عصابات تهريب البشر تنشط بين السودان ومصر رغم «تضييق الخناق»

«الشرق الأوسط» ترصد حركة المهاجرين ودوافعهم لتحدي المخاطر الأمنية... وتكشف دروب التهريب بين بورسودان وأسوان

دروب تهريب المهاجرين تمر عبر طرق جبلية على الحدود بين مصر والسودان
دروب تهريب المهاجرين تمر عبر طرق جبلية على الحدود بين مصر والسودان
TT

عصابات تهريب البشر تنشط بين السودان ومصر رغم «تضييق الخناق»

دروب تهريب المهاجرين تمر عبر طرق جبلية على الحدود بين مصر والسودان
دروب تهريب المهاجرين تمر عبر طرق جبلية على الحدود بين مصر والسودان

مع بزوغ القمر في سماء الصحراء المظلمة، كانت السيدة السورية غادة محمد، ومن معها من المهاجرين غير النظاميين، يتحسسون ما تبقى معهم من طعام وشراب بعد نهار أحرقت فيه أشعة الشمس وجوههم وأنهكت أجسادهم التي حُشرت داخل صندوق سيارة حديدية كانت تشق الصحراء والدروب الوعرة، لساعات طويلة خلال رحلة تهريبهم من السودان إلى مصر. حاولت غادة استغلال اختفاء الشمس للتعافي من آثارها، لكن شح المياه ونفاد الطعام وصراخ الأطفال الرضع، وتهديدات المهربين لم تسمح لها بذلك، قبل أن تستكمل رحلتها في الصباح عبر سيارة كانت تسير ضمن قافلة من 3 سيارات، لكنها تعطلت بعد ساعتين فقط. وأمر المهربون المهاجرين بالنزول وتوزيع أنفسهم على السيارتين الأخريين، ما تسبب في تشابك عظام المهاجرين أثناء ارتطام عجلات السيارتين المسرعتين بالصخور والحفر. رغم محاولات السلطات الأمنية المصرية ضبط الحدود الجنوبية الشاسعة والوعرة، فإن ثمة عصابات تهريب تتخذ دروباً جبلية وصحراوية لتهريب المهاجرين غير النظاميين بين السودان ومصر، فمنهم من يعبر بعد معاناة طويلة وشاقة، ومنهم من ينتظر، ومنهم من يموت في وسط صحراء شمسها حارقة، بعد تخلي المهربين عنهم قبل الوصول إلى الحدود المصرية.
«الشرق الأوسط» رصدت إصرار المهاجرين على الهروب إلى مصر، وبحثت دوافعهم لتحدي المخاطر الأمنية، واللوجيستية على الحدود الجنوبية المصرية، كما كشفت دروب التهريب التي تستخدم بشكل مستمر.
تعد دولة السودان التي تقع جنوب مصر الوجهة المفضلة للاجئين للسوريين وأبناء الدول الأفريقية الفقيرة، إذ يمكن الدخول إليها من دون تأشيرة، عكس معظم الدول الأخرى التي فرضت إجراءات احترازية ضد دخول السوريين إلى أراضيها ومن بينها مصر، كما يمكن الوصول إليها بسهولة من دول وسط أفريقيا، لكنها تبقى محطة عابرة طويلة إلى حد ما قبل الانتقال إلى وجهات أخرى شمالاً.
وبينما يحظى العابرون في السودان بعدم مواجهة مضايقات أمنية، ويستطيعون العيش بالمدن الكبرى بشكل مناسب نظراً لتدهور قيمة الجنيه السوداني أمام العملات الأجنبية حالياً (الدولار الأميركي يعادل نحو 60 جنيهاً سودانياً في السوق السوداء)، فإن قطاعاً كبيراً من المهاجرين لا يفضلون العيش بالسودان بسبب التقلبات السياسية التي أعقبت سقوط نظام الرئيس السوداني السابق عمر البشير، في شهر أبريل (نيسان) الماضي، لذلك يفضلون الهروب إلى مصر عبر التهريب والهجرة غير النظامية؛ نظراً لرفض مصر منح معظم المهاجرين تأشيرات دخول رسمية إلى أراضيها.
