فجّر التعديل الذي أقرّه حزب بهاراتيا جاناتا الهندوسي القومي الحاكم في الهند على «قانون المواطنة (الجنسية)» غضبة شعبية واسعة في مناطق كثيرة من البلاد. وللعلم، يسرّع هذا التعديل على «قانون المواطنة» مسار الحصول على الجنسية لكل من الهندوس والسيخ والبوذيين والمسيحيين والبارسي (الزرادشتيون) وما يسمى بـ«الأقليات الدينية المضطهدة» في الدول ذات الغالبية المسلمة المجاورة للهند، وهي بنغلاديش وأفغانستان وباكستان.
ولكن، ما يثير القلق والغضب هو ربط التعديل مسألة الحصول على الجنسية بالهوية الدينية، إذ ينظر كثيرون إلى القانون المعدّل على أنه «حظر للمسلمين»، وهو ما أدى إلى انتشار الاحتجاجات العارمة في طول الهند وعرضها. بل إن بعض هذه الاحتجاجات اتسمت بالعنف، وأسفرت عن سقوط ما لا يقل عن ستة قتلى، واعتقال الآلاف. وما يجدر ذكره، أن التطورات الأخيرة جاءت في أعقاب سلسلة مظاهرات طلابية شملت كثيراً من الجامعات والمعاهد العليا والفنية في البلاد
حظرت السلطات الهندية هذا الأسبوع الاحتجاجات والمظاهرات المناوئة على تعديل «قانون المواطنة» (الجنسية)، وكانت الإشكالية حول التعديل قد وصلت إلى المحكمة الهندية العليا التي أصدرت إخباراً إلى السلطات الاتحادية يشمل 59 عريضة تدحض مشروعية التعديل هذا العام. إلا أن المحكمة أحجمت عن إصدار وقف مؤقت لتطبيق التعديل القانوني الجديد، وأما الموعد المقبل لنظر القضية فهو 22 يناير (كانون الثاني) المقبل.
العرائض المقدمة تعتبر أن التعديل بشكّل تمييزاً سلبياً على أساس الدين بين المهاجرين المسلمين وغير المسلمين الوافدين من أفغانستان وباكستان وبنغلاديش، والمهاجرين الوافدين من الدول الثلاث وباقي المهاجرين، والمهاجرين هرباً من الاضطهاد الديني وغيرهم، وبين المهاجرين غير الشرعيين من أبناء ست ديانات أخرى والمسلمين من الدول الثلاث الذين دخلوا الأراضي الهندية قبل 31 ديسمبر (كانون الأول) 2014، وأولئك الذين دخلوا الهند بعد ذلك التاريخ. ووفق النص الموافق عليه لمشروع قانون التعديل، فإن المهاجرين المسلمين سيُعتبرون مهاجرين غير شرعيين.
من ناحية ثانية، يتواصل الجدل المستعر بين حزب بهاراتيا جاناتا، بقيادة رئيس الحكومة الاتحادية ناريندرا مودي، وقوى المعارضة، مع تزايد القوى الحزبية التي تناوئ التعديل، علماً بأن وزير الداخلية آميت شاه، البالغ النفوذ، أكد أن الحكومة ستنفذه. وبينما تنتشر المظاهرات والاحتجاجات في عموم الهند ضد مشروع قانون التعديل و«السجلّ الوطني للمواطنين»، تلجأ الحكومة إلى إجراءات أمنية هدفها إخماد اللهب السياسي في الشارع.
رفض التمييز السلبي
وفي هذا الإطار ظهر آميت شاه في مقابلات تلفزيونية يوم الثلاثاء الماضي، متعهداً بـ«ألا يواجه أي مسلم هندي من أي إجحاف أو ظلم من هذه السياسات». وفي السياق نفسه، نشرت حكومة مودي إعلانات في كثير من الصحف المنشورة باللغتين الهندية والأوردية تحذّر فيها من «الشائعات والأضاليل المروّجة». ولكن، يوم أمس (الخميس)، شهد جولة جديدة من الاحتجاجات ضد التعديل في مناطق عدة على امتداد الهند، فبادر وزير الداخلية إلى الدعوة لعقد اجتماع طارئ لمناقشة الأوضاع الأمنية في الهند. غير أن البرلماني المعارض شاشي ثارور، وزير الدولة السابق للشؤون الخارجية والأمين العام المساعد السابق في الأمم المتحدة، يقول إن استثناء طائفة دينية واحدة في هذا التعديل، الذي أقرّه رئيس الجمهورية رام ناث كوفيند فوراً كقانون ساري المفعول «أساساً خطوة مناقضة لتقاليد الهند العلمانية والتعددية». ومن ثم تساءل ثارور: «لماذا لا يشمل التعديل، مثلاً، ميانمار (بورما) وسريلانكا والصين؟ ولماذا لا يحق للهندوس التاميل من أبناء سريلانكا بالجنسية بموجب التعديل الجديد؟ ولماذا حددت المهلة الأخيرة للاستفادة منه بآخر 2014؟»
