تعد المغذيات، مثل النيتروجين والفوسفور والبوتاسيوم، إلى جانب الكالسيوم والكبريت والنحاس والزنك، وغيرها، عناصر ضرورية لنمو النبات وإنتاج الغذاء. وفي حين لا يتمكن المزارعون في بعض أنحاء العالم من الحصول على المغذيات الكافية لإنبات المحاصيل وتوفير الطعام للبطون الجائعة، فإن مناطق أخرى تشهد زيادة مفرطة في استهلاك العناصر المغذية وتسربها إلى البيئة المحيطة، مع ما يسببه ذلك من تلويث لإمدادات المياه وتقويض للنظم الإيكولوجية المهمة.
مشكلة خطيرة ومهملة
يوجد النيتروجين بشكل وفير في الطبيعة، إذ يشكل نحو 78 في المائة من الهواء الذي نتنفسه، وهو في حالته هذه مستقر للغاية، وليست له مضار تذكر على البيئة أو الإنسان. ويختلف الأمر عند إدخال النيتروجين في مركّبات أخرى ناشطة كيميائياً، مثل الأمونيا والنيترات واليوريا، التي يتم إنتاجها صناعياً على شكل أسمدة كيميائية منذ مطلع القرن الماضي.
إن الاختراق الذي حققه الألمانيان فريتز هابر وكارل بوش في صناعة الأسمدة، جعل من الممكن مضاعفة الإنتاج الزراعي مرات عدّة. ومع الوقت، تراجعت الممارسات التقليدية لتحسين إنتاجية الأراضي، التي تشمل مثلاً استخدام السماد الطبيعي الناتج عن تخمير روث الحيوانات، أو زراعة المحاصيل المثبّتة لنيتروجين الهواء، كالبقوليات، أو ببساطة الانتقال إلى قطعة أرض أخرى أكثر خصوبة.
ويقدّر العلماء حالياً أن نحو نصف سكان العالم يعتمدون في غذائهم على محاصيل تم إنتاجها باستخدام الأسمدة الكيميائية، لا سيما الأسمدة النيتروجينية (الأزوتية). على أن هذه الثورة الخضراء التي كان وقودها السماد الكيميائي، لم تكن دون مقابل. والأنشطة البشرية التي تنتج سنوياً نحو 120 مليون طن من مركّبات النيتروجين التفاعلي تخلّف قسماً كبيراً (نحو 80 مليون طن) يلوث الهواء والماء والتربة.
وتعد الزراعة مسؤولة عن ثلثي التلوث النيتروجيني العالمي، فيما يُعزى باقي التلوث إلى مياه الصرف الصحي المنزلي، ونفايات الماشية، وحرق الوقود الأحفوري. ولذلك فإن التعامل مع هذا التلوث يرتبط عادة بإدارة النيتروجين في القطاع الزراعي؛ خصوصاً أن مصادر التلوث الأخرى تندرج ضمن قضايا بيئية أوسع، كإدارة المياه ومواجهة تغيُّر المناخ والحد من تلوث الهواء.
وفي النتائج، لا يقتصر تأثير التلوث النيتروجيني على إلحاق الضرر بالتربة من خلال القضاء على الكتلة الحيوية فيها، واستنزاف خصوبتها وتصحّرها؛ بل يطال إمدادات المياه العالمية ويلوثها بطرق مختلفة كيميائياً وبيولوجياً. الانفجار الطحلبي هو أحد مظاهر التلوث النيتروجيني؛ حيث يتسبب إثراء المياه بالمغذيات في تحفيز النمو السريع للعوالق النباتية التي تستهلك الأكسجين الموجود في الماء، وتقضي بالتالي على الأنواع الحية، مما يتسبب في تشكيل مناطق مائية ميتة.
ويؤثر نضوب الأكسجين، الناجم عن الحمولة الزائدة من المغذيات، على مساحة 240 ألف كيلومتر مربع على مستوى العالم، منها 70 ألف كيلومتر مربع من المياه الداخلية، و170 ألف كيلومتر مربع من المناطق الساحلية. ويبلغ عدد المناطق البحرية الميتة حالياً نحو 400 منطقة عالمياً، من بينها عدة مناطق ميتة بالقرب من شواطئ البلدان العربية، كما في خليج عُمان، وفي البحر الأحمر قبالة مدينة جدة، وفي البحر المتوسط عند مصب نهر النيل وشمال تونس.
كما تتعرض المياه الجوفية للتلوث العالي بالنترات عن طريق الزراعة؛ حيث يصل هذا التلوث إلى مياه الشرب، فيرفع كلفة معالجتها ويعرّض صحة الإنسان للخطر. وتعاني جميع البلدان العربية التي تعتمد في اقتصادها على الزراعة من تلوث مصادرها المائية الجوفية بالنترات، وترتفع كمية النترات في المياه الجوفية في غزة مثلاً إلى 800 مليغرام في اللتر، وهي تفوق الحد الأقصى المسموح به عالمياً في مياه الشرب، وهو 50 مليغراماً.
كما يساهم التلوث النيتروجيني في زيادة الاحتباس الحراري، سواء بشكل غير مباشر نتيجة استهلاك الأسمدة لنحو 1 إلى 2 في المائة من الوقود الأحفوري عند تصنيعها، أو بطريقة مباشرة بفعل تحرر أكسيد النيتروز عن الأسمدة الكيميائية، وهو أحد الغازات الدفيئة، والذي يزيد تأثيره عن 300 ضعف تأثير أكسيد الكربون. ومن ناحية أخرى، فإن خسارة التربة لمحتواها من الكربون العضوي يعني في المقابل ارتفاع نسبة الكربون في الجو.
لهذه الأسباب، يرى كثيرون أن النيتروجين واحد من بين أربع مشكلات جديّة تجاوزها كوكب الأرض، مما قد يؤدي إلى حصول تغيير بيئي مفاجئ لا رجعة عنه. وبينما تحظى مشكلات تغيّر المناخ وإزالة الغابات وفقدان التنوع الحيوي باهتمام عالمي واسع، يجري تجاهل التلوث النيتروجيني وغض النظر عنه؛ خصوصاً في غياب اتفاق دولي أو منظومة عالمية تنسّق جهود مواجهته.
كفاءة استخدام النيتروجين
إن حماس المزارعين لزيادة كمية الغلال التي تنتجها أراضيهم، يجعلهم يفرطون في استخدام مركّبات النيتروجين الاصطناعية. وللمفارقة، فإن هذه المركّبات عادة ما تدمّر التربة بدل أن تثريها. وما يثير الدهشة هو تراجع مردود الأسمدة على النباتات خلال العقود الماضية؛ حيث تراجعت كفاءة استخدام النيتروجين عالمياً من 50 في المائة سنة 1961 إلى نحو 42 في المائة حالياً.
وتشهد قارة آسيا أسوأ أداء في استخدام النيتروجين، إذ انخفضت الكفاءة في الهند من 40 إلى 30 في المائة، أما الأداء الأسوأ فهو في الصين؛ حيث تراجعت الكفاءة من 60 في المائة سنة 1961 لتصل إلى 25 في المائة حالياً. ويقابل ذلك تحسينات متواضعة في كفاءة استخدام النيتروجين في كثير من الدول المتقدمة، إذ حافظت الولايات المتحدة على معدلها الذي يبلغ 68 في المائة طيلة نصف قرن.
هناك سببان لتراجع الكفاءة في الدول الآسيوية، هما توفر الأسمدة الكيميائية بأسعار رخيصة، والتركيب الوراثي لمحاصيل الثورة الخضراء، التي بدأت قبل نصف قرن لتوفير الطعام للأعداد المتزايدة من البشر.
في منتصف القرن العشرين، أنتج باحثون، مثل نورمان بورلوغ، الحائز على «جائزة نوبل»، أنواعاً مختلفة من بذار الحبوب، كالذرة والرز، التي تستجيب بشكل جيد لإضافة الأسمدة. وببساطة، لزيادة نمو هذه المحاصيل يجب على المزارعين نشر مزيد من الأسمدة. لكن مع الإفراط في التسميد يأخذ المردود في التناقص. وبين رخص سعر السماد والرغبة في زيادة الإنتاج إلى أبعد حد، يستمر المزارعون في إضافة مزيد من الأسمدة. نتيجة لذلك، ينشر المزارعون الصينيون في حقولهم ضعفي الكمية التي ينشرها نظراؤهم الأوروبيون.
ويخشى كثيرون أن تسير الدول الأفريقية على خطى الدول الآسيوية. ففي الوقت الحاضر، يستخدم معظم المزارعين الأفارقة كميات قليلة من الأسمدة بسبب محدودية عرض هذه المادة في الأسواق وضعف القوة الشرائية. ولذلك لا يزيد متوسط إنتاجية الحبوب في أفريقيا عن طن واحد لكل هكتار من الأرض، مقارنة بثلاثة أطنان في أغلب الدول الآسيوية، وسبعة أطنان في أوروبا وأميركا الشمالية. وعلى الرغم من محدودية كمية الأسمدة المضافة في أفريقيا، تستفيد المحاصيل منها بشكل جيد؛ حيث تصل كفاءة استخدام النيتروجين إلى 72 في المائة، وهي الأفضل عالمياً.
وبينما تسعى أفريقيا لتوفير الغذاء من خلال ثورة خضراء يؤيدها الجميع، بما فيهم البنك الدولي، ومؤسسة بيل غيتس الخيرية، تتعزز المخاوف من تطبيق السيناريو الآسيوي باستهلاك مزيد من الأسمدة في جميع أرجاء القارة السمراء. ولكن هل تجب التضحية بالجياع لتحسين إدارة النيتروجين العالمي؟
ربما يكون ابتكار أنواع من الغلال تستطيع تثبيت النيتروجين من الهواء ذاتياً أفضل خيار لمواجهة التلوث النيتروجيني، وضمان الأمن الغذائي في آن واحد. وحالياً يجري اختبار كثير من المقاربات للإفادة من السماد بشكل دقيق في المكان والزمان المناسبين، ومن ذلك مثلاً غرس حبيبات أسمدة متدنية الكلفة بالقرب من جذور النباتات، وهي طريقة يجري اختبارها في بنغلاديش، على الرغم من حاجتها الكبيرة لليد العاملة.
وتنطوي التكنولوجيا المتقدمة حالياً على ما بات يعرف باسم «الزراعة الدقيقة»، وهي ممارسة تتضمن اعتماد الحسابات المتقدمة، التي تعمل على تحليل صحة النباتات وظروف التربة وأحوال الطقس المحلية، من أجل توفير برنامج مخصص لكمية وتوقيت استخدام الأسمدة.
إن إصلاح القصور في استخدام الأسمدة ليس أكثر من حل جزئي لمشكلة النيتروجين، إذ تبقى الحاجة إلى جهود عالمية لإدارة روث الحيوانات، ومعالجة مياه الصرف الصحي، وتقليل هدر الطعام، وتغيير نظامنا الغذائي. ولعله تكون هناك حاجة لتشجيع الناس على الاهتمام ببصمتهم النيتروجينية بشكل مماثل لبصمتهم الكربونية.
من الواضح أن الاستخدام غير العقلاني للأسمدة النيتروجينية يستوجب المعالجة الفورية، باعتبارها المصدر الأهم لفائض النيتروجين في البيئة. فهل يكون ذلك من خلال الوصول إلى توافق عالمي لخفض التلوث النيتروجيني، كما جرى في باريس بشأن تغيُّر المناخ؟ إن خفض كمية النيتروجين الفائض إلى النصف بحلول سنة 2050 هدف يمكن تحقيقه، وهو هدف يتجاوز قدرة كوكبنا؛ لكنه قد يجنبنا الأسوأ.