كاتب أميركي يحلل العنصرية البيضاء... نفسياً

طبعة جديدة من كتاب لم يثر الاهتمام في وقته

كاتب أميركي يحلل العنصرية البيضاء... نفسياً
TT

كاتب أميركي يحلل العنصرية البيضاء... نفسياً

كاتب أميركي يحلل العنصرية البيضاء... نفسياً

في عام 1984. نشر جول كوفيل كتاب «العنصرية البيضاء: تحليل نفسي تاريخي»، ولم يهتم بالكتاب كثير من الناس، بما فيهم المثقفون، وذلك لأن الموضوع لم يكن يثار كثيراً في ذلك الوقت. قبل عامين، فكر المؤلف، بعد أن بلغ عمره 80 عاماً، في نشر نسخة جديدة، مع إضافات، بعد أن كثر الحديث عن العنصرية البيضاء، مع زيادة هجمات الرئيس دونالد ترمب على غير البيض.
لكن، توفي كوفيل في العام الماضي، قبل أن يفعل ذلك. وقرر زملاؤه الأطباء النفسيون إعادة إصدار الكتاب القديم كما هو.
ولد كوفيل في عام 1936. وحصل على بكالوريوس علم النفس جامعة ييل (ولاية كونتيتك). ثم الدكتوراه في علم النفس من جامعة كولومبيا (في نيويورك)، ثم صار أستاذاً في نفس الجامعة لعقود.
كتب كتباً كثيرة في هذا المجال، وفي مجالات أخرى، عبرت عن آراء أثارت الاهتمام، فقد عارض وهو اليهودي، الذي هربت عائلته من ألمانيا النازية، النظرية الصهيونية. وذلك في كتاب: «الصهيونية الجديدة: إقامة دولة ديمقراطية واحدة في إسرائيل، فلسطين»، كما كتب مبكراً عن خطورة تلوث البيئة، في كتابه «أعداء الطبيعة: نهاية الرأسمالية، أو نهاية العالم؟». وعرف أيضاً بدعوته لقيام نظام اشتراكي على أنقاض الرأسمالية، معتبراً هذه الأخيرة «عدوة للبشرية»، وهو عنوان أحد كتبه» عدوة البشرية: الرأسمالية». في كتابه الأخير،
عارض العنصرية كنوع من أنواع العاطفة العابرة، وكتب هذا الكتاب: «العنصرية البيضاء: تحليل نفسي تاريخي».
في كتابه الأخير، يرى كوفيل أن العنصرية ليست عاطفة «يسببها غضب عاصف ضد من ينتمي إلى عرق آخر، أو بسبب حماس متطرف لتأييد من ينتمي إلى عرق الشخص، وإنما عقيدة، مثلها مثل عقائد كثيرة شهدها، أو يشهدها العالم (الرأسمالية، الشيوعية، النازية، الإسلام، المسيحية، اليهودية). لكن الانتماء العنصري ليس عقيدة، ولا يجب أن يكون عقيدة، بل هو ميول عاطفية. يعنى هذا أن العنصرية عدائية، لكن الانتماء العنصري هوية.
عندما أصدر المؤلف هذا الكتاب في عام 1984، أهمله كثير من علماء النفس، ومن عامة الناس، ليس فقط لأن الصراع بين البيض وغير البيض لم يكن هاماً في المجتمع الأميركي في ذلك الوقت، وليس فقط لأن الكتاب انتقاد قوى للعرق الأبيض، ولكن، أيضاً، لأن القول بأن العنصرية ليست عاطفة عابرة، ولكن حقيقة تاريخية، لم يكن مقبولاً عند كثير من علماء النفس، وبقية الناس، في ذلك الوقت.
استعمل المؤلف عبارة (انحياز العقل الباطني). ووصف العقل الباطني بأنه أكثر عقلانية من العقل الواعي، وأكثر حياداً، وأكثر أخلاقية، وأقل عاطفة. وأنه «دار وثائق باطنية»، يسجل كل شيء، ليقدر العقل الواعي على أن يعود إليه، أو يهتدي به، وأيضاً، يحلم به. وكان المؤلف قد كتب كتاباً عن التفسيرات النفسية للأحلام، وقال فيه إنها من العقل الباطني، ولا يسيطر عليها العقل الواعي، وإنها من تسجيلات «دار الوثائق الباطنية».
وواحد من تسجيلات العقل الباطني الغربي هو أن الإنسان الغربي (الأبيض المسيحي) يؤمن إيماناً عميقاً أنه أحسن من غيره. بل، أكثر من ذلك، أن رسالته عبر التاريخ هي نشر، وحماية، هذا «الوضع الأحسن» (عرق أحسن، دين أحسن، حضارة أحسن).
يقول: «في نهاية المطاف، ليست العنصرية البيضاء غير عقيدة مغروسة في أعماق الحضارة الغربية، وليس سهلاً التخلص منها.
إنها ليست مجرد وهم بسيط لأقلية متعصبة وجاهلة. العنصرية هي مجموعة من المعتقدات التي ينشأ هيكلها من أعمق مستويات حياتنا، من نسيج الافتراضات التي نراها عن العالم، وعن أنفسنا، وعن غيرنا».
انتقد هذه الآراء بعض علماء النفس. منهم روبرت كولز، الذي كتب عن المثقفين الاستعلائيين الذين يسخرون من الرجل العام، ويصفونه بأنه «عنصري أبيض». وأضاف: «نحن لا نعاني من (عنصريين بيض)، ولكن من أسلوب حياة يولد أكباش فداء للذين يسيطرون على البلاد».
ولكن، كما يضيف، تظل الانتماءات العنصرية المتطرفة) تأكل جسد الحضارة الأميركية من الداخل. ثم، يتساءل كوفيل: «هل توجد طريقة يخرج بها النظام (الرأسمالي المسيحي الأبيض) من هذا المأزق (العنصرية النفسية التاريخية)؟ ثم يجيب على تساؤله: لا بد أن النظام سيجد مخرجاً، دون أن يتغير هو. وفعلاً، وجد النظام مخرجاً. جاء بنظرية «ميتاريسيزم» (العنصرية الثقافية، لا العرقية)... ها هي القوة الثقافية العملاقة تستفيد من الفتنة مرة أخرى، وتدمج الفتنة في نفسها، وتحول نفوس الرجال إلى مزيد من التفاهة التكنوقراطية».
والعنصرية الثقافية تعني أن يقول شخص أبيض لشخص غير أبيض: «عرقك ليس مثل عرقنا، لكننا نقبلك إذا صارت ثقافتك مثل ثقافتنا».
وهذه العنصرية الثقافية، كما يرى، «أقل خطراً من الفاشية. لكنها سوف تحمل معه كثيراً من العدوان على الطبيعة، وعلى الشعوب الأخرى».
إذن، «العنصرية البيضاء ليس فقط توسم طابع الحضارة الغربية فقط، ولكن، هي أكبر من ذلك كثيراً. إنها قادرة على التغلب على تناقضاتها من خلال انتصار «ميتاريسيزم» (العنصرية الثقافية).


