«الكوميكس».. هل يصبح شغف الكبار بعد أن فتن الأطفال؟

«الفن التاسع».. ازدهر بعد الثورات العربية

من أعمال لينا مرهج  -  من أعمال مازن كرباج
من أعمال لينا مرهج - من أعمال مازن كرباج
TT

«الكوميكس».. هل يصبح شغف الكبار بعد أن فتن الأطفال؟

من أعمال لينا مرهج  -  من أعمال مازن كرباج
من أعمال لينا مرهج - من أعمال مازن كرباج

فن صاعد في المنطقة العربية، لا بل في العالم أجمع، كان يتوجه للأطفال، في القرن الماضي، فإذ به في القرن الحادي والعشرين يصبح شغف الكبار، وإلهام الفنانين، الذين أطلقوا مجلاتهم ومواقعهم الإلكترونية، وكتبهم وورش عملهم.
فن «الكوميكس» أو ما يطلق عليه «القصص المصورة»، بدأ يتحرر من قيوده عربيا، بعد الثورات، لكنه في لبنان، وبسبب الانفتاح الثقافي، وصل باكرا قليلا. فقد أطلقت مجموعة من الشباب عام 2007 مشروع «السمندل»، بموقعه الإلكتروني، وكذلك المجلة التي أخذت تصدر عدة مرات في السنة، يروي فيها فنانون لبنانيون وعرب وغربيون، قصصا مصورة، بإحدى اللغات الثلاث؛ العربية والفرنسية والإنجليزية. وقتها، كانت المبادرات لا تزال فردية ومتفرقة، بينما كانت الجزائر تستعد لإطلاق مهرجانها السنوي للقصة المصورة، الذي وصل اليوم إلى دورته السابعة ويشهد نشاطا دوليا مهما، ويستقطب الفنانين من العالم، كما أن دورته الأخيرة كانت بمثابة مناسبة لرصد آخر مبتكرات فن الكوميكس في المنطقة العربية.
بعض الدول العربية كانت سباقة، يقول حاتم إمام، الآتي من فن التصميم، وأحد المؤسسين الأربعة لمجلة «السمندل» في بيروت، ويشرح: «حين أصدرنا المجلة عام 2007، كانت كل المبادرات لا تزال فردية، وثمة محاولات سبقتنا وتوقفت. بعد (السمندل)، أصدرت مجموعة من الشباب في مصر مجلة (توك توك) تعرفنا إليهم وتعاونا معهم، وبرزت المزيد من المحاولات لإصدار مجلات في لبنان منها (طش فش)، والملاحظ أن الكتب والمجلات المصورة التي تتوجه للكبار في المنطقة العربية في تزايد».
بعض الرسامين لا يزالون يتذكرون جاد خوري، الذي كانت له محاولات في سبعينات القرن الماضي، وهناك آخرون أيضا، لكن التجارب بقيت غير ناضجة. الرسامة نجاح طاهر ترى أن «جاد خوري لم يصل في أعماله إلى ما يمكن أن يسمى قصصا مصورة بمعناها الحديث اليوم».
هنري ماثيوس، الأستاذ في الجامعة الأميركية ببيروت، حاول أن يرصد هذا الفن منذ بداياته في لبنان والعالم العربي من خلال كتابه «موسوعة منشورات الشريط المصور (كوميكس) اللبنانية»، وعرض تلك المجلات الأولى التي كانت تتوجه للصغار، منها المعرب مثل «سوبرمان» و«الوطواط»، وذات الإبداع المحلي مثل مجلتي «سامر» و«أحمد»، أو جمعت بين المحلي والمعرب مثل مجلة «بساط الريح». ويرى أن هذا الفن لم يعنَ أحد بتوثيقه وتتبع مساره وتاريخه. لكن الحقيقة أن بدء هذا الفن مع الصغار، جعل البعض يظن لغاية اليوم أن «الكوميكس» هو للأطفال دائما. ويقول مؤلفو القصص المصورة، إن كتبهم غالبا ما يظن أصحاب المكتبات أنها يجب أن توضع في قسم الصغار، وثمة قراء عرب لم يستوعبوا لغاية اللحظة أن هذه القصص تخاطبهم، وبمقدورهم أن يشتروها ويستمتعوا بها.
مايا زنكول التي أصدرت كتابين مصورين لغاية اليوم، ترى نفسها كاتبة بالدرجة الأولى تستعين بالرسم لإيصال فكرتها. وتقول إنها عانت كثيرا كي تجد ناشرا، لكنها بعد صدور الكتاب الأول اكتشفت أن القراء أكثر عددا مما كانت تتوقع، واضطرت إلى عمل طبعة جديدة. أما كتابها الثاني، فقد أصبح بعد صدوره من بين الكتب الأكثر مبيعا في محلات «فيرجن» ببيروت. مايا تنتظر صعودا متواصلا لنجم القصص المصورة في المنطقة العربية، «لأن الناس باتت تقرأ أقل، ومن ثم هناك تفضيل للصورة مع جمل قصيرة، بحيث يصبح الكتاب أكثر جاذبية. لا شك في أن كثيرين يفضلون جملا مكتنزة وسريعة على قراءة 3 صفحات مثلا»
يتبادر للبعض أن الأب الشرعي للقصص المصورة هو فن الكاريكاتير، لكن هذا ليس صحيحا تماما، إذ إن البعض يعيده إلى الكتابات الجدارية المقترنة بالرسوم منذ أيام الفراعنة والرومان، ليثبت أن هذه النزعة قديمة عند الإنسان، وأنها تطورت بفضل الطباعة وانتشار الكتب، لكنها لم تأخذ شكلها الفني الحديث إلا مع قصص الأطفال في أميركا وأوروبا، بدءا من ثلاثينات القرن الماضي. لكن النظرة إلى هذا الفن بقيت دونية، وقراءته لم تشجع بصفته مصدر معرفة وثقافة للأطفال، وإنما مجرد تسال لتقطع الوقت، رغم أن أبطاله تحولوا إلى شخصيات سينمائية مثل سوبرمان.
