ألبرتو فرنانديز... طموحه وتحديه إنقاذ الأرجنتين اقتصادياً

الرئيس «البيروني» المرتقب يؤمن بأن «الجوع هو العار الأكبر»

ألبرتو فرنانديز...  طموحه وتحديه إنقاذ الأرجنتين اقتصادياً
TT

ألبرتو فرنانديز... طموحه وتحديه إنقاذ الأرجنتين اقتصادياً

ألبرتو فرنانديز...  طموحه وتحديه إنقاذ الأرجنتين اقتصادياً

في مستهل هذا العام، كان ألبرتو فرنانديز رئيساً سابقاً للوزراء على عهد الرئيس الأرجنتيني الأسبق نيستور كيرشنر، ثم على عهد زوجته الرئيسة السابقة كريستينا فرنانديز كيرشنر، وكان قد قرر الانكفاء عن العمل السياسي، وانصرف للتدريس في جامعة بوينس آيرس. لكن في منتصف مايو (أيار) الفائت، تمكنت كريستينا كيرشنر من إقناعه بالترشح لمنصب رئيس الجمهورية في الانتخابات التي ستُجرى يوم غد (الأحد)، على أن تكون هي المرشحة لمنصب نائب الرئيس.
وبعد ساعات قليلة من الإعلان عن ذلك الاتفاق المفاجأة، سخرت أصوات داخل حكومة الرئيس اليميني الحالي ماوريسيو ماكري من تلك المناورة، ووصفت ألبرتو فرنانديز بأنه دمية في يد كيرشنر، ولم تتردد في الإعراب عن ارتياحها لما قدرت أنه خطأ فادح في حسابات المعارضة، ويقينها بأن نتيجة الانتخابات الرئاسية ستكون لصالح الرئيس الحالي.
ولكن بعد الانتخابات الأولية للرئاسة - وهي انتخابات يتفرد بها النظام الأرجنتيني، ولا صفة رسمية لنتائجها سوى أنها ترسم صورة لتوزيع القوى المتنافسة - التي مُني فيها الرئيس ماكري بهزيمة قاسية، أصبح فرنانديز الرئيس الافتراضي للأرجنتين بانتظار تثبيت فوزه في الانتخابات النهائية الحاسمة أواخر الشهر الحالي، وانقلبت حياته رأساً على عقب بين ليلة وضحاها.
من هو ألبرتو فرنانديز الذي يناديه المقربون بـ«الأستاذ» (El Profesor)؟ وكيف وصل إلى عتبة رئاسة الأرجنتين بعدما قرر العزوف عن مزاولة النشاط السياسي والانصراف إلى العمل الأكاديمي والحياة الخاصة؟

التحول الكبير في المشهد السياسي الأرجنتيني بدأ أواخر العام الماضي، عندما ضاقت حلقة الملاحقات القضائية حول الرئيسة السابقة كريستينا فرنانديز كيرشنر، بسبب اتهامات بالفساد المالي، والضغط لوقف تحقيقات قانونية خلال عهدها، واقتراب مواعيد المحاكمات التي لا تستطيع التنصل منها خارج الحصانة الرئاسية.
الرئيسة السابقة كانت تدرك أن الرئيس الحالي ماوريسيو ماكري، الذي لا يملك سجلاً سياسياً يذكر، وينتمي إلى إحدى أغنى العائلات في الأرجنتين، جاء على أنقاض الخلافات العميقة في أوساط الحركة البيرونية. والمعروف أن هذه الخلافات تفاقمت على عهدها، وبلغت درجة من القطيعة والانقسامات الداخلية بات من المتعذر معها استعادة زمام الحكم في القريب المنظور. وفي ضوء هذه المعطيات، قررت أن باب الخلاص الوحيد أمامها هو في إعادة الوحدة إلى الحركة عبر خوض الانتخابات الرئاسية المقبلة.
بيد أن عودة كيرشنر إلى واجهة المشهد داخل الحركة البيرونية (يسار وطني) كانت دونها عقبات كبيرة، أبرزها العداء الشديد الذي تكنه لشخصها تيارات وازنة داخل الحركة، خصوصاً داخل الولايات والأوساط النافذة. وبالتالي، كلفت مجموعة من المقربين بجس نبض الجهات المناهضة لها، وإبلاغ تلك الجهات بأسفها لأخطاء الماضي، خصوصاً إبان ولايتها الرئاسية الثانية، متعهدة بفتح صفحة جديدة.

