توفر الروائح الجسدية لدى الإنسان قناة تواصل تطورت لمساعدته على البقاء والنمو. وفي السنوات الأخيرة تبين أن لغة التواصل هذه أكثر ثراء مما كنا نتوقعه، فقد كشفت الدراسات الحديثة عن أن رائحة كل شخص فريدة من نوعها ولا تتشابه حتى في التوائم المتطابقة، وأن الروائح التي تنطلق من أجسامنا تساعدنا على تكوين روابط أسرية، وتجذبنا نحو الشريك، وتبعدنا عن الخطر والمرض والعدوان، بل وحتى تسمح لنا باستنشاق سعادة الآخرين. لكن، وعلى مر العصور وعبر الثقافات المختلفة، قام الناس بالاغتسال وإزالة الروائح الكريهة والتعطر لإخفاء روائحهم الطبيعية.
رائحة التواصل
تتساءل كاميلا فردنزي، الباحثة في المركز الوطني الفرنسي للبحث العلمي «CNRS» في ليون، خلال بحثها المنشور في يونيو (حزيران) 2019 بمجلة «فيزيولوجي آند بيهيفير Physiology and Behavior» عن أنه لو كانت هذه الروائح هي فعلاً شكلاً من أشكال التواصل؛ فلماذا نكرهها؟ حيث تشير الدلائل الحديثة إلى أن البشر تخلصوا من الروائح الكريهة إلى حد ما ولم يعودوا مهتمين بالتحدث عنها.
يبدأ دور الرائحة في حياة الإنسان قبل أن يولد. يقول بينوست شآل، الباحث الطبي بالمركز نفسه في بحثه المنشور في عدد نوفمبر (تشرين الثاني) 2018 من المجلة نفسها، إن كثيراً من الروائح الكيميائية من الأطعمة يمكن أن تعبر المشيمة مما يعطي الأجنة طعماً مشابهاً لما تأكله أمهاتهم. وقد يساعد ذلك في تفسير السبب الذي يتعرف به الأطفال بعد الولادة على رائحة حليب أمهاتهم ونكهته اعتماداً على طبيعة تغذيتها. حتى إن فريق البحث الذي يقوده شآل وجد أن رائحة الأم تساعد دماغ المولود الجديد في التعرف على الوجوه، مما يشير إلى أن دور الرائحة في السن المبكرة مهم في العمليات البصرية. كما أن رائحة رأس المولود الجديد تنشط دوائر مهمة في أدمغة البالغين تماماً مثلما يحدث عند تلقي العلاج أو تناول الدواء، وهي طريقة فعالة تذكر الآباء برعاية أطفالهم.
مصادر الرائحة
تتبخر رائحة الأطفال حديثي الولادة بعد 6 أسابيع من الولادة، لكن مع تقدم العمر تؤثر مجموعة واسعة من المتغيرات على الحالة الشخصية للطفل مثل النظام الغذائي والعمر والخصوبة والمرض وحتى الحالة الذهنية.
ما السبب الذي يجعل كل إنسان له رائحة خاصة تميزه عن بقية البشر؟ الإجابة أن عالم الروائح البشرية عالم واسع ومعظم معرفتنا به محصورة في الإبطين، وهذا هو الاعتقاد الخاطئ بشكل عام عن رائحة الجسم، رغم أن رائحة الإبطين تختلف عن الروائح الضارة الأخرى، فهي ليست سيئة بالمعنى المطلق. يقول آندرياس ناش، الباحث في شركة «غيفودان» للعطور، في كتابه المنشور عام 2017 والموسوم: «دليل سبرينغر في الرائحة»، إن رائحة الجسم لا تحتوي على مواد كيميائية متطايرة مرتبطة بمواد مثل الحليب المتحمض أو المواد العفنة أو البراز. رغم أن رائحة النفس ورائحة القدمين قد تكون كذلك. وبدلاً من ذلك، فإن رائحة الإبطين تحتوي على 3 مكونات رئيسية هي الثايولات (thiols) والستيرويدات (steroids) ومجموعة متنوعة من الأحماض؛ جميعها تفرز على أنها مواد عديمة الرائحة ثم تتحول إلى روائح كريهة بفعل الميكروبات التي تعيش في أجسامنا.