«السجلّ الوطني للمواطنين»
بالإضافة إلى تعديل «قانون المواطنة»، كانت الحكومة الهندية قد خرجت ببرنامج منفصل تحت اسم «السجلّ الوطني للمواطنين» في وقت سابق من العام الحالي في ولاية آسام بشمال شرقي البلاد. هذه اللائحة الخاصة بالمواطنية (الجنسية) تشكل جزءاً من جهود الحكومة الهادفة إلى الكشف عمن تزعم أنهم من المهاجرين غير الشرعيين في هذه الولاية، والتخلص منهم. ولقد نشرت اللائحة النهائية بأسماء هؤلاء يوم 31 أغسطس (آب) الماضي، وأخرجت نحو 1.9 مليون من المقيمين في آسام بينهم هندوس. وراهناً يساور القلق سكان آسام من أن كثيرين من هؤلاء سيُمنحون الجنسية الهندية، ما سيشكل خطراً على قوميتهم. وفي المقابل، يشعر تشانشال روي، وهو من أبناء طائفة الماتوا الهندوسية المهاجرة من بنغلاديش إلى شمال شرقي الهند، بالسعادة إزاء التعديل الخاص بالجنسية الذي أقرّه حزب بهاراتيا جاناتا. ويشرح: «لقد تعرّضنا طويلاً للقمع والقهر في بنغلاديش ما دفعنا للهجرة إلى آسام... وبما أن الهند بلد هندوسي، فإن من حقنا الحصول على الجنسية هنا». ولكن في الوقت ذاته، يقر روي بالمشاعر السلبية في أوساط الهندوس الآتين من بنغلاديش من «السجلّ الوطني»، ويوضح حالياً: «الناس هنا ينظرون إلى السحل الوطني المعمول به في آسام ويرون أن كثرة من الهندوس كانوا يُخرجون منه، ولكن بفضل التعديل الجديد على قانون المواطنية ما عدنا نحن الهندوس قلقين».
شكاوى المسلمين
هذا الارتياح معكوس تماماً في مناطق عدة من الهند تشهد الاحتجاجات بسبب استثناء المسلمين من لائحة التعديل. ذلك أن اللاجئين الروهينغا المسلمين الفارين من ميانمار، والمسلمين الأفغان لن يحصلوا بموجب التعديل على الجنسية الهندية، والشيء نفسه ينطبق على تاميل سريلانكا. وحقاً، شهدت شوارع مدن كثيرة في ولايات البنغال الغربية (شمال شرق) وكيرالا (جنوب) وغوا (غرب) احتجاجات، شاب بعضها العنف.
وخلال لقاء مع مسؤول محلي مسلم اسمه إقبال حسين، قال حسين متسائلاً: «هل جميع المسلمين إرهابيون؟ قد تكون هناك عناصر سيئة في كل طائفة، ولكن إقرار القانون بصيغته الحالية، يعني أن حزب (بهاراتيا جاناتا) يريد الهند خالية من المسلمين». وأردف: «الناس غاضبون جداً ويشعرون بضيق شديد... ونحن الآن ندرس ما يجب فعله».
في الاتجاه نفسه، يقول البرلماني دانيش علي متسائلاً: «ما الحاجة أصلاً إلى سن تشريع يستند إلى الهوية الدينية؟ أليست الغاية (فرّق تسُد)؟ إذا كانت الحكومة المركزية (الاتحادية الهندية) تؤمن بالمساواة وبتطبيقها فعليها أن تضم المسلمين، وكذلك المهاجرون من سريلانكا ونيبال وبهوتان وميانمار. ولكن بما أن هدفها الحقيقي خلق حالة استقطابية عند الناخبين الهندوس والمسلمين، وحرف الأنظار بعيداً عن التراجع الاقتصادي». ولكن السيد أحمد بخاري، إمام المسجد الجامع في دلهي، لا يرى في التعديل أي خطر على المسلمين في الهند، متهماً بعض الجهات «بتضليل الناس».
حالة لاجئ أفغاني
في أي حال، تشكل حالة عرمان (25 سنة)، اللاجئ من أفغانستان إلى الهند قبل أربع سنوات، في أعقاب تلقي عائلته تهديدات من حركة «طالبان»، حالة تستحق التوقّف عندها. عرمان سجّل كلاجئ عند كل من المفوضية العليا لشؤون اللاجئين والمكتب الإقليمي لتسجيل الأجانب، وهو واحد من كثير من الأفغان الذين يقيمون اليوم في منطقة لاجبات ناغار بمدينة دلهي. وهو بصف حاله بالقول: «نعم، يجب أن يسمح للسيخ والهندوس أن يأتوا إلى هنا، ولكن ماذا عن المسلمين؟ لقد واجهنا اضطهاداً وتمييزاً ضدنا في أفغانستان، ونرى أن الهند ذلك المكان الرحب الذي يوفر لنا العيش الذي نطمح إليه... ولهذا نود أن ننتقل إلى هنا، لكنني حالياً حزين. فإذا حرمنا من فرصة الاستقرار هنا فإلى أين سنذهب؟ الحياة صعبة بالنسبة للاجئين».
