باريس تحذر طهران من تصرفات لا تتفق مع التزاماتها النووية

عباس عراقجي، مساعد وزير الخارجية الإيراني
عباس عراقجي، مساعد وزير الخارجية الإيراني
TT

باريس تحذر طهران من تصرفات لا تتفق مع التزاماتها النووية

عباس عراقجي، مساعد وزير الخارجية الإيراني
عباس عراقجي، مساعد وزير الخارجية الإيراني

لم تصغ إيران للنصائح الفرنسية والأوروبية التي دعتها للامتناع عن تنفيذ تهديدها والعبور إلى «المرحلة الثالثة» من التخلي التدريجي عن التزاماتها النووية رغم إغراء الـ15 مليار دولار التي وعدت بها فرنسا مقابل وضع حد لانتهاكاتها والتراجع عما قامت به في المرحلتين الأولى والثانية.
كذلك، لم تكن كافية الاجتماعات التي عقدها يوم الاثنين في باريس الوفد الإيراني برئاسة عباس عراقجي، مساعد وزير الخارجية، لوضع اللمسات الأخيرة على المقترح الفرنسي، بل بقيت بعض النقاط غير محسومة.
وأبرز العقبات العالقة عنوانها رفض واشنطن القاطع، كما جاء على لسان الرئيس ترمب ومستشاره للأمن القومي جون بولتون وبريان هوك، ممثل وزير الخارجية في الملف الإيراني، إعادة العمل بعدد من الإعفاءات لتمكين إيران من بيع كميات من نفطها ولفترة محددة مقابل الخط الائتماني الذي اقترحه الرئيس الفرنسي. كذلك، فإن زيارة برونو لو مير، وزير الاقتصاد الفرنسي، إلى واشنطن والاجتماعات الكثيرة التي عقدها هناك لم تنجح في تفكيك هذه العقدة إزاء إصرار السلطات الأميركية على السير في سياسة «الضغوط القصوى».
وهكذا، فقد أعلن الرئيس حسن روحاني عن انطلاق العمل بـ«المرحلة الثالثة» التي عرف منها، العمل على تحديث الطاردات المركزية التي تملك منها طهران «أجيالاً» عدة، في حين الاتفاق النووي يتيح لها استخدام عدد محدود «5060 طاردة» من الجيل الأول.
وينتظر أن يجري وزير الدفاع الأميركي مارك أسبر محادثات في باريس غداً (السبت) سيكون الملف الإيراني أحد المواضيع التي سيثيرها مع المسؤولين الفرنسيين في وزارتي الدفاع والخارجية، والتي يفترض أنه سيتناولها اليوم في محادثاته في لندن، بما في ذلك مع رئيس الوزراء الإسرائيلي.
حقيقة الأمر، أن باريس، صاحبة المبادرة والتي هي على تواصل دائم مع المسؤولين الإيرانيين تنظر بـ«دم بارد» إلى هذا التطور السلبي رغم أنه يشي بإخفاقها في السير بمبادرتها حتى خواتيمها. وأمس، اكتفت الخارجية الفرنسية بتكرار دعوة إيران إلى «الإحجام عن أي خطوات ملموسة لا تتسق مع التزاماتها، ومن شأنها أن تعرقل جهود خفض التصعيد». وأضافت الناطقة باسم الخارجية أنييس فون دير مول، في إطار المؤتمر الصحافي الإلكتروني، أن باريس «ستدرس» القرار الإيراني مع شركائها ومع الوكالة الدولية للطاقة الذرية التي مقرها فيينا.
