سليمان شنين... إسلامي «معتدل» على رأس البرلمان الجزائري

أثنى على قائد الجيش في أول تصريح بعد اختياره

سليمان شنين... إسلامي «معتدل» على رأس البرلمان الجزائري
TT

سليمان شنين... إسلامي «معتدل» على رأس البرلمان الجزائري

سليمان شنين... إسلامي «معتدل» على رأس البرلمان الجزائري

لم يكن المراقبون الأكثر متابعة للشأن السياسي بالجزائر يتوقعون وصول شخصية إسلامية إلى رئاسة البرلمان، قياساً إلى تمسّك النظام تاريخياً بأن يكون هذا المنصب حكراً على حزب السلطة «جبهة التحرير الوطني».
وحتى في المرة التي قرّر فيها النظام سحب هذا «الامتياز» من «الجبهة»، فإنه عهد بهذا المنصب إلى حزب خرج من ضلعها، هو «التجمع الوطني الديمقراطي»، وذلك إبان العهدة التشريعية 1997 – 2002، ولكن سرعان ما عاد إلى ما يسمّيه الإعلام «الحزب العتيد» كأنه مُلك أبديّ له.

من «بركات» الحراك الشعبي الثائر في الجزائر، المستمر منذ 5 أشهر، أنه دفع السلطة التنفيذية إلى «التنازل» عن «حقها» في تعيين رئيس «المجلس الشعبي الوطني» (الغرفة البرلمانية الأولى، أو غرفة التشريع). وهكذا، اختير «الإسلامي المعتدل» سليمان شنين (54 سنة) الذي ينتمي إلى الحزب «المعتدل» المحسوب على المعارضة الإسلامية، «حركة البناء الوطني» بقيادة وزير السياحة سابقاً عبد القادر بن قرينة.
الرئيس الانتقالي عبد القادر بن صالح، ورئيس الوزراء نور الدين بدوي، في الواقع، يعانيان من الضعف بسبب رفضهما شعبياً، لكونهما ينتميان إلى نظام الرئيس السابق عبد العزيز بوتفليقة. وبالتالي، اضطرت السلطة إلى اختيار شخصية منخرطة في الحراك محاولةً كسب ودّ المتظاهرين، وإرسال إشارات إيجابية تفيد بأنها مستعدة للتغيير الجذري الذي يريده الجزائريون، ولكن بالتدريج. وقرّرت أن يبدأ هذا التغيير من البرلمان.
كل المراقبون يدركون أن التغيير -أو ما يشبه التغيير، في نظر البعض– أتى ويأتي بإرادة «السلطة الفعلية» المتمثلة في قيادة الجيش، الممثلة بدورها في رئيس أركانه، ونائب وزير الدفاع الفريق أحمد قايد صالح. فصالح أضحى الآمر الناهي منذ أزاح بوتفليقة من الحكم، وأدخل أهم رموز نظامه السجن، ومنهم شقيقه الأصغر السعيد.

أشاد بفضل قائد الجيش
لقد فهم سليمان شنين جيداً أن الفضل في وصوله إلى رأس سلطة التشريع، عائد إلى قائد الجيش. ولذا أثنى عليه وعلى المؤسسة العسكرية في أول كلمة ألقاها بعد التزكية التي لقيها من طرف النواب، مع العلم أنه لم يترشح أي من البرلمانيين للمنصب، بمن فيهم أصحاب الغالبية. وقال شنين بهذا الخصوص: «إن الحوار هو السبيل الوحيد للخروج من الأزمة التي تعرفها البلاد. لذلك أدعو جميع القوى السياسية ومنظمات المجتمع المدني والشخصيات الوطنية، للإسهام في مسعى الحوار في ظل احترام النصوص الدستورية، بغية تحقيق حلم الشهداء، وهو بناء جزائر حرة سيدة جديرة بالشعب الجزائري مرفوع الهامة وموفور الكرامة».
وأكَد شنين أن «التوجّه العام للدولة اليوم يتمثل في تنظيم انتخابات رئاسية في أقرب الآجال، وفق الشرعية الدستورية كخيار استراتيجي مهم، يقول فيها الشعب رأيه بكل حرية ورصانة. وتكون هذه الانتخابات خلاصة مسار حوار وطني شامل مقبول عند غالبية الجزائريين، وتُستخرج منه كل آليات تنظيم انتخابات ديمقراطية شفافة». كذلك أشاد الرئيس الجديد للغرفة السفلى للبرلمان بـ«اضطلاع جهاز العدالة بدوره في محاربة الفساد والمفسدين»، مشيراً إلى أن «إصلاح العدالة يتطلب وقتاً أكبر لضمان المحاكمة العادلة».
أيضاً، وجّه شنين تحية خاصة إلى «أفراد الجيش الوطني الشعبي وكذا أفراد مختلف الأسلاك الأمنية، على ما يبذلونه من جهود جبارة، وتضحيات للذود عن الوطن وحماية حدوده، ومحاربة الإرهاب والجريمة المنظمة، وضمان شروط بسط السكينة واستتباب الأمن والطمأنينة في سائر ربوع الوطن». وأضاف أن «الجيش الوطني الشعبي استجاب لتطلعات الشعب، بخصوص محاربة الفساد وبناء ديمقراطية حقيقية وإنعاش الحياة السياسية». وتابع بأن «ثقافة الشعب الجزائري تقوم على السلم والسلام، كما أنها ثقافة نبذ العنف والتفرقة ورفض العنصرية».

«ذئاب السياسة الشباب»
يعدَ شنين من «ذئاب السياسة الشباب»، كما سمّته صحيفة «لوسوار دالجيري» الفرنكفونية، قبل 20 سنة، وجاء إلى العمل السياسي على خلفية الانفتاح السياسي والتعددية الحزبية، التي كرّسها دستور عام 1989. إنه من مواليد الصحراء، التي يُعرف أهلها بالهدوء والرزانة وقلة الاهتمام بالعمل السياسي. واشتغل شنين بالإعلام وسيّر إلى وقت قريب صحيفة عنوانها «الرائد»، ثم إنه أيضاً كاتب صحافي نُشرت له مقالات في الصحافة المحلية والأجنبية. وقبل 10 سنوات أطلق مركزاً للدراسات سمّاه «الرائد»، بيد أنه اضطر إلى التخلّي عنه بسبب مضايقات السلطة التي أبدت استياء من حدة المحاضرات والمناقشات ضدها، التي كان يحتضنها المركز.
لقد عاش شنين أهم محطات نشاطه السياسي عندما كان عضواً بـ«حركة مجتمع السلم» الإسلامية. وفي بداياتها كان ملازماً لمؤسسها ورئيسها الشيخ محفوظ نحناح، حتى وفاته عام 2003. ولكن، بعد انتخاب أبو جرة سلطاني رئيساً للحركة، اندلعت الخلافات بين «أبناء نحناح»، فانشق شنين عن الحزب رفقة مجموعة كبيرة من القياديين، وأسسوا «جبهة التغيير» واختاروا عبد المجيد مناصرة قائداً عليهم. ومجدداً، سرعان ما نشب نزاع بينهم، فغادر بعضهم الحزب الجديد، ومنهم شنين، وأطلقوا عام 2013 «حركة البناء الوطني»، التي وضعته على رأس لائحة مرشحيها بالعاصمة في انتخابات البرلمان لعام 2017. وفي تلك الانتخابات، ترأس شنين الكتلة البرلمانية لثلاثة أحزاب إسلامية متحالفة هي «حركة النهضة» و«جبهة العدالة والتنمية» للشيخ عبد الله جاب الله، إضافة إلى حزبه.
ما عدا نشاط شنين المحلي، فإنه عضو في رابطة «برلمانيون لأجل القدس»، وعضو في العديد من مراكز الأبحاث والهيئات السياسية، بجانب عضويته في اتحاد البرلمانيين العرب.
وهو فور تسنّمه رئاسة البرلمان وُجَهت السهام إليه، وكان من أبرز منتقديه الكاتب الصحافي الناشط في الحراك عبد الوكيل بلام، الذي قال: «إن قبول شنّين برئاسة البرلمان هو طعنة غادرة في ظهر ثورة الشعب. إذ من حيث الشّكل... هذا ليس انتخاباً بل تعييناً لا يُعقل تبريره (كما حاولوا) بكلمة (تنازُل) من طرف أحزاب السلطة للمصلحة الوطنية، فهذه الحَوانيت السياسية لا تعرف هذا الشيء الغريب المُسمّى مصلحة وطنية».
بلام يرى أن «عنجهية السعيد بوتفليقة، (شقيق الرئيس السابق الذي كان نافذاً خلال سنوات حكمه، والمسجون حالياً) أغرقت هذا البرلمان في متاهة مُعَقّدة، زاد في تعميقها هذا الحراك العظيم. ومن ثم لم يعد نوّاب أحزاب السلطة قادرين حتى على ارتشاف قهوة في مقهى (لشدة الغضب الشعبي عليهم)، وفرّ كلّهم من ولاياتهم ليختفوا فجأة في فنادق العاصمة، هروباً من مواجهة المواطنين في الشوارع. وزاد من خوفهم سَجن معظم رؤساء هذه الأحزاب، لتعمّ الفوضى هياكلها فلم يبقَ غير وجه محسوب على المعارضة لتزيين هذا المشهد القبيح». ويستطرد بلام: «أقول محسوب على المعارضة، لأن السيد شنّين الذي يملك جريدة (الرّائد) اليومية، التي لا يقرأها صحافيوها، ما زالت تغرف من ريع الإشهار (الإعلان) الحكومي لحد الساعة، وهذا ما يؤكد علاقاته المشبوهة بدوائرها السابقة» حسب زعمه.

