في تمام الساعة الخامسة من بعد ظهر يوم 23 نوفمبر (تشرين الثاني) من العام 1975 تقدّمت فرقة من حفّاري القبور مؤلفة من أربعة رجال، متساوين بالقامة والحجم وما زالت هويّاتهم طي الكتمان إلى اليوم، من عربة المدفع التي نقلت رفات الديكتاتور الإسباني فرنسيسكو فرنكو من القصر الملكي في مدريد إلى الضريح المخصص له في الصرح الضخم الذي كان أمر بتشييده على هضبة جميلة قرب قصر الاسكوريال الشهير، تخليداً لشهداء الحرب الأهلية التي كانت قوّاته قد انتصرت فيها عام 1939 بعد انقلابها على الحكومة الجمهورية قبل ذلك بثلاث سنوات، والتي خلّفت ما يزيد عن مليون قتيل وشطرت إسبانيا معسكرين طوال خمسة عقود. وكان فرانكو أمر في 1940 ببناء «وادي الذين سقطوا» لتخليد ذكرى «حملته المجيدة» الكاثوليكية ضد الجمهوريين الذين «لا رب لهم». وقد استغرق بناء الموقع الذي شيده آلاف السجناء السياسيين خصوصا نحو عشرين عاما. ويضم هذا المجمع كنيسة محفورة في الصخر يعلوها صليب كبير يبلغ ارتفاعه 150 مترا يمكن رؤيته في دائرة على بعد عشرات الأمتار. وباسم «مصالحة وطنية» مزعومة، نقل «الطاغية» إليه جثامين ثلاثين ألفا من ضحايا الحرب الأهلية، من أنصاره وكذلك من الجمهوريين نبشت جثثهم من مقابر وحفر جماعية من دون إبلاغ عائلاتهم. ومنذ وفاته في 1975، بقيت ورود تغطي قبر فرانكو الواقع على سفح الكنيسة. كان فرنكو قد توفّي قبل ذلك التاريخ بثلاثة أيام، في سريره عن 82 عاماً، بعد أن حكم إسبانيا بقبضة من حديد حتى العام 1973 وأرسى أسس انتقال الحكم إلى نظام ملكي دستوري تولّاه خوان كارلوس الأوّل وليس والده «دون خوان» كما كان مفترضاً حسب التسلسل العائلي في أسرة بوربون.
وفي تمام الساعة الحادية عشرة من يوم أمس الخميس، كانت مجموعة من أفراد عائلته الرجال، متفاوتون في الأعمار والقامات والأحجام، تحمل رفاته إلى عربة عسكرية، لتنقلها من «وادي الشهداء» إلى مقبرة قصر «ألباردو» في أرباض مدريد حيث أقام الديكتاتور خلال معظم فترة حكمه. وكان يتقدّم المجموعة حفيده فرنسيس، حاملاً نفس الراية التي كان النعش ملفوفاً بها يوم دفنه، والتي أصبحت محظورة منذ العام 1978 بعد إعلان الدستور الجديد وعودة الديمقراطية. وكانت عائلة فرنكو قد استأذنت الحكومة لاستخدام هذه الراية، لكن وزارة الداخلية رفضت الطلب بشكل قاطع وحذّرت من العواقب القانونية لمخالفة حظر استخدام رموز الديكتاتورية في الأماكن العامة.
وعملت حكومة بيدرو سانشيز بناء على تصويت جرى في 2017 في البرلمان الإسباني على قرار ينص على نقل رفات فرانكو، لكنه بقي حبرا على ورق بسبب معارضة الحكومة المحافظة التي كان يرأسها ماريانو راخوي زعيم الحزب الشعبي الذي امتنع نوابه عن التصويت. وقبل أقل من ثلاثة أسابيع على الانتخابات التشريعية التي ستجرى في العاشر من نوفمبر (تشرين الثاني)، يتهم المعارضون لسانشيز، اليمينيون واليساريون على حد سواء، رئيس الوزراء بتحويل ذلك إلى قضية انتخابية، بينما شهدت منطقة كاتالونيا مظاهرات عنيفة جعلت الاشتراكيين في وضع صعب. ويشكّل نقل رفات فرنكو من صرح «وادي الشهداء»، المشروع الأكثر رمزيّة بالنسبة للحكومة الاشتراكية. وقال مكتب رئيس الوزراء الإسباني الاشتراكي إن «عملية إخراج الرفات من قبر فرانسيسكو فرانكو بدأت». وجعل سانشيز من نقل الجثمان المحنط «للطاغية» أولوية منذ وصوله إلى السلطة في يونيو (حزيران) 2018 حتى لا يبقى هذا الضريح الذي لا مثيل له في الدول الأخرى في أوروبا الغربية مكانا «لتمجيد» أنصار فرانكو. وقال سانشيز الأربعاء إنه «انتصار كبير للكرامة والذاكرة والعدالة والتعويض، أي للديمقراطية الإسبانية». وقام نحو 500 صحافي بتغطية العملية.
