هناك فارق كبير بين كلينت إيستوود وستيفن سبيلبرغ. نعم، كلاهما جيد لكن إيستوود أكثر انضباطاً تحت لواء أفلام يحسن إخراجها على مستوى مرتفع واحد، بينما لسبيلبرغ أفلام كثيرة جيدة وأخرى متوسطة أو أقل. سبيلبرغ أكثر نشاطاً بين نوعين من الأفلام: جادة وتجارية. بالنسبة لإيستوود يجمع كل فيلم يحققه من الناحيتين معاً في صياغة واحدة يُفترض فيها أن ترضي الجميع.
سبيلبرغ، أخيراً، يُرضي - عادة - الجمهور والنقاد أكثر مما يفعل إيستوود. هو يميل لليسار. إيستوود يميل لليمين. ولا شيء يمكن أن يعزز هذا الواقع إلا مقارنة فيلم إيستوود الجديد «رتشارد جيووَل» بفيلم ستيفن سبيلبرغ ما قبل الأخير «ذا بوست» قبل عامين (الفيلم الأخير Ready Player One انتهى بفشل عريض).
في هذا الصدد، ولتفسير ما سبق، انتقد سبيلبرغ بفيلمه الجاد «ذا بوست» البيت الأبيض أيام الرئيس رتشارد نيكسون عندما حاول الكذب على الأميركيين والادعاء بأن الحرب الأميركية في فيتنام تحقق نجاحاً مضطرداً. الوثائق التي نشرتها صحيفة «واشنطن بوست» آنذاك أكدت العكس.
الإعلام في فيلم سبيلبرغ شجاع وحاضر لخدمة الحقيقة رغم المحاذير. هذه الصورة ليست ما في بال كلينت إيستوود في فيلمه الجديد «رتشارد جووَل» المأخوذ بدوره عن وقائع حقيقية.
- أكاذيب
يقص «ريتشارد جووَل» حكاية رجل الأمن الذي اكتشف قنبلة مزروعة في ليلة حاشدة بالناس في أبريل (نيسان)، 1996 في مدينة أتلانتا. أحدهم وضع قنبلة في حديقة عامّة تشهد احتفالاً موسيقياً حياً وريتشارد جووَل كان دائماً حريصاً ونبيهاً. إذا لاحظ أن هناك شخصا يحمل حقيبة على ظهره تبعه ليعرف غايته. إذا تمادى بعض الشبان بالشرب تدخل لفض تجمعهم. إنه في هذه اللحظات التي تدخل فيها لتفريق مراهقين يشربون اكتشف حقيبة متروكة قرب مقعد. حين تأكد له وللشرطة أن الحقيبة ملغومة انطلق يحذر الجميع للفرار من المكان قبيل الانفجار لو لم يفعل لارتفع عدد الإصابات لضعف أو ضعفين. لهذا السبب وجد نفسه محط اهتمام الإعلام وأصبح بطلاً قومياً … ولو إلى حين.
تغير هذا الوضع عندما أخذ المحققون الفيدراليون (FBI) يرتابون في أن جووَل زرع القنبلة بنفسه ليصبح بطلاً قومياً وليشق طريقه لتحقيق حلمه بالتحوّل إلى رجل بوليس. توم (جون هام) هو أحدهم ولديه علاقة ودية مع الصحافية كاثي (أوليڤيا وايلد) وهي استدرجته لكي يخبرها آخر تطورات التحقيق. أخبرها بأن الشكوك تدور حول ريتشارد جووَل وهذه نشرت الخبر على الصفحة الأولى من صحيفتها. فجأة وجد ريتشارد نفسه في كابوس طويل. بطل الأمس بات متهماً والتحقيق معه حوّل حياته ووالدته إلى جحيم.
لا يُخفى، لمن يشاهد الفيلم، أن الإف بي آي وما تمثله من سلطة ليست وحدها المتهمة بسوء استخدام سُلطتها، بل يتقصّد إيستوود نقد الإعلام على أساس كم يسارع الإعلام إلى تبني الأكاذيب لكي يبيع الصحف. هنا يختلف منظور إيستوود عن منظور سبيلبرغ الذي انتقد البيت الأبيض وحده ودافع عن الإعلام. لكن منطلقات إيستوود تنتقد أجهزة الحكومة كما الإعلام ذاته، وذلك على منوال اعتمده منذ زمن بعيد.
