العشوائية والثورة ومفارقات المكان

أشرف الصباغ يكتب عنها في «كائنات الليل والنهار»

العشوائية والثورة ومفارقات المكان
TT

العشوائية والثورة ومفارقات المكان

العشوائية والثورة ومفارقات المكان

يمهد أشرف الصباغ لروايته «كائنات الليل والنهار» بمشهد بانورامي، يكاد يكون تشريحاً لمفاصل القاهرة، بأحيائها الراقية والشعبية والعشوائية، راصداً حركة سكانها وعابريها، ما بين التثاقل والبطء والسرعة، كما يرصد طبيعتهم الشخصية، التي تتأرجح ما بين الكسل والثرثرة والصمت، وأمزجتهم التي تتوقف على نوعية الكيف الذي يتعاطونه، ويعكس في الوقت نفسه أوضاعهم الاجتماعية والطبقية.
في هذه الطبوغرافيا البشرية، تبدو العلاقة عضوية ومفارقة معاً، بين حي الوايلي الكبير الشعبي مسقط رأس «عاشور» بطل الرواية، الذي غادره يتيماً إلى حي بولاق أبو العلا الشعبي أيضاً، ليعيش بين ناسه وفقره وعشوائيته، ويكتوي بلحظات انهياره، بينما تبدو متنافرة وشاسعة العلاقة نفسها بين حي بولاق، وحي الزمالك الراقي المواجه له على الضفة الأخرى من النيل، حيث يعمل البطل بأحد محال التجميل للنساء، مرتقياً في سلم العمل من صبي مكلف بنظافة المكان، إلى كوافير مرموق يحظى بتقدير واهتمام زبونات المحل الأرستقراطيات، واستطاع أن يكمل تعليمه الجامعي.
لكن مع ذلك لا يبرح عاشور دائرة حياته النمطية، مقترباً من الجميع، ومحتفظاً بمسافة رخوة بينه وبينهم، لا يتوانى عن تقديم المساعدة لأحد، لكن كل همه أن يسد فجوات حياته والتعايش مع متناقضات الواقع الشرهة، ولو بالرشوة والواسطة، خصوصاً بعدما أصبح يدور في فلك لغز ومتاهة، مع سجل غرامات المرور الباهظة على عربته القديمة المتهالكة التي بالكاد توصله إلى محل عمله، وكذلك فواتير الكهرباء التي وصلت إلى أكثر من 20 ألف جنيه، على صالونه الخاص؛ محل جديد اشتراه في «مثلث ماسبيرو» (حي بولاق)، ودفع فيه كل ما يملك، رغم أنه مغلق لم يُفتتح أصلاً، وليس به عداد للكهرباء. لم يفكر عاشور في أن كل هذا ابن ميراث من إدارات خربة وأنظمة فاسدة غاشمة، فما يشغله هو إيجاد حلول تتماشى مع طبيعة التكيف والإذعان والعيش، وفق مقتضى الحال.
تتحول هذه البانوراما، على مدار الرواية، إلى عين كاميرا خفية، يحركها الكاتب بزوايا محددة، متوغلاً في طبقات المهمش والشائك والملتبس في خطى بشر يعيشون على هامش حياة واقعية فقدت واقعيتها تحت وطأة الفقر والعوز والحرمان، وجشع رأس المال والفساد، وأصبحت بمثابة كابوس يطاردهم في أحلامهم ولقمة عيشهم وحيواتهم الفقيرة المفتتة، كما أنها حياة ابنة زمن ضيق ومضطرب، يتكرر على مدار اليوم، ما يبقى فيه إنسانياً خالصاً من الغبار والضجيج لا يعدو أربعين دقيقة أو ساعة قبيل صلاة الفجر تشكل استراحة لكائنات الليل من ضجيج النهار، وتفسح مساحة من الحميمية لتأمل الذات.
تعلو وتيرة المفارقة بين البشر وعلاقتهم بالمكان، ويجري الكاتب الراوي المراقب الكاتب مناظرة طبوغرافية، بين أحياء القاهرة الراقية وحي الزمالك، معرجاً على المدن والأحياء الجديدة المحروسة بـ«كمباوندات»، ونظم حراسة حديثة، «لكنها تكرس للعزلة...»، هذه الدويلات يسمونها عرضاً بالمدن الجديدة، مدن تشبه الوحوش الخرافية، على الأطراف الهشة للقاهرة، منتصراً لحي الزمالك بنظافته ومعماريته الأوروبية، وكوده التاريخي الذي يشكل خزنة أسراره، وأيضاً يتعاطف مع القاهرة بعبقها التراثي العتيق قائلاً: «لا مقارنة بين البشر في القاهرة الشائخة القذرة التي تحتضر منذ ما يزيد على النصف قرن بكل روائحها القديمة، وبخورها، وغبارها، وإزعاجها، وإثارتها للنفور، وبين روائح تلك السجون الفخمة، وبرودتها، وطرزها المعمارية المثيرة للتأمل».
هذا اللعب على روح المكان، والتماهي معه والانفتاح على حيواته، بشكل واقعي ملموس، يبقى من مناطق التميز في الرواية، ففي جملة شديدة الدلالة (ص 124) في معرض الكلام على علاقة التاريخ والجغرافيا والمدينة، يؤكد الراوي السارد على أن «البشر هم الجغرافيا الحقيقية للتاريخ».