وخاض ورثة فرانكو الذين اعترضوا بشدة على نقل رفاته، معركة قضائية وحاولوا إقناع القضاء الذي رفض، بنقله إلى كاتدرائية ألمودينا في وسط مدريد حيث دفنت ابنته.
وقد واكب 22 من أفراد أسرة فرنكو نقل الرفات إلى المقبرة التي ترقد فيها أرملته كارمن على بعد 50 كيلومتراً من وادي الشهداء، وأشرف على المراسم الدينية كاهن هو ابن العقيد أنطونيو تيخيرو، الذي قاد محاولة الانقلاب ضد الحكومة الديمقراطية الأولى بعد وفاة فرنكو، والتي لعب الملك خوان كارلوس الأول دوراً بارزاً في إفشالها بعد أن أمر الوحدات العسكرية بعدم الانضمام إليها وإجهاضها.
وتعود ملكية المقبرة التي يرقد فيها فرنكو من اليوم، إلى الدولة التي تتولّى صيانتها وحمايتها، إذ يُخشى أن تستقطب احتجاجات واعتداءات من جهات مناوئة أو مظاهرات مؤيدة لجماعات يمينية متطرفة شاركت أعداد ضئيلة منها في مواكبة النعش إلى مثواه الجديد. وكانت وزيرة العدل قد رافقت حفيد فرنكو خلال نقل الرفات الذي قالت مصادر حكومية إنه كلّف الخزانة العامة 63 ألف يورو. وكان لافتاً خلال مراسم الدفن وجود مجموعة تهتف ضد الكنيسة الكاثوليكية والبابا فرنسيس لعدم اعتراضه على قرار الحكومة الإسبانية نقل الرفات، ما أعاد إلى الأذهان المساعي التي بذلها فرنكو منذ بداية عهده للتقرّب من الكنيسة التي كانت سنده الأساسي. ومنذ تبني «قانون الذاكرة التاريخية» في 2007 بدفع من الاشتراكي خوسيه لويس ثاباتيرو، لا يكف اليمين عن اتهام اليسار بالسعي إلى إعادة فتح جروح الماضي التي لم تشف بعد.
وكان راخوي الذي تولى السلطة من 2011 إلى 2018، يتباهى علنا بأنه لم ينفق يورو واحدا لتطبيق هذا القانون الذي يهدف إلى إزالة آثار الديكتاتورية والتعرف على عشرات الآلاف من الجثث التي ألقيت في حفر جماعية وإلى رد الاعتبار لذكرى الجمهوريين الذين أدينوا في عهد الجنرال. وأشار حزب «الصوت» اليميني القومي الذي وصف إخراج الجثمان بأنه «تدنيس»، إلى هذه الانقسامات.
وقالت الزعيمة اليمينية في منطقة مدريد إيزابيل دياز أيوسو في بداية أكتوبر (تشرين الأول): «ماذا سيحدث بعد ذلك؟ هل ستحترق أبرشيات الحي كما حدث في 1936؟» سنة اندلاع الحرب الأهلية. من جهته، عبر ثاباتيرو عن ارتياحه الخميس. وقال: «إنه اليوم الذي ستصبح فيه الديمقراطية الإسبانية أكمل ديمقراطية».
وكان معروفاً عن فرنكو حرصه على ممارسة الشعائر الدينية وتكراره في أحاديثه وخطبه لعبارات مثل «الحرب الصليبية المقدّسة ضد طغيان الكفّار» أو «إنقاذ الحضارة المسيحية». لكن يجمع الكثير من المؤرخين أن تديّن فرنكو كان سياسيا في دوافعه، وأنه كان يحلم، على غرار الملك كارلوس الخامس (شارلمان) وفيليبي الثاني الذي بنى قصر الاسكوريال، بقيادة كنيسته الوطنية خارج سلطة الفاتيكان وتعزيز زعامته السياسية. وقد أدّى ذلك إلى توتّر شديد في العلاقات بين الطرفين، ما دفع برئيس أساقفة إسبانيا إنريكي تارانكون عام 1974 إلى مقابلة فرنكو، وهو مريض في فراشه، وهدده بتنفيذ قرار الحرمان الكنسي في حال إصراره على نفي أحد الأساقفة الباسك. ويقول تارانكون في مذكراته إن فرنكو، الذي كان في حال صحيّة مترديّة، أجهش بالبكاء وقال إنه كان دائماً متدّيناً صالحاً.
إسبانيا تنقل رفات الجنرال فرانكو وتطوي صفحته نهائياً
اليمين يتهم اليسار بفتح جروح الماضي وتحويلها إلى قضية انتخابية
إسبانيا تنقل رفات الجنرال فرانكو وتطوي صفحته نهائياً
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة