الأعمال الفوتوغرافية للمغربي أحمد بن إسماعيل توثق لروح المكان والزمان

تعيد بناء منجز الكُتاب في علاقة بملامحهم.. فيما تتبدى مراكش عبر حقيقتها

الفنان المغربي أحمد بن إسماعيل
الفنان المغربي أحمد بن إسماعيل
TT

الأعمال الفوتوغرافية للمغربي أحمد بن إسماعيل توثق لروح المكان والزمان

الفنان المغربي أحمد بن إسماعيل
الفنان المغربي أحمد بن إسماعيل

تحولت الأعمال الفوتوغرافية للفنان التشكيلي أحمد بن إسماعيل إلى ذاكرة تخزن أمكنة مراكشية شهيرة ووجوه فنانين وأدباء أجانب عشقوا البلد، أو مغاربة ساهموا بقسط وافر في المسار الفني والأدبي المغربي المعاصر. صورٌ بالأبيض والأسود، ترسم لها مسارا تواصل منذ ثمانينات القرن الماضي، يجمع عددا من المتتبعين على أهميتها، يقولون إنها تسهم في التوثيق للذاكرة العمرانية والثقافية المراكشية والمغربية، في أبعادها المختلفة.
يتحدث الشاعر الصالحي عن بن إسماعيل، الإنسان والفنان، فيقول: «مذ سعدت بالتعرف إلى بن إسماعيل، دنوت من حقيقة مراكش، فصرت أرى مراكش من خلال نظرتي إليهما وأنا جالس في صورة من عشرات الصور الملتقطة لي من طرفه. إنه يقود نظرنا نحو الوجهة التي تندلف منها الحقيقة، حقيقة المكان وحقيقة الزمان، وحقيقة الذات في آن. إنّه يعيدنا إلى صوابنا، لنكتشف خيباتنا، ولنتيقن من أننا كنا واهمين: فالمدن القدرية، ومراكش على رأسها، مدن لا تُرى بالعين المجردة، بل من خلال عين أسيانة رأتها في أزمنة سابقة، تماما كما سعد رولان بارت برؤية أخي نابليون الأصغر، جيروم في صورة، فقال قولته الشهيرة، التي افتتح بها كتابه عن التصوير (العلبة النيرة): «ها قد رأيت العين التي رأت الإمبراطور». أتذكر بارت ثانية، يصيح: «هنا كان علي أن أعيش»، وهو يتأمل صورة فوتوغرافية لشارل كليفورد أخذها لقصر الحمراء في الأندلس. من هنا أهمية بن إسماعيل: «إنه لا يصور المكان، بل روح المكان. فهل أقول إنّ الأجيال اللاحقة لنا محظوظة لأنها سترى مراكش عبرنا. فأحمد بن إسماعيل لا يرى، إنّه ينظر. وشتان، في الفوتوغرافيا، بين الرؤية والنظر. فقد جمع هذا الفنان، بين حماسة النفس وحماسة الحِرفة، فحاز بذلك صفة الفوتوغرافي الناجح».
يشدّد الصالحي على أنّ «صورة بن إسماعيل تنطوي على دفقات الزمن حيث الصيرورة والسيرورة معا. صورة تناولك الدقائق التي تعجز اللغة والسينما والتشكيل على القبض عليها. ليست الصورة الفوتوغرافية عند هذا الفنان تأبيدا للحظة، بل هي كشف عن الحقيقة الزمنية التي توارت خلف الأكاذيب والأباطيل. كشف لما هي عين المكان منذورة له».
يزيح بن إسماعيل الغبار والأتربة عن مراكش، فتتبدى المدينة الحمراء، حسب الصالحي: «مدهشة عبر حقيقتها؛ مزيجا من الزنوجة والتوحش والخفة والمرح وإيقاع معتدّ بنفسه وما شئت. إنّها الإثنولوجيا والأنثروبولوجيا ملفوفتان في قدر تاريخي بهيج. إن صورته ليست مسطحة، بل هي نسيج من الهيروغليفيات، تماما كما الدمية الروسية. من هنا، فبن إسماعيل باشلاري (نسبة إلى غاستون باشلار) الهوى، إذ معرفة الألفة، حسب باشلار، كما الوقوف عند أماكنها، أكثر إلحاحا من التاريخ. بن إسماعيل لا يؤرخ بل يجعلنا ننخرط في الدفء الأصلي لفردوسنا المادي، حسب باشلار، دائما».
ينتهي الصالحي، بعد الإشارة إلى معرض بن إسماعيل «آثار الليل»، وكتاب «ضوء الليل» الذي هو عمل مشترك مع الكاتب إدمون عمران المليح، إلى أن عمل هذا الفنان «يحتاج إلى اجتهاد خصب يقربنا من مغامرة هذه العين الذكية اللاقطة. إنّه العين التي تنظر، العين التي بها ننظر. إنّ أبعاد لعبته غير مدركة من لدن كثيرين، إن لعبته خطرة».
بالنسبة لمراد القادري، الشاعر والباحث ورئيس بيت الشّعر في المغرب، فـ«على الرّغم من حَداثة فنّ التصوير الفوتوغرافي في المغرب، الذي لم يعْرفْ ديناميَته الحقيقيّة إلّا في عِقد الثمانينات من القرن الماضي»، فبن إسماعيل «استطاع، منذ هذا التاريخ، أنْ يحتلّ موقعاً مميّزا ضِمن كوكبة فنّاني التصوير الفوتوغرافي، على قلّتهم».
ويرى القادري أنّ «ابن مدينة مراكش، التي يتعانقُ فيها الظّل والضّوء، استطاع، عبر آلة التصوير التي احترفَ مُعانقتها، أن يرسُمَ لنا لوحاتٍ فنية تنبضُ بالبهجة والحيرة وتدعُونا لشحْذ ليس العين وحدها، بل كلّ الحواس من أجل فهْم وسبر أغوارِ عالمه التصويري الذي ينقله لنا بقلبه ووجْدانه عبر بوابة عينٍ لاقِطة ذكية».
واستحضر القادري، في هذا السياق، صورا، هي عبارة عن بورتيرهات شِعرية لبعض الكتّاب المغاربة، في لحظة تجلّيهم أمام كاميرا بن إسماعيل. تجلٍّ، قال عنه إنّه «يقطعُ، من جهة، مع الصّورة النّمطية ذات الملمح الإداري الصرف التي لطالما شاهدناها على صفحات الجرائد وفي الملاحق والمجلات الثقافية»؛ حيث نكون أمام «صورة تعيد بناءَ المنجز النصي للكاتب في علاقة مع ملامحه. صورة مختلفة لا يرتدي فيها الكاتب بذلة رسمية ولا يضعُ ربطة عنق، بل يأتينا أعزل إلّا من بياضه وسواده تاركا للنصّ حُرية تلوين خيالنا ووجداننا».
وختم القادري، بالقول: «هكذا، صار بإمكاننا أنْ نشاهد كُتابنا من زاوية أخرى، هي تلك التي يقترحُها علينا بن إسماعيل؛ حيث الكاتب بسيطٌ عفوي، غير مُكترث بالاستعراض أو الفرجة، منصرف إلى تفاصيله البسيطة، في ذات الوقت الذي تتصيّده عينٌ هناك. عينُ نسر غير جارح».
يرى الباحث والفنان التشكيلي محمد البندوري في بن إسماعيل «الذاكرة الثقافية والفكرية والفنية والاجتماعية»، الذي «خَبَر الصورة الفوتوغرافية واستفاد من تجربته في الفن التشكيلي»، فـ«راكم تجارب كثيرة وخبرات كبيرة أهّلته لأن يحمل المعنى المتكامل للصورة الفوتوغرافية كما للوحة التشكيلية، فطرق المواضيع المختلفة بمسلك صريح لإشكاليات فلسفية، ليتشعب في العمق الأدبي والثقافي والفكري من زوايا متعددة، مركزُها الرئيس: الإنسان والشخصية والعمران، فوظف لفعل ذلك - بوعي تام - تقنيات عالية، وصنع منجزا فنيا ضخما على مستوى تشكيل العمل التجريدي وعلى مستوى تشكيل الصورة الفوتوغرافية بما يتوفر عليه من حس فني رفيع ومن ذوق رقيق، وفهم دقيق للعمل الفني في مجمله».
وزاد البندوري أن بن إسماعيل «قدم تصورات جديدة وأفكارا تتجسد في فنيات تصويرية معضدة بالقيم الفنية والجمالية»، فـ«أسهم في الحفاظ على الذاكرة الثقافية في أبعادها المختلفة»، مستفيدا من موهبته وحسه الفني اللذان ساعداه في «رصد المشاهد ذات القيم الدالة على معاني ثقافية وفنية واجتماعية»، مستهدفا في منجزه «اصطياد البعد الجمالي في علاقته بالمضامين»، ناهجا في سبيل ذلك «عدة مسالك فنية للتوليف بين المشاهد والشخوصات والمضامين، برؤيته الفنية الماتعة التي تحول المنتوج الفني إلى منتوج بلاغي وبياني متعدد الدلالات والمعاني». وبذلك، يضيف البندوري، فأعمال بن إسماعيل «تنبني على الصياغة الجمالية وعلى البعد المضاميني وعلى التوازن الإبداعي، ليشكل جهازا مفاهيميا يرتكز عليه في متناولاته الفنية، فيبتكر ويبدع وينوع في الشكل ويرتقي بالمادة الفنية إلى المستوى البلاغي، بتسويغ في السمات الجمالية، بصدق في الأداء وحرية في التعبير بالصورة واللون».
من جهته، اختار الشاعر والفنان التشكيلي عزيز أزغاي أن يتناول تجربة بن إسماعيل انطلاقا من علاقته به كفنان، والتي ترجع إلى أزيد من ثلاثين سنة، عاشا خلالها، رفقة أصدقاء مشتركين، أجمل محطات مغامرتيهما الفنيتين، شعرا وتصويرا فوتوغرافيا وصباغيا.
وعدد أزغاي عددا من الصفات الجميلة التي يتميز بها بن إسماعيل، والتي «تجعل منه مواطنا لا بد منه»، بحيث «لا تحلو زيارة مدينة مراكش، مرقد سبعة رجال، أولياءها الصالحين المشهورين، دون الالتقاء بثامنهم، سيدي أحمد بن إسماعيل، حارس مآثرها الشامخة وأزقتها الخلفية ودروبها المعتمة ورجالاتها من أهل الثقافة والفن والرياضة والإبداع».
ورأى أزغاي أن شهرة بن إسماعيل «بدأت بآلة تصويره الفوتوغرافية، التي لا تكاد تفارقه، سواء عندما كان مقيما في مدينة الدار البيضاء أو بعدما عاد أدراجه إلى مدينته الحمراء. وحتى حينما استعاض عن هذه الآلة العجيبة بالألوان والقماش والورق، ظل يخبئها في محفظته المحمولة، تحسبا لاقتناص أي لحظة عابرة، يحرص على تحويلها، بعد حين، إلى وثيقة تاريخية تذكرنا بالذي مضى».
وكما برع بن إسماعيل في مهمته التوثيقية، يضيف أزغاي، فقد «أبان عن موهبة فذة في مجال التصوير الصباغي، من خلال تلك اللوحات التي لا تتشبه بأعمال غيره. أعمال تعكس روحه المرحة وعمق تجذره في تربة هذا البلد».
يختم أزغاي بالإشارة إلى أن «اهتمام بن إسماعيل لا يقتصر على توثيق صداقاته ومشاهداته في الصور، وإنما يتعداه كذلك إلى تسجيل والحفاظ على ريبرتوار غناء الملحون المغربي عامة والمراكشي بوجه خاص، حفظا وكتابة وإشاعة بين الخُلص من أصدقائه في جلساته الخاصة. وهو حينما يقوم بكل ذلك، فلكي يحافظ على روح ذلك الطفل المراكشي الذي يسكنه، مخافة أن تداهمه عوادي الزمن وتقلباته المريرة التي تأكل الروح».



موسوعة لتوثيق أعمال سعيد العدوي مؤسس جماعة التجريبيين بمصر

أعمال سعيد العدوي اتسمت بالتجريد والأفكار الشعبية (الشرق الأوسط)
أعمال سعيد العدوي اتسمت بالتجريد والأفكار الشعبية (الشرق الأوسط)
TT

موسوعة لتوثيق أعمال سعيد العدوي مؤسس جماعة التجريبيين بمصر

أعمال سعيد العدوي اتسمت بالتجريد والأفكار الشعبية (الشرق الأوسط)
أعمال سعيد العدوي اتسمت بالتجريد والأفكار الشعبية (الشرق الأوسط)

تأتي موسوعة الفنان سعيد العدوي (1938-1973) لترصد مسيرة مؤسس جماعة التجريبيين المصريين وأحد أبرز فناني الحفر والجرافيك في النصف الثاني من القرن العشرين.

وتتضمن الموسوعة، حسب قول المشرف عليها والباحث في شؤون الحركة الفنية المصرية الدكتور حسام رشوان، المئات من أعمال العدوي ويومياته ومذكراته واسكتشاته، مدعومة بعدد كبير من الدراسات التي تم إعداد بعضها خصوصاً من أجل هذه الموسوعة، ومعها دراسات أخرى نشرها أصحابها في صحف ومجلات ومطبوعات خاصة بالفن في مصر والوطن العربي.

وقال لـ«الشرق الأوسط»: «إن مقدمة الدكتورة أمل نصر تتناول جميع المقالات، والزاوية التي نظر منها الناقد لأعمال العدوي موضع الدراسة، كما تقوم بقراءتها وتحليلها وبسط عناصرها أمام الباحثين ومحبي فنه».