لكن، في السنوات العشر الأخيرة، وبفضل تشعب الفنون، وتطور مجالي التصميم والغرافيك، ودخول الرسم بشكل متزايد إلى متن الحياة اليومية، تعززت مكانة «الكوميكس». وهناك أسباب أخرى - يقول حاتم أمام - منها سهولة «الكوميكس وضآلة تكاليفه. فهذا فن يسمح بالتعبير بيسر ومن دون تكاليف باهظة. نحن في (السمندل) استطعنا أن نبدأ بتمويل صغير، وهذا كان كافيا لنا». التكنولوجيا كان لها دور كبير أيضا في انتشار الكوميكس، فغالبية الفنانين يضعون قصصهم ورسومهم على الشبكة العنكبوتية، ولهم صفحات وقراء. «إنه فن قائم على الربط بين الكلمة والرسم - يشرح إمام - ومن هنا تتأتى قوته، ومن ثم فهو يحتاج للكلمة البليغة والرسم المعبر».
مايا زنكول، لا تحب أن تطلق على العاملين في مجال الكوميكس، صفة فنانين بالمعنى الكلاسيكي للكلمة، وتقول إن بعضهم آتى من مجالات فنية، والبعض الآخر ليس كذلك. «الغالبية تريد أن توصل رسالتها، أن تقول كلمتها. ليس المقصود هنا رسم عمل فني يدوم ويبقى، ويعلق على حائط أو يجري تأمله أو اقتناؤه، ما يراد هو نقل الفكرة بوسائل جذابة. لذلك، فإن بعض العاملين في هذا المجال متخصصون في الكومبيوتر، أو الإعلانات». وتتابع زنكول: «الكوميكس، بالنسبة لي وسيلة وليس غاية، وقد بات جزءا من الحياة وليس مجرد قصص في كتاب أو مجلة. لذلك، فإن العاملين في مجال الكوميكس، قد يرسمون لدور نشر، أو لمواقع بالإنترنت أو يعملون في الإعلانات، والبعض يستعان بهم من قبل (الهيئات المدنية) للمساعدة في حملات إنسانية مثلا، أو لإقامة ورش عمل». وتضيف: «أنا من ناحيتي، لست فنانة، أنا أكتب وأفضل أن أقرن ما أكتبه برسوم، تجعل فكرتي أسلسل وأقرب إلى نفس القارئ».
فن الكوميكس متسع ومتشعب ومتعدد الأغراض والأهداف؛ فبالإمكان استخدام الكوميكس في موضوع فلسفي، أو لغرض سياسي، وربما لحملة أخلاقية أو انتخابية، أو لمجرد الترفيه، وربما من أجل الكلام على البيئة، أو الدفاع عن قضية فلسطين، وهو ما حدث تكرارا. ويبدو أن غالبية قراء الكوميكس في لبنان هم من الشباب الذين تتراوح أعمارهم بين 20 و35 سنة، وهؤلاء يتزايد عددهم، مما يشي بأن الكوميكس سيكون رائجا أكثر فأكثر، بعد أن أصبح جزءا من يومياتنا، سواء اشترينا كتابا من القصص المصورة أو تسلل إلى حياتنا عبر هواتفنا، وربما من إعلانات تلفزيونية أو على مواقع إخبارية.
لا يريد حاتم إمام الربط بين الثورات العربية وصعود نجم الكوميكس في المنطقة العربية، رغم أن ثمة ميلا كبيرا إلى ذلك، ويشرح: «صحيح أن التغيير السياسي وأجواء الحرية يؤثران في النتاج الثقافي، لكن الكوميكس بصفته وسيلة تعبير هو منبر وأداة، تصلح لكل الأزمنة والظروف».
3 مدارس رئيسة للكوميكس؛ وهي الأميركية والأوروبية (فرانكو - بلجيكية)، واليابانية (المانجا)، حتى هذه المدارس طرأت عليها تحولات في السنوات الأخيرة. تأخر العرب في اللحاق بفن الكوميكس للكبار، لكنه لم يدخل مجال الأدب في أميركا مثلا إلا منذ ما يقارب الـ10 سنوات، بحسب حاتم إمام. ويتابع: «نحن أخذنا وقتنا ولا نزال نعاني سوء تقدير هذا الفن من ناحية، وعدم تصديق أنه يتوجه لمن هم فوق الـ18 وهذه نحدده على مجلتنا (السمندل)، لكننا نعود ونجدها مع كتب الأطفال».
«القصص المصورة» أو ما يعرف بالفن التاسع، بدأ في المنطقة العربية مع «سوبرمان» و«الوطواط» و«لولو وطبوش» و«ماجد»، وبرزت في حينها أسماء لفنانين مثل مازن ومعلوف في مصر، لكن القفزات السريعة التي حدثت في السنوات الأخيرة، دفعت إلى الواجهة بعشرات الأسماء بينها ما بات شهيرا، وثمة من يراهن على أن المستقبل للفن التاسع سيكون كبيرا. هناك نقطة مهمة أيضا وهي أن عددا لا يستهان به من فناني الكوميكس العرب يكتبون بالفرنسية والإنجليزية بدل العربية، وهو ما يطرح السؤال حول جدوى أن يخاطب فن على هذا القدر من التماس مع الحياة اليومية، جمهوره بلغة غير لغته الأم.



متى ينتهي زمن الوصاية على الفنان العربي؟

من أعمال الفنان ثائر هلال
من أعمال الفنان ثائر هلال
TT

متى ينتهي زمن الوصاية على الفنان العربي؟

من أعمال الفنان ثائر هلال
من أعمال الفنان ثائر هلال

كان للسوري خالد سماوي مشروع رؤيوي مهم عبر، من خلال قاعته «أيام»، عن سعته في احتواء التجارب الفنية العربية، السورية منها بشكل خاص. ولقد سعدت حين رأيت ذات مرة معرضاً للفنان ثائر هلال في قاعة «أيام بلندن». ما فعله سماوي كان ريادياً من جهة أنه كان جديداً من نوعه. فلأول مرة هناك قاعة عربية تعرض لفنانين عرب وسط لندن. وفي دبي كانت له قاعة أيضاً. ولكن سماوي كان قبل ذلك قد فشل في فرض فكرته عن الاحتكار الفني المعمول به عالمياً يوم أصدر فنانون سوريون بياناً يتخلون من خلاله عن العلاقة بقاعته.

أتذكر منهم عيد الله مراد ويوسف عبد لكي وفادي يازجي وياسر صافي. السوريون يعرفون بضاعتهم أكثر منا. من جهتي كنت أتمنى أن ينجح خالد سماوي في مشروعه. فهو رجل طموح، ما كان لشغفه بالفن أن ينطفئ لولا جرثومة الوصاية التي تصيب أصحاب القاعات الفنية الناجحين في العالم العربي. في العالم هناك وصاية يمارسها صاحب قاعة على عدد من الرسامين الذين يتعامل معهم وهو ما يُسمى الاحتكار المحدود، غير أن ما يحدث في العالم العربي أن تلك الوصاية تتحول إلى وصاية وطنية شاملة. كأن يمارس شخص بعينه وصاية على الفن التشكيلي في العراق ويمارس آخر وصاية على الفن في لبنان وهكذا.

الخوف على المال

حين بدأ اهتمام المزادات العالمية بعد أن أقامت فروعاً لها في دبي بالنتاج الفني العربي، حرصت على أن تقدم ذلك النتاج بوصفه جزءاً من بضاعتها القادمة من الشرق الأوسط وشمال أفريقيا وليس من العالم العربي. ومن الطبيعي أن يكون لتلك المزادات خبراؤها الذين حتى وإن لم تكن لهم دراية فنية أو معرفة تاريخية بتحولات الحداثة الفنية في العالم العربي فإنهم كانوا على استعداد لصناعة تاريخ مجاور من أجل الترويج للبضاعة المعروضة. وبذلك صنعت المزادات إحداثيات زائفة، ذهب ضحيتها الكثير من رجال الأعمال العرب الذين لم يسمعوا بشيء اسمه النقد الفني، وهم لذلك لم يعدّوا ما يقوله نقاد الفن العرب مرجعاً يُعتد به. كانت كتيبات ومنشورات المزادات هي مرجعهم الوحيد الموثوق به. وإذا ما قلنا لهم اليوم «لا تصدقوا ما يقوله خبراء المزادات» فسيسخر الكثير من مقتني الأعمال الفنية منا، لا لشيء إلا لأن ذلك يؤثر على القيمة المادية للأعمال الفنية التي اقتنوها.

الأسوأ من ذلك أن الكثير من أصحاب القاعات الفنية في مختلف أنحاء العالم العربي صاروا يتحينون الفرص من أجل أن يتم عرض ما تكدس لديهم من أعمال فنية في تلك المزادات بسبب معرفتهم بحقيقة أن خبراءها لا خبرة لهم بالفن في العالم العربي وأن وصايتهم عليه مستلهمة من قوة المال لا من قوة الثقافة.

غياب سلطة النقد

لقد انتهى النقد الفني في العالم حين انتصر عليه المال. عبر أكثر من عشر سنوات لم تُعقد ندوات نقدية عن الفن في العالم العربي إلا بطريقة فقيرة بعيداً عن المراكز الحيوية التي كانت سوق الفن تحقق فيها نجاحاتها وأرباحها. لم يكن ذلك إلا انتصاراً لإرادة الخبراء الأجانب الذين نجحوا في العمل بعيداً عما يسببه نقاد الفن من صداع وإزعاج. في ذلك الفراغ تم تمرير الكثير من الأعمال المزورة كما تم إسباغ أهمية فنية على فنانين لا قيمة تاريخية أو فنية لأعمالهم.

قبل سنوات اتصلت بي سيدة نمساوية وطلبت اللقاء بي في أحد مقاهي لندن. حين التقيتها عرفت أنها اشترت مجموعة من الأعمال الورقية بنصف مليون درهم إماراتي رغبة منها في الاستثمار. حين رأيت تلك الأعمال اتضح لي أن تلك المرأة كانت ضحية لعملية استغفال، وأنها لن تتمكن من إعادة بيع ورقياتها لأنها لا قيمة لها. فجعت المرأة برأيي وكان واضحاً عليها أنها لم تصدقني. ذلك ما يفعله كل مقتني الأعمال الفنية العرب فهم لا يرغبون في أن يصدقوا أنهم كانوا ضحايا عمليات احتيال متقنة. في ظل غياب سلطة النقد الفني واختفاء النقاد أو اكتفاء بعضهم بالمتابعات الصحافية بعد أن أجبرتهم لقمة العيش على التحول إلى صحافيين، تستمر المزادات في تكريس سلطتها معتمدة على أموال المقتنين العرب.

محاولة لكسر الوصاية الأجنبية

وإذا ما تركنا المزادات وما يجري في كواليسها جانباً واتجهنا إلى أسواق الفن التي صارت تُقام سنوياً في مدن بعينها، فسنكتشف أن تلك الأسواق تُدار من قبل خبيرات أوروبيات. أصحاب القاعات الفنية العربية الذين شاركوا في العرض في تلك الأسواق يعرفون حقائق أكثر من الحقائق التي نعرفها ولكنهم لا يصرحون بها خشية على مصالحهم. ذلك لأن هناك شبكة من المنتفعين من تلك الأسواق في إمكانها أن تضر بهم أو هو ما يتوهمونه. ليس لأن المال جبان كما يُقال، بل لأن الإرادة ضعيفة. قيام سوق فنية عربية للفن هو الحل. ولكن ذلك الحل لن يكون ممكناً إلا بتضافر جهود أصحاب القاعات الفنية في العالم العربي. حقيقة أنا معجب بتجربة التعاون الحيوي والخلاق والنزيه بين غاليري مصر في القاهرة وغاليري إرم في الرياض. وفق معلوماتي، هذه هي المرة التي يتم فيها اختراق الحدود العربية بنتاج فني عربي. أجمل ما في الموضوع أن ذلك لا يتم من خلال فرض وصاية لا على الفن ولا على الفنانين. ليست الفكرة مدهشة فحسب، بل مفردات تنفيذها أيضاً. ذلك لأنها لا تقوم على تبادل ثقافي بين بلدين عربيين بقدر ما هي مساحة لعرض أعمال فنانين عرب بغض النظر عن هوياتهم الوطنية. ذلك التعاون مهم، كما أنه لا ينهي الوصاية الأجنبية على الفن في العالم العربي فحسب، بل أيضاً لأنه يمهد لولادة سوق نزيهة ومنصفة للفن.

حين حُول الفنانون إلى أجراء

في ظل غياب الملتقيات الفنية العربية نشط البعض في إقامة لقاءات فنية، غالباً ما تكون الجهات الراعية لها لا علاقة لها بالثقافة. فهي إما فنادق تسعى إلى الاستفادة من أوقات الكساد السياحي أو مصارف تقتطع الأموال التي تنفقها على النشاط الفني من الضرائب التي تدفعها. وهكذا ولدت ظاهرة اصطلح على تسميتها «السمبوزيوم». ذلك تعبير إغريقي يعني مأدبة الشرب من أجل المتعة مصحوباً بالموسيقى والرقص أو الحفلات أو المحادثة. ومن تجربتي الشخصية - وقد حضرت عدداً من تلك اللقاءات - فإن الأمر لا يخرج عن ذلك التوصيف إلا في منطقة واحدة، وهي أن القائمين على الـ«سمبوزيوم» كانوا يمارسون على الفنانين وصاية تجعلهم أشبه بالأجراء. لقد رأيت الرسامين والنحاتين يذهبون في ساعة محددة إلى العمل الذي لا ينتهون منه إلا في ساعة محددة. كان حدثاً فجائعياً أن يُطلب من الرسام أن يرسم ومن النحات أن ينحت.

كنت أشعر باليأس كلما رأيت تلك المشاهد. من الإنصاف القول هنا إن هناك مَن رفض أن ينضم إلى تلك الظاهرة حفظاً لكرامته. لذلك صار القيمون على تلك اللقاءات يتداولون فيما بينهم قوائم الفنانين الصالحين للوصاية. يشهد العالم لقاءات فنية شبيهة كل يوم. غير أنها لقاءات حرة فيها الكثير من البذخ، لا يشعر الفنان فيها بأن كرامته قد خُدشت وأنه صار أجيراً.


الإسباني لبينيتو بيريز غالدوس... البيروقراطي في متاهته

غالدوس
غالدوس
TT

الإسباني لبينيتو بيريز غالدوس... البيروقراطي في متاهته

غالدوس
غالدوس

رواية «مياو» لبينيتو بيريز غالدوس، التي صدرت في منتصف مسيرته المهنية، بترجمة مارغريت جول كوستا من الإسبانية، 302 صفحة، تصوّر معاناة موظف حكومي بيروقراطي مُسرّح من عمله.

كنت تعرّفتُ على روايات القرن التاسع عشر عندما كنتُ في الحادية عشرة من عمري، وأعيش مع عائلتي في مدريد. لكن القرن التاسع عشر الذي تعرّفتُ عليه لم يكن إسبانياً. وإذا كانت المكتبة الصغيرة للمدرسة البريطانية التي التحقتُ بها قد تضمّنت أعمالاً مترجمة لبينيتو بيريز غالدوس، فأنا لا أتذكرها، مع أن مدريد هي المدينة التي تدور فيها معظم رواياته. بدلاً من ذلك، كان هناك رفّ من روايات ديكنز، قرأتها بنهمٍ، وإن كان عشوائياً، ناسية حبكاتها وأنا أقرأها. كان غالدوس، الذي يصغر ديكنز بثلاثين عاماً قارئاً نهماً لأعمال الروائي الإنجليزي في شبابه، ويمكن ملاحظة تأثير ديكنز في شخصياته المتنوعة، وأنماطه المرسومة بشكل واسع، ومشاهده لقذارة المدن. ويشترك الكاتبان أيضاً في حماسة الإصلاح، مع أن شخصيات ديكنز في إنجلترا تُكافح التصنيع السريع، بينما في إسبانيا تُواجه شخصيات غالدوس عجز الحكومة وقوى رجعية راسخة.