تلون هذه الطبوغرافيا طبيعة الشخوص، ومدى التصاقهم بالمكان، حتى أصبح جزءاً من نسيجهم وظلاً لهم، لا يتقدمون خطوة بمعزل عنه، ولا يتراجعون أيضاً... فضاء مفتوح على كل شيء بفقره وعشوائيته ومهنه التي تتدرج من العمل بالمقاهي والورش إلى الخدمة في بيوت الأثرياء، لا فواصل ولا عُقد سميكة بين الأشياء ونقائضها، بين مشاغل الجسد ومشاغل الحياة؛ كل شيء عادي إلى حد الملل والرتابة، حتى مكائدهم ونزواتهم العابرة الطائشة، لا تعدو مجرد رذاذ شاحب في مرآة مهمشة تصفها الرواية على هذا النحو: «في تلك الشوارع والحواري والبيوت لا توجد أي أسرار، حتى الأبواب المغلقة لا تواري شيئاً، ولا تداري أحداثاً أو علاقات. فالبيوت بلا أسطح وستائر النوافذ والبلكونات شفافة حتى لو كانت مصنوعة من الجلد والفولاذ، والعيون لا ترى إلا الآخرين، ولا ترصد إلا سكناتهم وحركاتهم».
شخوص نمطية، تتصرف بمنطق محايد في واقع نمطي مستلب وطارد، تعيش حياتها كيفما اتفق، لا تتسم بصفة البطولة، ولا تولي اهتماماً بأي دوافع داخلية، تجعلها تتشبث بمصائرها في المكان، وإرادة الحياة فيه، والعيش حتى على أنقاضه. ينعكس كل هذا على نظرتها المتوجسة لما يحدث خارج المكان، حتى لو كان ثورة وانتفاضة شعبية ضد الفقر والجوع، تدور على بعد خطوات منه مثل أحداث «ثورة 25 يناير» (كانون الثاني) التي يحيدها الكاتب، ويجعلها مجرد غلالة خافتة في الخلفية، ينعكس هذا المناخ أيضاً على علاقات الحب، فهو دائماً ابن الخطيئة والنزوات العابرة، مجرد قشرة لستر الجسد، وترميم الشقوق، كما يتجسد على نحو لافت في علاقة عاشور البطل المتعلم، ونبيلة ابنة خالته زينب، الذي يعلمها القراءة والكتابة، ويمارس معها الجنس، ولا يتقدم إلى خطبتها بدافع الحب، وإنما بدافع الستر، بعد أن يتكرر حملها منه، وتجهض نفسها... وترفضه خالته زينب قائلة بحسم: «خليك في حالك، يا بني، وخلينا في حالنا». لكن بذرة هذا الحب لا تتبخر ولا تموت، بل تتحول إلى ما يشبه الأسطورة في قوس الرواية الأخير. يكسر الكاتب من واقعية المكان الجهمة، محاولاً شده خارج الإطار، مستعيناً بما يمكن تسميته بـ«سردية الأفكار»، التي تتكثف على نحو لافت، بداية من الفصل السابع، فنجد أفكاراً عن سيكولوجية البوح والفضفضة والمحافظة على المسافات البينية صوناً للذات، كما نجد ومضات مهمة مشرّبة بنفس الفلسفة والفن مثل وصفه قواعد تصفيف شعر النساء، كأنها أيقونة فنية، لها فلسفتها ولمساتها الخاصة، قائلاً (ص 79) على لسان عاشور البطل: «يختار الجمل والعبارات بدقة، لون الشعر الطبيعي يظهر جمال العينين، وكأنه خيوط من الحرير، مهما كانت خشونته»، ويقول باهتمام «لملمة الشعر إلى الخلف تظهر على الفور حيوية الملامح، وتجعل خلايا البشرة تتألق فرحاً». تبرز أيضاً نظرة مغايرة للصراع الاجتماعي الذي يعلو فوق فكرة الطبقة إلى فكرة الوجود بالمعنى الأعمق والشامل... فتطالعنا أفكار حول الرغبة والقدرة والتحقق، وكتابة التاريخ، ومن يصنعه، والشجن والفقد والندم، كأحد المعاول المهمة في تشكيل كينونة الإنسان، من هذه الزاوية يصف الراوي السارد حالة عاشور بعد تلقيه نبأ موت خالته زينب، وبعد انقطاع بينهما دام نحو عشرين عاماً، قائلاً (ص 116): «اهتز جسده بشدة عندما أدرك أنه سيعيش، ليس فقط دون درع البوح، وإنما أيضاً بسيف الندم الذي يمزق صدره، ويسمم كل لحظات الصفاء في حياته التي لم يعد فيها أحد».
عاشور البطل السلبي، الذي يكره «ثورة 25 يناير»، ويسخر منها على مدار الرواية، ويرى شبابها مجرد بلطجية، يريدون حرق البلد، بعد أن يتم اغتيال صالونه الجديد، ويصبح مجرد ركام تحت مخالب البيت الذي انهار فجأة، يذهب بعربته المتهالكة إلى وسط ميدان التحرير، يفتح أبوابها، ويرقص على سقفها، ثم يغادرها وينطلق إلى كوبري قصر النيل، يوزع من جرابه مراكبه وعصافيره الورقية على العشاق الذين يسندون أحلامهم على سور الكوبري، حتى تحول إلى شبح تطارده ظلال ترتدي ملابس مدنية وعسكرية، يبحثون عن إرهابي بيده حقيبة متفجرات ترك عربته مفتوحة وسط ميدان التحرير. قال صبي إنه «رآه يقفز وسط العصافير البيضاء، ويحلق معها فوق صفحة المياه»، بينما نبيلة تبتلعها شجرة مشعة ضاربة جذورها في مياه النيل، لتلحق بمصير زوجها الصياد وابنها، لنصبح إزاء نهاية روائية تشارف أسطورة الخلود في النيل.
لكن، يظل هذا الخلاص الأسطوري بالنيل مجرد نزق ناتئ في جسد رواية واقعية صنعت جمالياتها من التعامل بذكاء شديد مع المكان، وأبقت الهوة شاسعة بين الواقع والثورة التي قبعت في الخلفية، وتحولت إلى مجرد نثار لذكرى تكاد تكون محرمة، مررها الكاتب برشاقة فنية مرة على لسان بطل خذله التاريخ والجغرافيا معاً.



