بانيتا.. من عائلة إيطالية فقيرة إلى «مركز العالم الجديد»

مجلد ضخم من المذكرات التي كتبها بمساعدة صحافي بارز في «لوس أنجليس تايمز»

بانيتا مع الرئيس الأميركي أوباما
بانيتا مع الرئيس الأميركي أوباما
TT

بانيتا.. من عائلة إيطالية فقيرة إلى «مركز العالم الجديد»

بانيتا مع الرئيس الأميركي أوباما
بانيتا مع الرئيس الأميركي أوباما

في عصورهم الأولى، كانت صحف التابلويد الأميركية تنشر بابا تحت عنوان «قَبّل واعترف» وكان مخصصا للاعترافات المثيرة التي تدلي بها ممثلات هوليوود الناشئات وغيرهن من الباحثين عن الثروة بشأن علاقاتهم الخطيرة مع رجال أثرياء وذوي نفوذ ومن بينهم كبار منتجي الأفلام. وعلى مدار الأعوام، تبنى آخرون هذا النوع من الكتابة مع لجوء بعض الأسماء الشهيرة إلى نشر مذكراتهم، أملا في تحقيق ثروة سريعة. اليوم في معظم المكتبات، على الأقل في الغرب، ستجد أرففا كاملة مخصصة لنوعية الكتب التي تتداخل فيها كتب السيرة الذاتية وسير الشخصيات. بيد أنه طوال الوقت كانت فئة واحد من «الأسماء الشهيرة» التي تضم مسؤولين سياسيين وعسكريين رفيعي المستوى تبدي بعض التحفظ في الصعود على متن قطار «قَبّل واعترف». كانت فكرة أصحاب هذه الفئة في أن ينتظر المسؤول الكبير مرور عدة أعوام على مغادرة السلطة قبل أن يفشي الأسرار. ولا يزال بعض القدامى يتمسكون بهذا التقليد. «على سبيل المثال جون دين المسؤول في البيت الأبيض في عهد نيكسون الذي نشر (الأسرار) التي لديه بعد مرور أكثر من 40 عام.» لا ينتمي ليون بانيتا، الذي عمل مديرا لوكالة الاستخبارات المركزية ووزيرا للدفاع في عهد الرئيس باراك أوباما إلى هذه الفئة. بعد عام من تركه للإدارة الأميركية، خرج علينا بمجلد ضخم من المذكرات التي كتبها بمساعدة الصحافي البارز في «لوس أنجليس تايمز» جيم نيوتن.
بانيتا ليس وحيدا في خطوته غير المعتادة، فقد سبقه كل من هيلاري كلينتون، أول وزيرة خارجية في عهد أوباما، وروبرت غيتس أول وزير دفاع أيضا بنشر مذكراتهما، وكلاهما قام بطريقته بتبديد أسطورة أوباما. من بين الكتب الثلاثة كان كتاب هيلاري كلينتون أكثرهم حرصا في انتقاداتها لأوباما. قد يرجع ذلك إلى حسابات انتخابية نظرا لأنه من الواضح أن السيدة كلينتون تستعد لخوض انتخابات الرئاسة المقبلة وتعلم أنها قد تحتاج إلى مساعدة أوباما. ويعد كتاب غيتس الأكثر صراحة ولكنه الأقل إثارة للدهشة نظرا لأن المؤلف، الذي ينتمي للحزب الجمهوري طوال حياته لم يكن من محبي أوباما قط. هذا يجعل من كتاب بانيتا الأكثر صراحة والأكثر إلحاقا للضرر بأوباما نظرا لأن الكاتب شخصية بارزة في الحزب الديمقراطي وتمتد خبرته إلى خمسة عقود من عهد جيمي كارتر وحتى عصر أوباما.
في رأيي، أفضل جزء في الكتاب هو الذي يتناول تاريخ عائلة بانيتا، والذي يسرد كيف وصلت عائلة ريفية إيطالية فقيرة إلى العالم الجديد للمشاركة في «الحلم الأميركي». استطاع الصبي القروي الفقير الالتحاق بالدراسة وإتمامها وصولا إلى أعلى المستويات، والفوز بمقعد في الكونغرس الأميركي، والانضمام إلى نخبة من صناع القرار، وهو أمر لا يزال نادرا في كثير من الدول من بينها الأنظمة الديمقراطية الغربية المتقدمة. يقدم بانيتا أيضا لمحة عن كيفية عمل الآلة السياسية البيزنطية في واشنطن، التي تدور حول الكونغرس ومجلس الشيوخ والبيت الأبيض. أقل الأجزاء متعة هو الفترة الوجيزة التي أمضاها بانيتا في وكالة الاستخبارات الأميركية، وذلك على الأقل لأن المدير السابق للوكالة حاول حجب الأمور بدلا من الكشف عنها. وكما كان متوقعا، يبالغ بانيتا في حديثه عن تزامن فترة إدارته مع «قتل» أسامة بن لادن في مخبئه في باكستان. ولكن نظرا لأن أوباما نسب الفضل في العملية لذاته، فلا يستطيع بانيتا أن يؤكد على دوره. وعلى أي حال، لم يكن الرجل الذي أطلق النار على ليبرتي فالانس في فيلم جون فورد الكلاسيكي هو من نُسب إليه الفضل.