مقالات ذات صلة

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

ثقافة وفنون «أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

في كتابها «رحِم العالم... أمومة عابرة للحدود» تزيح الكاتبة والناقدة المصرية الدكتورة شيرين أبو النجا المُسلمات المُرتبطة بخطاب الأمومة والمتن الثقافي الراسخ

منى أبو النصر (القاهرة)
تكنولوجيا شركات الذكاء الاصطناعي تتفق مع دور النشر بما يتيح لهذه الشركات استخدام الأعمال المنشورة لتدريب نماذجها القائمة على الذكاء الاصطناعي التوليدي (رويترز)

شركات الذكاء الاصطناعي التوليدي تلجأ إلى الكتب لتطوّر برامجها

مع ازدياد احتياجات الذكاء الاصطناعي التوليدي، بدأت أوساط قطاع النشر هي الأخرى في التفاوض مع المنصات التي توفر هذه التقنية سعياً إلى حماية حقوق المؤلفين.

«الشرق الأوسط» (باريس)
يوميات الشرق كاميلا ملكة بريطانيا تحصل على الدكتوراه الفخرية في الأدب بحضور الأميرة آن (رويترز)

قدمتها لها الأميرة آن... الملكة كاميلا تحصل على دكتوراه فخرية في الأدب

حصلت الملكة البريطانية كاميلا، زوجة الملك تشارلز، على الدكتوراه الفخرية؛ تقديراً لـ«مهمتها الشخصية» في تعزيز محو الأمية.

«الشرق الأوسط» (لندن)
كتب سوزان بلاكمور وابنتها أميلي تروسيانكو  أثناء حفل توقيع كتاب "الوعي: مقدمة"

الشبحُ في الآلة

شغل موضوع أصل الأشياء The Origin مكانة مركزية في التفكير البشري منذ أن عرف البشر قيمة التفلسف والتفكّر في الكينونة الوجودية.