المقرب الموثوق
أحد الذين بلغتهم مقترحات كيرشنر ونياتها كان ألبرتو فرنانديز، الذي كان رئيس وزراء زوجها نيستور طوال فترة ولايته، ورئيس وزرائها في السنة الأولى من ولايتها عام 2007. وكان فرنانديز قد قرر قطع علاقاته بشكل نهائي معها، بسبب ما عده أفدح الأخطاء التي ارتكبتها، وهي الحرب المفتوحة التي شنتها ضد الشركات الزراعية الكبرى، الوازنة اقتصادياً وشعبياً في الأرجنتين، وإصرارها على المضي فيها حتى النهاية، وهو ما أدى إلى اتساع رقعة الخلافات داخل الحركة البيرونية، وتعميق الشرخ بين تياراتها اليسارية والوسطية. ومع ابتعاد فرنانديز عن الصفوف الأمامية في المشهد السياسي، وانصرافه إلى تدريس القانون الجنائي في الجامعة، راح يوجه انتقادات قاسية لسياسة الرئيسة وإدارتها، لدرجة أنه دعا إلى مناوأتها عندما ترشحت لولاية ثانية.
ومن ثم، وبعد أشهر من الاتصالات والجولات الاستشارية في أوساط الحركة البيرونية، تبين لكريستينا كيرشنر أن كفة الرافضين لعودتها إلى موقع القيادة راجحة على كفة الجاهزين لتأييدها. وهنا، ظهر اسم ألبرتو فرنانديز، الرجل الذي يجمع كل الخبرات السياسية والإدارية الممكنة: كبير المستشارين على عهد الرئيس الأسبق راؤول ألفونسين، والمسؤول المالي عن حملة خلفه إدواردو دوالدي، ثم مدير الحملة الانتخابية لنيستور كيرشنر ورئيس وزرائه، وحليف الزعيم البيروني البارز سيرجيو ماسّا بعد انشقاقه عن كريستينا كيرشنر. ويقول المتابعون لتلك الاتصالات إن الرئيسة السابقة تمكنت من إقناعه بقبول اقتراحها بعد يومين فقط من المفاوضات. وحقاً، في 18 مايو (أيار) الفائت، أعلنت الحركة البيرونية ترشيح ألبرتو فرنانديز لرئاسة الجمهورية وكريستينا كيرشنر لمنصب نائب الرئيس.
رهان اليمينيين... الفاشل
أحد المستشارين المقربين من الرئيس الحالي ماوريسيو ماكري علق يومها على ذلك الترشيح بقوله: «لم يكن بوسعهم ارتكاب خطأ أفدح؛ ألبرتو فرنانديز لم يربح انتخابات واحدة في حياته، ولا يتمتع بأي تأييد شعبي... وهو دمية بأيدي كريستينا؛ لم يعد هناك من شك في أنه سيعاد انتخاب ماكري».
كثيرون أيضاً كانوا يؤيدون تلك القراءة، لأن قلة هم الذين أدركوا وقتها أن ترشيح ألبرتو - وللعلم، استخدام الاسم الأول (وليس الكنية) شائع في السياسة الأرجنتينية - لم يكن يستهدف استقطاب الأصوات، بقدر ما كان يرمي إلى امتصاص الغضب الذي تثيره عودة كريستينا إلى الواجهة، وتوحيد الحركة البيرونية.
وحده ألبرتو فرنانديز كان قادراً على كسب ثقة حكام الولايات البيرونية الرافضين عودة الرئيسة السابقة، وثقة التيار المعتدل الذي يقوده سرجيو ماسّا. ووحده في الحركة كان القادر على مد الجسور، وفتح قنوات الحوار مع مراكز المال ووسائل الإعلام التي تكن شديد العداء للتيار الذي تقوده كريستينا كيرشنر.
وبالفعل، خلال الحملة التي مهدت للانتخابات الأولية، حرصت كريستينا على الظهور دائماً في الصف الثاني وراء فرنانديز، خصوصاً إبان المهرجان الختامي في مدينة روزاريو (ثاني كبرى مدن الأرجنتين) الذي حضرته جميع القيادات البيرونية لأول مرة مجتمعة منذ 28 سنة.
ومع اقتراب موعد الانتخابات الأولية، يوم 11 أغسطس (آب) الفائت، كانت معظم الاستطلاعات ترجح تعادل المرشَّحَين، وارتفاع نسبة الناخبين المترددين في حسم قرارهم، والذين كانت تميل أوساط الرئيس الحالي إلى عدهم من أنصاره الذين لا يريدون الكشف عن خيارهم تأييد المرشح الذي أدت سياسته الاقتصادية إلى تفاقم الأزمة الاجتماعية والمعيشية بشكل خطير، وهو الذي جاء على وعد بمعالجتها وإنهاض البلاد من محنتها المديدة.
إلا أنه سرعان ما تبين أن تلك الأصوات كانت مؤيدة في السر للرئيسة السابقة المحاصرة بملاحقات قضائية بتهم الفساد، والمعروفة بنزعتها الاستبدادية. وجاءت نتائج الانتخابات الأولية لتؤكد أن نصف الناخبين تقريباً يعدن ألبرتو فرنانديز، متحداً مع الحركة البيرونية، هو الخيار الأفضل للخروج من الأزمة، إذ حصل فرنانديز على 47 في المائة من الأصوات، ويكفيه أن يحصل غداً على 45 في المائة ليفوز برئاسة الجمهورية، مع كريستينا كيرشنر نائبة له.
هذه المفاجأة الكبرى أوقعت الهلع في أسواق المال، وأصيب ملايين الأرجنتينيين - ولا سيما من الطبقة البورجوازية، ناهيك من الأغنياء - بالذعر من احتمالات عودة الحركة البيرونية، مع كريستينا كيرشنر التي يعتقد كثيرون أنها ستكون الحاكمة الفعلية. وهذا، مع أن فرنانديز سعى منذ ذلك الوقت إلى إبداء المرونة، ورسم صورة الاعتدال في مواقفه وتصريحاته، وباشر بالتواصل مع إدارة المصرف المركزي بهدف تهدئة الأجواء المضطربة التي تتحرك فيها العملة الأرجنتينية منذ فترة. وكان فرنانديز قد رد بعنف على تصريحات الرئيس البرازيلي اليميني المتشدد جاير بولسونارو الذي قال بعد فوزه (أي فرنانديز) في الانتخابات الأولية إن «عودة البيرونيين إلى الحكم ستكون كارثة على الأرجنتين، وتدفعهم إلى الهجرة، كما حصل في فنزويلا»، وهدد بطردها من منطقة «ميركوسور» للتجارة الحرة، لكنه عاد وتراجع عن تصريحاته.
ويستبعد مقربون من فرنانديز أن يترك الزمام للرئيسة السابقة، خصوصاً أنه سبق وانتقدها بشدة، واستقال من رئاسة حكومتها، عندما كانت في ذروة نفوذها بعد فوزها بالولاية الأولى. وينقل عنه آخرون دعواته المتكررة إلى التحفظ، وتحاشي الإكثار من التصريحات الصحافية ومظاهر الإعزاز بالعودة إلى الحكم، وترك الرئيس الحالي ماكري يتخبط في أنواء الأزمة الاقتصادية «لأن عودة الناخبين لتأييدنا مرهونة بأن ترجح كفة الحقد على ماكري بسبب سياسته الاقتصادية على كفة الخوف من رجوعنا إلى الحكم»، كما ذكر أخيراً أمام أحد مساعديه.
وفي أي حال، عودة البيرونيين إلى الحكم في الأرجنتين مع فرنانديز لن تكون مفروشة بالورد، بل على العكس تماماً من ذلك، إذ تفيد آخر التوقعات الصادرة عن صندوق النقد الدولي بأن التضخم سيتجاوز 40 في المائة في العام المقبل، وأن إجمالي الناتج المحلي سيتراجع بنسبة 1.1 في المائة، وذلك بعدما بلغت نسبة التضخم هذا العام 53.5 في المائة، وانخفض سعر البيزو بنسبة 51 في المائة. ويذكر أن صندوق النقد كان قد منح الأرجنتين قرضاً العام الماضي، مقداره 54 مليار دولار أميركي، وهذا أكبر قرض فردي يمنحه في تاريخه. وكانت إدارة الصندوق قد وافقت الأسبوع الماضي على تعليق سداد القسط المستحق الشهر الماضي، بقيمة 4.5 مليار دولار، بسبب الظروف التي تمر بها البلاد حالياً، والتي اقتضت تصنيفها في الفئة نفسها التي تضم إيران وتركيا وفنزويلا واليمن وليبيا، بسبب الصعوبات الخطيرة التي تواجهها على صعيد الاقتصاد الكلي.

أولويات برنامج فرنانديز
لم يجد فرنانديز صعوبة في تحديد أولويات برنامجه الحكومي، بعد المستوى الذي تدهورت إليه الأوضاع المعيشية خلال الأشهر الأخيرة، حين بلغ عدد الذين يعانون من أزمة غذائية 11 مليوناً في واحد من أهم البلدان الزراعية والمنتجة للأغذية في العالم. وفي لقاء عقده فرنانديز أخيراً في كلية الزراعة بجامعة بوينس آيرس، قال: «الجوع هو عارنا الأكبر!»، وكشف عن خطة لدعم المواد الغذائية الأساسية التي تضاعفت أسعارها عن تلك التي في معظم البلدان الأوروبية. كذلك، وعد بالقضاء على أسعار الفائدة المرتفعة التي تدفعها المصارف على السندات، وتخصيصها لبرامج المساعدات الاجتماعية.
ومن الإنجازات المهمة التي يوشك فرنانديز أن يحققها، حتى قبل انتخابه المرتقب غداً رئيساً للجمهورية، عودة النقابات الأرجنتينية إلى الاتحاد بعد الانقسام التاريخي الذي مزقها في عام 1991. وحينذاك، انشقت النقابات التي أصبحت لاحقاً مؤيدة لتيار كيرشنر اليساري عن النقابات البيرونية التقليدية، بعد رفضها الإجراءات الليبرالية التي اتخذها الرئيس الأسبق كارلوس منعم، المنحدر من أصول سورية.
وقال فرنانديز في نهاية الجولة الأخيرة من المفاوضات التي جرت برعايته بين النقابات البيرونية: «الكل موافق على ضرورة توحيد المعسكر الشعبي في هذه الظروف الصعبة التي تقتضي مشاركة واسعة، وموقفاً موحداً لكل أطياف الطبقة العاملة».


