بين أوديب وجلغامش... بسالة المهزومين

الزمن عدوٌّ خفي نرى أثر عبوره فحسب

مشهد من مسرحية «أوديب ملكا» لسوفوكلس
مشهد من مسرحية «أوديب ملكا» لسوفوكلس
TT

بين أوديب وجلغامش... بسالة المهزومين

مشهد من مسرحية «أوديب ملكا» لسوفوكلس
مشهد من مسرحية «أوديب ملكا» لسوفوكلس

كانت رحلة نوح بمثابة خلق ثانٍ للعالم. سفرٌ إلى اللامكان طفواً فوق قدر الغرق، وأول يابسة ظهرت كانت محطة الوصول المثالية. كانت تلك رحلة فرار واحدة نعرفها تكللت بالنجاح؛ فالقدر لا يمنح المسافر جائزته دائماً.
الفرار من الموت، واحد من الأهداف المضمرة للسفر، لكن المصير محتوم. في بعض القصص الميثيولوجية يكون البطل عارفاً مسبقاً بمصيره، وفي بعضها يجهل ذلك كلياً.
فرّ أوديب من نبوءة قتل أبيه والزواج من أمه، فإذا به يحقق النبوءة بهذا الفرار. تتضمن أسطورة أوديب ثلاث محاولات هرب من الموت لا هرباً واحداً؛ حيث يتلقى لايوس ملك طيبة نبوءة بأنه سينجب طفلاً يقتله ويتزوج من أمه، وعندما أخفق في تحاشي حدوث الحمل، انتظر حتى وضعت زوجته الغلام وقيده من كاحليه وسلَّمه إلى حارس ليقتله، لكن الحارس يعهد بالطفل لراعٍ، والراعي يهديه لملك وملكة كورنثة العقيمين، ويكبر الطفل ذو الأصفاد «أوديب» ويتلقى النبوءة ذاتها «ستقتل أباك وتتزوج من أمك» وهو لا يعرف أن ملك وملكة كورنثة ليسا أبويه، ويفرّ من النبوءة إلى طيبة، حيث تتحقق اللعنة، بقتله أباه وزواجه من أمه الحقيقيين.
يمكننا أن نرى في رحلة نوح وما حمل في سفينته من أزواج الكائنات أمثولة للاصطفاء الديني، ونرى في تغريبة أوديب ثم فراره نموذجاً للحبكة المحكمة، لكن القصتين معاً تقولان إن المقدَّر سلفاً هو الذي يكون.
خطباء الجمعة يتحاشون قصة أوديب، بينما يتناقلون قصة مشابهة، يرد ذكرها في «المصنف في الأحاديث والآثار» لأبي بكر بن أبي شيبة، وفي «كتاب الزهد» لأحمد بن حنبل، وفي «حلية الأولياء وطبقات الأصفياء» لأبي نعيم الأصبهاني، وغيرهم.
تروي القصة أن سليمان - عليه السلام - كان جالساً ذات يوم وبين يديه وزير عظيم الشأن، كان من قبل وزير أبيه داود، ثم دخل رجل فسلّم على سليمان وجعل يحادثه ويحدّ النظر إلى الوزير؛ ففزع منه، فلما خرج الرجل قام الوزير وسأل سليمان: يا نبي الله! من هذا الرجل الذي خرج من عندك؟ قد والله أفزعني منظره؟ فقال سليمان: هذا ملك الموت يتصور بصورة رجل ويدخل عليَّ، فازداد الوزير فزعاً وبكى وقال: يا نبي الله أسألك بالله أن تأمر الريح فتحملني إلى أبعد مكان، إلى الهند، فأمر سليمان الريح فحملته، فلما كان من الغد دخل ملك الموت على سليمان يسلم عليه كما كان يفعل، فقال له سليمان: قد أفزعت صاحبي بالأمس فلماذا كنت تحدَّ النظر إليه، فقال ملك الموت: يا نبي الله إني دخلت عليك في الضحى وقد أمرني الله أن أقبض روحه بعد الظهر في الهند فعجبت أنه عندك، قال سليمان: فماذا فعلت؟ فقال ملك الموت: ذهبت إلى المكان الذي أمرني الله بقبض روحه فيه فوجدته ينتظرني، فقبضت روحه».
في أقدم الملاحم الشعرية المعروفة، يسافر جلغامش مع عدوه «إنكيدو» وقد صارا رفيقين بعد نزال عنيف بينهما، يبحثان عن عشبة الخلود، فلا يتوصلان إلى العشبة الشافية من الموت، لكنهما يتوصلان إلى أن الحصول على الخلود ممكن بطريقة واحدة: عبر الأعمال التي تبقى. ربما لا نرى لملك أورك السومري كبير الأثر في الأدب العربي الحديث يضاهي أثر الملك اليوناني عوليس في الآداب والفنون الغربية عموماً، وتأثيره الكبير الممتد في الروح الهيلينية والسلافية خصوصاً.
بسالة عوليس ضد الموت تبدو واضحة لدى ورثته المقربين؛ نراها في مذكرات اليوناني كزنتزاكيس «العودة إلى جريكو» مثلما نراها في أفلام الكثير من مخرجي تلك المنطقة بالذات، من الروسي أندريه تاركوفسكي إلى اليوناني ثيو أنجلوبولس، إلى البولنديين رومان بولانسكي وكريستوف كيسلوفسكي. في أعمال كل هؤلاء نشاهد تحديقات مطولة لعدسة كئيبة تسافر بحثاً عن خلود، تعرف مسبقاً أنه غير موجود. لكنها تواصل نحتها الصبور في الزمن، وتنتهي إلى أن الرحلة إلى إيثاكا أجمل من إيثاكا، كي لا ننسى ابن الإسكندرية كفافي.
بسالة وجنون الحرب الخاسرة سلفاً ضد العدم، نراها في كل فن عظيم، لكن أحداً لن تتيسر له رؤية ذلك العدو مهما أطال التحديق.
الزمن عدوُّ خفي نرى أثر عبوره فحسب؛ لذا نسافر دائماً. يبدو المكان هدف مطاردتنا في الظاهر، لكن في العمق نحن نطارد الزمن. نعود إلى أماكن الطفولة بأمل يائس في استرداد الزمان الذي قضيناه فيها، ونسافر إلى أماكن جميلة، وداخلنا تصور ساذج بأن الموت لا يصلها. في روايتي «يكفي أننا معاً» يسأل جمال منصور الطبيب الإيطالي: «هل يوجد موت في كابري؟» ويرد الطبيب: «موجود، لكن السُيَّاح لا يتوقعونه هنا».
هل نتعلم من شخصيات اخترعناها في رواياتنا؟! لقد أصبحت بعد أن كتبت بيدي هذا الحوار أكثر تفهماً لسلوك أصدقاء غير مصريين، يهاتفونني بعد وصولهم إلى القاهرة لنلتقي؛ فأقول إنني في عزاء، لا يسألون عن صلتي بالميت أو مقدار حزني، بل عن الموعد الآخر المناسب للقائنا.
أفترض أن التصرف على هذا النحو لا يعني قلة حساسية أو قلة اعتبار لمشاعري، لكن أحداً لا يريد أن يلتقي بسيرة الموت في سفره، وقد تركه وراءه، ويريد أن يحمل المقيم على الخفة في التعامل مع الموت.
لملاك الموت في اللاوعي الإنساني صورة شرطي يلاحقنا، سيطرق الباب في أي لحظة؛ لذا نفكر كما فكر وزير سليمان: نسافر حتى لا يجدنا عندما يصل!



«دماغ السحلية»... أسباب انشغالنا بآراء الآخرين عنا

صورة لمسح الدماغ أثناء التصوير بالرنين المغناطيسي (جامعة نورث وسترن)
صورة لمسح الدماغ أثناء التصوير بالرنين المغناطيسي (جامعة نورث وسترن)
TT

«دماغ السحلية»... أسباب انشغالنا بآراء الآخرين عنا

صورة لمسح الدماغ أثناء التصوير بالرنين المغناطيسي (جامعة نورث وسترن)
صورة لمسح الدماغ أثناء التصوير بالرنين المغناطيسي (جامعة نورث وسترن)

وجدت دراسة جديدة، أجراها فريق من الباحثين في كلية الطب بجامعة نورث وسترن الأميركية، أن الأجزاء الأكثر تطوراً وتقدماً في الدماغ البشري الداعمة للتفاعلات الاجتماعية -تسمى بالشبكة المعرفية الاجتماعية- متصلة بجزء قديم من الدماغ يسمى اللوزة، وهي على اتصال باستمرار مع تلك الشبكة.

يشار إلى اللوزة تُعرف أيضاً باسم «دماغ السحلية»، ومن الأمثلة الكلاسيكية لنشاطها الاستجابة الفسيولوجية والعاطفية لشخص يرى أفعى؛ حيث يصاب بالذعر، ويشعر بتسارع ضربات القلب، وتعرّق راحة اليد.

لكن الباحثين قالوا إن اللوزة تفعل أشياء أخرى أكثر تأثيراً في حياتنا.

ومن ذلك ما نمر به أحياناً عند لقاء بعض الأصدقاء، فبعد لحظات من مغادرة لقاء مع الأصدقاء، يمتلئ دماغك فجأة بأفكار تتداخل معاً حول ما كان يُفكر فيه الآخرون عنك: «هل يعتقدون أنني تحدثت كثيراً؟»، «هل أزعجتهم نكاتي؟»، «هل كانوا يقضون وقتاً ممتعاً من غيري؟»، إنها مشاعر القلق والمخاوف نفسها، ولكن في إطار اجتماعي.

وهو ما علّق عليه رودريغو براغا، الأستاذ المساعد في علم الأعصاب بكلية فاينبرغ للطب، جامعة نورث وسترن، قائلاً: «نقضي كثيراً من الوقت في التساؤل، ما الذي يشعر به هذا الشخص، أو يفكر فيه؟ هل قلت شيئاً أزعجه؟».

وأوضح في بيان صحافي صادر الجمعة: «أن الأجزاء التي تسمح لنا بالقيام بذلك توجد في مناطق الدماغ البشري، التي توسعت مؤخراً عبر مسيرة تطورنا البشري. في الأساس، أنت تضع نفسك في عقل شخص آخر، وتستنتج ما يفكر فيه، في حين لا يمكنك معرفة ذلك حقّاً».

ووفق نتائج الدراسة الجديدة، التي نُشرت الجمعة في مجلة «ساينس أدفانسز»، فإن اللوزة الدماغية، بداخلها جزء محدد يُسمى النواة الوسطى، وهو مهم جدّاً للسلوكيات الاجتماعية.

كانت هذه الدراسة هي الأولى التي أظهرت أن النواة الوسطى للوزة الدماغية متصلة بمناطق الشبكة المعرفية الاجتماعية التي تشارك في التفكير في الآخرين.

لم يكن هذا ممكناً إلا بفضل التصوير بالرنين المغناطيسي الوظيفي (fMRI)، وهي تقنية تصوير دماغ غير جراحية، تقيس نشاط الدماغ من خلال اكتشاف التغيرات في مستويات الأكسجين في الدم.

وقد مكّنت هذه المسوحات عالية الدقة العلماء من رؤية تفاصيل الشبكة المعرفية الاجتماعية التي لم يتم اكتشافها مطلقاً في مسوحات الدماغ ذات الدقة المنخفضة.

ويساعد هذا الارتباط باللوزة الدماغية في تشكيل وظيفة الشبكة المعرفية الاجتماعية من خلال منحها إمكانية الوصول إلى دور اللوزة الدماغية في معالجة مشاعرنا ومخاوفنا عاطفياً.

قالت دونيسا إدموندز، مرشح الدكتوراه في علم الأعصاب بمختبر «براغا» في نورث وسترن: «من أكثر الأشياء إثارة هو أننا تمكنا من تحديد مناطق الشبكة التي لم نتمكن من رؤيتها من قبل».

وأضافت أن «القلق والاكتئاب ينطويان على فرط نشاط اللوزة الدماغية، الذي يمكن أن يسهم في الاستجابات العاطفية المفرطة وضعف التنظيم العاطفي».

وأوضحت: «من خلال معرفتنا بأن اللوزة الدماغية متصلة بمناطق أخرى من الدماغ، ربما بعضها أقرب إلى الجمجمة، ما يسهل معه استهدافها، يمكن لتقنيات التحفيز المغناطيسي عبر الجمجمة استهداف اللوزة الدماغية، ومن ثم الحد من هذا النشاط وإحداث تأثير إيجابي فيما يتعلق بالاستجابات المفرطة لمشاعر الخوف والقلق».