محمد عبد الرحمن محمد، 40 سنة، سوري الجنسية، سبق له العيش في مصر لمدة تزيد على 7 سنوات، وغادرها مختارا لظروف عائلية بعد ثورة يناير (كانون الثاني) 2011 وتوجه إلى صنعاء باليمن، للعيش مع والده ووالدته، لكن بعد وفاة أبيه في اليمن، غادر إلى تركيا بصحبة والدته وظل بإسطنبول لنحو عامين، حتى غادرت والدته إلى الولايات المتحدة الأميركية لترافق أبناءها الذين سبقوها إلى هناك قبل سنوات طويلة، لكن محمد حاول العودة إلى مصر أكثر من مرة، عبر التقدم للحصول على تأشيرة دخول مرة أخرى لكن جميع محاولاته باءت بالفشل. ثم سافر إلى ماليزيا وقضى عامين هناك، وكرر محاولته للحصول على التأشيرة المصرية دون جدوى، وانتهى به المقام مؤخراً بالعيش في السودان منتظراً الحصول على الجنسية السودانية ليتمكن من دخول مصر والبقاء بها بشكل نهائي، بعد رفض طلب لجوئه إلى أميركا للم شمله بعائلته هناك.
ويُسمح للسودانيين بالدخول إلى مصر من دون تأشيرة مسبقة والعكس بموجب اتفاق بين البلدين، ويزور مصر سنوياً مليونا سوداني وخاصة في شهور الصيف، للعلاج وقضاء فترات الإجازة وزيارة الأقارب والتعليم، وفق تقارير سودانية.
وقال عبد الرحمن لـ«الشرق الأوسط»: «عُرض علي الدخول إلى مصر عبر طرق الهجرة غير الشرعية، شهر يونيو (حزيران) 2019 عبر الصحراء مثلما فعل كثير من السوريين والأفارقة، لكني رفضت هذا العرض رفضاً تاماً حتى لا أتعرض للموت بقلب الصحراء أو السجن من قبل السلطات المصرية، فضلاً عن أن أنني أريد البقاء في مصر بشكل دائم».
وأوضح أن «المهربين في السودان يأخذون ما بين 300 و500 دولار على الفرد الواحد، ومعظم المهربين يتميزون بالنصب والاحتيال، كما يطلبون من المهاجرين السير على أقدامهم عشرات الكيلومترات وسط مناطق جبلية وعرة، ودرجات حرارة حارقة»، ولفت إلى أن «السيارات تسير بسرعة كبيرة جداً، ببعض الدروب وإذا سقط أحد من المهاجرين لا تتوقف السيارة من أجله وتتركه في الصحراء، وإذا استطاع المهاجر العبور إلى الجانب المصري وألقي القبض عليه، فمن المؤكد أنه سيواجه عقوبات قانونية، مع أن الحكومة المصرية تتغاضى أحياناً عن المهاجرين غير الشرعيين لأسباب إنسانية».
وبحسب تقرير صادر عن منظمة الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين فإن عدد الأشخاص الذين تعنى بهم المفوضية في عام 2019 بمصر يقدر بنحو 280 ألف شخص، وهم عبارة عن لاجئين وطالبي لجوء من العراق وإريتريا وإثيوبيا وجنوب السودان، والسودان واليمن. ويعيش اللاجئون وطالبو اللجوء في مناطق حضرية إلى جانب المجتمعات المحلية، وفق التقرير. وأفاد التقرير بأن المهاجرين الذين قدموا إلى مصر خلال تلك الفترة جاءوا من جنوب السودان وإريتريا وإثيوبيا وتشاد والصومال والسودان، فضلاً عن فلسطين وسوريا، لتصبح مصر واحدة من المحاور الرئيسية لعبور المهاجرين إلى أوروبا.
وتقول المنظمة إن «بيئة حماية اللاجئين بمصر مواتية، حيث يجري مكتب المفوضية حواراً مع الحكومة المصرية حول إدارة اللجوء. توفر الحكومة الرعاية الصحية الأولية والثانوية للاجئين وطالبي اللجوء من جميع الجنسيات على قدم المساواة مع المواطنين المصريين». بينما قالت «المنظمة الدولية للهجرة ((IOM»، في آخر تقاريرها في عام 2018 إن أعداد المهاجرين الوافدين إلى مصر زادت من 295 ألفاً إلى 491 ألفاً، بين عامي 2010 و2015، في الوقت الذي تقول فيه مصر على لسان رئيسها عبد الفتاح السيسي إنها تستضيف 5 ملايين لاجئ يعيشون بين مواطنيها بشكل منظم.
وتقول الدكتورة أميرة أحمد، الأستاذة بالجامعة الأميركية بالقاهرة، والمتخصصة في شؤون الهجرة واللجوء، لـ«الشرق الأوسط»: «يسلك بعض المهاجرين غير النظاميين الصحراء من السودان إلى مصر بهدف العبور إلى أوروبا، لكن التقديرات تشير إلى انخفاض أو شبه انعدام عمليات الهجرة من مصر عبر البحر المتوسط». وأوضحت أن «غالبية المهاجرين من السودان إلى مصر، يأتون للقاهرة للتسجيل في مفوضية اللاجئين».
وروت أحمد قصة رجل مصري كان يقيم في النمسا بينما كانت تعيش أسرته في مصر، وبعد 4 سنوات من الفراق حاول الرجل دخول مصر لكن لم تمنحه القاهرة تأشيرة دخول، فاضطر إلى دخولها عن طريق التهريب عبر السودان، للقاء أسرته، ثم اضطر لاحقاً إلى العودة إلى أوروبا عن طريق التهريب إلى السودان، في رحلتين شاقتين جداً. وهذا نموذج مكرر ومأساوي.
وقد كان لإغلاق طريق البلقان، وتبنّي إجراءات رقابية مشددة في بحر إيجه الواقع بين تركيا واليونان، أثره في زيادة التدفق عبر مصر وليبيا، وخاصة أن تركيا وقعت اتفاقية مع أوروبا في نيسان (أبريل) 2015 لاستعادة اللاجئين المنطلقين عبرها.
وتتبع السلطات السودانية إجراءات من شأنها تقييد حركة اللاجئين وطالبي اللجوء الأفارقة، وفق تشريعات محلية، مستمدة من اتفاقية منظمة الوحدة الأفريقية لعام 1969. واستضافت السودان بحسب تقرير الأمم المتحدة لعام 2017 نحو 800 ألف طالب لجوء ولاجئ. وتعد مخيمات «خور رول»، و«شجراب» من أشهر مخيمات اللاجئين في السودان، لذلك فإنها تعد معبراً للمهاجرين وليس مقصداً.
ومثل غيرها من آلاف السوريين، فرت السيدة غادة محمد، 27 سنة، من أجواء الحرب في سوريا، واتجهت إلى السودان منذ 9 أشهر بصحبة زوجها، أملاً في العبور من خلالها إلى دول أوروبا. تقول غادة لـ«الشرق الأوسط»: «لم نذهب إلى السودان للإقامة بها بشكل كامل ونهائي، بل كنا نخطط للهروب إلى أوروبا عبر دول البحر المتوسط الجنوبية، في البداية فكرنا في العبور إلى النيجر، قبل التسلسل إلى الأراضي الجزائرية عبر اختراق الصحراء الكبرى، ومنها إلى أوروبا، لكننا تخوفنا من صعوبات الصحراء ثم عدلنا الفكرة لنسافر من موريتانيا إلى الجزائر عن طريق الصحراء أيضاً، لكن في النهاية اتفقنا على الهروب إلى مصر عبر الصحراء بعد الاتفاق مع مجموعة من المهربين».
تضيف غادة: «اتفقنا على دفع مبلغ 250 دولاراً لكل شخص، قبل السفر من الخرطوم إلى بورسودان (شمالي شرق السودان) عبر خطوط الملاحة الجوية الداخلية، وظللنا بها عدة أيام حتى جاءنا المهربون ليلاً وطلبوا منا الاستعداد للرحلة (الخطرة)، وأحضروا 3 سيارات دفع رباعي ربع نقل، وأجلسوا في كل واحدة منها نحو 15 شخصاً، بينهم أطفال رُضع وسيدات، وكان المهربون يتحدثون بلهجة غير عربية، غير مفهومة لنا، وانطلقوا بسرعة فائقة عبر الدروب الجبلية الوعرة في اتجاه الحدود المصرية شمالاً».
خطوط تهريب المهاجرين غير النظاميين عبر الصحراء ليست واضحة أو محددة بسبب اتساع نطاق الصحراء بين السودان ومصر، إذ لا توجد ملامح أو علامات مميزة تسهل عملية السير بسرعة نحو مدينة أسوان المصرية، ما يؤدي إلى ضياع وتيه بعض المهربين والمهاجرين في الصحراء سوياً.
وتعد الطبيعة الجغرافية الشاسعة بين مدينتي بورسودان وأسوان قاسية جداً، إذ يفصل بينهما جبال مرتفعة وطرق وعرة لا يستطيع اختراقها سوى أصحاب الخبرة من الجانبين.
والطرق الجبلية الوعرة بين مصر والسودان لم تكن الطريق الوحيد لتسلل المهاجرين غير النظاميين من الدول الأفريقية الفقيرة لمصر، فبعد اندلاع ثورة 25 يناير (كانون الثاني) عام 2011 استغل بعض الناس حالة الانفلات الأمني في مصر، وتسللوا إلى البلاد من الجهة الجنوبية، عبر نهر النيل وبحيرة ناصر، وتقدموا شمالاً على غرار جريان مياه أطول أنهار العالم. وبعدما كان هذا الطريق هو المسلك المفضل لدى المتسللين لسهولته مقارنة بتيه الصحراء وخطورتها، تم إحكام السيطرة عليه بشكل شبه تام، بعد عام 2013.
ويؤكد كمال الضبع، رئيس جمعية صيادي بحيرة ناصر، لـ«الشرق الأوسط» أن «سلطات حرس الحدود المصرية استطاعت تأمين الحدود الجنوبية وخصوصاً مجرى بحيرة ناصر والمساحات المجاورة لها بشكل تام، عقب موجة من الانفلات الأمني وتسلل مجموعة من اللاجئين الأفارقة إلى البلاد». مشيراً إلى أن «الصيادين المصريين يتعاونون مع القوات المصرية ويقومون بإبلاغ قوات حرس الحدود عن أي غرباء يوجدون بالمنطقة».
كما يقول العميد خالد عكاشة، مدير المركز المصري للفكر والدراسات الاستراتيجية، لـ«الشرق الأوسط» إن «الأوضاع السياسية والأمنية غير المستقرة بالسودان في الفترة الحالية، تفرض على الأجهزة الأمنية المصرية بالحدود الجنوبية رفع درجة الاستعداد واليقظة». لكنه لفت إلى «عدم إمكانية تسلل كثير من السودانيين عبر الحدود لأنهم يستطيعون دخول مصر دون تأشيرة مسبقة». وأضاف: «مما لا شك فيه أن القوات المسلحة المصرية قامت بإحكام السيطرة على المنطقة الجنوبية، عبر وضع نقاط أمنية متعددة، ما ساهم بشكل لافت في تقليل وإضعاف عمليات الهجرة غير النظامية عبر الطرق الجبلية جنوب مصر».
