ثنائية البوح والكتمان

«أب سينمائي» للتشيلي أنطونيو سكارميتا

أنطونيو سكارميتا
أنطونيو سكارميتا
TT

ثنائية البوح والكتمان

أنطونيو سكارميتا
أنطونيو سكارميتا

انغمس الروائي التشيلي أنتونيو سكارميتا، سنوات طوالاً بالكتابة عن السياسة والنزعة الديكتاتورية لأنظمة الحكم في أميركا اللاتينية، ويمكن أن نشير بسهولة إلى ثلاث روايات صنعت شهرة الكاتب وأذاعَتْهُ بين القرّاء في مختلف أرجاء العالم، وهي: «ساعي بريد نيرودا»، و«حلمتُ بأنّ الثلج يحترق»، و«فتاة الترمبون»، لكنه يعرِّج بين آونة وأخرى على موضوعات اجتماعية، وعاطفية، ونفسية، كما في نوفيلا «أب سينمائي» الصادرة عن «دار ممدوح عدوان» في دمشق، التي ترجمها عن الإسبانية عمّار الأتاسي بلغة متدفقة جميلة.
يعترف سكارميتا بأنه تعلّم الكثير من أساطين الواقعية السحرية التي يمثّلها بورخيس وماركيز واستورياس وخوان رولفو وإيلينا غارو، لكنه ينتمي إلى الجيل الثاني الذي تألق فيه إدواردو غاليانو وريكاردو بيغليا وإيزابيل الليندي وسواهم من الروائيين الذين قارعوا الاستبداد، وتصدّوا للديكتاتورية، واختاروا أن يقفوا إلى جانب شعوبهم المقهورة، ويجاهروا بانتمائهم إلى اليسار الذي كلّفهم الشتات والغربة اللغوية في أضعف الأحوال.
وعلى الرغم من نأي سكارميتا عن السياسة في هذه النوفيلا، إلاّ أنه يلامس ارتداداتها التي تتمثل بالفقر، والشعور باليأس، والتأرجح على عتبة الانتحار. ولكي نقف على الثيمة الرئيسية والأفكار الفرعية المختزلة التي توارت خلف لغة مجازية مطعّمة بلمسات ساخرة، لا بد من الإشارة أولاً إلى ثيمة هذه النوفيلا التي ترد على لسان الطحّان كريستيان وهو يحذِّر صديقه المعلم جاك، قائلاً: «ثمة هنا في قريتنا برميل ديناميتٍ متفجِّر يا جاك فإذا ما أشعلَ أحدهم عود ثُقاب بالخطأ سيطير كل شيء متفجّراً في الهواء»، لكننا لم نعرف ما طبيعة هذا البرميل الممتلئ بالديناميت؟ هل هو سرّ، أم مفاجأة مؤجلة، أم خطأ فاحش اقترفته إحدى الشخصيات؟ أما الأفكار الفرعية فهي كثيرة، لكن أبرزها فكرة الفقد، والغياب، والحُب، والحَيرة، والخيانة، والكتمان، والبلوغ الجنسي، والمغفرة، والاستنارة بمعانيها المتعددة ثقافياً واجتماعياً وروحياً.
يشكّل عنوان النوفيلا «أب سينمائي» عتبة نصيّة نلج بواسطتها فضاء النص السردي، ونفهم أنّ هذه التسمية حقيقية، وليست مجازاً أو تورية، فعائلة بيير الصغيرة تحب السينما وترتادها مذ كانت في العاصمة سانتياغو قبل أن ينتقلوا إلى قرية كونتولمو، كما ترد في النص أسماء خمسة أفلام معروفة، من بينها «قفص الغيوم» و«النهر الهائج» و«ثائرون من دون قضية»، وكان بيير يشبّه زوجته في شبابها بممثلاث جميلات مثل ميلين دومونجو وبيير أنجيلي وغريتا غاربو، لكن هذا الأب الغامض سيختفي في اليوم الذي يصل فيه ابنه جاك بعد أن تخرّج في معهد إعداد المعلّمين. وفي اللحظة التي يترجل فيها جاك من القطار يأخذ والده القطار نفسه، مُدعياً أن سفينة تنتظره في مدينة فالباراسيو كي يسافر إلى باريس.
يقدّم لنا سكارميتا في الفصلين الأول والثاني، 6 شخصيات دفعة واحدة، وهي الأب بيير، وزوجته التي تغسل الشراشف، والابن جاك الذي أصبح معلّماً، وكريستيان صاحب الطاحونة، وسائق الشاحنة الذي ينقل الشراشف إلى «فندق أنغول»، ويأخذ معه القصائد التي يترجمها جاك عن الفرنسية إلى محرر صحيفة محليّة كي ينشرها في ملحق يوم الأحد.