ليس من المفاجئ أن الجزء الذي يجذب معظم الاهتمام يتناول فترة عمل بانيتا وزيرا للدفاع. يكشف بانيتا بوضوح أن أوباما غير مؤهل لأن يكون القائد الأعلى بكل ما تحمله الكلمة من معنى. يعجز أوباما الذي لا يتسم بالحسم، وليس التقلب، عن التركيز على أي قضية لفترة طويلة تكفي لأن يستوعبها. إنه مثل الفراشة التي تقفز من زهرة إلى أخرى، وفي كل مرة تحدث بعض الضوضاء ثم تنسى.
يصور بانيتا أوباما على أنه رجل كسول فكريا، مما يجعله يعوض أوجه القصور التي تشوب تحليله بجرعة كبيرة من الخطاب المنمق.
يفضل أوباما الرقص حول الموضوع، ويأمل دائما في أن تحل الأمور بذاتها. ويذكر بانيتا عدة أمثلة على ذلك، تتعلق أبرزها بالقضايا المشتعلة في سوريا والعراق والشرق الأوسط عامة. يشير بانيتا وهو محق في ذلك إلى أن أوباما تعمد تخريب اتفاق بين واشنطن وبغداد يفضي إلى الإبقاء على بضعة آلاف من القوات الأميركية في العراق في سحب للثقة في مستقبل الدولة المحررة حديثا. لم يرغب الرئيس في أن ينجح العراق، ربما لأن هذا قد يقدم مبررا متأخرا لعملية الإطاحة بصدام حسين، التي كان أوباما يعارضها من البداية.
كذلك يهاجم بانيتا أسلوب تعامل أوباما مع الأزمة السورية، لا سيما وأن تهديداته الموجهة ضد بشار الأسد تبعها تراجع مخجل.
وهكذا يتحمل أوباما بدرجة كبيرة مسؤولية الفوضى التي يعاني منها الشرق الأوسط اليوم. كان أوباما «على علم كامل» بصعود جماعات جهادية في سوريا والعراق، ولكنه صرف النظر عنها باعتبارها مجموعات من النشطاء من «طلاب الجامعة». وعارض وجود خطة مشتركة بين البنتاغون ووزارة الخارجية الأميركية للمساعدة على بناء قدرات جيش يتبع المعارضة السورية واصفا الفكرة بـ«محض خيال».
يوجد سؤالان على الأقل قد يؤرقان القارئ بخصوص كتاب بانيتا المثير للاهتمام والممتع في القراءة.
أولا، قد يكون من الغريب أن بانيتا، مثل هيلاري كلينتون وروبرت غيتس، لم يفعل شيئا لإقناع أوباما بتغيير المسار أو إجباره على ذلك إذا لزم الأمر. لقد ظلوا مخلصين له، وكرروا عباراته البليغة ولكنها جوفاء، حتى اللحظة الأخيرة. يجب أن نفترض أنهم حتى في المحادثات الخاصة لم يظنوا أنه من الحكمة معارضة الرئيس وإثناؤه عن الوقوع في الأخطاء.
لعل السؤال الثاني أكثر أهمية. ما الذي يدرينا أن أوباما لا يمتلك استراتيجية كبرى لإنهاء دور الولايات المتحدة في القيادة العالمية الذي قد يرى أنه غير ضروري، وغير مربح وانهزامي في النهاية؟ بعد كل ذلك، في عام 2008 صوّت نصف الناخبين الأميركيين لصالحه إلى حد ما بسبب وعده بأن تقوم الولايات المتحدة بدور أقل. ماذا لو أن أوباما يعتقد سرا أن التدخل في الشؤون الدولية بدرجة كبيرة يُعّرض الولايات المتحدة لأضرار أكبر من المنافع؟
أوباما ليس مرشحا منشوريا كما يدعي أشد منتقديه. ولكنه يظل لغزا. وقد سجل كل من هيلاري كلينتون وروبرت غيتس وليون بانيتا جوانب من هذا اللغز، دون أن يصلوا إلى صميمه.



«كيركيغارد»... والحب المستحيل

ريجين أولسين
ريجين أولسين
TT

«كيركيغارد»... والحب المستحيل

ريجين أولسين
ريجين أولسين

كان أحدهم قد أطلق العبارة التالية: كيركيغارد فيلسوف كبير على بلد صغير الحجم. بمعنى أنه أكبر من البلد الذي أنجبه. وبالفعل، فإن شهرته أكبر من الدنمارك، التي لا يتجاوز عدد سكانها 5 ملايين نسمة، وبالطبع أكبر من اللغة الدنماركية المحدودة الانتشار جداً قياساً إلى لغات كبرى كالفرنسية والإنجليزية والألمانية والإسبانية، ناهيك بالعربية. ولكن مؤلفاته أصبحت مترجمة إلى شتى لغات العالم. وبالتالي، لم تعد محصورة داخل جدران لغته الأصلية الصغيرة. لقد أصبحت ملكاً للعالم أجمع. هنا تكمن عظمة الترجمة وفائدتها. لا حضارة عظيمة من دون ترجمة عظيمة. والحضارة العربية التنويرية قادمة لا ريب، على أكتاف الترجمة والإبداع الذاتي في آنٍ معاً.

سورين كيركيغارد (1813 - 1855) هو مؤسس الفلسفة الوجودية المعاصرة، قبل هيدغر وسارتر بزمن طويل. إنه الممثل الأكبر للتيار الوجودي المسيحي المؤمن، لا المادي الملحد. كان كيركيغارد أحد كبار فلاسفة الدين في المسيحية، إضافة إلى برغسون وبول ريكور، مثلما أن ابن رشد وطه حسين ومحمد أركون هم من كبار فلاسفة الدين في الإسلام.

سورين كيركيغارد

لكن ليس عن هذا سأتحدث الآن، وإنما عن قصة حب كبيرة، وربما أكبر قصة حبّ ظهرت في الغرب، ولكن لا أحد يتحدث عنها أو يسمع بها في العالم العربي. سوف أتحدث عن قصة كيركيغارد مع الآنسة ريجين أولسين. كيف حصلت الأمور؟ كيف اشتعلت شرارة الحب، تلك الشرارة الخالدة التي تخترق العصور والأزمان وتنعش الحضارات؟ بكل بساطة، كان مدعواً إلى حفلة اجتماعية عند أحد الأصدقاء، وصادف أنها كانت مدعوة أيضاً. كانت صغيرة بريئة في الخامسة عشرة فقط، وهو في الخامسة والعشرين. فوقع في حبها على الفور من أول نظرة، وبالضربة القاضية. إنه الحب الصاعق الماحق الذي لا يسمح لك بأن تتنفس. ويبدو أنه كان شعوراً متبادلاً. وبعد 3 سنوات من اللقاءات والمراسلات المتبادلة، طلب يدها رسمياً فوافقت العائلة.