وتوضح السيدة السورية غادة محمد: «بعد خروجنا من بورسودان بنحو 8 ساعات ضل المهربون الطريق، وظللنا ضائعين في متاهة الصحراء ساعات طويلة، وكانوا خلال تلك الساعات يهددونا بالأسلحة التي كانت بحوزتهم حتى تحركوا مجدداً في اتجاه مصر».
وتتابع أنه بعد مرور عدة ساعات تعطلت سيارتان في منتصف الطريق، من شدة الحرارة وتم نقل جميع الركاب في سيارة واحدة: «كنا أشبه بالغنائم داخل السيارة، وكان بيننا أطفال صغار أعمارهم تقترب من شهرين وثلاثة تعرضوا لخطر الموت من شدة الحرارة ونقص المياه وسرعة سير السيارة».
وتشير غادة إلى أن رحلتهم استمرت من السودان وحتى الحدود المصرية ما يقرب من 30 ساعة ذاقوا خلالها ألواناً من الإرهاق النفسي والعصبي والجسدي، وقالت: «المهربون السودانيون أنزلونا من السيارة عند نقطة محددة متاخمة للحدود المصرية الجنوبية، وسلمونا إلى مجموعة مهربين مصرية ودفعوا لهم المقابل المادي للتهريب، وسرنا في الصحراء لمدة ساعتين حتى وصلنا إلى مشارف مدينة أسوان وقبل الوصول إلى هناك داهمتنا قوات حرس الحدود، وحاولت الإمساك بنا لكن سائق سيارتنا فرّ بسرعة عبر الالتفاف حول الطرق الرئيسية قبل وصول سيارتنا إلى مدينة أسوان، لكن السيارة الثانية أمسكت بها القوات وألقت القبض على من بها».
ويلجأ بعض السوريين النازحين لمصر، للمفوضية العليا لشؤون اللاجئين، ويتم منحهم بطاقة إقامة لمدة 6 أشهر، ويقيدون كلاجئين، وتخاطب وزارة الخارجية المصرية وزارة الداخلية لتقنين أوضاعهم، لحين حصولهم على الإقامة أو إعادة التوطين في دولة أخرى، وفور خروجهم يتم إلغاء إقامتهم تماماً. تقول غادة: «بعد وصولنا إلى أسوان ونحن منهكون تماماً بتنا ليلتنا وتعرضنا للاحتيال من قبل أشخاص علموا أننا سوريون ومهاجرون بطريقة غير نظامية، ولم يرحموا غربتنا وشقاءنا»، وأكدت على أن بقية أفراد مجموعتها واصلوا السير نحو القاهرة.
وفي 11 مايو (أيار) 2019 ألقت الأجهزة الأمنية بمديرية أمن أسوان، القبض على تشكيل تخصص في الهجرة غير الشرعية من السودان إلى داخل مصر، بعد قيام بعض المهربين بإطلاق النيران على عدد من الأفارقة بالقرب من قرية بلانة التابعة لمركز نصر النوبة، بعد خلافات بينهم، مما أسفر عن مصرع أحد الأفارقة ويدعى «صموئيل. ب»، 30 سنة، وتم نقله لمشرحة مركز دراو.
وقالت مديرية أمن أسوان في بيان صحافي لها في 11 مايو 2019 إن «مباحث كوم أمبو تمكنت من القبض على 9 متهمين، كونوا تشكيلاً لتهريب الأفارقة من السودان إلى مصر عن طريق الدروب والمدقات الجبلية مقابل مبالغ مالية كبيرة من بينهم 3 متهمين أطلقوا النيران على السيارة المحملة بالأفارقة وقتل أحدهم، وتم تحرير المحضر رقم 894 لسنة 2019 إداري نصر النوبة».



غزة... تاريخ من المواجهات والحروب قبل السابع من أكتوبر

TT

غزة... تاريخ من المواجهات والحروب قبل السابع من أكتوبر

مخيم نازحين في دير البلح عند شاطئ غزة (أرشيفية - أ.ب)
مخيم نازحين في دير البلح عند شاطئ غزة (أرشيفية - أ.ب)

في المنطقة الجنوبية من الساحل الفلسطيني على البحر المتوسط، على مساحة لا تزيد على 360 كيلومتراً مربعاً، بطول 41 كم، وعرض يتراوح بين 5 و15 كم، يعيش في قطاع غزة نحو مليوني نسمة، ما يجعل القطاع البقعة الأكثر كثافة سكانية في العالم.

تبلغ نسبة الكثافة وفقاً لأرقام حديثة أكثر من 27 ألف ساكن في الكيلومتر المربع الواحد، أما في المخيمات فترتفع الكثافة السكانية إلى حدود 56 ألف ساكن تقريباً بالكيلومتر المربع.

تأتي تسمية القطاع «قطاع غزة» نسبة لأكبر مدنه، غزة، التي تعود مشكلة إسرائيل معها إلى ما قبل احتلالها في عام 1967، عندما كانت تحت الحكم المصري.

فقد تردد ديفيد بن غوريون، أول رئيس وزراء لإسرائيل، في احتلال القطاع بعد حرب 1948، قبل أن يعود بعد 7 سنوات، في أثناء حملة سيناء، لاحتلاله لكن بشكل لم يدُم طويلاً، ثم عاد واحتله وزير الدفاع الإسرائيلي موشيه ديان عام 1967.

خيام النازحين الفلسطينيين على شاطئ دير البلح وسط قطاع غزة الأربعاء (إ.ب.أ)

في عام 1987، أطلق قطاع غزة شرارة الانتفاضة الشعبية الأولى، وغدا مصدر إزعاج كبيراً لإسرائيل لدرجة أن رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق، إسحاق رابين، تمنى لو يصحو يوماً ويجد غزة وقد غرقت في البحر.

لكن غزة لم تغرق كما يشتهي رابين، ورمتها إسرائيل في حضن السلطة الفلسطينية عام 1994 على أمل أن تتحول هذه السلطة إلى شرطي حدود. لكن هذا كان أيضاً بمثابة وهم جديد؛ إذ اضطرت إسرائيل إلى شن أولى عملياتها العسكرية ضد غزة بعد تسليمها السلطة بنحو 8 سنوات، وتحديداً في نهاية أبريل (نيسان) 2001.

وفي مايو (أيار) 2004، شنت إسرائيل عملية «قوس قزح»، وفي سبتمبر (أيلول) 2004، عادت ونفذت عملية «أيام الندم». ثم في 2005، انسحبت إسرائيل من قطاع غزة ضمن خطة عرفت آنذاك بـ«خطة فك الارتباط الأحادي الجانب».

بعد الانسحاب شنت إسرائيل حربين سريعين، الأولى في 25 سبتمبر (أيلول) 2005 باسم «أول الغيث»، وهي أول عملية بعد خطة فك الارتباط بأسبوعين، وبعد عام واحد، في يونيو (حزيران) 2006، شنت إسرائيل عملية باسم «سيف جلعاد» في محاولة فاشلة لاستعادة الجندي الإسرائيلي الذي خطفته «حماس» آنذاك جلعاد شاليط، بينما ما زالت السلطة تحكم قطاع غزة.

عام واحد بعد ذلك سيطرت حماس على القطاع ثم توالت حروب أكبر وأوسع وأضخم تطورت معها قدرة الحركة وقدرات الفصائل الأخرى، مثل «الجهاد الإسلامي» التي اضطرت في السنوات الأخيرة لخوض حروب منفردة.

ظلت إسرائيل تقول إن «طنجرة الضغط» في غزة تمثل تهديداً يجب التعامل معه حتى تعاملت معها «حماس» في السابع من أكتوبر (تشرين الأول) بانفجار لم تتوقعه أو تستوعبه إسرائيل وجر حرباً دموية على غزة، وأخرى على لبنان، وسلسلة مواجهات باردة في جبهات أخرى في حرب تبدو نصف إقليمية، وما أسهل أن تتحول إلى نصف عالمية.

أبرز الحروب

«الرصاص المصبوب» حسب التسمية الإسرائيلية أو «الفرقان» فلسطينياً:

بدأت في 27 ديسمبر (كانون الأول) 2008، وشنت خلالها إسرائيل إحدى أكبر عملياتها العسكرية على غزة وأكثرها دموية منذ الانسحاب من القطاع في 2005. واستهلتها بضربة جوية تسببت في مقتل 89 شرطياً تابعين لحركة «حماس»، إضافة إلى نحو 80 آخرين من المدنيين، ثم اقتحمت إسرائيل شمال وجنوب القطاع.

خلفت العمليات الدامية التي استمرت 21 يوماً، نحو 1400 قتيل فلسطيني و5500 جريح، ودمر أكثر من 4000 منزل في غزة، فيما تكبدت إسرائيل أكثر من 14 قتيلاً وإصابة 168 بين جنودها، يضاف إليهم ثلاثة مستوطنين ونحو ألف جريح.

وفي هذه الحرب اتهمت منظمة «هيومان رايتس ووتش» إسرائيل باستخدام الفسفور الأبيض بشكل ممنهج في قصف مناطق مأهولة بالسكان خلال الحرب.

«عمود السحاب» إسرائيلياً أو «حجارة السجيل» فلسطينياً:

أطلقت إسرائيل العملية في 14 نوفمبر (تشرين الثاني) 2012 باغتيال رئيس أركان «حماس»، أحمد الجعبري. واكتفت إسرائيل بالهجمات الجوية ونفذت مئات الطلعات على غزة، وأدت العمليات إلى مقتل 174 فلسطينياً وجرح 1400.

شنت «حماس» أعنف هجوم على إسرائيل آنذاك، واستخدمت للمرة الأولى صواريخ طويلة المدى وصلت إلى تل أبيب والقدس وكانت صادمة للإسرائيليين. وأطلق خلال العملية تجاه إسرائيل أكثر من 1500 صاروخ، سقط من بينها على المدن 58 صاروخاً وجرى اعتراض 431. والبقية سقطت في مساحات مفتوحة. وقتل خلال العملية 5 إسرائيليين (أربعة مدنيين وجندي واحد) بالصواريخ الفلسطينية، بينما أصيب نحو 500 آخرين.

مقاتلون من «كتائب القسام» التابعة لـ«حماس» في قطاع غزة (أرشيفية - «كتائب القسام» عبر «تلغرام»)

«الجرف الصامد» إسرائيلياً أو «العصف المأكول» فلسطينياً:

بدأتها إسرائيل يوم الثلاثاء في 8 يوليو (تموز) 2014، ظلت 51 يوماً، وخلفت أكثر من 1500 قتيل فلسطيني ودماراً كبيراً.

اندلعت الحرب بعد أن اغتالت إسرائيل مسؤولين من حركة «حماس» اتهمتهم أنهم وراء اختطاف وقتل 3 مستوطنين في الضفة الغربية المحتلة.

شنت إسرائيل خلال الحرب أكثر من 60 ألف غارة على القطاع ودمرت 33 نفقاً تابعاً لـ«حماس» التي أطلقت في هذه المواجهة أكثر من 8000 صاروخ وصل بعضها للمرة الأولى في تاريخ المواجهات إلى تل أبيب والقدس وحيفا وتسببت بشل الحركة هناك، بما فيها إغلاق مطار بن غوريون.

قتل في الحرب 68 جندياً إسرائيلياً، و4 مدنيين، وأصيب 2500 بجروح.

قبل نهاية الحرب أعلنت «كتائب القسام» أسرها الجندي الإسرائيلي شاؤول آرون، خلال تصديها لتوغل بري لجيش الاحتلال في حي الشجاعية شرق مدينة غزة، وما زال في الأسر.

«صيحة الفجر»:

عملية بدأتها إسرائيل صباح يوم 12 نوفمبر عام 2019، باغتيال قائد المنطقة الشمالية في سرايا القدس (الذراع العسكرية لحركة الجهاد الإسلامي) في غزة، بهاء أبو العطا، في شقته السكنية في حي الشجاعية شرق مدينة غزة، وردت «حركة الجهاد الإسلامي» بهجوم صاروخي استمر بضعة أيام، أطلقت خلالها مئات الصواريخ على مواقع وبلدات إسرائيلية.

كانت أول حرب لا تشارك فيها «حماس» وتنجح إسرائيل في إبقائها بعيدة.

طفل فلسطيني يسير أمام أنقاض المباني في مدينة غزة (أ.ف.ب)

«حارس الأسوار» أو «سيف القدس»:

بدأت شرارتها من القدس بعد مواجهات في حي الشيخ جراح، واقتحام القوات الإسرائيلية للمسجد الأقصى ثم تنظيم مسيرة «الأعلام» نحو البلدة القديمة، وهي المسيرة التي حذرت «حماس» من أنها إذا تقدمت فإنها ستقصف القدس، وهو ما تم فعلاً في يوم العاشر من مايو (أيار) عام 2021.

شنت إسرائيل هجمات مكثفة على غزة وقتلت في 11 يوماً نحو 250 فلسطينياً، وأطلقت الفصائل أكثر من 4 آلاف صاروخ على بلدات ومدن في إسرائيل، ووصلت الصواريخ إلى تخوم مطار رامون، وقتل في الهجمات 12 إسرائيلياً.

 

«الفجر الصادق» أو «وحدة الساحات»:

كررت إسرائيل هجوماً منفرداً على «الجهاد» في الخامس من أغسطس (آب) 2022 واغتالت قائد المنطقة الشمالية لـ«سرايا القدس» (الذراع العسكرية لحركة الجهاد الإسلامي) في غزة، تيسير الجعبري، بعد استنفار أعلنته «الجهاد» رداً على اعتقال مسؤول كبير في الحركة في جنين في الضفة الغربية، وهو بسام السعدي.

ردت «حركة الجهاد الإسلامي» بمئات الصواريخ على بلدات ومدن إسرائيلية، وقالت في بيان إنها عملية مشتركة مع كتائب المقاومة الوطنية وكتائب المجاهدين وكتائب شهداء الأقصى (الجناح العسكري لحركة فتح)، في انتقاد مبطن لعدم مشاركة «حماس» في القتال. توقفت العملية بعد أيام قليلة إثر تدخل وسطاء. وقتل في الهجمات الإسرائيلية 24 فلسطينياً بينهم 6 أطفال.

رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو أمام خريطة لغزة خلال مؤتمره الصحافي في القدس ليلة الاثنين (إ.ب.أ)

«السهم الواقي» أو «ثأر الأحرار»:

حرب مفاجئة بدأتها إسرائيل في التاسع من مايو 2023، باغتيال 3 من أبرز قادة «سرايا القدس» (الذراع العسكرية لحركة الجهاد الإسلامي في قطاع غزة)، أمين سر المجلس العسكري لسرايا القدس، جهاد غنام (62 عاماً)، وقائد المنطقة الشمالية في السرايا خليل البهتيني (44 عاماً)، وعضو المكتب السياسي أحد مسؤولي العمل العسكري في الضفة الغربية، المبعد إلى غزة، طارق عز الدين (48 عاماً).

وحرب عام 2023 هي ثالث هجوم تشنه إسرائيل على «الجهاد الإسلامي» منفرداً، الذي رد هذه المرة بتنسيق كامل مع «حماس» عبر الغرفة المشتركة وقصف تل أبيب ومناطق أخرى كثيرة بوابل من الصواريخ تجاوز الـ500 صاروخ على الأقل.

... ثم الحرب الحالية في السابع من أكتوبر 2023.