطلق عليه زملاؤه هذا الاسم كدعابة تمزج الفن بالجنون، يطارده إجبار والده لواء الشرطة السابق في أن يورِث أبناءه هذه المهنة حفاظاً على مكانة العائلة، ليتحول إلى ضحية لصراع خفي في الداخل، يجعله مشتتاً بين دوره الصارم المحدد كضابط بوليس كل مهمته تعقب الجريمة وحفظ الأمن والنظام، وبين حلمه المكبوت الممسوس بروح الفن والولع بالألوان؛ «لا تكذب على نفسك، أنت استمرأت هذه الحالة لتنسى بها كل رغباتك، كل يوم قضية جديدة تغوص فيها، كي لا تسمع أي صوت يذكرك بحالك، البيت أصبح فندقاً يتيماً، تعود إليه لتستحم، وتنام مثل القتيل».
إنها معادلة اللوحة في عين الرسام، طاقة من التجسيد يبتلعها الواقع كل يوم بنمطيته وجرائمه وحكاياته التي تتناسل في حبل لا بداية له ولا نهاية، لكنها في كل الأحوال تحتاج إلى طاقة أعلى من التجريد، من الحذف والبتر والإضافة، حتى يمكن التشبث بإرادة الحياة، ولو في صدى صرخة تعلو فيها نوازع الإدانة والعجز، في داخل البطل... «ما يطمئنك قليلاً أن معظمهم وربما كلهم ينظرون لك كمسجل خطر حقيقي، وهذه رتبة لم يصل إليها أي ضابط آخر، موقنون أنك تعرف عنهم أكثر مما تعرف أيديهم».
بهذا الإيقاع الموجع يبلغ زمن الرواية الخاص، زمن سرادق العزاء الضخم ذروته درامياً، ويمهد له الكاتب، بـ«أربع لوحات ورقصة»، عنوان مميز بين فصول الرواية الثلاثين المرقمة، كأنها رقصة الذبيح الأخيرة، حيث ينهي «فجنون» مع منتصف الليل مساحة التردد المشتعلة في داخله ويدخل العزاء، لا أحد يلتفت إليه، بل لا يجد كرسياً شاغراً إلا في أحد الصفوف الخلفية، وحين يصل إلى «ناجح» يفاجأ بأنه يسلم عليه بفتور، وبالكاد يتبادل معه كلمات العزاء المعتادة.



شوارع بريطانيا تحمل أسماء الطيور... وسماؤها تفتقدها

الأسماء تتكاثر لكنّ الطيور تختفي من الحقول والسماء (شاترستوك)
الأسماء تتكاثر لكنّ الطيور تختفي من الحقول والسماء (شاترستوك)
TT

شوارع بريطانيا تحمل أسماء الطيور... وسماؤها تفتقدها

الأسماء تتكاثر لكنّ الطيور تختفي من الحقول والسماء (شاترستوك)
الأسماء تتكاثر لكنّ الطيور تختفي من الحقول والسماء (شاترستوك)

تزداد في بريطانيا تسمية الشوارع بأسماء طيور مثل القُبرات والزقزاق والزرازير، في وقت تشهد فيه أعداد هذه الأنواع تراجعاً مقلقاً.

فقد كشف تقرير لجمعية حماية الطيور الملكية، نقلته «الغارديان»، عن أنّ أسماء شوارع من قبيل «ممر القُبرة» و«جادة السمامة» باتت أكثر شيوعاً خلال العقدين الماضيين. وبالاستناد إلى بيانات «أو إس أوبن نيمز» بين عامَي 2004 و2024، تبيَّن أن الشوارع التي تحمل أسماء طائر القُبرة ارتفعت بنسبة 350 في المائة، وتلك التي تحمل اسم الزرزور بنسبة 156 في المائة، فيما ارتفعت أسماء الشوارع المرتبطة بطيور الزقزاق بنسبة 104 في المائة، رغم الانخفاض الكبير في أعداد هذه الطيور في البرّية.

ويشير التقرير إلى أنّ بريطانيا فقدت بين عامَي 1970 و2022 نحو 53 في المائة من القُبرات المتكاثرة، و62 في المائة من الزقزاق، و89 في المائة من العندليب.

وقالت المديرة التنفيذية للجمعية، بيكي سبيت، إنّ التحليل «يكشف عن أن البلديات والمطوّرين العقاريين لا يجدون غضاضة في تسمية الشوارع بأسماء الطبيعة التي نحبّها، بينما تبقى الجهود الرامية إلى منع اختفاء هذه الطيور من سمائنا بعيدة تماماً عن المستوى المطلوب».