ولكنه صبيحة اليوم التالي استفاق على أمر عظيم. استفاق، مشوشاً مبلبلاً مرعوباً. راح ينتف شعر رأسه ويقول: يا إلهي، ماذا فعلت بنفسي؟ ماذا فعلت؟ لقد شعر بأنه ارتكب خطيئة لا تغتفر. فهو لم يخلق للزواج والإنجاب وتأسيس عائلة ومسؤوليات. إنه مشغول بأشياء أخرى، وينخر فيه قلق وجودي رهيب يكاد يكتسحه من الداخل اكتساحاً... فكيف يمكن له أن يرتكب حماقة كهذه؟ هذه جريمة بحقّ الأطفال الذين سوف يولدون وبحقّها هي أيضاً. ولذلك، فسخ الخطوبة قائلاً لها: أرجوك، إني عاجز عن القيام بواجبات الزوجية. أرجوك اعذريني.

ثم أردف قائلاً بينه وبين نفسه: لا يحق لي وأنا في مثل هذه الحالة أن أخرب حياة خطيبتي المفعمة بحب الحياة والأمل والمحبة، التي لا تعاني من أي مشكلة شخصية أو عقدة نفسية أو تساؤلات وجودية حارقة. وإنما هي إنسانة طبيعية كبقية البشر. أما أنا فإنسان مريض في العمق، ومرضي من النوع المستفحل العضال الذي لا علاج له ولا شفاء منه. وبالتالي، فواجب الشرف والأمانة يقتضي مني أن أدوس على قلبي وأنفصل عنها وكأني أنفصل عن روحي.

لكن عندما سمع بأنها تزوجت من شخص آخر جنّ جنونه وتقطعت نياط قلبه وهاجت عليه الذكريات. بل هرب من الدنمارك كلها لكيلا يسمع بالتفاصيل والتحضيرات وليلة العرس. هذا أكبر من طاقته على التحمل. وأصبح كالمجنون الهائم على وجهه في البراري والقفار. كيف يمكن أن يتخيلها مع رجل آخر؟ هل انطبقت السماء على الأرض؟ مجنون ليلى ما تعذب مثلنا.

الشيء المؤثر في هذه القصة هو أن خطيبته التي عاشت بعده 50 سنة تقريباً طلبت أن تدفن إلى جواره، لا إلى جوار زوجها الشرعي! فاجأ الخبر كثيرين. وكانت بذلك تريد أن تقول ما معناه: إذا كان القدر قد فرقني عنه في هذه الحياة الدنيا، فإني سألتحق به حتماً في الحياة الأخرى، حياة الأبدية والخلود. وكانت تعتبر نفسها «زوجته» برغم كل ما حصل. وبالفعل، عندما كان الناس يتذكرونها كانوا يقولون: خطيبة كيركيغارد، لا زوجة فريدريك شليجيل. وقالت: إذا لم يكن زوجي هنا على هذه الأرض، فسوف يكون زوجي هناك في أعالي السماء. موعدنا: جنة الخلد! هل هناك حب أقوى من هذا الحب؟ حب أقوى من الموت، حب فيما وراء القبر، فيما وراء العمر... الحب والإيمان. أين هو انتصارك يا موت؟

قصة حب تجمع بين كيركيغارد، مؤسس الفلسفة الوجودية، وفتاة شابة جميلة تصغره بعشر سنوات، لكن الفلسفة تقف حجر عثرة بينهما، فينفصل عنها وتظل صورتها تطارده طيلة حياته

اللقاء الأخير

كيف يمكن أن نفهم موقف كيركيغارد من حبيبته إن لم نقل معبودته ريجين أولسين؟ للوهلة الأولى يبدو أنه لا يوجد أي تفسير منطقي له. فقد قطع معها في أوج العلاقة الغرامية، دون أي سبب واضح أو مقنع. ويبدو أنها حاولت أن تراه لآخر مرة قبيل سفرها مع زوجها إلى بلاد بعيدة. أن تراه في الشارع كما لو عن طريق الصدفة. وعندما اصطدمت به، قالت له: «ليباركك الله، وليكن كل شيء كما ترغب». وهذا يعني أنها استسلمت للأمر الواقع نهائياً، وأنه لا عودة بعد اليوم إلى ما كان. تراجع كيركيغارد خطوة إلى الوراء عندما رآها حتى لكأنه جفل. ثم حياها دون أن ينبس بكلمة واحدة. لم يستطع أن يرد. اختنق الكلام في صدره. لكأنه يقول بينه وبين نفسه: هل يحق لمن يقف على الخطوط الأمامية لجبهة الفكر، لجبهة النار المشتعلة، أن يتزوج؟ هل يحق لمن يشعر بأن حياته مهددة أن ينجب الأطفال؟ أطفاله هم مؤلفاته فقط. هل يحق لمن يصارع كوابيس الظلام أن يؤسس حياة عائلية طبيعية؟ ما انفك كيركيغارد يحاول تبرير موقفه، بعد أن شعر بفداحة ما فعل مع ريجين. لقد اعتقد أنه انفصل عنها، وانتهى الأمر، فإذا بها تلاحقه إلى أبد الآبدين. ما انفك يلوم نفسه ويتحسر ويتعذب. لكأنه عرف أن ما فعله جريمة لا تغتفر. نعم، لقد ارتكب جريمة قتل لحب بريء، حب فتاة غضة في أول الشباب. من يستطيع أن يقتل العاطفة في أولها، في بداية انطلاقتها، في عنفوانها؟ طيلة حياته كلها لم يقم كيركيغارد من تلك الضربة: ضربة الخيانة والغدر. وربما لم يصبح كاتباً وفيلسوفاً شهيراً إلا من أجل تبريرها. لقد لاحقه الإحساس القاتل بالخطيئة والذنب حتى آخر لحظة من حياته. إذا لم نأخذ هذه النقطة بعين الاعتبار فإننا لن نفهم شيئاً من فلسفة كيركيغارد. لقد أصبحت قصته إحدى أشهر قصص الحب على مدار التاريخ، بالإضافة إلى قصة دانتي وبياتريس، وروميو وجولييت، وأبيلار وهيلويز. ويمكن أن نضيف: مجنون ليلي، وجميل بثينة، وكثير عزة، وعروة وعفراء، وذا الرمة ومي... إلخ. العرب هم الذين دشنوا هذا الحب العذري السماوي الملائكي قبل دانتي وشكسبير بزمن طويل. ولماذا تنسون عنتر وعبلة؟ بأي حق؟

ولقد ذكرتك والرماح نواهلٌ

مني وبيض الهند تقطر من دمي

فوددت تقبيل السيوف لأنها

لمعت كبارق ثغرك المتبسم

بعد أن تجاوز فيلسوف الدنمارك تلك التجربة العاصفة، شعر وكأنه ولد من جديد، أصبح إنساناً جديداً. لقد انزاح عن كاهله عبء ثقيل: لا عائلة ولا أطفال ولا زواج بعد اليوم، وإنما معارك فكرية فقط. لقد طهره حب ريجين أولسين من الداخل. كشف له عن أعماقه الدفينة، وأوضح له هويته ومشروعه في الحياة. الحب الذي يفشل يحرقك من الداخل حرقاً ويطهرك تطهيراً. بهذا المعنى، فالحب الفاشل أفضل من الحب الناجح بألف مرة. اسألوا أكبر عاشق فاشل في العالم العربي. بعدها أصبح كيركيغارد ذلك الفيلسوف والكاتب الكبير الذي نعرفه. بالمعنى الأدبي للكلمة، وليس مفكراً فيلسوفاً فقط، بالمعنى النثري العويص الجاف. من ثم هناك تشابه كبير بينه وبين نيتشه مع الفارق، الأول مؤمن، والثاني ملحد. وأخيراً، لم ينفك كيركيغارد يحلل أعماقه النفسية على ضوء ذلك الحب الخالد الذي جمعه يوماً ما بفتاة في عزّ الشباب، تدعى ريجين أولسين. عبقريته تفتحت على أنقاض ذلك الحب الحارق أو المحروق. كان ينبغي أن تحصل الكارثة لكي يستشعر ذاته، ينجلي الأفق، يعرف من هو بالضبط. من كثرة ما أحبها تركها. لقد قطع معها لكي تظل - وهي العزيزة الغائبة - أشد حضوراً من كل حضور!