السعودية تحتفي بإبداعات الثقافة العراقية في مهرجان «بين ثقافتين»

يسعى مهرجان «بين ثقافتين» إلى إثراء المعرفة الثقافية عبر تجاربَ فنيّةٍ مبتكرة (الشرق الأوسط)
يسعى مهرجان «بين ثقافتين» إلى إثراء المعرفة الثقافية عبر تجاربَ فنيّةٍ مبتكرة (الشرق الأوسط)
TT

السعودية تحتفي بإبداعات الثقافة العراقية في مهرجان «بين ثقافتين»

يسعى مهرجان «بين ثقافتين» إلى إثراء المعرفة الثقافية عبر تجاربَ فنيّةٍ مبتكرة (الشرق الأوسط)
يسعى مهرجان «بين ثقافتين» إلى إثراء المعرفة الثقافية عبر تجاربَ فنيّةٍ مبتكرة (الشرق الأوسط)

تحتفي وزارة الثقافة السعودية بنظيرتها العراقية في النسخة الثانية من مهرجان «بين ثقافتين» خلال الفترة من 18 إلى 31 ديسمبر (كانون الأول) المقبل في «ميقا استوديو» بالرياض، لتقدم رحلة استثنائية للزوار عبر الزمن، في محطاتٍ تاريخية بارزة ومستندة إلى أبحاث موثوقة، تشمل أعمالاً فنيّةً لعمالقة الفن المعاصر والحديث من البلدين.

ويجوب مهرجان «بين ثقافتين» في دهاليز ثقافات العالم ويُعرّف بها، ويُسلّط الضوء على أوجه التشابه والاختلاف بين الثقافة السعودية وهذه الثقافات، ويستضيف في هذه النسخة ثقافة العراق ليُعرّف بها، ويُبيّن الارتباط بينها وبين الثقافة السعودية، ويعرض أوجه التشابه بينهما في قالبٍ إبداعي.