مقالات ذات صلة

الحدود العراقية ــ السورية... وذكريات صيف 2014

حصاد الأسبوع شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)

الحدود العراقية ــ السورية... وذكريات صيف 2014

شأن معظم دول المنطقة والإقليم، تسببت الأزمة السورية المتصاعدة في تراجع الاهتمام الرسمي والشعبي العراقي بالحرب التي تشنّها إسرائيل على غزة ولبنان، بعد أن كانت

فاضل النشمي (بغداد)
حصاد الأسبوع ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين

كريستيان ليندنر... الزعيم الليبرالي الذي أسقط عزله الحكومة الألمانية

رجل واحد حمله المستشار الألماني أولاف شولتس مسؤولية انهيار حكومته، وما نتج عن ذلك من فوضى سياسية دخلت فيها ألمانيا بينما هي بأمس الحاجة للاستقرار وتهدئة

راغدة بهنام ( برلين)
حصاد الأسبوع شيل

ألمانيا... الحزب الديمقراطي الحر «شريك الحكم» شبه الدائم

مع أن «الحزب الديمقراطي الحر»، الذي يعرف في ألمانيا بـ«الحزب الليبرالي»، حزب صغير نسبياً، مقارنةً بالقطبين الكبيرين «الاتحاد الديمقراطي المسيحي» (المحافظ)

«الشرق الأوسط» (برلين)
حصاد الأسبوع لقاء ترمب وبوتين على هامش "قمة العشرين" عام 2017 (آ ف ب)

موسكو تترقّب إدارة ترمب... وتركيزها على سوريا والعلاقة مع إيران

لم تُخفِ موسكو ارتياحها للهزيمة القاسية التي مُنيت بها الإدارة الديمقراطية في الولايات المتحدة. إذ في عهد الرئيس جو بايدن تدهورت العلاقات بين البلدين إلى أسوأ

رائد جبر (موسكو)
حصاد الأسبوع يأتي انتخاب «عرّو» في وقت حرج لإقليم أرض الصومال لا سيما مع تحديات استمرار رفض مقديشو توقيع الإقليم مذكرة تفاهم مع إثيوبيا

عبد الرحمن محمد عبد الله «عرّو»... دبلوماسي يقود «أرض الصومال» في «توقيت مصيري»

حياة مغلفة بـ«هم الاستقلال»، سواءً عن المستعمر القديم في السنوات الأولى، أو تشكيل «الدولة المستقلة» طوال فترتَي الشباب والشيخوخة، لم تثنِ عبد الرحمن محمد عبد

محمد الريس (القاهرة)

الحدود العراقية ــ السورية... وذكريات صيف 2014

شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)
شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)
TT