غالدوس غير معروف في العالم الناطق باللغة الإنجليزية، وإن لم يكن ذلك بسبب قلة جهد المترجمين والناشرين.

عندما شرعت في كتابة هذه المراجعة، تخيلت أن عدداً قليلاً فقط من كتبه قد تُرجم، ولكن في الواقع، ظهرت نحو ثلاثين رواية باللغة الإنجليزية على مدار المائة وخمسين عاماً الماضية، نُشر العديد منها أكثر من مرة. هذه الروايات لم يبقَ منها إلا القليل، ومن المرجح أن يكون القراء المعاصرون الذين سبق لهم الاطلاع على أعمال جالدوس قد قرأوا إحدى الروايتين: «فورتوناتا وجاسينتا» (1887) أو «تريستانا» (1892)، اللتين تجذبان قراء مختلفين. «فورتوناتا وجاسينتا» رواية واقعية طموحة تُصعّد من حدة الأحداث، وتُعتبر عموماً أعظم رواية إسبانية في القرن التاسع عشر. وهي تروي قصة امرأتين على علاقة برجل واحد (غير جدير بالثقة)، بالإضافة إلى قصة مدينة مدريد، من مركزها النابض بالحياة إلى ضواحيها المتوسعة. أما «تريستانا»؛ فهي رواية أقصر وأكثر غرابة، وتدور حول فتاة يتيمة في التاسعة عشرة من عمرها يتبناها صديق لوالدها ويستغلها ببراعة. وكان لويس بونويل قد حوَّلها إلى فيلم سينمائي، وأصبحت من كلاسيكيات السينما. (قام بونويل أيضاً بتكييف روايتي غالدوس «نازارين» و«هالما»، والأخيرة بعنوان «فيريديانا»).

لم تُترجم روايتا «فورتوناتا» و«جاسينتا» إلى الإنجليزية حتى عام 1973، أي بعد نحو قرن من نشرها الأصلي. ربما يُعزى ذلك جزئياً إلى حجمها الضخم، لكن هذا التأخير يُشير إلى تدني مكانة إسبانيا في أدب القرن التاسع عشر - ففي نهاية المطاف، يُعتبر طول رواية مثل: «الحرب والسلام» أو «البؤساء» وسام فخر.

وقد يُشار أيضاً إلى ميل القراء المترجمين إلى توقع أن تُناسب الأدبيات الوطنية نمطاً مُعيناً - رومانسياً وتقليدياً في حالة إسبانيا القرن التاسع عشر. عند الأجيال السابقة، كانت رواية «دونيا بيرفكتا» أشهر رواية غالدوس بالإنجليزية، وهي عمل مبكر عن أم ريفية مُسيطرة تُحبط زواج ابنتها من ابن عمها الحضري. لغتها وحبكتها ميلودرامية، وأجواء قريتها أبسط من مدريد فورتوناتا وجاسينتا متعددة الطبقات. لكن موضوعها الأساسي - إسبانيا الحديثة الليبرالية في حرب مع قوى التقاليد المفسدة - حاضر في جميع أعماله الروائية.

تحت تأثير الكوميديا الإنسانية لبلزاك، شرع غالدوس في سبعينات القرن التاسع عشر في أولى روايتين ضخمتين، إحداهما تاريخية والأخرى اجتماعية. وفي هذه الأيام، تحول الاهتمام في إسبانيا إلى روايته التاريخية: «الحلقات الوطنية»، وهي غير متوفرة في الغالب باللغة الإنجليزية. كان هذا مشروعاً ضخماً: ست وأربعون رواية، نُشرت في خمس سلاسل على مدار مسيرته المهنية، تناول فيها تاريخ الصراع المستمر بين الملكيين الإسبان والليبراليين خلال القرن التاسع عشر.

* خدمة «نيويورك تايمز»


قصيدة الحداثة في مقاربات نقدية جديدة

قصيدة الحداثة في مقاربات نقدية جديدة
TT

قصيدة الحداثة في مقاربات نقدية جديدة

قصيدة الحداثة في مقاربات نقدية جديدة

أصدرت الهيئة العامة لقصور الثقافة كتاب «سيمياء الخطاب الشعري... مقاربات نقدية في الشعرية المعاصرة» للناقد والأكاديمي المصري الدكتورأحمد الصغير، أستاذ الأدب العربي.

يقدم الكتاب عبر (428) صفحة من القطع المتوسط، رؤى تأويلية لعوالم قصيدة النثر، من خلال رصد الملامح الجمالية والمعرفية في قصيدة الحداثة، ويعتمد على مقاربة سيميائية تأويلية من خلال إجراءات السيمياء والتأويل عند روبرت شولز، وبيرس، وجريماس، وسعيد بنكراد، وكمال أبو ديب، وعز الدين إسماعيل، وصلاح فضل، وجابر عصفور، ومصطفى ناصف... وغيرهم.

يتكون الكتاب من مقدمة وتمهيد وتسع عشرة قراءة نقدية، منها: بنية الخطاب الدرامي في الشعرية العربية المعاصرة، بناء الرمز في قصيدة محمد سليمان، بلاغة المفارقة في توقيعات عز الدين المناصرة، تعدد الأصوات في ديوان «هكذا تكلم الكركدن» لرفعت سلام، «قراءة في الشعر الإماراتي، عين سارحة وعين مندهشة» للشاعر أسامة الدناصوري، «في المخاطرة جزء من النجاة»... قراءة في ديواني «حديقة الحيوانات ومعجزة التنفس» للشاعر حلمي سالم، قراءة في ديوان «الأيام حين تعبر خائفة» للشاعر محمود خير الله، قراءة في ديوان «الرصيف الذي يحاذي البحر» للشاعر سمير درويش، قراءة في ديوان «أركض طاوياً العالم تحت إبطي» للشاعر محمد القليني، أسفار أحمد الجعفري «قليل من النور، كي أحب البنات»، شعرية الأحلام المجهضة «لعبة الضوء وانكسار المرايا» للنوبي الجنابي، قراءة في «مساكين يعملون في البحر» للشاعر عبد الرحمن مقلد، وشكول تراثية في قصيدة علي منصور، وصوت الإسكندرية الصاخب في شعر جمال القصاص، وشعرية الحزن في ديوان «نتخلص مما نحب» للشاعر عماد غزالي، وشعرية المعنى في ديوان «في سمك خوصة» للشاعر محمد التوني، وشعرية المجاز عند أسامة الحداد.

يقول الصغير في المقدمة: تأتي أهمية هذا الكتاب من خلال الوقوف على طرح مقاربات نقدية استبصارية، معتمدة على المقاربات التطبيقية للقصيدة العربية المعاصرة تحديداً، وذلك للكشف عن بنية الخطاب الشعري في الشعرية العربية المعاصرة، مرتكزاً على منهجية معرفية محددة؛ للدخول في عوالم القصيدة المعاصرة، مستفيدة من مقاربات السيميائية والتأويلية بشكل أساس؛ لأن القصيدة العربية، في وقتنا الراهن، ليست بحاجة إلى شروح تقليدية، لأنها صارت قصيدة كونية، ثرية في المبنى والمعنى، تحتاج لأدوات نقدية متجددة، تسهم في عملية تفكيكها وتأويلاتها اللانهائية، كما يطرح البحث أدوات الخطاب الشعري التي اتكأ عليها الشعراء المعاصرون، ومن هذه الأدوات «الرمز الشعري، المفارقة بأنواعها، والدرامية، الذاتية، والسينمائية، السردية، وغيرها من الأدوات الفنية الأخرى».

يذكر أن أحمد الصغير، يعمل أستاذاً للأدب والنقد الحديث بكلية الآداب، جامعة الوادي الجديد. ومن مؤلفاته «بناء قصيدة الإبيجراما في الشعر العربي الحديث»، و«النص والقناع»، و«القصيدة السردية في شعر العامية المصرية»، و«القصيدة الدرامية في شعر عبدالرحمن الأبنودي»، و«تقنيات الشعرية في أحلام نجيب محفوظ». و«آليات الخطاب الشعري قراءة في شعر السبعينيات»، و«التجريب في أدب طه حسين».