وفي المدرسة، نتعرّف على أوغوستو، الطالب الكسول الذي بلغ عمره 15 سنة، ولا يزال في الابتدائية، ومن خلاله نُطلّ على شقيقتيه تيريسا (16 عاماً)، وإيلينا (19 عاماً)، بينما بلغ جاك نفسه الحادية والعشرين. تبدأ حبكة النص السردي بغياب الأب الذي ادعّى أنه سافر إلى باريس، ثم تتصاعد هذه الحبكة حينما نعرف أن إيلينا غابت هي الأخرى لمدة 9 أشهر، لكنّ جوهر القصة ظل غامضاً ومُلتبساً على القارئ، رغم أنّ أوغوستو الحالم بالبلوغ لا يجد حرجاً في تقديم أخته تيريسا إلى المعلم جاك، ونقل رسائلها العاطفية إليه مقابل أن يأخذه هذا الأخير إلى بيت مشبوه في بلدة أنغول، ليثبت تحوله إلى رجل بالغ. وعلى الرغم من توسلات تلميذه يذهب جاك مع صديقه كريستيان إلى أنغول، وبينما هو يسير صوب السينما شاهده الوالد، وسأله عمّا يفعله في أنغول؟ فتذرع بأنه يشتري هدية لتلميذه، لكن اللقاء يتكشّف عن مفاجأة الطفل الرضيع الذي وضعه الأب في العربة، وأشار إليه: «إنه أخوك إميليو!»، يرفض الأب تهمة الخيانة، لكنه يعترف بأنه قضى عمره في التخفّي، وأعلن عن موته رسمياً، وقد بلغت به الحيرة ذروتها، وهو يخشى على ابنه الرضيع من الساعات الطويلة التي يقضيها معه في قمرة العرض السينمائي الرطبة التي سببت له التهاباً في القَصَبات الهوائية. ولكي نقترب أكثر من دلالة العنوان لا بد لنا أن نتوقف عند مهنة الأب بيير الذي يعمل الآن عارضاً للأفلام التي تستدعي في العادة أماكن مفتوحة من الطبيعة أو المدن المأهولة بالسُكان، حتى تصل إلى «اللوكيشن» الواحد الذي قد يتضاءل إلى غرفة أو مصعد مغلق أو زاوية مُهمَلة، غير أن هذا الأب السينمائي يعيش الآن في مكان مظلم ومعزول، لكنه مناسب تماماً للاختباء بعيداً عن أعين الرقباء.
يعاود أوغوستو نقل رسائل شقيقته تيريسا إلى جاك التي تخاطبه قائلة: «إن وجودك يجعل الهواء مختلفاً»، أو «أنك مميز ولك نظرات ساحرة»، وما إلى ذلك من مشاعر جيّاشة لا يُخطئها حتى صاحب الحسّ البليد، كما يطلب منه أن يأخذه في السبت المقبل إلى أنغول حتى لو أمطرت السماء حجراً وسجّيلاً. وبينما كان الحضور يستمع إلى أغانٍ عديدة ويرقص في حفلة عيد الميلاد التي نظّمتها العائلة لأوغوستو أخبرته إيلينا بالمفاجأة التي لم يكن يتوقعها قائلة: «أنا وأنت لدينا شيء مشترك. سرّ!»، ولكنها طلبت منه أن يعِدها بالكتمان، فوافق، بعد أن عَلِم بأن الطحّان هو الشخص الوحيد الذي يعرف هذا السرّ، وأنه اصطحبه إلى الماخور لكي يُنسيه تيريسا. وكان السرّ هو إميليو، وأنّ إيلينا هي الأم الحقيقية له، وأنها السبب في غياب الوالد وتواريه عن الأنظار. ولعل الجملة المفصلية التي ترد على لسان إيلينا في هذا الحوار هي: «لا أريد لشقيقتي أن تعاني ما عانيته مع أبيك». وحينما يسألها عن سبب تخلّيها عن الطفل وعدم الاهتمام به، تردّ قائلة: «أود أن أكون ملكة لحياتي، وليس عبدة لطفل أحدهم». يعطي جاك تذاكر السينما لأمه، وينصحها بالذهاب إلى أنغول، لأن شقيقه الرضيع بحاجة إلى أم ترعاه، كما يزوّد تلميذه أوغوستو بورقة فيها كل التعليمات التي تُرشده إلى «لونا»، صانعة البهجة والمسرات الحميمة التي تنطوي عندها الصفحة الأخيرة من الرواية، لكن صداها يظل يتردد في ذاكرة القرّاء وكأنه فيلم سينمائي شديد الاستغراق في الرومانسية والخيال الجامح.



«العلاقات المشوهة» تجلب الانتقادات لصناع «وتر حساس» في مصر

لقطة من مسلسل «وتر حساس» (حساب صبا مبارك على «إنستغرام»)
لقطة من مسلسل «وتر حساس» (حساب صبا مبارك على «إنستغرام»)
TT

«العلاقات المشوهة» تجلب الانتقادات لصناع «وتر حساس» في مصر

لقطة من مسلسل «وتر حساس» (حساب صبا مبارك على «إنستغرام»)
لقطة من مسلسل «وتر حساس» (حساب صبا مبارك على «إنستغرام»)

تعرَّضت بطلات المسلسل المصري «وتر حساس»، الذي يُعرَض حالياً، لانتقادات على «السوشيال ميديا»؛ بسبب ما وصفها البعض بـ«علاقات مشوهة»، ووصل الأمر إلى تقدم نائبة مصرية ببيان عاجل، طالبت خلاله بوقف عرض المسلسل.

وأثار العمل منذ بداية بثه على قنوات «ON» جدلاً واسعاً؛ بسبب تناوله قضايا اجتماعية عدّها مراقبون ومتابعون «شائكة»، مثل الخيانة الزوجية، والعلاقات العائلية المشوهة، وطالت التعليقات السلبية صناع العمل وأداء بطلاته.

وقالت النائبة مي رشدي، في البيان العاجل: «إن الدراما تعدّ إحدى أدوات القوة الناعمة في العصر الحديث، لما لها من دور كبير ومؤثر في رسم الصورة الذهنية للمجتمعات والشعوب سلباً أو إيجاباً لسرعة انتشارها، وهي انعكاس ومرآة للمجتمع».

وأضافت: «هناك عمل درامي (وتر حساس) يُعرَض هذه الأيام على شاشات القنوات التلفزيونية، يحتاج من المهمومين بالمجتمع المصري إلى تدخل عاجل بمنع عرض باقي حلقات هذا المسلسل؛ لما يتضمّنه من أحداث تسيء للمجتمع المصري بأسره؛ فهو حافل بالعلاقات غير المشروعة والأفكار غير السوية، ويخالف عاداتنا وتقاليدنا بوصفنا مجتمعاً شرقياً له قيمه الدينية».

وتدور أحداث المسلسل، المكون من 45 حلقة، حول 3 صديقات هن «كاميليا» إنجي المقدم، وابنة خالتها «سلمى» صبا مبارك، و«رغدة» هيدي كرم، وتقوم الأخيرة بإرسال صورة إلى كاميليا يظهر فيها زوجها «رشيد»، محمد علاء، وهو برفقة مجموعة فتيات في إحدى السهرات، في حين كانت «كاميليا» تشك في زوجها في ظل فتور العلاقة بينهما في الفترة الأخيرة.

صبا مبارك ومحمد علاء في مشهد من المسلسل (قناة ON)

بينما تغضب «سلمى» من تصرف «رغدة» وتؤكد أنها ستكون سبباً في «خراب بيت صديقتهما»، وعند مواجهة كاميليا لزوجها بالصورة ينكر خيانته لها، ويؤكد لها أنها سهرة عادية بين الأصدقاء.

وتتصاعد الأحداث حين يعترف رشيد بحبه لسلمى، ابنة خالة زوجته وصديقتها، وتتوالى الأحداث، ويتبدل موقف سلمى إلى النقيض، فتبلغه بحبها، وتوافق على الزواج منه؛ وذلك بعد أن تكتشف أن كاميليا كانت سبباً في تدبير مؤامرة ضدها في الماضي تسببت في موت زوجها الأول، الذي تزوجت بعده شخصاً مدمناً يدعى «علي»، وأنجبت منه ابنتها «غالية».

وتعرف كاميليا بزواج سلمى ورشيد، وتخوض الصديقتان حرباً شرسة للفوز به، بينما يتضح أن الزوج الثاني لسلمى لا يزال على قيد الحياة، لكنه كان قد سافر للخارج للعلاج من الإدمان، ويعود للمطالبة بابنته وأمواله.

ويتعمّق المسلسل، الذي يشارك في بطولته لطيفة فهمي، ومحمد على رزق، وأحمد طارق نور، ولبنى ونس، وتميم عبده، وإخراج وائل فرج، في خبايا النفس الإنسانية، وينتقل بالمشاهدين إلى قضايا اجتماعية مثل فكرة الانتقام، والتفريط في الشرف، وتدهور العلاقات بين الأقارب، وصراع امرأتين على رجل واحد.

وتعليقاً على التحرك البرلماني ضد المسلسل، عدّ الناقد المصري محمد كمال أن «الأمر لا يستدعي هذه الدرجة من التصعيد». وقال لـ«الشرق الأوسط»: «إن العمل بالفعل مليء بالعلاقات المشوهة، التي لا تقتصر على الخيانة الزوجية، وإنما تمتد إلى خيانة علاقة الأقارب والأصدقاء فيما بينهم؛ فيظهر معظم أبطال العمل غير أسوياء، فالشخصية الرئيسة الثالثة في العمل (رغدة) تخون أيضاً صديقتيها سلمى وكاميليا، وكل ما تسعى وراءه هو جني المال، والإساءة إليهما!».

ويتابع كمال: «فاجأتنا الأحداث كذلك بأن طليق سلمى، ووالد ابنتها كان ولا يزال مدمناً، وكان قد عقد اتفاقاً معها في الماضي بتزوير أوراق تفيد بوفاته؛ كي يثير شفقة والده، ويكتب ثروته بالكامل لابنته غالية، ويسافر هو للعلاج، مع وعدٍ بأنه لن يرجع، وهو جانب آخر من الأفعال المنحرفة».

كاميليا وسلمى... الخيانة داخل العائلة الواحدة (قناة ON)

ويتابع: «وهكذا كل شخوص المسلسل باستثناءات قليلة للغاية، فهناك مَن اغتصب، وسرق، وخان، وقتل، وانتحر، لكن على الرغم من ذلك فإني أرفض فكرة وقف عمل درامي؛ لأن المجتمعات كلها بها نماذج مشوهة، والمجتمع المصري أكبر مِن أن يمسه أي عمل فني، كما أن الجمهور بات على وعي بأن ما يراه عملٌ من خيال المؤلف».

ويرى مؤلف العمل أمين جمال أن «المسلسل انعكاس للواقع»، ويقول لـ«الشرق الأوسط»: «إن قضية احتدام الصراع أصبحت سمة غالبة على علاقات البشر عموماً، وموجودة في العالم كله، ولا يمكن أن تنفصل الدراما عن الواقع».

وتابع: «المسلسل يأتي في إطار درامي اجتماعي مشوق، لذلك نجح في أن يجتذب الجمهور، الذي ينتظر بعد عرض كل حلقة، الحلقة الجديدة في شغف، ويظهر ذلك في تعليقات المشاهدين على (السوشيال ميديا)».

وأشار إلى أنه «بالإضافة لتقديم الدراما المشوقة، في الوقت نفسه أحرص على تقديم رسائل مهمة بين السطور، مثل عدم الانخداع بالمظهر الخارجي للعلاقات؛ فقد تكون في واقع الأمر علاقات زائفة، على الرغم من بريقها، مثل تلك العلاقات التي تجمع بين أفراد العائلة في المسلسل، أو العلاقة بين الصديقات».

من جهتها، هاجمت الناقدة الفنية المصرية ماجدة خير الله المسلسل، وتساءلت في حديثها لـ«الشرق الأوسط»: «لماذا هذا الحشد لذلك الكم الكبير من الخيانات بين الأزواج والأصدقاء والأقارب؟»، وقالت: «لست ضد أن تعرض الدراما أي موضوع أو قضية من قضايا المجتمع، على أن تقدم معالجة فنية بها قدر من التوازن بين الأبعاد المختلفة، لا أن تقتصر على جانب واحد فقط».

وعن القول إن العمل يقدم الواقع، تساءلت ماجدة: «هل هذا هو الواقع بالفعل؟ أم أن الواقع مليء بأشياء كثيرة بخلاف الخيانات وانهيار العلاقات بين الناس، التي تستحق مناقشتها في أعمالنا الدرامية، فلماذا يختار العمل تقديم زاوية واحدة فقط من الواقع؟».

وعدّت «التركيز على التشوهات في هذا العمل مزعجاً للغاية، وجعل منه مسلسلاً مظلماً».