لطفية الدليمي
كتب سيمون سكاما

قصة اليهود... من وادي النيل حتى النفي من إسبانيا

يروي الكاتب البريطاني اليهودي «سيمون سكاما»، في كتابه «قصة اليهود»، تفاصيل حياة اليهود ابتداءً من استقرارهم في منطقة الألفنتين

سولافة الماغوط (لندن)

الشبحُ في الآلة

سوزان بلاكمور وابنتها أميلي تروسيانكو  أثناء حفل توقيع كتاب "الوعي: مقدمة"
سوزان بلاكمور وابنتها أميلي تروسيانكو أثناء حفل توقيع كتاب "الوعي: مقدمة"
TT

الشبحُ في الآلة

سوزان بلاكمور وابنتها أميلي تروسيانكو  أثناء حفل توقيع كتاب "الوعي: مقدمة"
سوزان بلاكمور وابنتها أميلي تروسيانكو أثناء حفل توقيع كتاب "الوعي: مقدمة"

شغل موضوع أصل الأشياء The Origin مكانة مركزية في التفكير البشري منذ أن عرف البشر قيمة التفلسف والتفكّر في الكينونة الوجودية. الموضوعات التأصيلية الأكثر إشغالاً للتفكير البشري منذ العصر الإغريقي ثلاثة: أصل الكون، أصل الحياة، أصل الوعي.

الوعي بين هذه الموضوعات الثلاثة ظلّ اللغز الأكثر إثارة ورهبة واستجلاباً للأسطرة والمقاربات غير العلمية، وربما تكون عبارة «الشبح في الآلة The Ghost in the Machine» التي شاعت منذ أيام الفلسفة الديكارتية تمثيلاً للوعي تتفق مع ثنائية العقل-الجسد The Mind-Body Duality. بمقتضى هذه الثنائية الديكارتية يكون الوعي كينونة غير مادية (الشبح) وقد استوطن في كينونة مادية (الآلة أو الجسد البشري).

فضلاً عن الأهمية الفلسفية لدراسة الوعي فقد صارت المقاربات العلمية في هذه الدراسة تتعاظم يوماً بعد آخر بسبب ارتباطها العضوي مع موضوعات عظيمة الأهمية في مقدّمتها مباحث الذكاء الاصطناعي بكلّ تفريعاته (الذكاء الاصطناعي العام، تعلّم الآلة، الشبكات العصبية...)، بعبارة أخرى: صار الوعي موضوعاً يقع في صميم الجهد البحثي الذي تتأسّس عليه القيمة الجيوستراتيجية للدولة المعاصرة. أمرٌ آخر تتوجّب الإشارة إليه: الوعي بطبيعته جهد بحثي عابر للتخصصات؛ لذا فهو يتناغم مع طبيعة المباحث العلمية المميزة لعصرنا.

لكن، بعيداً عن الأسباب البحثية والاستراتيجية، لماذا يتوجّبُ على كلٍّ منّا أن يهتمّ بأمر الوعي على مستوى شخصي بمقدار قد يزيد أو ينقص بين الأفراد؟ أوّلاً يتوجّبُ علينا الانخراط في هذا المسعى لأنّ الوعي بصورة جوهرية هو الشيء الأساسي الذي يعرفه كلٌّ منّا بشأن العالَم، أو هو بوّابته إلى العالم، وأعني بهذه البوّابة: التجارب الحسية Sensory Experiences، ومن الطبيعي أنّ كلاً منّا يتوق لأن يفهم -بكيفية علمية منسّقة ومنضبطة وليس بتفكّرات شخصية متناثرة- لماذا يعدّ الوعي البوّابة الأساسية لتجاربنا في العالم. يحبّ كلّ منّا هذا المسعى ولا يرغب في جعله اختصاصاً حصرياً للفلاسفة وعلماء الأعصاب ومطوّري الذكاء الاصطناعي بكلّ متفرّعاته. ثانياً: دراسة الوعي في غاية الأهمية أيضاً في جوانب الغاية Purpose والمعنى Meaning في حياتنا البشرية. ليس في قوانين الفيزياء ما يشيرُ إلى المعنى، وليس مِنْ معادلة لحساب المعنى في تلك المعادلات. لا أظنّ -وسيتشارك معي كثيرون كما أحسب- أنّ الاكتفاء بالتطلّع في كوننا يمنحنا معنى لحياتنا هو ما يحقّقُ فعلاً هذا الأمر؛ لأننا نحن من يخلعُ المعنى على كوننا. يحصل هذا الأمر لأننا نمتلك الوعي الذي يتيحُ لنا اختبار الأشياء والتعامل معها. لدينا هنالك بعيداً في تخوم الكون البعيدة مجرّات كثيرة العدد وجميلة بما يفوق التصوّر. لماذا هي جميلة؟ لأنّنا واعون بها. هي صارت جميلة لأننا نمتلك وعياً يخبرنا أنها جميلة. أعيد القول ثانية: الوعي هو ما يخلعُ معنى وغاية على الحياة.