الحدود العراقية ــ السورية... وذكريات صيف 2014

شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)
شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)

شأن معظم دول المنطقة والإقليم، تسببت الأزمة السورية المتصاعدة في تراجع الاهتمام الرسمي والشعبي العراقي بالحرب التي تشنّها إسرائيل على غزة ولبنان، بعد أن كانت تحظى بأولوية قصوى، خصوصاً بعد التهديدات الإسرائيلية بتوجيه ضربات عسكرية ضد الفصائل المسلحة العراقية التي استهدفتها بأكثر من 200 هجمة صاروخية خلال الأشهر الماضية. وأظهر رئيس الوزراء محمد شيّاع السوداني، موقفاً داعماً للحكومة السورية في ظروفها الحالية منذ اليوم الأول للهجوم الذي شنَّته الفصائل السورية المسلحة وتمكّنت من السيطرة على محافظة حلب ومدن أخرى، إذ أجرى اتصالاً بالرئيس السوري بشار الأسد وكذلك الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان، وأكد دعمه لدمشق.

أعلن رئيس الحكومة العراقي محمد شيّاع السوداني، يوم الثلاثاء الماضي، موقفاً أكثر وضوحاً بالنسبة لدعم نظام دمشق، وذلك خلال اتصال - مماثل لاتصاليه مع القيادتين السورية والإيرانية - أجراه مع الرئيس التركي رجب طيب إردوغان.

ومما قاله السوداني إن «العراق لن يقف متفرجاً على التداعيات الخطيرة الحاصلة في سوريا، خصوصاً عمليات التطهير العرقي للمكوّنات والمذاهب هناك»، طبقاً لبيان حكومي.

كذلك شدّد الزعيم العراقي على أنه سبق لبلاده أن «تضرّرت من الإرهاب ونتائج سيطرة التنظيمات المتطرّفة على مناطق في سوريا، ولن يُسمَح بتكرار ذلك»، مؤكداً «أهمية احترام وحدة سوريا وسيادتها، وأن العراق سيبذل كل الجهود من أجل الحفاظ على أمنه وأمن سوريا».

محمد شياع السوداني (آ ف ب)

السوداني كان قد انهمك بسلسلة اتصالات خلال الأيام القليلة الماضية مع عدد من قادة الدول، بخصوص الوضع في سوريا؛ من «أجل دعم الاستقرار في المنطقة، وعدم حصول أي تداعيات فيها، خصوصاً مع ما تشهده من حرب إجرامية صهيونية مستمرة منذ أكثر من عام» بحسب بيان حكومي.

وأظهرت قوى «الإطار التنسيقي» الشيعية موقفاً مماثلاً وداعماً لحكومة السوداني في مواقفها حيال سوريا، لكنها أعربت خلال اجتماع، الثلاثاء الماضي أيضاً، عن قلقها جراء الأوضاع في سوريا بعد «احتلال الإرهابيين مناطق مهمة» طبقاً لبيان صدر عن الاجتماع. وعدّت «أمن سوريا امتداداً للأمن القومي العراقي للجوار الجغرافي بين البلدين، والامتدادات المختلفة لذلك الجوار».

الحدود المشتركة مؤمّنة

للعلم، مع الشرارة الأولى لاندلاع الأزمة السورية، اتخذت السلطات العراقية على المستوى الأمني إجراءات عديدة «لتأمين» حدودها الممتدة لأكثر من 600 كيلومتر مع سوريا. وصدرت بيانات كثيرة حول جاهزية القوات العراقية وقدرتها على التصدّي لأي محاولة توغّل داخل الأراضي العراقية من قبل الفصائل المسلحة من الجانب السوري، مثلما حدث صيف عام 2014، حين تمكَّنت تلك الجماعات من كسر الحدود المشتركة والسيطرة على مساحات واسعة من العراق.

اللواء يحيى رسول، الناطق باسم القائد العام للقوات المسلحة العراقية، أوضح (الثلاثاء) أبرز الإجراءات المُتَّخذة لتحصين الحدود مع سوريا. وقال في تصريحات صحافية إن «الحدود مؤمَنة ومُحكمة بشكل كبير من تحكيمات وتحصينات، وهناك وجود لقوات الحدود على خط الصفر الذي يربطنا مع الجارة سوريا مدعومة بالأسلحة الساندة والجهد الفني، المتمثل بالكاميرات الحرارية وأبراج المراقبة المحصّنة». وأضاف رسول: «لا خوف على الحدود العراقية، فهي مؤمّنة ومحكمة ومحصّنة، وأبطالنا منتشرون على طولها»، مشيراً إلى أنه «تم تعزيز الحدود بقطاعات من الألوية المدرعة وهي موجودة أيضاً عند الحدود».