ووصف تقرير «حالة الطبيعة 2023» المملكة المتحدة بأنها «واحدة من أكثر الدول استنزافاً للطبيعة على وجه الأرض»، مشيراً إلى الانهيار الحاد في أعداد الطيور البرية منذ سبعينات القرن الماضي.

كما أظهر تحليل الجمعية أنّ استخدام كلمة «مرج» في أسماء الشوارع زاد بنسبة 34 في المائة، في حين اختفت 97 في المائة من المروج البرّية منذ الثلاثينات. ودعت الجمعية الحكومة إلى تعزيز جهود حماية الطبيعة، مع دخول مشروع قانون التخطيط والبنية التحتية في إنجلترا مراحله النهائية.

كانت الحكومة قد تراجعت في أكتوبر (تشرين الأول) عن دعم تعديل يُلزم بتركيب «طوب السمامات» في كلّ منزل جديد، رغم أنّ أسماء الشوارع المرتبطة بالسمامات ارتفعت بنسبة 58 في المائة.

وأكدت الجمعية أنه من «الممكن والضروري» تبنّي نظام تخطيط عمراني يُسهم في استعادة البيئة الطبيعية، مستشهدةً ببحث صادر عن مؤسّسة «مور إن كومون» يفيد بأنّ 20 في المائة فقط من البريطانيين يرون أنه ينبغي خفض المعايير البيئية لتشييد مزيد من المنازل.

من جانبه، قال مؤلّف كتاب «ليا الوقواق» عن تاريخ الطيور في أسماء الأماكن البريطانية، مايكل وارن، إنّ البريطانيين «يعشقون أسماء الطبيعة، ويعرف المطوّرون ذلك جيداً». لكنه أوضح أنّ رواج أسماء الطيور في المشروعات السكنية الجديدة «يخفي انفصالاً عميقاً يعانيه كثيرون عن الطبيعة، ويعطي انطباعاً مضلّلاً بأنّ كلّ شيء على ما يرام».

وأشار وارن إلى أنّ أسماء الأماكن كانت سابقاً تعكس الواقع البيئي، أما الأسماء الحديثة فهي «في أفضل الأحوال جميلة المظهر، لكنها في الحقيقة وسيلة خادعة ورخيصة وسهلة لخلق إيحاء بمعالجة تدهور الطبيعة من دون القيام بأيّ تحرّك فعلي».

وختمت سبيت: «يستحق الناس أن يستمتعوا بصوت العندليب في ذروة غنائه، أو بصيحات السمامات وهي تحلّق فوق رؤوسهم، بدلاً من العيش في شوارع صامتة تحمل أسماء ساخرة».


علي الكلثمي... المخرج السعودي الذي صاغ من السخرية رؤية سينمائية

علي الكلثمي شارك تفاصيل منهجه الإخراجي ورحلته داخل الصناعة السعودية (البحر الأحمر)
علي الكلثمي شارك تفاصيل منهجه الإخراجي ورحلته داخل الصناعة السعودية (البحر الأحمر)
TT

علي الكلثمي... المخرج السعودي الذي صاغ من السخرية رؤية سينمائية

علي الكلثمي شارك تفاصيل منهجه الإخراجي ورحلته داخل الصناعة السعودية (البحر الأحمر)
علي الكلثمي شارك تفاصيل منهجه الإخراجي ورحلته داخل الصناعة السعودية (البحر الأحمر)

للمخرج السعودي علي الكلثمي أسلوب ساخر لا ينفصل عن شخصيته، ولا عن أعماله، ولا حتى عن طريقته في مقاربة أكثر الأسئلة الفنّية جدّية. بدا ذلك واضحاً في حديثه على المسرح خلال الجلسة الحوارية التي تناولت تجربته في مهرجان «البحر الأحمر السينمائي الدولي»، في مزيج بين الخفّة والعمق، وبين اللعب والملاحظة الحادّة، ما يجعله قادراً على قول أكثر الأفكار تعقيداً بأبسط المفردات وأكثرها تلقائية.

الجلسة، التي بيعت تذاكرها بالكامل، وشهدت حضوراً كثيفاً من المهتمّين، لم تكن مجرّد لقاء عابر؛ إذ بدا واضحاً أنّ تجربة الكلثمي باتت اليوم محطَّ متابعة عربية وخليجية، مع حضور لافت لجمهور من الكويت وعُمان ودول أخرى. فهو يُعد أحد أبرز الأصوات التي خرجت من فضاء «يوتيوب» في السعودية، وبدأ رحلته السينمائية عبر الفيلم القصير «وسطي» عام 2016، كما يُعد أحد المساهمين في نقل السينما المحلّية إلى مرحلة جديدة من خلال فيلمه الطويل «مندوب الليل» الذي حصد جوائز عدّة.

من السخرية إلى المنهج

وحملت الجلسة كثيراً من الجدّية في التفاصيل التي قدَّمها الكلثمي عن عمله مع الممثلين. وكان لافتاً أنه بدأ إحدى إجاباته بنصيحة غير معتادة: «أنصح كلّ الخرّيجين أن يُجرّبوا التمثيل ولو في ورشة قصيرة. التجربة تُغيّر فهمك للممثل تماماً!». هذه الجملة وحدها كانت كافية لفتح باب واسع حول علاقته بالممثلين، وكيف أسهمت تجربته القصيرة في التمثيل، التي وصفها بـ«الكراش كورس»، في تغيير طريقته في التعامل مع الممثل أمام الكاميرا.

يرى الكلثمي أنّ الممثل لحظة وصوله إلى موقع التصوير يكون «مكشوفاً بالكامل». هذه النظرة العميقة لطبيعة الوقوف أمام الكاميرا جعلته يؤمن بأنّ المخرج لا يمكنه قيادة الأداء من دون أن يكون قادراً على الشعور بذلك الخوف الإنساني الخام. لذلك، فإنّ أول ما يمنحه للممثل ليس التوجيه، بل الثقة. يضيف: «أول ما يحتاج إليه هو أن يشعر أنك لن تحاكمه. أنك شبكة الأمان التي تحميه حين يُغامر».

علي الكلثمي على السجادة الحمراء في المهرجان (البحر الأحمر)

يُصرّ الكلثمي على أنّ العمل الجوهري لا يتم في موقع التصوير، بل قبله. وهي فكرة تُشكّل أحد أعمدة منهجه الإخراجي. وقدَّم مثالاً على ذلك من خلال علاقته المهنية الطويلة مع الممثل محمد الدوخي (بطل «مندوب الليل»)، التي تمتد لسنوات.

في التحضير للشخصيات، كانا يستحضران أشخاصاً من الماضي، ويقولان: «تتذكر فلان؟ هذا ظله... طيف منه». هنا يظهر الجانب الإنساني عند الكلثمي، الذي يرى في التفاصيل الصغيرة والعلاقات العابرة مادة حقيقية لبناء الشخصية. فليست الحكايات الكبيرة ما تصنع صدق الأداء، بل هشاشة التفاصيل التي لا ينتبه لها أحد.

ويتعمَّق هذا المنهج عبر أداة إضافية يستخدمها تحت إطار البحث عن تفاصيل الشخصية. فهو يرى أنّ الممثل مُطالب بمعرفة دفاتر الشخصية، وكتاباتها، وطريقة تفكيرها، وحتى ما يمكن أن تستمع إليه في عزلتها. ليس ذلك بهدف خلق صورة مُكتملة، بل بهدف فتح مسارات داخلية تُساعد الممثل على الوصول إلى جوهر الشخصية.

النصّ بصوت المُخرج

ومن أكثر جوانب الجلسة إثارة للانتباه، اعتراف الكلثمي بأنه يحب أن يقرأ النصّ للممثل بعد أن ينتهي الأخير من قراءته. ورغم أنه يصرّ على أن ذلك ليس لتلقينه الأداء، فإنه يراه «نافذة إضافية» تمنح الممثل فرصة للدخول إلى العالم الداخلي للشخصية. يقول: «أقرأ النص بصوتي، وأمثّل الشخصية أمامه، ليس لأريه كيف يؤدّي، بل لأفتح له نافذة يُطل من خلالها على عالم الشخصية».

هذا النهج، الذي يجمع بين الحسّ التمثيلي والقدرة على الإصغاء، يعكس رؤية الكلثمي لموقعه في الصناعة، كما ظهر بوضوح في الجلسة التي امتدَّت لنحو ساعة، وحاوره فيها الصحافي أحمد العياد. فهو لا يضع نفسه في موضع السلطة، بل في موضع الشريك الذي يُمهّد للممثل الطريق بدل أن يفرض عليه مساراً واحداً.