موسوعة العدوي تضمنت اسكتشاته ورسوماته (الشرق الأوسط)

وتأتي موسوعة العدوي التي نشرتها مؤسسة «إيه آر جروب» التي يديرها الفنان أشرف رضا، في صورة مونوغراف جامع لكل أعماله، التي تعبق برائحة الماضي، وعالم الموشحات، وحلقات الذكر والمشعوذين، وعربات الكارو والحنطور، وتجمعات الموالد والأسواق والأضرحة، فضلاً عن لوحة «الجنازة» بعد رحيل عبد الناصر. وجمعت الموسوعة كل كراساته واسكتشاته بالكامل، ومذكراته الخاصة التي كتبها وتعتبر دراسات نفسية قام بكتابتها، وقد ساعدت هذه المذكرات النقاد والباحثين في فن العدوي على تناول أعماله بصورة مختلفة عن سابقيهم الذين تصدوا لفنه قبل ظهورها، وفق رشوان.

ولأعمال العدوي طابع خاص من الحروفيات والزخارف والرموز ابتكرها في إبداعاته وهي تخصه وحده، وتخرّج العدوي ضمن الدفعة الأولى في كلية الفنون الجميلة بالإسكندرية عام 1962، وأسس مع زميليه محمود عبد الله ومصطفى عبد المعطي جماعة التجريبيين. وتأتي الموسوعة باللغة العربية في قطع كبير بالألوان، تزيد على 600 صفحة، من تصميم وتجهيز وإنتاج طباعي «إيه آر جروب» للتصميم والطباعة والنشر.

الموسوعة ضمت العديد من الأعمال الفنية ودراسات عنها (الشرق الأوسط)

وتتضمن الموسوعة، وفق رشوان، دراستين جديدتين للدكتور مصطفى عيسى، ودراسة لكل من الدكتورة ريم حسن، وريم الرفاعي، والدكتورة أمل نصر، ودراسة للدكتورة ماري تيريز عبد المسيح باللغة الإنجليزية، وجميعها تم إعدادها خصوصاً للموسوعة، وهناك دراسات كانت موجودة بالفعل للدكتور أحمد مصطفى، وكان قد جهّزها للموسوعة لكن عندما أصدرت مجلة فنون عدداً خاصاً عن فن العدوي قام بنشرها ضمن الملف، وإلى جانب ذلك هناك بحث عن أعمال العدوي للراحلين الدكتور شاكر عبد الحميد والفنان عز الدين نجيب وأحمد فؤاد سليم ومعهم عدد كبير من النقاد والفنانين الذي اهتموا برائد التجريبيين المصري وأعماله.

والتحق سعيد العدوي بمدرسة الفنون بالإسكندرية سنة 1957، وقبلها بعام كان في كلية الفنون بالزمالك، وقضى خمس سنوات لدراسة الفن في عروس البحر المتوسط، أما الأعمال التي تتضمنها الموسوعة وتوثق لها فتغطي حتى عام 1973؛ تاريخ وفاته. وهناك عدد من رسوم الكاريكاتير كان قد رسمها وقت عمله بالصحافة، وهذه الأعمال اهتمت بها الموسوعة ولم تتجاهلها لأنها تكشف عن قدرات كبيرة للعدوي وسعيه للدخول في مجالات عديدة من الفنون التشكيلية، وفق كلام رشوان.

من أعمال العدوي (الشرق الأوسط)

ولفت إلى أن «تراث العدوي بكامله بات متاحاً من خلال الموسوعة للباحثين في فنه والمهتمين بأعماله وتاريخ الفن التشكيلي المصري، وقد توفر لدى كتّاب الموسوعة عدد مهول بالمئات من اللوحات الكراسات والاسكتشات، فأي ورقة كان يرسم عليها اعتبرناها وثيقة وعملاً فنياً تساعد في الكشف عن رؤية العدوي التشكيلية وعالمه الخَلَّاق».

ولا تعتمد الموسوعة فكرة التسلسل الزمني، لكنها توثق عبر المقالات كل الأعمال التي تناولتها، من هنا بنى رشوان رؤيته وهو يرسم الخطوط الرئيسية لفن العدوي على الدراسات البانورامية التي تشتغل بحرية كاملة على الأعمال دون التقيد بتاريخها.

وسبق أن أصدر الدكتور حسام رشوان، بالاشتراك مع الباحثة والناقدة الفرنسية فاليري هيس، موسوعة فنية عن رائد التصوير المصري محمود سعيد عن دار «سكيرا» الإيطالية عام 2017 بمناسبة مرور 120 عاماً على ميلاد محمود سعيد، وتضمنت الموسوعة في جزئها الأول أكثر من 500 لوحة و11 مقالاً ودراسة نقدية.