أيضاً، وصل وفد أمني برئاسة الفريق أول قوات خاصة الركن عبد الأمير رشيد يارالله، رئيس أركان الجيش، يوم الأربعاء، إلى الشريط الحدودي العراقي - السوري. وذكر بيان عسكري أن «هدف الزيارة جاء لمتابعة انتشار القطعات الأمنية وانفتاح خطوط الصد».

غموض في الموقف

إلا أنه حتى مع المواقف الحكومية الداعمة لدمشق في أزمتها الراهنة، يبدو جلياً «الالتباس» بالنسبة لكثرة من المراقبين، وبالأخص لجهة شكل ذلك الدعم وطبيعته، وما إذا كانت السلطات الحكومية العراقية ستنخرط بقوة لمساعدة نظام الأسد عسكرياً، أم أنها ستبقى عند منطقة الدعم السياسي والدبلوماسي، تاركة أمر الانخراط والمساعدة الميدانية للفصائل المسلحة.

وهنا يلاحظ إياد العنبر، أستاذ العلوم السياسية في جامعة بغداد، وجود «التباس واضح حيال الموقف من الحدث السوري، وهذا الالتباس نختبره منذ سنوات، وليس هناك تمييز واضح بين العراق الرسمي وغير الرسمي». وتابع العنبر لـ«الشرق الأوسط» أن «مستويات تفعيل المساهمة العراقية في الحرب غير واضحة، وإذا ما قررت الحكومة البقاء على المستوى الدبلوماسي بالنسبة لقضة دعم سوريا، أم أن هناك مشاركة عسكرية».

غير أن إحسان الشمري، أستاذ الدراسات الاستراتيجية والدولية في جامعة بغداد، يعتقد بأن «العراق الرسمي عبَر عتبة التردّد، وبات منخرطاً في الأزمة السورية». وفي لقاء مع «الشرق الأوسط» بنى الشمري فرضيته على مجمل المواقف الرسمية التي صدرت عن رئيس الوزراء، والناطق الرسمي، وزعماء «الإطار التنسيقي»، وشرح قائلاً إن «هذه المواقف بمجملها كسرت مبدأ الحياد وعدم التدخل في شؤون الدول الأخرى الذي يتمسّك به العراق، إلى جانب كونها انخراطاً رسمياً عراقياً بالأزمة السورية».

نتنياهو غير مضمون

ولكن، بعيداً عن الانشغال الراهن بالأزمة السورية، ما زالت التهديدات الإسرائيلية بين أهم القضايا التي تشغل الرأي العام ببعدَيه السياسي والشعبي. وحتى مع الترحيب العراقي بقرار وقف إطلاق النار بين إسرائيل و«حزب الله»، ما زالت مخاوف البلاد من ضربة إسرائيلية محتملة قائمةً.

ولقد قال الناطق باسم الحكومة باسم العوادي، الأربعاء قبل الماضي، في تصريحات صحافية، إنه «مع عملية وقف إطلاق النار في لبنان، نحن أنهينا الجزء الأسهل، فالمعركة انتهت والحرب لم تنتهِ، فالأصعب أنك ستدخل بالمخططات غير المعلومة. ونحن (العراق) واقعون في المنطقة الحرام، لكن السياسة العقلانية المتوازنة استطاعت أن تجنبنا الضرر».

وأجاب، من ثم، عن طبيعة الرد العراقي إذا ما هاجمت إسرائيل أراضيه، بالقول: «إلى حد أيام قليلة كانت تأتي نتائج جيدة من المعادلات التي اشتغل عليها رئيس الوزراء، لكن رغم ذلك فلا أحد يضمن ما الذي يدور في بال حكومة نتنياهو، وما هو القادم مع الإدارة الأميركية الجديدة، وكيف سيتصرف نتنياهو».

وتابع العوادي، أن «الإسرائيليين عملوا على تفكيك الساحات، وتوجيه ضربات إلى اليمن وسوريا، لكن الطرف العراقي هو الوحيد الذي لم يستطيعوا الوصول إليه بفضل المعادلة... وقد يكونون وضعونا للحظات الأخيرة أو الأيام الأخيرة بنوع ما، وهذا وارد جداً، وتتعامل الحكومة العراقية مع ذلك».

شبح هجوم إسرائيلي

وحقاً، لا يزال شبح هجوم إسرائيلي واسع يخيم على بغداد، إذ تناقلت أوساط حزبية تحذيرات جدية من شنِّ ضربات جوية على العراق. وفي وقت سابق، قال مصدر مقرّب من قوى «الإطار التنسيقي» الشيعية، لـ«الشرق الأوسط»، إنَّ «مخاوف الأحزاب الشيعية من جدية التهديد دفعتها إلى مطالبة رئيس الحكومة للقيام بما يلزم لمنع الهجمات». وأكَّد المصدر أنَّ «فصائل عراقية مسلّحة لجأت أخيراً إلى التحرك في أجواء من التكتم والسرية، وقد جرى بشكل مؤكد إبدال معظم المواقع العسكرية التابعة لها».

وفي سياق متصل، تتحدَّث مصادر صحافية عمَّا وصفتها بـ«التقديرات الحكومية» التي تشير إلى إمكانية تعرّض البلاد لـ«300 هجوم إسرائيلي». وفي مطلع الأسبوع الماضي، شدَّدت وزارة الخارجية العراقية، في رسالة إلى مجلس الأمن، على أهمية «تدخل المجتمع الدولي لوقف هذه السلوكيات العدوانية لإسرائيل».

كما أنَّه حيال التهديدات الجدية والخشية الحقيقية من عمل عسكري إسرائيل ضد البلاد، اهتدت بعض الشخصيات والأجواء المقرّبة من الحكومة والفصائل إلى «رمي الكرة» في الملعب الأميركي، مستندين بذلك إلى اتفاقية «الإطار الاستراتيجي» المُوقَّعة منذ عام 2011، بين بغداد وواشنطن، وهو العام الذي خرجت فيه القوات الأميركية من العراق.

التهديدات الإسرائيلية من أهم القضايا التي تشغل الرأي العام العراقي

هادي العامري (رووداو)

العامري يلوم واشنطن

أيضاً، وجد هادي العامري، زعيم منظمة «بدر»، بنهاية أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، الفرصة ليحمّل واشنطن مسؤولية حماية الأجواء العراقية، بعدما شنَّت إسرائيل هجوماً عسكرياً ضد إيران، مستخدمةً الأجواء العراقية في هجماتها. ويومذاك، حمّل العامري الجانب الأميركي «المسؤولية الكاملة» على انتهاك إسرائيل سيادة الأجواء العراقية في طريقها لضرب إيران. وقال، إن «الجانب الأميركي أثبت مجدّداً إصراره على الهيمنة على الأجواء العراقية، وعمله بالضد من مصالح العراق وشعبه وسيادته، بل سعيه لخدمة الكيان الصهيوني وإمداده بكل ما يحتاج إليه لممارسة أساليبه العدوانية، وتهديده للسلام والاستقرار في المنطقة».

وأضاف العامري: «لهذا باتت الحاجة ماسة أكثر من أي وقت مضى لإنهاء الوجود العسكري الأميركي في العراق بأشكاله كافة». وللعلم، فإن منظمة «بدر» - التي يقودها العامري - وردت ضمن لائحة المنظمات التي اتهمتها إسرائيل بشنِّ هجمات ضدها خلال الشكوى التي قدمتها إلى مجلس الأمن في 18 نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي.

وبناءً على تصريحات العامري السالفة، وتصريحات أخرى لشخصيات مقرّبة من الفصائل المسلحة وقوى «الإطار التنسيقي» الشيعية، تبلورت خلال الأسبوع الأخير، قناعة داخل أوساط هذه القوى مفادها، بأن واشنطن «ملزمة وبشكل مباشر بحماية الأجواء العراقية» من أي هجوم محتمل من إسرائيل أو غيرها، أخذاً في الاعتبار الاتفاقية الاستراتيجية الموقعة و«سيطرتها على الأجواء العراقية».

وبالتوازي، سبق أن حمّل فادي الشمري، المستشار السياسي لرئيس الوزراء، الولايات المتحدة، أيضاً وفقاً لـ«اتفاقية الإطار الاستراتيجي والاتفاقية الأمنية»، مسؤولية «الردع، والرد على أي هجمات خارجية تمسّ الأمن الداخلي العراقي».