واضح أن باريس لا تريد التصعيد مع إيران أو وضع حد لوساطتها رغم الإحراج الذي تتسبب به طهران. وبحسب ما أشارت إليه مصادر دبلوماسية أوروبية واسعة الاطلاع، فإن فرنسا «لن تتخلى عن جهودها لأن مبادرتها هي الوحيدة التي يمكن أن توفر خفض التصعيد» وهي تعتبر أن مهلة الشهرين الإضافيين يمكن أن توفر الوقت الكافي لمواصلة المحادثات مع طهران ومع الجانب الأميركي على السواء. فضلاً عن ذلك، فإن «استقرار» الوضع في الخليج بعد مرحلة التصعيد السابقة التي كانت ذروتها إسقاط طائرة مسيرة أميركية ادعت طهران أنها دخلت الأجواء الإيرانية وهو ما نفته واشنطن، يعطي الوسيط الفرنسي، المدعوم أوروبياً، الوقت اللازم لبذل مزيد من الجهود الدبلوماسية.
تراهن باريس على اللقاءات التي سيعقدها رئيس الجمهورية إيمانويل ماكرون في نيويورك، حيث سيمضي ثلاثة أيام (من 22 إلى 24 سبتمبر/أيلول) مع نظيريه الأميركي والإيراني لمحاولة التغلب على العقدة الأساسية التي تمنع حتى اليوم تحقيق اختراق رئيسي. ويسعى ماكرون، عبر مبادرته، إلى «تجميد» الوضع وخفض التصعيد وتوفير الظروف الملائمة للعودة إلى طاولة المفاوضات أكان ذلك ثنائياً كما يريد ترمب أم جماعياً كما يطالب روحاني. وتجدر الإشارة إلى أن موجة «التفاؤل» بخصوص الملف النووي انطلقت عقب الاجتماع المغلق الذي ضم ماكرون وترمب في بياريتز يوم 25 الشهر الماضي على هامش قمة السبع، حيث يؤكد المسؤولون الفرنسيون أنهم لمسوا «ليونة» في موقف الرئيس الأميركي. وحتى اليوم، يريد الوسيط الفرنسي التوكؤ على هذه الليونة «في حال أنها ما زالت موجودة» من أجل انتزاع تنازل من ترمب، رغم إصرار الأخير على أن العقوبات المفروضة على إيران فاعلة، وهي التي ستأتي بها إلى طاولة المفاوضات. أما بالنسبة لتصريحات بريان هوك أول من أمس، فإن باريس لا ترى فيها إغلاقاً محكماً للمبادرة الفرنسية، ودليلها على ذلك أنه عند سؤاله عنها هرب من الإجابة بالقول إنه «لم يتسلم شيئاً رسمياً بشأنها»، وهو أمر يصعب تصديقه.
هكذا تتواصل عملية شد الحبال بين واشنطن وطهران وباريس بينهما. والواضح اليوم أن الطرف الثاني لا يريد قطع العلاقة مع باريس التي يرى فيها «خشبة الخلاص» لإيجاد فسحة يتنفس عبر مبادرتها الاقتصاد الإيراني. لكن هذه اللعبة لا يمكن أن تدوم إلى الأبد؛ إذ إن باريس التي تفاوض باسم الأوروبيين، في حال لم تنجح مبادرتها وفي حال استمرت إيران في الخروج أكثر فأكثر من الاتفاق النووي، ستجد نفسها مضطرة إلى اتخاذ موقف لن تستطيع معه الدفاع عن الاتفاق النووي؛ لأنه لن يبقى موجوداً. ولذا؛ فإن الكثير من المراقبين يرى أن مهلة الشهرين يمكن أن تكون حاسمة لمعرفة الاتجاه الذي ستسير فيه الأزمة النووية، إما نحو الحلحلة من خلال المبادرة الفرنسية أم باتجاه مزيد من التصعيد الذي سيفتح الباب على المجهول.