من «يوتيوب» إلى السينما

الحضور الواسع للكلثمي في الجلسة يعكس مساراً غير تقليدي في السينما السعودية. فالمخرج الذي خرج من عباءة المحتوى الرقمي لا يحمل عقدة الانتقال إلى السينما، ولا يضع بينهما طبقية، بل يرى أنّ لكل وسيط لغته وجمهوره، والفنان الحقيقي لا ينتمي إلى منصة بقدر ما ينتمي إلى صدق التجربة. وقد بدا هذا المبدأ حاضراً في ردوده، وفي التواضع الذي يتعامل به مع مشواره، سواء في البدايات مع «وسطي»، أو في نجاحات «مندوب الليل» التي نقلته إلى دائرة الضوء السينمائية.

لم تكن الجلسة مجرّد استعراض لسيرة مخرج شاب، وإنما درس في فَهْم الممثل، وفي التحضير، وفي الدور الذي يمكن أن يلعبه التعاون في رفع جودة صناعة كاملة. وربما كانت أيضاً نافذة إلى روح الكلثمي نفسه: فنان يسخر من كلّ شيء، لكنه لا يسخر من الفنّ.


أمير المصري في «البحر الأحمر»... بطولة مزدوجة تقوده إلى لحظة تحوُّل لم يتوقَّعها

مشهد من فيلم افتتاح المهرجان «العملاق» من بطولة أمير المصري (المهرجان)
مشهد من فيلم افتتاح المهرجان «العملاق» من بطولة أمير المصري (المهرجان)
TT

أمير المصري في «البحر الأحمر»... بطولة مزدوجة تقوده إلى لحظة تحوُّل لم يتوقَّعها

مشهد من فيلم افتتاح المهرجان «العملاق» من بطولة أمير المصري (المهرجان)
مشهد من فيلم افتتاح المهرجان «العملاق» من بطولة أمير المصري (المهرجان)

تصدُّر بطولة فيلم افتتاح مهرجان «البحر الأحمر السينمائي الدولي» ليس أمراً بسيطاً، بيد أنْ يترافق ذلك مع اختيار فيلم آخر للبطل نفسه ضمن دورة واحدة، فهذه حالة لا تحدُث كثيراً في مسيرة أي ممثل. هذا ما يعيشه حالياً البريطاني - المصري أمير المصري، بطل فيلم «العملاق» الذي افتتح الدورة الخامسة للمهرجان، وحظي باهتمام واسع، وهو أيضاً بطل فيلم «القصص» للمخرج أبو بكر شوقي، أحد أبرز المنافسين في المسابقة الرسمية للأفلام الطويلة.

أمير المصري، الذي أصبح اسماً مألوفاً في سجل ضيوف المهرجان خلال السنوات الماضية، عاد هذا العام بنبرة مختلفة وحضوراً أكثر نضجاً، ليروي لـ«الشرق الأوسط» تفاصيل التجرية، قائلاً: «عندما تحدَّث معي الرئيس التنفيذي للمهرجان الأستاذ فيصل بالطيور عن فيلم (العملاق)، لم أكن أعرف أنه سيختاره ليكون فيلم الافتتاح. فقد كان من الممكن أن يختار فيلماً تجارياً لبطل هوليوودي مثلاً، لكنه أبدى اهتماماً بإظهار أناس مثلي على المسرح أمام نجوم عالميين مثل مايكل كين وإيشواريا راي».

ويصف المصري تلك اللحظة بأنها علامة فارقة في مسيرته، ويضيف بنبرة إعجاب واضحة: «أنا منبهر بالمهرجان، وعاماً تلو آخر نرى أنّ كلّ دورة أفضل من التي سبقتها». ويتابع موضحاً خصوصية هذا العام: «مستمتع جداً بالمرحلة الحالية التي أعيشها فنّياً، خصوصاً مع ندرة أن يحظى ممثل ببطولة فيلمين مشاركين في مهرجان بحجم (البحر الأحمر)».

أمير المصري... عام مفصلي يُبدّل موقعه بين البطولة والهوية الفنّية (المهرجان)

«العملاق»... المدرّب أم الموهبة؟

وإنما حضور المصري في «العملاق» يتجاوز مجرّد البطولة، فالفيلم نفسه يحمل تركيبة حساسة تستدعي أداءً واعياً لطبيعة الشخصية التي يجسدها: نسيم حميد، المُلاكم الذي أحدث ثورة في صورة الرياضي المُسلم في بريطانيا التسعينات، بقدر ما أثار جدلاً لا ينتهي حول علاقته بمدرّبه الأسطوري الذي يجسّد دوره النجم بيرس بروسنان. وبسؤال أمير المصري عن تقاطعات ذلك مع حياته، يرد بحماسة: «جداً... كلانا يتجاهل الآراء السلبية ويُكمل طريقه بإصرار».

ينطلق الفيلم من مشهد صغير في شيفيلد البريطانية، حيث تطلب والدة طفل في السابعة من المدرّب أن يُعلّم ابنها الدفاع عن نفسه ضدّ التنمُّر، لحظة تبدو عادية لكنها تتحوَّل إلى حجر الأساس لأسطورة. يلتقط المدرّب الموهبة من النظرة الأولى، فيأخذ نسيم مع 3 من إخوته إلى الحلبة، ليكتشف فوراً أن الطفل النحيف يحمل شيئاً لا يُدرَّس. ومن هنا يمتدّ الخطّ الزمني للفيلم عبر محطات تنقل نسيم من شوارع الحيّ إلى لقب بطل العالم، قبل أن تبدأ الانهيارات التي ستفضح هشاشة العلاقة بين المُلاكم ومدرّبه.

يطرح الفيلم بذكاء شديد السؤال: مَن هو «العملاق» الحقيقي، المدرّب أم الموهبة؟ هذا السؤال يصل ذروته في مشهد صادم يتواجه فيه الطرفان، فيقول نسيم: «هذه موهبة من الله، وعليَّ أن أستثمرها من دون أن أدين بالفضل لأحد». فيردّ المدرّب: «موهبتك بلا قيمة لو لم أكتشفها وأطوّرها طوال 16 عاماً».

ولأنّ الفيلم يعيد طرح الأسطورة على الشاشة، كان حضور نسيم حميد الحقيقي في عرض الفيلم حدثاً إضافياً، إذ ظهر المُلاكم المعتزل في المهرجان بعد سنوات من الغياب، مُبتسماً ومُتأثراً، وقال لأمير المصري: «هذا الفيلم يقول لك: (باسم الله... ابدأ مسيرة جديدة!)». وكأنّ الأسطورة سلّمت شعلتها الرمزية للممثل الذي أعاد بناءها.

المصري يتوسّط المُلاكم المعتزل نسيم حميد والرئيس التنفيذي للمهرجان فيصل بالطيور (المهرجان)

مرحلة جديدة... مشروعات بالجُملة

وبالنظر إلى كون الهوية الفنّية لأمير المصري وُلدت من تداخُل الثقافتين العربية والغربية، تماماً كما جاء في فيلم «العملاق»، يبدو السؤال عن تأثير هذا المزج حاضراً بالضرورة، ليُجيب بتأمّل واضح في جوهر اختياراته قائلاً: «الأهم أن أركّز على المشروع، أيّاً كان، في العالم العربي أو خارجه». ويشرح: «دائماً تشغلني الأسئلة: هل هذا العمل من شأنه تحريك شيء داخلي؟ هل يمكنه إيصال رسالة؟»، مشيراً إلى أنّ فيلم «العملاق» يأتي ضمن هذا الإطار بشكل واضح.

الزخم دفعه لاتخاذ خطوة طال تأجيلها، وهي تأسيس شركة إنتاج في بريطانيا، فيكشف: «اتجهت مؤخراً لتأسيس شركة إنتاج افتتحتها قبل نحو 3 أشهر، وأعتزم في المرحلة المقبلة أن أنفّذ أعمالاً ليست لي فقط، بل كذلك لأناس يُشبهنوني». يتحدَّث المصري عن مشروعه الجديد كأنه يضع حجر الأساس لهوية إنتاجية مقبلة تُكمِل ما بدأه أمام الكاميرا.

أمير المصري يتحدّث عن الزخم والتحوّل وبداية مشروعه الإنتاجي (الشرق الأوسط)

وعن أحدث مشروعاته، يقول: «ثمة فيلم أنهيته للتو في ألمانيا، ولو عُرض في مهرجان مثل (البحر الأحمر)، فهذا يعني أننا سلطنا الضوء على قضية مهمة جداً في موضوع لامسني جداً عندما قرأته. فيلم سيكون مهماً جداً». ورغم تحفُّظ المصري على ذكر القضية التي يتناولها، فإنّ حديثه يوحي بموضوع ثقيل لمرحلة أكثر التزاماً في خياراته السينمائية.

وفي ختام حديثه، يفتح نافذة على مشروع جديد ينتظره جمهور الدراما، مؤكداً أنه يستعدّ لبطولة مسلسل «سفّاح» مع المخرج هادي الباجوري، الذي من المنتظر عرضه عبر منصة «شاهد»، وهو عمل يستلهم من قصة حقيقية لقاتل متسلسل حصلت في قلب القاهرة، ليذهب هذه المرة نحو الغموض والعوالم السوداء.