ويُقدم المهرجانُ في نسخته الحالية رحلةً ثريّة تمزج بين التجارب الحسيّة، والبصريّة، والسمعية في أجواءٍ تدفع الزائر إلى التفاعل والاستمتاع بثقافتَي المملكة والعراق، وذلك عبر أربعة أقسامٍ رئيسية؛ تبدأ من المعرض الفني الذي يُجسّد أوجه التشابه بين الثقافتين السعودية والعراقية، ويمتد إلى مختلف القطاعات الثقافية مما يعكس تنوعاً ثقافياً أنيقاً وإبداعاً في فضاءٍ مُنسجم.

كما يتضمن المهرجان قسم «المضيف»، وهو مبنى عراقي يُشيّد من القصب وتعود أصوله إلى الحضارة السومرية، ويُستخدم عادةً للضيافة، وتُعقدُ فيه الاجتماعات، إلى جانب الشخصيات الثقافية المتضمن روّاد الأدب والثقافة السعوديين والعراقيين. ويعرض مقتطفاتٍ من أعمالهم، وصوراً لمسيرتهم الأدبية، كما يضم المعرض الفني «منطقة درب زبيدة» التي تستعيد المواقع المُدرَجة ضمن قائمة اليونسكو على درب زبيدة مثل بركة بيسان، وبركة الجميمة، ومدينة فيد، ومحطة البدع، وبركة الثملية، ويُعطي المعرض الفني لمحاتٍ ثقافيةً من الموسيقى، والأزياء، والحِرف اليدوية التي تتميز بها الثقافتان السعودية والعراقية.

ويتضمن المهرجان قسم «شارع المتنبي» الذي يُجسّد القيمة الثقافية التي يُمثّلها الشاعر أبو الطيب المتنبي في العاصمة العراقية بغداد، ويعكس الأجواء الأدبية والثقافية الأصيلة عبر متاجر مليئة بالكتب؛ يعيشُ فيها الزائر تجربةً تفاعلية مباشرة مع الكُتب والبائعين، ويشارك في ورش عمل، وندواتٍ تناقش موضوعاتٍ ثقافيةً وفكرية متعلقة بتاريخ البلدين.

وتُستكمل التجربة بعزفٍ موسيقي؛ ليربط كلُّ عنصر فيها الزائرَ بتاريخٍ ثقافي عريق، وفي قسم «مقام النغم والأصالة» يستضيف مسرح المهرجان كلاً من الفنين السعودي والعراقي في صورةٍ تعكس الإبداع الفني، ويتضمن حفل الافتتاح والخِتام إلى جانب حفلةٍ مصاحبة، ليستمتع الجمهور بحفلاتٍ موسيقية كلاسيكية راقية تُناسب أجواء الحدث، وسط مشاركةٍ لأبرز الفنانين السعوديين والعراقيين.

فيما يستعرض قسم «درب الوصل» مجالاتٍ مُنوَّعةً من الثقافة السعودية والعراقية تثري تجربة الزائر، وتُعرّفه بمقوّمات الثقافتين من خلال منطقة الطفل المتّسمة بطابعٍ حيوي وإبداعي بألوان تُناسب الفئة المستهدفة، إذ يستمتع فيها الأطفال بألعاب تراثية تعكس الثقافتين، وتتنوع الأنشطة بين الفنون، والحِرف اليدوية، ورواية القصص بطريقةٍ تفاعلية مما يُعزز التعلّم والمرح.

بينما تقدم منطقة المطاعم تجربةً فريدة تجمع بين النكهات السعودية والعراقية؛ لتعكس الموروث الثقافي والمذاق الأصيل للبلدين، ويستمتع فيها الزائر بتذوق أطباقٍ تراثية تُمثّل جزءاً من هوية وثقافة كل دولة، والمقاهي التي توفر تشكيلةً واسعة من المشروبات الساخنة والباردة، بما فيها القهوة السعودية المميزة بنكهة الهيل، والشاي العراقي بنكهته التقليدية مما يُجسّد روحَ الضيافة العربية الأصيلة.

ويسعى مهرجان «بين ثقافتين» إلى إثراء المعرفة الثقافية عبر تجاربَ فنيّةٍ مبتكرة تستعرض الحضارة السعودية والعراقية، وتُبرز التراث والفنون المشتركة بين البلدين، كما يهدف إلى تعزيز العلاقات بين الشعبين السعودي والعراقي، وتقوية أواصر العلاقات الثقافية بينهما، والتركيز على ترجمة الأبعاد الثقافية المتنوعة لكل دولة بما يُسهم في تعزيز الفهم المتبادل، وإبراز التراث المشترك بأساليب مبتكرة، ويعكس المهرجان حرص وزارة الثقافة على تعزيز التبادل الثقافي الدولي بوصفه أحد أهداف الاستراتيجية الوطنية للثقافة، تحت مظلة «رؤية المملكة 2030».