في «غير المُسامح» (1992) استعان بالممثل صول روبنك للعب دور صحافي يسعى للكسب على حساب الحقيقة، وذلك عبر مقابلة الشريف ليتل بل (جين هاكمن) الذي يقول شيئا ويبرهن عن شيء آخر مناقض.
لاحقاً في «رايات آبائنا» (2006) وصم إيستوود الإعلام الساعي للمتاجرة بأرواح الجنود الأميركيين الذي قضوا في الحرب العالمية الثانية فوق جزيرة إيوو جيما. وسنجد نماذج هنا وهناك مزروعة في أفلام أخرى لا يتعاطف فيها إيستوود مع الصحافة مطلقاً.
هذا ألّب عليه - هذه المرّة أكثر من سواها - الكثير من الصحافيين الذين هاجموا الفيلم (حتى قبل مشاهدته) بذريعة وصفه للإعلام بالمتاجرة وهو خط غير بعيد عن وصف الرئيس ترمب لها بالزيف. البعض ذكر أن فيلم إيستوود الجديد «يمشي على خطى مسيرات ترمب الانتخابية». وآخر قال إن «عقل إيستوود مليء بالبارانويا». وهناك من كتب في «ذا نيويوركر» أن الفيلم «بروباغاندا لصالح ترمب».
براعة
لا شيء يثبت ذلك أو ينفيه قطعاً. لكن من يستطيع أن ينفي وجود مثل كاثي وصحيفتها؟ ولماذا لم يتوقف أحد عند نقد إيستوود لجهاز التحقيقات الفيدرالية؟ ثم ماذا عن أن الأحداث الحقيقية وقعت بالفعل كما نشاهدها على الشاشة باستثناء التفاصيل التي لا يشكل وجودها أهمية استثنائية؟
على المستوى الثاني، هذا فيلم آخر لإيستوود يؤكد فيه أنه آخر من بقي من أيقونات هوليوود من مخرجين أقوياء. يصنع أفلامه بالقدرات والموهبة ذاتها التي كان يحقق فيها أفلامه السابقة في الثمانينات وما بعد. وعندما يصل الأمر إلى إدارة الممثلين، لديه اليد العليا في طلب وتنفيذ ما يحتاجه من الممثل.
يقوم بول وولتر هاوز («أنا، تونيا» و«بلاكككسمان») بدور رتشارد جووَل ويبرع: صادق في تعامله. محب لوالدته (يذكر بحب جوكر لوالدته أيضاً). مخلص في عمله. يحمل أعباء الشخصية بتفهم كامل. لجانبه كاثي بايتس بدور والدته. جيدة في العموم لكن النص لها يعتمد ردود الفعل غالباً. كذلك هناك سام روكوَل الجيد في دور المحامي الذي لولاه لقضى جووَل باقي حياته (مات سنة 2007) في السجن.
أفلام إيستوود مبنية على نواح أساسية في مقدّمتها معرفة كل عناصر الحرفة الصحيحة لسرد حكاية. لن تجد هنا، أو في أي من أفلامه، تشتتاً ولا مشاهد لا معنى لها. سرده متقن وإيماءاته ثابتة ومقنعة. اختياراته من الممثلين مبهرة. هنا يجيء بممثل غير معروف وبدين البنية للبطولة (تبعاً للشخصية الحقيقية) لكن هناك سواه من المعروفين ذوي البدانة. السبب هو التقاط شخص عادي بالنسبة للجمهور العريض كما كان عاديا في حياته. إلى كل ذلك، هناك التشويق الذي لا يتركك حراً خلال العرض. لا يستطيع حتى من يعرف خلفية الأحداث توقع التطوّر الآتي بعد لحظات ولماذا أو كيف.
فيلم كلينت إيستوود الجديد يرمي سهامه ويصيب
ينتقد الإعلام والسُلطة والقدرة على لي ذراع الحقيقة
فيلم كلينت إيستوود الجديد يرمي سهامه ويصيب
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة