موسكو على خط المواجهة الإسرائيلية ـ اللبنانية

العلاقة مع تل أبيب «زواج مصلحة سرّي» مريح للطرفين

موسكو على خط المواجهة الإسرائيلية ـ اللبنانية
TT
20

موسكو على خط المواجهة الإسرائيلية ـ اللبنانية

موسكو على خط المواجهة الإسرائيلية ـ اللبنانية

تلاحقت في الفترة الأخيرة، تطورات مرتبطة بإسرائيل، وتحركاتها على الصعيد الإقليمي، وبدت كلها وثيقة الصلة، بشكل أو بآخر، بمسار تعزيز الحضور الروسي في الشرق الأوسط. إذ اتضح بعد المواجهة المحدودة بين إسرائيل و«حزب الله» في المناطق الحدودية أخيراً، أن الطرفين اللبناني والإسرائيلي اتجها إلى موسكو لمحاصرة احتمالات اتساع نطاق المواجهة. وأعقب ذلك إعلان تل أبيب بدء ترتيبات لعقد لقاء جديد على مستوى رؤساء مجالس الأمن القومي في روسيا والولايات المتحدة وإسرائيل لمناقشة الوضع في المنطقة، ومحاولة تقريب وجهات النظر حول آليات التعامل مع إيران في سوريا ولبنان، والمنطقة عموماً. ولم تلبث موسكو وتل أبيب أن أعلنتا، في وقت متزامن، بعد ذلك مباشرة، عن إعداد زيارة بشكل عاجل، لرئيس الوزراء الإسرائيلي إلى منتجع سوتشي الروسي للقاء الرئيس فلاديمير بوتين، وينتظر أن يكون موعدها قبل الانتخابات الإسرائيلية في 17 من الشهر الحالي. وهي تهدف، كما بات معلوماً، فضلاً عن دعم فرص نتنياهو الانتخابية، إلى وضع رؤية مشتركة للتحرّكات الجارية في سوريا ولبنان.
«كل الطرق تقود إلى موسكو»... هكذا يفاخر بعض المحللين الروس، وهم يتحدثون في هذه الأيام عن اتساع حجم الحضور الروسي في الملفات الشرق أوسطية. وحقاً، تتطلع موسكو إلى لعب أدوار أكبر في مسائل لم يكن لها حضور بارز فيها في السابق، مثل موضوع الاشتباك الإسرائيلي مع «حزب الله». إذ كان لافتاً بعد المواجهة المحدودة أخيراً، أن موسكو نشطت اتصالاتها مع الأطراف المعنية، وسعت إلى محاصرة احتمالات التصعيد.
ولم تُخفِ أوساط دبلوماسية روسية مخاوف من أن «لبنان وإسرائيل يقفان الآن على بعد خطوة واحدة من حرب جديدة». وأنه على الرغم من استبعاد أوساط روسية أن يقع تغير كبير في موازين القوى القائمة حالياً في حال نشبت هذه الحرب، فإنها ترى أنها ستكون مكلفة بالنسبة لموسكو، التي ترى في أي مواجهة كبيرة في المنطقة حالياً تهديداً لخططها في سوريا. لذا سارعت موسكو إلى التقاط فرصة الاتصالات التي جرت من الطرفين اللبناني والإسرائيلي معها، لبذل جهود لتقليص فرص وقوع مواجهة كبرى، وهي نجحت في هذا الاتجاه.
تشير مصادر إعلامية عربية وروسية متطابقة إلى أن موسكو نقلت رسائل عدة بين إسرائيل و«حزب الله»، وأن الطرفين أعلنا خلالها «أنهما لا يريدان توسيع المواجهة». ووفقاً للمعطيات، فقد أكدت موسكو للجانب الإسرائيلي أنه «لا يوجد أي تغيير على قواعد المواجهة القائمة، بمعنى أن استهداف (حزب الله) الآلية هدف إلى حفظ ماء الوجه لا غير، وأن الحزب لا يسعى لتوسيع مساحة المواجهة». ونقل الدبلوماسيون الروس رغبات مماثلة من جانب إسرائيل إلى الأطراف اللبنانية. وبرأي خبراء روس، فإن التحرك الروسي العاجل، الذي استند إلى قناعة روسية بعدم ميل الطرفين إلى التصعيد، أظهر وفقاً لتعليق صحيفة روسية أنه «بات بإمكاننا أن نتحدث بثقة عن وصول بلدنا إلى مستوى جديد. والآن أصبحت كلمته مهمة في حل حتى أكثر الصراعات الإقليمية حدة. إنه لأمر مؤسف أن هذا لم ينجح حتى الآن مع أوكرانيا».
جهود روسيا المتوسعة
أشارت مصادر عسكرية روسية، أخيراً، إلى أن روسيا بدأت بالفعل تنخرط في جهد أوسع لتخفيف التوتر اللبناني الإسرائيلي، وفي إشارة ذات مغزى، أكدت أن إيران «تساعد بشكل كبير في هذا الأمر». والواقع أن مساعي موسكو تنطلق من أن وجود علاقات جيدة مع إسرائيل، والمحافظة على قنوات اتصال مع كل الأطراف اللبنانية، يساعدان في إنجاح هذا الدور. إلا أن هذا لا يعني، وفقاً لخبراء روس، أن الأمور قد لا تتفاقم بعد انتهاء الاستحقاق الانتخابي في إسرائيل، لأن ثمة «لاعبين آخرين هنا»، في إشارة إلى الولايات المتحدة. ثم إن ملف المواجهة اللبنانية الإسرائيلية مرتبط بمسارات عدة، بينها الوضع في سوريا والمواقف المتباينة حيال سياسات إيران الإقليمية، وأخيراً، بسبب طموحات واشنطن لتكريس واقع إقليمي جديد يسهل تمرير «صفقة القرن».
رغم ذلك، تنطلق موسكو في جهودها للمحافظة على هدوء نسبي يوفّر آلية لمنع وقوع مواجهات واسعة من قناعة بأن «الولايات المتحدة لن تذهب نحو المساعدة على زعزعة استقرار لبنان، لأنها تتطلع إلى تعاون مع السلطات الموالية جزئياً في البلاد في مشروعات مستقبلية للاندماج في الشرق الأوسط ضمن إطار خططها لرسم ملامح جديدة للنظام الإقليمي».
اللقاء الأمني الثلاثي
في هذه الأثناء، جاء إعلان رئيس حكومة إسرائيل بنيامين نتنياهو، مساعي لعقد قمة أمنية ثلاثية ثانية، بين إسرائيل وروسيا والولايات المتحدة، في الفترة المقبلة، ليضيف بعداً جديداً للنقاشات الدائرة حول هذا الموضوع، ونقلت مصادر أن «المفاوضات تجري لعقد اللقاء الجديد في القدس خلال الأسابيع المقبلة». غير أن مصدراً مطلعاً على الملف في موسكو أبلغ «الشرق الأوسط» أن «موسكو لم تحسم قرارها بالمشاركة بعد»، وترى أوساط روسية أن المشكلة لا تكمن في عقد اللقاء من حيث المبدأ، بل في الأهداف المتوخاة من هذا اللقاء.
وهنا، تجدر الإشارة إلى أن رؤساء مجالس الأمن القومي في روسيا وإسرائيل والولايات المتحدة كانوا قد عقدوا اجتماعاً في يونيو (حزيران) الماضي في القدس، كرس لمناقشة الوضع في سوريا، خصوصاً على صعيد الوجود الإيراني في هذا البلد. وفشلت الأطراف يومذاك في تقريب وجهات النظر حول الملف الخلافي الأكبر. وقال سكرتير مجلس الأمن القومي الروسي نيكولاي باتروشيف، في حينه، أن «موسكو تعير اهتماماً كبيراً لضمان أمن إسرائيل»، لكنه شدد على أن «تحقيق هذا الهدف يتطلب استتباب الأمن في سوريا أولاً».
وبالتالي، بدا واضحاً خلال ذلك اللقاء أن الخلاف الرئيس لا يكمن في وضع ملف الوجود الإيراني في سوريا على طاولة المفاوضات، وبحث السياسات الإقليمية لإيران، بل في رفض موسكو الخضوع لإملاءات مسبقة. وفي هذا السياق، قال دبلوماسي اطلع على سير المفاوضات لـ«الشرق الأوسط»، إن موسكو أبلغت الجانبين الإسرائيلي والأميركي أنها لا تمانع مناقشة الملف (الوجود الإيراني)، لكن «لا يمكن القبول بالذهاب إلى مفاوضات يرى الطرفان الإسرائيلي والأميركي أن نتائجها يجب أن توضع سلفاً». وبهذا المعنى، فإن موسكو تبدي مرونة في مناقشة ملف خروج إيران والقوات التابعة لها من سوريا، أو تقليص وجودها الظاهر على الأقل، لكنها ترى أن هذا الأمر يجب أن يتحقق في سياق تفاوضي يلبي حاجات دفع التسوية واستقرار الوضع في سوريا (لمصلحة الأسد)، ويضمن لإيران وللأطراف الأخرى متطلباتها وحاجاتها الأمنية.
هذا الجانب ذكره باتروشيف بوضوح خلال اللقاء السابق في القدس، عندما قال: «ترى موسكو أنه من الأكثر فاعلية التحدث مع إيران، بدلاً من ممارسة الضغط عليها»، و«نحن نتفهم المخاوف التي لدى إسرائيل، ونريد القضاء على التهديدات الموجودة، ولكن في الوقت نفسه علينا تذكر المصالح الوطنية للدول الإقليمية الأخرى».
تفاهم كامل بين موسكو وطهران
هذه هي النقطة الخلافية الأساسية التي عرقلت التقدم في مسار المفاوضات الأمنية الثلاثية، وما زالت عالقة حتى الآن. ومعها، فإن موسكو، التي تدرك حجم التباين في المواقف، كانت تتطلع إلى نتيجة أخرى للقاء القدس هي تحويل هذه الصيغة - اللقاء على مستوى مجالس الأمن القومي - إلى قناة حوار ثابتة ودائمة لمناقشة، ليس فقط الملف المتعلق بإيران، بل كل الملفات الإقليمية التي تهم الأطراف الثلاثة. وانطلاقاً من هذا الهدف، قد تذهب موسكو نحو الموافقة على عقد لقاء جديد، وإن كانت تثق بأن نتائجه أيضاً ستكون محدودة.
محللِّون روس يرون أن موسكو تتبع سياسة «منفتحة على الحوار»، لكنها ليست متسرعة في تقديم تنازلات عن مواقفها. ووفقاً لأحد الخبراء، فإنها قدمت للولايات المتحدة وإسرائيل نوعاً من «الإنذار الناعم». أما مطلب روسيا الرئيس من الولايات المتحدة وإسرائيل هو أن على الأميركيين والإسرائيليين في سوريا «تجنب استفزاز إيران». ووفقاً لهذا التحليل - الذي نشر في مادة مطولة أخيراً في إحدى الوكالات الروسية - فإن «موقف موسكو هو نتيجة العمل المشترك لروسيا وسوريا وإيران والعراق في إطار مركز بغداد للمعلومات العسكرية رباعي الأطراف، الذي أنشئ في عام 2015 فقط من أجل الحرب المنسّقة ضد الإرهاب الدولي. ووجهة النظر الروسية متفق عليها تماماً مع إيران وسوريا والعراق. وتشترك الصين منذ مايو (أيار) الماضي في التنسيق مع هذه المجموعة».
في السياق نفسه، كانت مصادر إعلامية قد أشارت، بالفعل، إلى أنه في 30 مايو الماضي، ناقش ممثلو الأجهزة الخاصة للعراق وروسيا وإيران وسوريا في اجتماعاتهم في بغداد الوضع الحالي، وتم خلال اللقاء وضع رؤية مشتركة للتحركات اللاحقة، وفي هذا الاجتماع برز حضور الصين للمرة الأولى. وفي حينه، قال المتحدث باسم وزارة الخارجية الإيرانية عباس موسوي، «إن الحرب التجارية بين الصين والولايات المتحدة، التي كانت واحدة من التحديات الدولية الرئيسية خلال الأشهر الأخيرة، تنطوي على جوانب ونتائج قد تتجاوز مستوى العلاقات الثنائية بين البلدين». وأعلن أن إيران تدين هذه السياسة الأميركية كمثال على «الإرهاب الاقتصادي». وبعد ذلك، مباشرة، أعلن مصدر عراقي أن الصين أعربت عن رغبتها في الانضمام إلى مركز بغداد للمعلومات العسكرية، ورأت فيه «خطوة مهمة نحو تعزيز الأمن الإقليمي».
على هذه الخلفية، يظهر أن موسكو نجحت حتى الآن، مستفيدة من سياسات واشنطن، في تعزيز محوّر ترى أوساط المحللين أنه سيكون له كلمة مسموعة في الوضع في الشرق الأوسط، وكذلك في القوقاز، وحتى في آسيا الوسطى وأفغانستان. وهو محور يعزّز مواقع موسكو التفاوضية أيضاً في النقاشات الجارية حول الوضع في سوريا وفي لبنان، وفي موضوع العلاقة مع إسرائيل.
«مواطنون روس» في إسرائيل
جاء الإعلان المتزامن في موسكو وتل أبيب عن زيارة سيقوم بها رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو إلى منتجع سوتشي بجنوب روسيا، في غضون أيام، ليربط مباشرة عدة ملفات في سلة واحدة... ستكون مطروحة للنقاش خلال اللقاء مع الرئيس فلاديمير بوتين.
إذ يأمل نتنياهو، الذي يقوم تقليدياً بزيارة موسكو قبل كل استحقاق انتخابي، أن تمنحه المنصة الروسية أوراقاً لتعزيز فرصه التنافسية. وهذا لا يقتصر على فكرة حشد تأييد في أوساط الناطقين بالروسية في إسرائيل. وهؤلاء، بالمناسبة، يشكلون قاعدة انتخابية تزيد على مليون نسمة، ويرتبطون بعلاقات وثيقة مع موسكو لدرجة أن بوتين في أكثر من موقع كرّر التأكيد على أهمية العلاقة مع «مواطنينا في إسرائيل».
أما الأكثر أهمية من ذلك، فهو أن نتنياهو يأتي إلى روسيا حاملاً ملفات الوضع مع لبنان على خلفية الدور الروسي الأخير في احتواء المواجهة، مع ملف توسيع الهجمات الإسرائيلية على مواقع متهمة بالولاء لإيران، لتصل إلى أبعد من سوريا، في العراق. وكانت وسائل إعلام روسية حذرت أخيراً من أن إسرائيل لم تعد تهتم في الآونة الأخيرة، بإبلاغ الروس بإحداثيات ضرباتها، قبل موعد كافٍ، في مخالفة لتفاهمات سابقة في هذا الشأن.

تنسيق مواقف ومصالح مشتركة رغم الضربات الإسرائيلية
> مع أن أوساطاً في العاصمة الروسية موسكو رأت أن تحذيرات وسائل الإعلام الروسية الأخيرة لتل أبيب هدفها الرئيسي إظهار أن موسكو ليست راضية تماماً عن الضربات الإسرائيلية، أو على الأقل «ليست متواطئة» مع تل أبيب فيها، يركز محللون على أن أحد أهم أهداف زيارة بنيامين نتنياهو المقبلة لروسيا هو «تنسيق المواقف» في هذا الاتجاه.
وللتذكير، فإن نتنياهو كان في أعقاب كل زيارة سابقة لموسكو، يؤكد أنه أبلغ الجانب الروسي بأن الضربات الإسرائيلية على مواقع إيرانية ستتواصل، وقال في بعض الأحيان إنه حصل على ضوء أخضر من جانب روسيا لمواصلة هذه التحركات، في المقابل لم تعلق موسكو أبداً على هذه التصريحات.
تقارب اقتصادي وسياحي
الجديد قد يكون في أن هذه الزيارة تأتي على خلفية تقارب واسع على المستويات الاقتصادية ومجالات الاستثمارات تم تحقيقه بين موسكو وتل أبيب خلال الفترة الأخيرة. فتقليدياً، كانت إسرائيل تعد شريكاً مهماً لموسكو في المنطقة بحجم تبادل تجاري يزيد على 10 مليارات دولار أميركي، وهو رقم مهم جداً بالمقارنة مع حجم التعاون الروسي في المجال التجاري مع منطقة الشرق الأوسط. وفي الفترة الأخيرة تم توقيع عدة اتفاقات وصفت في موسكو بأن لها أهمية كبرى، بينها اتفاقات لتوسيع النشاط السياحي بين الطرفين، وزيادة حجم السياحة الروسية إلى إسرائيل التي تصل حالياً إلى نحو 400 ألف سائح.
ووفقاً لتقارير وسائل إعلام متخصصة في المجال السياحي، فإن الفترة الأخيرة شهدت تسارعاً في وتائر سيطرة الشركات الإسرائيلية على قطاع السياحة بين الطرفين، وسط حديث عن توظيف رساميل كبيرة لدعم هذا التوجه. لكن الأهم من ذلك أن مؤسسات إعلامية حكومية تابعة للكرملين، مثل وكالة أنباء «نوفوستي»، أفردت مساحات واسعة في الآونة الأخيرة للترويج السياحي في إسرائيل، بما في ذلك في القدس، بصفتها عاصمة لإسرائيل. ولقد تزامن ذلك، مع تزايد الإشارات حول توسيع التعاون في المجالات الصناعية والتقنية. كذلك، تغطيات إعلامية موسعة جرت على خلفية معرض «ماكس» لصناعات الطيران قبل أيام، عن «القفزة التكنولوجية التي حققتها روسيا في مجال الطائرات المسيرة بفضل إسرائيل». كان نائب رئيس الوزراء الروسي، يوري بوريسوف، أعلن خلال أعمال المعرض عن إطلاق الإنتاج المتسلسل للطائرات المسيرة الضاربة «الصياد»، من عام 2025. وذكرت المصادر الروسية أن ظهور خطط صناعة الطائرات المسيّرة في روسيا بدأ في عام 2010، بعدما أبرمت صناعة الطيران الإسرائيلية عقداً مع وزارة الدفاع الروسية (قيمته 400 مليون دولار أميركي) «لنقل بعض أهم تقنيات الطائرات المسيرة إلى روسيا». وترددت معطيات في ذلك الوقت أفادت بأن الصفقة تمت مقابل إعلان موسكو نيتها التراجع عن بيع منظومة «إس - 300» لإيران وسوريا. ومع أن موسكو سلمت لاحقاً النظام الصاروخي الروسي إلى كل من إيران وسوريا، فإن الأوساط الروسية قالت إن هذا لا يعني التخلي عن الالتزام بعدم إلحاق الأذى بمقاتلات الجيش الإسرائيلي.
«زواج مصلحة سرّي»
أيضاً، ذهبت موسكو وتل أبيب عام 2015 إلى إبرام صفقة عسكرية أخرى، في مجال صناعة الطيران، تلاها إعلان تل أبيب التراجع عن بيع مجموعة من طائراتها العسكرية المسيرة المتقدمة إلى أوكرانيا. وهكذا تبدو درجة ارتباط العقود والصفقات الكبرى التي تجريها موسكو مع تل أبيب بالمتغيرات السياسية حول الطرفين، وبشكل يقوم على تفاهم أساسي غير معلن، بأن كل طرف لن يعمل على تهديد مصالح وأمن الطرف الآخر، بل على العكس من ذلك، سيعمل على تعزيز جهود الطرف الآخر في الملفات الأمنية الأساسية. ووفقاً لتحليل كاتب روسي «استفادت إسرائيل إلى أقصى حد من الحرب الأهلية في سوريا لتوطيد سيادتها على مرتفعات الجولان، التي يبدو أن سوريا خسرتها إلى الأبد. ومن ناحية أخرى، ساهمت روسيا، في ذلك، بتجاهلها حرب إسرائيل الجوية ضد إيران و(حزب الله)». ووفقاً للباحث في المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية، أولريك فرانك، الخبير في مجال الطائرات العسكرية المسيّرة، فإن روسيا وإسرائيل عقدتا «زواج مصلحة سرياً»، وأنهما تتصرفان بحزم وفقاً للقاعدة الأساسية التي تضع المصالح المشتركة فوق كل اعتبارات تحالفية أخرى.



حرب أميركا ـــ الصين التجارية... بين «واقعية» بكين و«طموح» ترمب


الرئيس الأميركي دونالد ترمب جعل حربه الاقتصادية ضد الصين استراتيجية لواشنطن (رويترز)
الرئيس الأميركي دونالد ترمب جعل حربه الاقتصادية ضد الصين استراتيجية لواشنطن (رويترز)
TT
20

حرب أميركا ـــ الصين التجارية... بين «واقعية» بكين و«طموح» ترمب


الرئيس الأميركي دونالد ترمب جعل حربه الاقتصادية ضد الصين استراتيجية لواشنطن (رويترز)
الرئيس الأميركي دونالد ترمب جعل حربه الاقتصادية ضد الصين استراتيجية لواشنطن (رويترز)

ثمة فوارق جوهرية بين استراتيجيات الولايات المتحدة والصين في الرسائل السياسية-الاقتصادية المتبادلة بين البلدين العملاقين. فواشنطن، من خلال تصعيد الرسوم بسرعة وبشدة، تظهر قوتها الاقتصادية وتستخدم التصعيد أداة ضغط سياسي واقتصادي، معتمدة على واقع الولايات المتحدة كقوة اقتصادية عالمية. بالمقابل، اختارت بكين نهجاً تدريجياً وأكثر تحفظاً، في البداية، ربما لتفادي التصعيد المباشر مع واشنطن ولتجنب الدخول في حرب تجارية شاملة قد تؤثر على الاقتصاد العالمي.

ولكن، مع مرور الوقت، رفع الجانب الصيني ردوده تدريجياً لتصل إلى مستوى قريب من حجم إجراءات الجانب الأميركي، ما يشير إلى رد بالمثل لكن محسوب، مع إظهار حرص على التوازن وتحاشي الانجرار نحو تصعيد كامل.

التفاوت الزمني

أيضاً، يكشف الفارق بين تواريخ التصعيد بين الطرفين عن مدى تفاعل كل طرف مع الآخر وردّه على تحركاته. فالتفاوت الزمني بين التصعيدات يعكس استراتيجية قائمة على مراقبة مستمرة وحسابات دقيقة من الجانبين، حيث يعكس كل تصعيد رد فعل مدروسا، وليس ردة فعل عشوائية. وبالتالي، كل طرف يراقب الآخر ويأخذ في اعتباره تحرّكاته قبل اتخاذ قراراته، ما يعكس تنسيقاً ضمنياً بين القرارات المتخذة.

«التحكم» و«الهيبة»

من خلال هذا التصعيد المتبادل، يظهر الرئيس الأميركي دونالد ترمب وكأنه يبعث برسالة واضحة مضمونها «نحن نتحكّم بالسوق العالمي، وسنضغط بقوة».

إنه موقف يعكس صورة قوة الولايات المتحدة كداعم رئيس في الاقتصاد العالمي، ويؤكد أنها مستعدة للمضي بالضغط على الصين إلى أن تمتثل الأخيرة لمطالبها. وفي الجهة المقابلة، تسعى بكين من خلال الردّ المتدرّج إلى إرسال رسالة معاكسة مضمونها «نحن نرد بالمثل لكن بحكمة وتدرّج، ولسنا منفعلين». وهذا الموقف يعكس «توازناً» حذراً في الردود الصينية، ويعزّز من صورتها كدولة قوية اقتصادياً تستطيع اتخاذ قرارات مدروسة... بعيداً عن الانفعال وردود الفعل العاطفية.

أسلوب الرئيس الصيني ... و«الكتاب الأبيض»

في هذا السياق، يعود موقف الرئيس الصيني شي جينبينغ ليشكّل الإطار العام لفهم هذا السلوك؛ فالرئيس شدد مراراً على أن التعاون هو الخيار الصحيح الوحيد بين البلدين، وأن الصين لا تسعى إلى الهيمنة أو المواجهة، بل إلى حوار قائم على الاحترام المتبادل والمصالح المشتركة. غير أن هذا الانفتاح الصيني لا يعني قبولاً بالضغط أو الإملاءات، كما يوضح «الكتاب الأبيض» الصيني، الذي أكد أن بكين «لن تقف مكتوفة الأيدي أمام محاولات الترهيب الاقتصادي»، وإن كانت في الوقت ذاته تفضل استخدام أدوات محسوبة ومدروسة.

في التاسع من أبريل (نيسان) 2025، أصدر مكتب الإعلام التابع لمجلس الدولة الصيني «الكتاب الأبيض» الذي حمل عنوان «موقف الصين بشأن بعض القضايا المتعلقة بالعلاقات الاقتصادية والتجارية بين الصين والولايات المتحدة».

لم يكن الكتاب مجرّد وثيقة حكومية عابرة، بل جاء مرافعةً استراتيجيةً شاملة، مدعومة بالأرقام والحقائق، وتكشف عن موقف بكين من العلاقة الاقتصادية الأكثر حساسية في عالم اليوم: علاقتها مع واشنطن.

ما قدّمته الصين في هذا الكتاب ليس دفاعاً بقدر ما هو دعوة إلى «الفهم الواقعي». ذلك أن العلاقات الاقتصادية بين الصين والولايات المتحدة - وفق بكين - ليست «لعبة صفرية»، بل منظومة تكامل معقّدة، قائمة على المنفعة المتبادلة والنتائج المُربحة للطرفين. وترى جهات قريبة من بكين أن هذا المنطلق يغيب عن بعض دوائر صنع القرار في العاصمة الأميركية، التي ما زالت تعاني من تبعات «ذهول ما بعد الهيمنة»، وتُصرّ على قراءة الحاضر بعدسات الماضي الإمبراطوري.

من التعاون إلى التوتر... أرقام لا تكذب

تبدأ القيادة الصينية في «كتابها الأبيض» بتشخيص للعلاقات الاقتصادية الثنائية، فتشير إلى أن هذه العلاقة «لم تُبْنَ في فراغ، بل هي نتاج تطور طبيعي استجابت فيه قوانين السوق والمنطق الاقتصادي لحاجات كل من البلدين».

فمنذ تأسيس العلاقات الدبلوماسية بين البلدين عام 1979، ارتفع حجم التجارة الثنائية من أقل من 2.5 مليار دولار أميركي إلى نحو 688.3 مليار دولار في عام 2024.

هذا النمو المذهل ما كان ليتحقّق لولا التكامل العميق في الموارد، ورأس المال، والتكنولوجيا، واليد العاملة، والأسواق بين البلدين. إذ أصبحت الصين سوقاً رئيسة للمنتجات الزراعية الأميركية مثل فول الصويا إلى القطن ووصولاً للغاز والأجهزة الطبية. وفي المقابل، استفاد المستهلك الأميركي من المنتجات الصينية ذات الجودة العالية والتكلفة المعقولة، ما خفّض تكاليف المعيشة ورفع مستوى القدرة الشرائية للطبقات المتوسطة والدنيا.

من الزاوية الصينية، لم يكن الفائض التجاري هدفاً مقصوداً، بل نتيجة طبيعية لتركيبة الاقتصاد العالمي، وللخيار الأميركي بالتركيز على الصناعات ذات القيمة المضافة العالية والاعتماد على الاستيراد من الصين في قطاعات التصنيع. ثم إن تقييم هذا الفائض باستخدام منهجية «القيمة المضافة» يغيّر الصورة جذرياً، إذ إن القيمة التي تحصل عليها الصين من العديد من صادراتها لا تمثل سوى جزء بسيط من القيمة النهائية للسلع.

واشنطن والتناقض البنيوي: عن العجز والتضليل

على الرغم من هذه الحقائق، تصرّ بعض الجهات السياسية والاقتصادية - اليمينية، بالذات - في واشنطن على تصوير العلاقات الاقتصادية مع الصين على أنها سبب رئيس للعجز التجاري الأميركي، مُتناسية العوامل البنيوية التي تعاني منها منظومتها الصناعية، بما في ذلك ارتفاع التكاليف الداخلية، ونقل الصناعات إلى الخارج، والتركيز على قطاع الخدمات على حساب الصناعة التحويلية.

الإحصاءات التي أوردها «الكتاب الأبيض» تشير إلى أن الولايات المتحدة تحقق فوائض كبيرة في تجارة الخدمات مع الصين بلغت 26.57 مليار دولار في عام 2023، كما أن الشركات الأميركية في الصين تحقق أرباحاً ضخمة، إذ بلغ حجم مبيعاتها في السوق الصينية عام 2022 نحو 490.52 مليار دولار أميركي، بفارق يزيد على 400 مليار دولار عن مبيعات الشركات الصينية في الولايات المتحدة.

بلغة الأرقام، يتّضح أن المكاسب المتبادلة أكثر توازناً مما يحاول بعض الساسة الأميركيين تصويره. وإذا ما جرى احتساب المبيعات والخدمات وتدفقات الاستثمار بشكل مشترك، فإن العلاقات الصينية ـ الأميركية تبدو بعيدة كل البعد عن «الرواية الأحادية» التي تتكلّم عن «استغلال» أو «سرقة» اقتصادية.

الحرب التجارية ... سلاح ذو حدّين

في الحقيقة، لطالما استخدمت واشنطن التعريفات الجمركية سلاح ضغط اقتصادي، وفرضت منذ عام 2018 رسوماً جمركية أحادية الجانب على مئات المليارات من الدولارات من السلع الصينية. ومع أن هذه الإجراءات فُرضت تحت شعار «حماية الصناعة الوطنية»، فإن الواقع أثبت عكس ذلك.

وحقاً، تفيد دراسة لمعهد بيترسون للاقتصاد الدولي إلى أن أكثر من 90 % من تكاليف هذه الرسوم انتقلت فعلياً إلى المستهلكين الأميركيين. كذلك فإن هذه الإجراءات لم تساهم في تقليص العجز التجاري الإجمالي، ولم تُعِد الحيوية للصناعة الأميركية. بل على العكس، أدّت إلى ارتفاع أسعار السلع، وتباطؤ النمو، وإضعاف القدرة الشرائية للمواطن الأميركي.

بل، من المفارقات أن هذه الحرب التجارية تزامنت مع احتجاجات في الداخل الأميركي، لا سيما من القطاعات الزراعية والصناعية المتضرّرة، التي خسرت أسواقها في الصين بسبب سياسات التصعيد. ولقد أظهرت بيانات السوق تراجع التوقعات بشأن النمو الاقتصادي الأميركي على خلفية هذه السياسات.

الصين: لا صدام ... ولا تهديد

من جهة ثانية، جاء في «الكتاب الأبيض» أيضاً أن «الصين لا تسعى إلى حرب تجارية، لكنها في ذات الوقت لن تقف مكتوفة الأيدي أمام ما تعتبره ترهيباً اقتصادياً». وبالنسبة لبكين، فإن التعاون هو الخيار الأول، لكن الرد بالمثل خيار دائم إذا اقتضت الحاجة.

وهنا تؤكد بكين أن الحل الأمثل هو «الحوار المتكافئ، واحترام المصالح الأساسية لكل طرف»، لا سيما أن العالم لم يعُد ساحة للابتزاز، بل غدا شبكة معقدة من المصالح. وعليه فالانفصال القسري لن يؤدي إلا إلى مزيد من الخسائر للطرفين، وربما للنظام الاقتصادي الدولي بأسره.

ووفق جهات مقرّبة من بكين، فبين أكثر ما يلفت النظر في الموقف الصيني، ليس فقط إصرار بكين على «الحقائق الاقتصادية»، بل أيضاً محاولتها معالجة جذور الخلل في نظرة واشنطن للصين.

وحسب هذه الجهات، فإن نسبة عالية من الساسة الأميركيين ووسائل الإعلام التابعة لهم، لا تزال تنظر إلى الصين من خلال «عدسة الحرب الباردة»، فإما أن تكون الصين «شريكاً طيعاً» أو «عدواً مطلوباً تحجيمه». لكن الحقيقة التي تتجاهلها هذه الرؤية هي أن الصين المعاصرة ليست دولة تُدار وفق نص مكتوب في واشنطن، بل أمة عمرها خمسة آلاف سنة، سلكت طريقاً تنموياً خاصاً بها، قائماً على الواقعية، والإصلاح التدريجي، والتفاعل العميق مع العولمة. وهذا بالضبط ما عبّر عنه بوضوح كبير الدبلوماسيين الصينيين يانغ جيه تشي خلال قمة ألاسكا الشهيرة حين قال: «واشنطن لا تملك المؤهلات اللازمة للتكلّم إلى الصين من موقع قوة».

الهيمنة تُفقد البوصلة

أخيراً، يقول مقربّون من بكين إنه من خلال تتبع سياسات واشنطن، يظهر أن الأزمة الأعمق ليست في التجارة أو التوازن الاقتصادي، بل في نمط التفكير السائد في واشنطن. وحسب هؤلاء «هناك تيار سياسي أميركي لا يستطيع تقبّل فكرة عالم متعدّد الأقطاب، قارئاً في صعود الصين تهديداً لامتيازات استمرت لعقود، لا سيما بعد الحرب العالمية الثانية».

بالتالي - والكلام لا يزال للمقربين من بكين - «هذا النمط من التفكير جعل بعض السياسيين في واشنطن كمن يحاول قيادة قطار فائق السرعة بمحرك عربة تجرها الخيول. فهم يصرّون على استخدام معايير القرن التاسع عشر لفهم تفاعلات القرن الحادي والعشرين، ويحاولون لعب أدوار متناقضة في الوقت نفسه: الحكم واللاعب والمُشرّع». لطالما استخدمت واشنطن التعريفات الجمركية سلاح ضغط اقتصادي على الصين