فرنسا متأرجحة نحو التغييرات السورية... إقدام أم تروٍّ؟

الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون متحدثاً في مؤتمر صحافي مشترك في وارسو مع رئيس الوزراء البولندي دونالد تاسك بمناسبة زيارة رسمية الخميس (د.ب.أ)
الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون متحدثاً في مؤتمر صحافي مشترك في وارسو مع رئيس الوزراء البولندي دونالد تاسك بمناسبة زيارة رسمية الخميس (د.ب.أ)
TT

فرنسا متأرجحة نحو التغييرات السورية... إقدام أم تروٍّ؟

الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون متحدثاً في مؤتمر صحافي مشترك في وارسو مع رئيس الوزراء البولندي دونالد تاسك بمناسبة زيارة رسمية الخميس (د.ب.أ)
الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون متحدثاً في مؤتمر صحافي مشترك في وارسو مع رئيس الوزراء البولندي دونالد تاسك بمناسبة زيارة رسمية الخميس (د.ب.أ)

لا تشذ فرنسا في مقاربتها للملف السوري عن غيرها من الدول الأوروبية وغير الأوروبية وتتأرجح مواقفها بين الرغبة في الإقدام على الدخول بتفاصيله، والتروي بانتظار أن يتضح المشهد السوري وما تريده السلطة الجديدة وعلى رأسها «هيئة تحرير الشام» بقيادة أحمد الشرع (المكنى سابقاً أبو محمد الجولاني).

كذلك تريد باريس تنسيق مواقفها وخطواتها مع شريكاتها في الاتحاد الأوروبي رغم أن الدول المعنية ليست كلها منخرطة في الملف السوري بمقدار انخراط باريس أو برلين أو مدريد، وأفادت الخارجية الفرنسية بأن الملف السوري سيكون موضع مناقشات بين وزراء خارجية الاتحاد الأوروبي يوم الاثنين المقبل.

ما تقوله المصادر الفرنسية، يُبين أن باريس، كغيرها من العواصم، «فوجئت» بسرعة انهيار النظام الذي تصفه بأنه «نظام قاتل» مسؤول عن وفاة 400 ألف شخص وكل يوم يمر يكشف عن المزيد من «فظاعاته»، فضلاً عن أنه أساء دوماً للمصالح الفرنسية خصوصاً في لبنان، ولم يحارب الإرهاب بل «شجعه» كما دفع ملايين السوريين إلى الخارج.

وتعدّ فرنسا أن سقوط نظام بشار الأسد شكل «مفاجأة»؛ إلا أنه شكل «بارقة أمل» للسوريين في الداخل والخارج، ولكنها مُكَبّلة بعدد كبير من التحديات والمخاطر؛ منها الخوف من «تمزق» سوريا، وأن تمر بالمراحل التي مر بها العراق وليبيا سابقاً، وأن تشتعل فيها حرب طائفية ونزاعات مناطقية وتنشط مجموعات «إسلاموية وجهادية»، وتدخلات خارجية، وأن تنتقل العدوى إلى لبنان كما حصل في السنوات 2015 و2016.

ملاحظات باريسية

وإزاء مفردات خطاب «معتدلة» تصدر عن أحمد الشرع والهيئة التي يرأسها وعلى ضوء صورة الحكومة الانتقالية التي رأت النور برئاسة محمد البشير، تتوقف باريس عند عدة ملاحظات: الأولى، اعتبار أن ما جرى «يفتح صفحة جديدة»، وأن الهيئة المذكورة لم ترتكب تجاوزات كبرى واعتمدت حتى اليوم خطاباً «معتدلاً» ووفرت ضمانات «كلامية»؛ إلا أن ما يهم فرنسا، بالدرجة الأولى، «الأفعال وليست الأقوال».

وما تريده باريس عميلة انتقال سلمي للسلطة وأن تضم جميع المكونات وأن تحترم الحقوق الأساسية للمواطنين والأديان والطوائف، وأحد معاييرها أيضاً احترام وضع النساء وحقوقهن، كذلك، فإن باريس ستعمل لأجل هذه الأهداف مع الشركاء العرب وأيضاً مع تركيا وإسرائيل.

بيد أن فرنسا لا تريد لا الإسراع ولا التسرع، وإن كانت تتأهب لإرسال مبعوث إلى سوريا يرجح أن يكون الدبلوماسي جان فرنسوا غيوم، لكنها تستبعد الاعتراف السريع بالسلطات الجديدة.

وأكدت وزارة الخارجية الفرنسية في بيان صادر عنها الخميس أن باريس ترى أنه «من السابق لأوانه في هذه المرحلة مناقشة رفع العقوبات المفروضة» على سوريا.

وكان وزير الخارجية المستقيل، جان نويل بارو، قد أجرى محادثات مع بدر جاموس، رئيس لجنة المفوضات السورية ومع ممثلين عن المجتمع المدني.

وقال بيان رسمي إن بارو ومحدثيه «عبروا عن الالتزام بتحقيق انتقال سياسي سلمي يشمل الجميع ويتماشى مع القرار 2254 الصادر عن الأمم المتحدة، يحمي المدنيين والحقوق الأساسية والأقليات».

كذلك أشار إلى «الاتفاق على أهمية الحفاظ على مؤسسات الدولة واحترام سيادة سوريا وسلامة أراضيها»، فضلاً عن «الإعراب عن قلقهم إزاء مخاطر التشرذم وانعدام الاستقرار والتطرّف والإرهاب، وضرورة استنفار الطاقات السورية والدولية من أجل تحاشيها».

اللاجئون

أما بالنسبة لملف عودة اللاجئين السوريين إلى بلادهم، فإن باريس تقول إنها ليست من يقول لهؤلاء بالعودة أو بالامتناع عنها. إلا أنها بالمقابل تعدّ الشروط الضرورية لعودتهم مثل الأمن والعودة الكريمة «ليست متوافرة» رغم سقوط النظام القديم وقيام نظام جديد.

وتتوافق المواقف الفرنسية مع تلك التي صدرت عن مجموعة السبع، الخميس، التي أبدت الاستعداد لدعم عملية انتقالية في إطار يؤدي إلى حكم موثوق وشامل وغير طائفي في سوريا، مذكرة بأن العملية الانتقالية يجب أن تتسم بـ«احترام سيادة القانون وحقوق الإنسان العالمية، بما في ذلك حقوق المرأة، وحماية جميع السوريين، بمن في ذلك الأقليات الدينية والعرقية، والشفافية والمساءلة».

لاجئون سوريون في تركيا يسيرون نحو المعبر الحدودي بعد الإطاحة بنظام بشار الأسد (د.ب.أ)

وضمن هذه الشروط، فإن مجموعة السبع ستعمل مع أي حكومة سورية مستقبلية تلتزم بهذه المعايير وتكون نتاج هذه العملية وتدعمها بشكل كامل.

وبينما تقضم إسرائيل أراضي سورية، وتدفع تركيا بالقوات التي ترعاها في الشمال الشرقي إلى مهاجمة مواقع «قسد»، فإن مجموعة السبع دعت «الأطراف كافة» إلى الحفاظ على سلامة أراضي سوريا ووحدتها الوطنية واحترام استقلالها وسيادتها.

ومن جانب آخر، وفي الكلمة التي ألقتها بعد ظهر الخميس بمناسبة «القمة الاقتصادية الخامسة لفرنسا والدول العربية» التي التأمت في باريس، عدّت آن غريو، مديرة إدارة الشرق الأوسط والمغرب العربي في الخارجية الفرنسية، أن الوضع اليوم في المنطقة «بالغ التعقيد» في قراءتها للتطورات الأخيرة في سوريا وللوضع في الشرق الأوسط، وأن المنطقة «تشهد تحركات تكتونية» (أي شبيهة بالزلازل).

وتعتقد غريو أن هناك «حقيقتين» يتعين التوقف عندهما بشأن سوريا: الأولى عنوانها «انعدام اليقين»، والعجز عن توقع التبعات المترتبة على هذه التطورات ليس فقط في المنطقة ولكن أيضاً في الجوار الأوروبي، إذ إن المنطقة «تسير في أرض مجهولة» وتشهد تغيرات جيوسياسية رئيسية.

و«الحقيقة» الثانية عنوانها السرعة الاستثنائية التي تحصل فيها هذه التغيرات، مشيرة إلى أنه في عام واحد حصلت حرب غزة وحرب لبنان والحرب بين إسرائيل وإيران وانهيار النظام السوري، وهي تطورات غير مسبوقة، لا في أهميتها وتبعاتها ولا في زمنيتها.