الدراسات الخاصة بالوعي

يُنظرُ في الأوساط الأكاديمية العالمية إلى سوزان بلاكمور Susan Blackmore على أنّها مؤلفة الكتاب المرجعي في دراسة الوعي، وأقصدُ بهذا كتابها الشائع بين دارسي علم النفس والعلوم العصبية والإدراكية وفلسفة العقل والذكاء الاصطناعي، وأشيرُ بهذا إلى كتابها الموسوم «الوعي: مقدّمة Consciousness: An Introduction» الذي صدرت طبعته الرابعة عن دار نشر «راوتليدج Routledge» قبل بضعة شهور. سوزان بلاكمور عالمة نفس وكاتبة حرة ومحاضرة جامعية بريطانية، ألّفت الكثير من المقالات العلمية وأسهمت في تأليف عددٍ من الكتب. تكتب في مجلات وصحف كثيرة، وكثيراً ما تشارك في برامج إذاعية وتلفازية في المملكة المتحدة أو خارجها. قدّمت الكثير من البرامج التلفازية التي نالت شهرة واسعة بما في ذلك برنامجٌ وثائقيٌ حول ذكاء القردة. من بين كتبها الأخرى سيرة ذاتية بعنوان: «بحثاً عن النور» 1996، و«حوارات عن الوعي» 2005.

ما يميّزُ كتاب بلاكمور هو جمعها بين الخبرة الأكاديمية وتقنيات التعامل مع النطاق العام، فهي معروفة باهتمامها بموضوعات التأمّل والامتلاء الروحي والذهني والباراسايكولوجيا، وقد أفردت كتاباً كاملاً للحديث عن تجربة شخصية خاصة بها شهدت فيها ما تُدعى تجربة مغادرة الجسد Out of Body Experience، وقد حكت عن هذه التجربة في سيرتها الذاتية.

الخصيصة الثانية في كتابها هو مشاركة ابنتها لها في تأليف الكتاب، وتلك علاقة نادرة للغاية بين المؤلفين. لن نتغافل بالتأكيد عن النكهة الفلسفية الأنيقة التي طبعت لغة الكتاب (مثل تناول الإرادة الحرّة وعلاقتها بالوعي)، وهذا أمرٌ متوقّعٌ فيمن يكتب عن موضوع الوعي.

ثمّة موضوعان علينا الانتباه إليهما عند دراسة الوعي: هل سنبلغُ يوماً مرحلة الفهم العلمي الكامل للوعي؟ تؤكّد بلاكمور: لا أظنّ ذلك. الفرق بين حيوان حيّ وآخر ميّت ليس محض فرق نوعي يكمنُ في أنّ الحيوان الحيّ (الإنسان على سبيل المثال) يمتلك نوعاً من مصدر للحياة السرية فيه (بكلمة أخرى: الوعي). الحيوانات الحيّة ميكانيزمات فعّالة دينامية دائمة التغيّر؛ في حين أنّ انكساراً أصاب ميكانيزمات الحركة والتغيّر في الحيوانات الميتة.

تكمن صعوبة وتعقيد دراسة الوعي في حتمية اقتران دراسة الشيء مع موضوع الدراسة؛ بمعنى آخر: استخدام الوعي في دراسة الوعي ذاته! يحضرني هنا مثالاً عبارةٌ قالها جون ناش في الفيلم السينمائي الرائع الذي يحكي سيرته الذاتية «عقل جميل». أخبر ناش طبيبه أنّه سيستخدم عقله في علاج اضطرابه الذهاني، فأجابه طبيبه: ولكن كيف تعالجُ نفسك بما هو المتسبّبُ في مرضك؟ لن تستطيع هذا. في السياق ذاته تصف بلاكمور صعوبة دراسة الوعي وتعريفه فتقول:

«يبدو أنه يَلزمنا إما أن نستخدم الوعي لدراسته هو نفسه، وهي فكرة غريبة نوعاً ما، وإما أن نحرِّرَ أنفسَنا من الوعي الذي نودُّ دراستَه. ولا عجب أن الفلاسفة والعلماء قد بذلوا جهوداً مضنيةً على مدى قرنين من الزمان من أجل الوصول إلى مفهوم الوعي، ولا عجب أيضاً أن العلماء رفضوا الفكرةَ برمَّتها لفترات طويلة؛ بل رفضوا أيضاً دراستَها. الانعطافة الإيجابية أنّ «الدراسات الخاصة بالوعي» أخذَتْ في الازدهار بدءاً من القرن الحادي والعشرين. وصل علم النفس وعلم الأحياء وعلم الأعصاب إلى نقطةٍ يمكن عندها مواجَهةُ بعضِ الأسئلة المحيِّرة على غرار: ما الذي يفعله الوعيُ؟ وهل كان لنا أن نتطوَّر من دونه؟ وهل يمكن أن يكون الوعي وَهْماً؟ وما الوعي على أي حال؟».

تؤكّدُ بلاكمور منذ البدء أنّ ازدهار الجهد البحثي للوعي في القرن الحادي والعشرين لا يعني أنّ الغموض الذي يكتنفه قد اختفى تماماً؛ فالواقع أنه لا يزال متغلغِلاً في هذا الأمر كما كان دائماً. الفرق الآن أننا نعرف عن الدماغ ما يكفينا للاستعداد لمواجَهةِ المشكلة البحثية التالية على نحوٍ مباشِرٍ: كيف يمكن لإطلاق النبضات الكهربائية من ملايين الخلايا العصبية الدماغية أن يُنتج تجربةً واعية ذاتية شخصية؟ إذا أردنا إحرازَ أيِّ تقدُّم فيما يتعلَّق بفهم مسألة الوعي فعلينا التعامُل مع هذا الأمر بجدية تامة. هناك كثير من الأشخاص الذين يدَّعُون أنهم قد وجدوا حلًّاً للغز الوعي؛ فهم يقترحون نظرياتٍ موحِّدةً عظمى، ونظرياتٍ ميكانيكيةً كموميَّة، ونظرياتٍ روحانيةً حول «قوة الوعي»، وغيرها الكثير؛ لكنّ أغلبهم يتجاهلون الفجوةَ العميقة بين العالمين المادي والعقلي.

بعد مقدّمة وتمهيد ابتدائي لموضوع الكتاب (الوعي) اختارت المؤلفّة جعل كتابها موزّعاً في خمسة أقسام، كلّ قسم منها يضمُّ ثلاثة فصول: تناول القسم الأوّل معضلة الوعي تعريفاً ومناظرةً مع مفاهيم أخرى، ثمّ تناولت الوهم الكبير The Grand Illusion في التعامل مع ظاهرة الوعي. في القسم الثاني تناولت موضوع الدماغ بوصفه الحاضنة الطبيعية (مسرح العمليات بلغة المؤلفة) للوعي، وقد أفاضت في شرح العلاقة الوثقى بين دراسة العلوم العصبية وظاهرة الوعي. خصّصت المؤلفة القسم الثالث لتناول موضوع العقل والفعل، وتناولت في القسم الرابع موضوع التطوّر ومنعكساته المهمّة على ظاهرة الوعي، ثمّ تناولت في القسم الخامس الحدود التخمية Borderlands بين الوعي وظواهر أخرى على شاكلة: أشكال الوعي المعدّلة، الواقع والخيال، والأحلام وما بعدها. أما القسم السادس والأخير فتناولت فيه المؤلّفة موضوع «الذات والآخر»؛ فكانت النكهة الفلسفية بيّنة فيه. ألحقت المؤلفة كتابها بسلسلة مصادر مرجعية ضخمة ومتعدّدة امتدّت على عشرات الصفحات من الكتاب.

كتاب بلاكمور هذا قراءة شيّقة رغم رصانته الأكاديمية ومشقّة موضوعه؛ لكنّ من يرغب في قراءة أقلّ تطلباً للجهد والوقت والتفاصيل الصغيرة فيمكنه الرجوع إلى كتاب المؤلفة ذاتها والصادر عن جامعة أوكسفورد بعنوان «الوعي: مقدّمة قصيرة جداً»، وتوجد له ترجمة عربية متاحة بالمجّان على شبكة التواصل العالمية (الإنترنت).

Consciousness: An Introduction

الوعي: مقدمة

المؤلّفتان: Susan Blackmore & Emily Troscianko

سوزان بلاكمور وأميلي تروسيانكو

سنة النشر: 2024

دار النشر: Routledge ) Taylor & Francis Group )

عدد الصفحات: 766 الوعي بصورة جوهرية هو الشيء الأساسي الذي يعرفه كلٌّ منّا بشأن العالَم... أو هو بوّابته إلى العالم