في الوقت ذاته، حذّر رئيس الحكومة الباكستانية عمران خان مجدداً من حرب نووية بين باكستان والهند حول تعديل «قانون المواطنة»؛ إذ جاء في كلمة عمران خان أمام «منبر اللاجئين العالمي»، الذي شارك في تنظيمه: «يهمني أن أبلغ العالم بأسره أن عليه إدراك خطورة أكبر أزمة لاجئين (في جنوب آسيا)... نحن في باكستان لسنا فقط قلقين من أزمة اللجوء، بل يقلقنا احتمال تطورها إلى نزاع. نزاع بين قوتين نوويتين».
الجامعة في الواجهة السياسية
بالتوازي مع الاحتجاجات المتصلة بتعديل «قانون المواطنة» (الجنسية) في الهند دخل طلاب الجامعات الهندية على خط الاحتجاجات، في عموم البلاد. فلقد اجتاحت جموع من الطلاب شوارع عدة مدن اعتراضاً على ما يعتبرونه شكلاً من أشكال التمييز ضد المسلمين في تعديل «قانون المواطنة»، واندلعت الاحتجاجات في أكثر من 20 جامعة.
الواقع أن التوتر تزايد كثيراً منذ 15 ديسمبر (كانون الأول) الحالي، اعتراضاً على تعامل الشرطة مع طلاب ينتمون إلى الجامعة الملية الإسلامية في العاصمة دلهي وجامعة عليغره الإسلامية العريقة بمدينة عليغره في ولاية أوتار براديش بشمال الهند، وهي كبرى الولايات الهندية من حيث هدد السكان.
ومن ثم، تدخل رجال الشرطة بعنف إثر مسيرات احتجاجية نظمها طلاب في المعهد الهندي للتكنولوجيا (آي آي تي) في بومباي، ومعهد تاتا للعلوم الاجتماعية في المدينة نفسها، وجامعة حيدر آباد المركزية وجامعة مولانا آزاد في حيدر آباد، وندوة العلماء في مدينة لوكناو عاصمة أوتار بردايش، في أعقاب تعاطف طلاب هذه الجامعات والمعاهد مع زملائهم في عليغره ودلهي.
أيضاً نشط المحتجون على وسائل التواصل الاجتماعي، فشنوا حرباً سياسية عبر هذه المواقع، ولعبت بعض المواقع مثل «إنستغرام» دوراً بارزاً في نقل الاعتراضات على التعديل المذكور والمثير للجدل.
هذا النشاط السياسي الاحتجاجي الطلابي لم يأتِ من فراغ. إذ كانت الجامعات العامة والمعاهد الفنية الهندية قد بدأت التحول إلى مواقع من الفوضى والخلافات المريرة وميادين لمظاهرات ضخمة ومتزايدة ضد الحكومة، وسط غضب عارم تجاه قرار حكومة مودي اليمينية القومية الهندوسية إقرار زيادة كبيرة في تكلفة الإقامة في السكن الجامعي. هذه الزيادة أثارت غضب الطلاب ودفعتهم للخروج إلى الشوارع، ما اضطر قوات الشرطة إلى الانتشار في الشوارع هي الأخرى، ووقع صدام بين الجانبين ليتحول الأمر إلى صراع يتجاوز حدود كونه مجرد خلاف حول زيادة الأقساط والأكلاف.
جامعة جواهرلال نهرو
في الواجهة كانت ولا تزال جامعة جواهرلال نهرو في العاصمة الهندية نيو دلهي. هذه الجامعة تعد واحدة من أبرز الجامعات على مستوى آسيا. ومنذ إنشائها عام 1969. وقفت الجامعة كمنارة أمل على صعيد التعليم العالي والبحث العلمي في الهند. ولا يقتصر إسهام الجامعة على توفير مساحة تمكين للطلاب تتيح لهم عقد مناقشات حول قضايا سياسية مثيرة للجدل، وإنما يمتد إلى تحريرها الطلاب من سطوة وقمع الهياكل الطبقية والطائفية والأقساط والأكلاف الباهظة. ويصف البعض جامعة جواهرلال نهرو بأنها الجامعة الوحيدة التي توفر تعليماً عالي الجودة مدعوماً بدرجة كبيرة للطلاب الفقراء الذين يفد أكثر من 90 في المائة منهم من ولايات أخرى من أرجاء البلاد.
هنا، بقول شوبهودا تشودهري، الأكاديمي المقيم في نيودلهي: «هذا السبب تحديداً وراء تفاقم حركة الاحتجاجات الطلابية اليوم لتتجاوز مجرد تعبير عن غضب إزاء إدارة الجامعة، وتمتد إلى مسألة أكبر تتعلق بما يعتبره الطلاب كراهية من جانب الحكومة إزاء التعليم وطرح الإعلام للأحداث على نحو مضلل ووجود تباينات اجتماعية واقتصادية هائلة داخل البلاد». وحقاً، يرى كثيرون أن حكومة مودي، في محاولة منها للتغلب على خصومها الآيديولوجيين، رأت في الجامعات مراكز معارضة لنمط السياسات التي تنتهجها.