ويضيف آندرياس ناش: «نحن نعلم أن علم الوراثة يلعب دوراً مهماً، وأن الميكروبات، وليس المكونات أو الأحماض، هي التي تحدد مدى قوة الرائحة، لكننا ما زلنا لا نعرف كل الخطوات التي تساهم في العملية».
الرائحة الكريهة
بشكل عام يميل الأشخاص الذين لديهم كثير من البكتريا من جنس «كوراينيبكتريم Corynebacterium» في أجسامهم والأكثر شيوعاً لدى الرجال، إلى امتلاكهم رائحة نفاذة، في حين أن الأشخاص الذين لديهم كثير من بكتريا المكورات العنقودية تكون عندهم الرائحة الكريهة بمستوى أقل. والرجال عادة أكثر تعرقاً من النساء، وتنتج أجسامهم مزيداً من المواد الأساسية لتغذية البكتريا المنتجة للروائح، وهو سبب آخر في أنهم أكثر رائحة من النساء. ويضيف ناش أن الأنف البشري ذو حساسية عالية تجاه رائحة الإبطين.
وحتى وقت قريب، كان من المعتقد أنه يمكن اكتشاف نحو 10 آلاف رائحة فقط، إلا إن هذه الفكرة دحضت في عام 2017 من قبل جون ميغان من جامعة روتجرز في نيوجرسي في بحثه المنشور بمجلة «Science Research». وبمقارنة التشريح العصبي لـ24 من الثدييات، وجد أن البشر يستطيعون أن يشموا تريليون رائحة مختلفة كما هي الحال لدى الكلاب أو الفئران.
ومع ذلك، فإن فكرة أن الرائحة أقل أهمية بالنسبة لنا، لا تزال قائمة. يقول نوعام سوبيل من «معهد وايزمان للعلوم» في بحثه المنشور في (مايو (أيار) 2019 بمجلة «طبيعة السلوك البشري Nature Human Behavior»: «نحن البشر لا نسير عادة نحو الغرباء ولا نحاول أن نشمهم علناً، بل نقوم بشم أيدينا لأكثر من مرة بعد مصافحة شخص غريب. والمصافحة ليست سوى واحدة من الطرق الدقيقة التي تختبر بواسطتها رائحة الشخص الغريب».
ورغم الحماس الشائع لهذه الفكرة، فإنه لا يوجد دليل مقنع على وجود «فيرومونات pheromones» (وهي مواد كيميائية تطورت لتحفز سلوكاً محدداً لدى الفرد الذي تنبعث منه الرائحة) معينة تدفع إلى الانجذاب الجنسي، إلا إن كثيراً من الباحثين؛ ومنهم ترسترام وايت من جامعة أكسفورد في بحثه المنشور عام 2015 في نشرة «ساينس بلوغ» على الإنترنت، يعتقدون أن الإنسان ربما يقوم بإنتاج الفيرومونات. وهو يعتقد أن «الفيرومونات سيتم اكتشافها بين الأمهات وأطفالهن؛ حيث إننا نعلم بالتأكيد أن الرائحة تلعب دوراً في الترابط، وأن الأمهات يمكنهن التعرف على رائحة أطفالهن بعد دقائق من الولادة».
بلا شك أن رائحة الجسم تلعب دوراً أوسع في التعرف على الأقارب، لكن الدراسات أظهرت نتائج متضاربة بشكل كبير. تقول إيلونا كروي، من جامعة دريسدن التقنية بألمانيا، في بحثها المنشور في أغسطس (آب) 2019 بمجلة «فيزيولوجي آند بيهيفير»، إن التعرف على الأقارب يعتمد على المعرفة والمكون الوراثي، وتؤكد على أنه ليس بمقدور جميع الأمهات التعرف على رائحة أطفالهن، «لكن إذا فعلن ذلك، فإنهن يفضلن ذلك كثيراً على رائحة الأطفال الآخرين، حيث إن الألفة أكثر أهمية» كما تقول.
شم رائحة الخوف
أحدث الدراسات الوصفية المنشورة عام 2017 لا تترك أي شك في أننا يمكن أن نشم رائحة الخوف والتوتر والقلق في الروائح الجسدية للآخرين. وفي الآونة الأخيرة قام باحثون في مختبر «سوبل» بتحليل عرق الغواصين بعد قفزتهم الأولى، ووجدوا أنه يحتوي على 29 مركباً متطايراً لم يكن معروفاً سابقاً. وبالمثل وبتحليل العرق من المتصارعين داخل الأقفاص، اكتشف جان هافليك وزملاؤه من جامعة جارلس في جمهورية التشيك، في بحثه المنشور عام 2019 بمجلة «إيثولوجي (علم السلوك)» أنه يمكن للناس تحديد هوية الفائزين والخاسرين، مما يوحي بأن الرائحة تساعدنا على إدراك «الهيمنة». كما وجد «سوبل» أن استنشاق الدموع الناتجة عن المشاعر السلبية يقلل من هرمون التيستوستيرون لدى الرجال ربما من خلال مادة كيميائية متطايرة تسمى «هكساديكنال Hexadecanal» والتي تنظم العدوانية لدى بعض البشر. كما أظهرت بعض الدراسات أن شم رائحة الشخص القلق قد يعزز حالة التعاطف معه.
ولم يُجرَ كثير من الدراسات حول ما إذا كانت رائحة الجسم تنقل المشاعر الإيجابية، لكن تبين أن رائحة الشخص الذي نحبه يمكن أن تقلل من التوتر. تعتقد كاميلا فردنزي أن رائحة الانفعالات العاطفية حتى عند الغرباء قد تساعد في توضيح سبب السعادة المُعدية، وأظهر فريقها أن رائحة الأشخاص السعداء تولد استجابات فسيولوجية جيدة في الآخرين.
النظافة الشخصية
لأسباب واضحة تماماً نعمل بجدية على تذليل رائحة أجسامنا، من خلال فهمنا العلاقة بين سوء النظافة الشخصية والمرض. ونعلم أيضاً أن الاغتسال يمكن أن يزيد من فرصنا في الحياة. في الواقع يجادل علماء الأنثروبولوجيا (علم الإنسان) بأن مواقفنا المتغيرة تجاه النظافة الشخصية تزامنت مع ظهور التحضر؛ كما تقول عاسفة ماجد، من جامعة يورك في المملكة المتحدة، في بحثها المنشور في (يونيو) 2019 بمجلة «كونجتف نيروسايكولوجي (علم النفس العصبي المعرفي)».
من جهته؛ يضيف ناش أن هناك تاريخاً أطول بكثير من النظافة الشخصية في شرق آسيا؛ الأمر الذي قد يساعد في تفسير الحقيقة الغريبة المتمثلة في أن كثيراً من الآسيويين ليست لديهم رائحة الإبطين بفضل طفرة وراثية في جين يدعى «ABCCII»، وأن 95 في المائة من الشعب الصيني ونحو 70 في المائة من شعوب شرق آسيا، لا يولدون المركبات الكيميائية السلفية لإنتاج رائحة الإبطين، ولا نعرف متى حدث هذا التغيير.
رائحة الجسم... قناة تواصل غنية للعلاقات البشرية
التحضر قاد الإنسان إلى محاولات إخفائها
رائحة الجسم... قناة تواصل غنية للعلاقات البشرية
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة