كان الشهر الماضي حافلاً بالنشاط من جهة الولايات المتحدة الأميركية حيال العراق، ومتسماً بالصمت من جانب الحكومة العراقية في بغداد. ففي أعقاب القرار الذي اتخذته وزارة الخزانة الأميركية بإدراج أربع شخصيات عراقية على لائحة العقوبات، بنحو أقل من أسبوعين، جرى الإعلان عن مشروع «قانون منع زعزعة استقرار العراق» الذي ينتظر إحالته إلى مجلس الشيوخ الأميركي بعد التصويت عليه من قبل مجلس النواب. وتزامنت هذه التطورات مع تطور خطير آخر، هو ما كشفت عن تقرير نشرته صحيفة «التايمز» البريطانية، عن إقدام إسرائيل على قصف مقرات تابعة لفصائل عراقية مسلحة في العراق موالية لإيران. وأشار التقرير إلى استهداف الغارات الجوية الإسرائيلية أولاً كل منطقة آمرلي التابعة لمحافظة صلاح الدين، وثانياً معسكر أشرف في محافظة ديالى.
ولقد راح ضحية قصف هذا المعسكر طبقاً للتقرير عناصر من الحرس الثوري الإيراني، فضلاً عن كتائب «حزب الله».
الجهات الرسمية في العراق أحجمت عن الرد أو التعليق على قرار وزارة الخزانة الأميركية بإدراج أربع شخصيات عراقية على لائحة العقوبات، ومشروع «قانون منع زعزعة استقرار العراق». وأحجمت كذلك عن الرد على تقرير لصحيفة «التايمز» البريطانية، عن قصف إسرائيل مقرات تابعة لفصائل عراقية مسلحة في العراق موالية لإيران. وحقاً، باستثناء القرار الإجرائي الذي اتخذه البنك المركزي العراقي بتجميد الأصول المالية للشخصيات الأربع المستهدفة بالعقوبات الأميركية - وهي أحمد الجبوري (المعروف بـ«أبو مازن») ونوفل العاكوب وريّان الكلداني ووعد القدو - لم يصدر أي موقف رسمي من بغداد... لا بشأن مشروع «قانون منع زعزعة استقرار العراق»، ولا على تقرير «التايمز» عن القصف الإسرائيلي على المواقع الإيرانية. واللافت أن النفي بشأن قصف المواقع صدر عن «هيئة الحشد الشعبي»، التي قالت إنها شكّلت لجنة للتحقيق في «حادثة» آمرلي، فاتضح (حسب الهيئة) أنه «لم يكن هناك قصف بل انفجار وقود صلب»، أما القصف على «معسكر أشرف»، فلم يُشِر إليه أحد داخل العراق.
تساؤلات وإيحاءات
ردود الفعل العراقية بشأن مشروع «قانون منع زعزعة استقرار العراق» تعكس الجدل السياسي في البلاد حيال كل شيء، الأمر الذي يجعل من الصعوبة بمكان التعبير عن موقف وطني موحّد إزاء قضايا يُفترض ألا تكون موضع جدل أو خلاف بين مختلف القوى والأطراف السياسية.
ففي الوقت الذي تساءل فيه محمد شياع السوداني، عضو البرلمان العراقي عن ائتلاف «دولة القانون»، حول ما إذا كان هذا مشروع القانون هذا يعني «وصاية جديدة على العراق... أم لجعل العراق ساحة اشتباك مع دول الجوار»، فإنه أجاب على تساؤله بنفسه بالقول إن «هي إلا كلمة حقّ يراد بها باطل». وأردف السوداني أن مشروع القانون، الذي أصبح مثار جدل في الأوساط السياسية العراقية، ينصّ على أنه يحقّ للرئيس الأميركي «فرض عقوبات على أي أجنبي ينوي القيام - متعمداً - بأي شكل من أعمال العنف، له غرض أو تأثير مباشر على تهديد السلام والاستقرار في العراق، أو حكومة العراق وتقويض العملية الديمقراطية فيه، أو تقويض الجهود الكبيرة لتعزيز البناء الاقتصادي والإصلاح السياسي أو تقديم المساعدات الإنسانية إلى الشعب العراقي».
كذلك يشترط مشروع القانون على وزير الخارجية الأميركي مسؤولية «إعداد قائمة معلومات وحفظها ونشرها وتجديدها سنوياً، عن مختلف الجماعات المسلحة والميليشيات أو (القوات بالوكالة) في العراق التي تتلقى مساعدة لوجيستية أو عسكرية أو مالية من الحرس الثوري الإيراني. وهذا، فضلاً عن ممارسة الإرهاب داخل العراق، وتحديد إذا ما كان ينبغي معاقبة الأفراد المُدرَجين في القائمة، وإذا كان ينبغي عد الأشخاص المرتبطين بتنظيمات معينة إرهابيين ومعاقبتهم».
ولئن كان السوداني قد طرح تساؤلات ذات إيحاءات معينة، في إشارة إلى أن مشروع القانون هذا يأتي في وقت تزايدت فيه مخاطر التصعيد الأميركي - الإيراني، الذي لن يكون العراق في معزل عنه، فإن أكاديميين عراقيين آخرين كانت لهم حيال مشروع القانون آراء تكاد تكون متطابقة من حيث المضامين، إذ رأى الدكتور حسين علاوي، رئيس مركز «أكد» للدراسات الاستراتيجية، في حديث له مع «الشرق الأوسط» أن «القانون يأتي كالتزام من قبل الدولة الأميركية، بقيادة الكونغرس والأحزاب والرئيس ونائب الرئيس في الولايات المتحدة الأميركية، بدعم الدولة العراقية والحفاظ على الأمن والاستقرار كمسؤولية أخلاقية وتحالف سياسي مع الدولة العراقية، وكالتزام سياسي بالحفاظ على الأمن والاستقرار بعد دحر كيان (داعش) الإرهابي».
وأضاف الدكتور علاوي أن «الولايات المتحدة تريد أن يكون العراق بعيداً عن الصراع الأميركي - الإيراني وعمليات التصعيد الجارية. ولذلك هي ستقف مع الحكومة العراقية والشعب العراقي». واستطرد موضحاً أن «هناك استراتيجية أميركية جديدة في عهد الرئيس الأميركي دونالد ترمب تقوم على فلسفة الارتباط الصلب، وهي لأول مرة بعد سياسة الرئيس جورج بوش (الابن) السابق، تعود بواشنطن لاتباع استراتيجية الارتباط الصلب بدل المرن التي اتُّبعت في ظل الرئيس السابق باراك أوباما، الذي كان قد أثّر كثيراً في مكانة دعم العراق في القرار الأميركي». وتابع علاوي مشيراً إلى أن «المصالح الأميركية كبيرة في العراق، وجزء أكبر منها هو التزام واشنطن باستقرار العراق سياسياً وأمنياً واجتماعياً».
عودة التأثير الأميركي
أما الخبير الأمني سعيد الجياشي، فإنه يرى أن مشروع «قانون منع زعزعة استقرار العراق» أعاد العراق إلى التأثير الأميركي المباشر في هيكلية النظام السياسي، مع قدرة محاسبة واضحة... وفق ما جاء في نص مشروع القانون الذي لم يحدد في نصوصه معايير واضحة للعمل به. ويضيف الجياشي في حواره مع «الشرق الأوسط» أنه «إذا اكتملت دورة إقراره من مجلس الشيوخ والبيت الأبيض نكون أما مع وضع جديد تماماً من خلال مراحل تنفيذه في طياتها خطورة أكثر من (قانون تحرير العراق) الذي شرّعه الكونغرس الأميركي عام 1998». ويوضح الجياشي أن «من المتوقّع أنه سيكون لهذا القانون وصلاحياته قدرة عالية على إزالة مَن تريد من الشخصيات، وتقويضها، أو تجميد الشركات والحسابات وإيقافها، ومصادرة أموال مع تقويض مستمر لما تراه يمثل تهديداً لاستقرار العراق، وفق هذا القانون الذي معاييره غير واضحة».
وينبّه الخبير الأمني إلى أنه «من المهم أن تهتم الحكومة وقنوات الدولة بمراجعة وبحث أسباب تحريك القانون حالياً، رغم مرور فترة سنتين على الشروع بتشريعه؛ إذ ربما كان هناك ربط واضح في التوتر المتصاعد بين إيران وأميركا وعلاقة العراق بهما، وإمكانية أن يكون العراق منطقة اشتباك بينهما... والقادم، وفق هذا القانون، ينذر بتصعيد متعدد الاتجاهات والمجالات».
في السياق نفسه، يقول الدكتور إحسان الشمري، رئيس «مركز التفكير السياسي» لـ«الشرق الأوسط» معلقاً إن «هذا القانون، بعد التصويت عليه من قبل مجلس الشيوخ الأميركي، في أعقاب إقراره من قبل مجلس النواب، سيفتح الباب أمام الرئيس الأميركي لاتخاذ إجراءات عقابية إضافية بحق إيران»، ثم أردف أن «هذا القانون يأتي بمثابة تحدٍّ ليس فقط للحكومة العراقية الحالية، وإنما هو تحدٍّ ماثل للقوى السياسية لاعتماد موقف يتماهى مع مصلحة العراق، ثم إنه يشكل تحدياً حقيقياً للفصائل المسلحة التي أشار لها هذا القانون، ولشكل علاقتها مع إيران».
التدخل العسكري... ممكن
ومن ثم لاحَظ الدكتور الشمري أن «القانون يتيح للرئيس الأميركي التدخل عسكرياً في العراق، لحمايته من أي مؤثرات تقوّض العملية الديمقراطية»، واستطرد شارحاً: «هذا القانون يتماشى مع الاتفاقية الاستراتيجية بين العراق والولايات المتحدة، التي يكفل أحد بنودها الحق للقوات الأميركية في التدخل عسكرياً تجاه كل ما يزعزع أو ينوي لإسقاط الحكم الديمقراطي في العراق». وأشار إلى أن «القانون مرَّ بمراحل طويلة، حيث يبدو أن هناك قلقاً أميركياً حيال الجهات التي تمتلك السلاح في العراق. وبالتالي، فإنه سيترتب عليه أمور كثيرة، وبالأخص لجهة إعلان الجهات المقربة من إيران على لائحة الإرهاب الأميركية. وأنا لا أستبعد أن يجري تخادم ما بين هذا القانون واتفاقية الاتفاق الاستراتيجي التي تتيح للولايات المتحدة الأميركية التدخل عسكرياً إذا ما وجدت أن الديمقراطية في العراق مهددة. وهذا يعني أن احتمالية التدخل العسكري قد تكون واردة في حال حوّلت بعض الجهات العراق إلى (أرض احتكاك) أو هددت العملية السياسية، أو حاولت خرق سيادة العراق أو نظامه الديمقراطي».
«داعش» خلف الباب
من ناحية أخرى، واصل الجيش العراقي على مدى الشهرين الماضيين حربه ضد تنظيم «داعش» الإرهابي، أمام خلفية محاولات البلاد الخروج من عنق زجاجة مشاكلها الداخلية. وللعلم، تبدأ هذه المشاكل من تعذر إكمال تشكيل الحكومة (حيث لا تزال حقيبة وزارة التربية شاغرة)، ولا تنتهي بالجدل حول مُخرجات البرنامج الحكومي، الذي تقول الحكومة إن نسب الإنجاز فيه تعدت الـ79 في المائة... بينما تقول لجنة متابعة البرنامج في البرلمان العراقي إن المنجز لم يتعد الـ36 في المائة.
العملية العسكرية الجديدة ضد هذا تنظيم «داعش» أطلق عليها رئيس الوزراء عادل عبد المهدي اسم «إرادة النصر». ولقد بدأت منذ أيام صفحتها الثالثة بهدف مطاردة عناصر «داعش» داخل محافظات ديالى وكركوك ونينوى. ومع إعلان الجيش العراقي تحقيقه «انتصارات كبيرة» على هذا التنظيم، بما في ذلك اختراق منظومته الخاصة، وتجنيد عناصر منه لصالح الجهد الاستخباري العراقي، أعلنت وزارة الدفاع الأميركية (البنتاغون) أن «(داعش) عاود ظهوره في العراق وسوريا».
التقرير الأميركي يقول إنه «رغم خسارته خلافته على المستوى الإقليمي فإن تنظيم (داعش) في العراق وسوريا عزّز قدراته في العراق واستأنف أنشطته في سوريا خلال الربع الحالي من السنة».
تقرير «البنتاغون»
وأضاف تقرير «البنتاغون» أن «التنظيم استطاع توحيد ودعم عمليات في كلا البلدين، والسبب في ذلك يرجع بشكل جزئي إلى كون القوات المسلحة غير قادرة على مواصلة عمليات طويلة الأجل أو شن عمليات متزامنة (في وقت واحد) أو الحفاظ على الأراضي التي استعادها». وفي هذا السياق يقول الدكتور هشام الهاشمي، الخبير المتخصّص بشؤون الجماعات المسلحة لـ«الشرق الأوسط» إنه «رغم أن شبكات فلول (داعش) عادت لتنشط بشكل فاعل في كل من مثلث غرب صلاح الدين وجنوب نينوى وشمال الأنبار، ومثلث شمال شرقي ديالى وشرق صلاح الدين وجنوب كركوك، فإن عودته في غرب العراق تختلف عن عودته في شرق العراق».
ويضيف الهاشمي شارحاً أن «بنيته في غرب العراق يغلب عليهم الطابع العشائري المحلي، على عكس شرق العراق الذي يشكل فيه الفلول من العشائر غير المحلية غالبية واضحة أو قيادة مسيطرة».
ويتابع الهاشمي إن «مقارنـة اعترافات فلول تنظيم (داعش) الذين أُلقِي القبض عليهم خلال عامي 2018 و2019. تظهـر عـلى نحـو جـلي ارتفـاع نسـبة مَن اعترفوا بأن نظرتهـم تجـاه عقيدة ومنهج (داعش) نظرة سـلبية عند فلول غرب العراق، وذلك لأن معظمهم كان انضمامهم لأسباب اقتصادية وليست عقائدية أو دينية فقهية. ويتضـح هـذا الأمـر، عـلى نحـو واضح، لدى جميـع اعترافات الموقوفين أو المسجونين من تلك المناطق». ثم يؤكد الدكتور الهاشمي أن «تطلـع فلول (داعش) إلى كسر الحـدود بين العراق وسوريا، إنمـا يمثـل قمة أهدافها المقبلة، وسـعيها لتأسيس الخلافـة المزعومة التـي تقـوم على أسـاس البيعة لأبو بكر البغدادي. عملياتهم هناك قد تمهّد إلى تخادم الولايات المتحدة كما تخادمت مع الفصائل السلفية في أفغانستان بالضد من السوفيات». ويمضي الهاشمي في شرحه قائلاً إن «العراق بحاجة إلى سـند اسـتراتيجي واضـح. ويبـدو أنـه رغم أن الحكومة العراقية لا تسـتطيع الإقـرار بذلـك صراحـة. فالسند الاسـتراتيجي والعسكري الوحيد والعملي بالنسـبة إليـها هـو التصالح مع الشعب العراقي، حيث إن النصر العسكري الذي تحقق بطــرد (داعش) مــن المناطـق ذات الغالبية الســنّية في غرب وشرق العــراق ضرورة حيويــة، لكــن مجــرد هزيمــة «داعش» عسكرياً لـن تحــدث فرقــاً جذرياً إذا لم تنفذ برامج تمكين الاستقرار وإعادة الإعمار وإنهاء ملف النازحين كما هو مخطط».