الرد الأميركي قاطع

في المقابل، تخلي واشنطن مسؤوليتها حيال هذا الأمر. ورداً على المزاعم العراقية المتعلقة بـ«الحماية الأميركية»، قالت ألينا رومانوسكي، السفيرة الأميركية في بغداد، صراحةً إن بلادها غير معنية بذلك. وأردفت رومانوسكي، خلال مقابلة تلفزيونية سابقة، أن التحالف الدولي دُعي إلى العراق لـ«محاربة (داعش) قبل 10 سنوات، وقد حققنا إنجازات على مستوى هزيمة هذا التنظيم، لكنه ما زال يمثل بعض التهديد، ودعوة الحكومة العراقية لنا تتعلق بهذا الجانب حصراً. أما اتفاقية الإطار الاستراتيجي فتلزمنا ببناء القدرات العسكرية العراقية، لكنها لا تتطرق لمسألة حماية الأجواء والدفاع بالنيابة». ونفت السفيرة أن تكون بلادها قد «فرضت سيطرتها على سماء العراق».

والاثنين قبل الماضي، قالت رومانوسكي، خلال لقاء «طاولة مستديرة» لعدد من وسائل الإعلام: «أود أن أكون واضحة جداً، ومنذ البداية، بأن الإسرائيليين وجّهوا تحذيرات ردع للميليشيات المدعومة إيرانياً والموجودة هنا في العراق، التي تعتدي على إسرائيل». وأضافت: «هذه الميليشيات هي التي بدأت الاعتداء على إسرائيل. ولأكون واضحة جداً في هذه النقطة، فإن الإسرائيليين حذّروا حكومة العراق بأن يوقف هذه الميليشيات عن اعتداءاتها المتكررة والمستمرة على إسرائيل... إن رسالتنا إلى حكومة العراق هي أن تسيطر على هذه الميليشيات المنفلتة، والتي لا تعتد بأوامر الحكومة وأوامر القائد العام للقوات المسلحة رئيس الوزراء. إن إسرائيل دولة لها سيادتها، وهي سترد على أي اعتداء من أي مكان ضدها».

جدعون ساعر (آ ف ب)

 

حقائق

قلق عراقي جدّي من التهديدات الإسرائيلية مع مطالبة واشنطن بالتدخّل

خلال الأسبوع قبل الماضي، بعث وزير الخارجية الإسرائيلي جدعون ساعر رسالةً إلى مجلس الأمن تكلّم فيها عمّا أسماه بـ«حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها»، وحمّل فيها الحكومة العراقية المسؤولية عن الهجمات التي تشنها الفصائل العراقية عليها، داعياً مجلس الأمن للتحرك والتأكد من أن الحكومة العراقية تفي بالتزاماتها. ساعر اتّهم بالتحديد «عصائب أهل الحق» و«كتائب حزب الله» و«ألوية بدر» وحركة «النُّجباء» و«أنصار الله الأوفياء» و«كتائب سيد الشهداء»، بمهاجمة إسرائيل، ومعظم هذه الفصائل مشاركة في الحكومة العراقية الحالية ولها نفوذ كبير داخلها. هنا، تجدر الإشارة إلى أنه سبق لرئاسة الوزراء العراقية توجيه وزارة الخارجية لمتابعة ملف التهديدات الإسرائيلية في المحافل الأممية والدولية وأمام هيئات منظمة الأمم المتحدة، واتخاذ كل الخطوات اللازمة، وفق مبادئ القانون الدولي، لحفظ حقوق العراق وردع تهديدات إسرائيل العدوانية. كذلك طالبت رئاسة الوزراء بـ«دعوة جامعة الدول العربية إلى اتخاذ موقف حازم وموحّد ضد تهديدات سلطات الكيان المحتل، يتضمن إجراءات عملية تستند إلى وحدة المصير والدفاع المشترك». وهذا بجانب «مطالبة مجلس الأمن الدولي بالنظر في الشكاوى المقدمة من جمهورية العراق ضد سلطات الكيان المحتل، واتخاذ إجراءات رادعة تكفل تحقيق الاستقرار والسِّلم الإقليمي والدولي»، وباتخاذ الولايات المتحدة مع العراق، من خلال الحوارات الأمنية والعسكرية ضمن إطار القسم الثالث من «اتفاقية الإطار الاستراتيجي»، خطوات فعالة «لردع سلطات الكيان المحتل» مع دعوة «التحالف الدولي والدول الأعضاء فيه إلى كبح هذه التهديدات والحدّ من اتساع رقعة الحرب».