«مؤامرة ضد الحراك»!
ووفق بلام أيضاً، «الحديث عن شنّين يشمل في هذا السياق قيادة حركة النهضة، وُحمّل السيد جاب الله مسؤولية المشاركة في هذه المؤامرة المفضوحة موافقةً أو سكوتاً، وهذا ما يحتّم عليه في الساعات القادمة توضيح موقفه مما وقع. وكان أَولى بهؤلاء ترك البرلمان يغرق في دمائه وتعميق عزلته، لا أن يُلقوا إليه بطوق نجاة مانحين إيّاه فرصة تنفُّس جديدة مقابل لا شيء، حيث لا تتجاوز قيمة هذا المنصب كونها مزيّة رمزية لا أثر لفعلها إلا في توزيع مناصب وامتيازات والسيّارات الفاخرة السوداء. لن ينسى هذا الشعب جريمتهم هذه في حق الحراك المُقدّس، وسنعمل على إنعاش ذاكرته كلما نسي».
من جهة أخرى، يقول أستاذ العلوم السياسية محمد هناد، عن شنين والظرف السياسي الذي يحيط بتوليه رئاسة البرلمان، معلّقاً: «يجب أن ننتبه إلى أن انتخاب رئيس جديد للمجلس الشعبي الوطني، المعطَّل منذ بداية الحراك، لن يحل المشكل لأن المشكل يكمن، أصلاً، في كون المجلس ذاته هيئة فاسدة! أما فيما يخصّ الرئيس الجديد، فهو حديث العهد بالمؤسسة، إذ دخل البرلمان عقب انتخابات مايو (أيار) 2017، ضمن قائمة مشتركة لثلاثة أحزاب إسلامية مجتمعة في كتلة واحدة صغيرة يرأسها هو». ويضيف هناد: «يبدو شنين شخصية محترمة، وقد كانت له مواقف مشرفة داخل المجلس. كما أنه لا ينتمي إلى أحزاب العصابة الأربعة (أحزاب السلطة). لكن ما يلفت الانتباه حقاً هو انتماؤه للمعارضة الإسلامية، كما أنه حراكي منذ البداية، وعضو في (فعاليات قوى التغيير لنصرة خيار الشعب)... فكيف وقع الاختيار عليه؟ علماً بأن انتخابه لم يكن ممكناً إلا بفضل تأييد أحزاب الفئة الضالة، إما لأنها لم تستطع أن تتفق فيما ما بينها على مرشح مشترك وإما لأنها أرادت أن تخرج من دائرة الضوء، لتنصرف إلى النشاط من وراء الستار. لذلك من شأن هذا التأييد أن يشكّل مصدر قلق ما دامت تلك الأحزاب لم تؤيده، بسبب ما تقول إنها ترى فيه من (مواصفات)، بل لاعتبارات، لا شك، أن الأيام القادمة ستكشف عنها».
هناد يعتقد أن «كون رئيس المجلس الجديد ينتمي إلى تنظيم إسلامي، يدعو أيضاً إلى بعض التساؤل، حتى وإن لم يحظَ بتأييد حركة مجتمع السلم، ولا حتى رئيس تنظيم عضو في نفس الكتلة البرلمانية. فهل اختيار الرجل يحمل رسالة سياسية ما وتم على أساس غرض معين يخص إعادة النشاط للمجلس المعطّل منذ مدة تحضيراً لتمرير قوانين تكون السلطة بصدد إعدادها في سياق الانتخابات الرئاسية، التي تريدها أن تتم في أقرب وقت ممكن؟».
أما الكاتب المميّز العربي زواق، فيطرح قضية شنين -الذي يعدَ صديقا له- من زاوية أخرى، إذ يقول: «إلى غاية صبيحة يوم انتخاب السيد سليمان شنين رئيساً للمجلس الشعبي الوطني، لم يخطر بباله هو نفسه، أنه سيصبح نهاية الأربعاء العاشر من يوليو (تموز) 2010 رئيساً لغرفة البرلمان السفلى... والمؤكد كذلك أنه لم يخطر ببال قيادة حزبه أو أي زميل آخر من كل النواب أن زميلهم في الحزب وفي النيابة البرلمانية سيصبح بعد ساعات الرجل الثالث في الدولة، فما الذي حصل حتى يحدث كل هذا الزلزال السياسي خلال ساعات معدودات؟».
ويضيف زواق: «عندما نصف ما حدث بالزلزال، فهذا لا يعني أننا أمام حدث مهم بالفعل، أو أن هناك تغيرات وتداعيات كبرى ستحدث خلال الأيام القادمة تقلب الأوضاع السياسية في البلد رأساً على عقب. فالسيد سليمان، قرأ في أول خطاب له بعد تنصيبه مباشرة، كلاماً كأنه صادر عن كاتب خطابات الفريق أحمد قايد صالح. كما بدا محتوى كلمته مطابقاً للخطابات التي يلقيها علينا بين الفينة والأخرى رئيس الدولة عبد القادر بن صالح... والنتيجة هي أننا رأينا رئيساً جديداً للمجلس الشعبي الوطني، ليس ذلك (الشنين) الذي ظل مشاركاً في مسيرات الحراك منذ اندلاعه إلى الجمعة العشرين».
وحسب زواق، «ما حدث من طرح اسم سليمان شنين كبديل للمطرود معاذ بوشارب، ثم الموافقة عليه وتنصيبه، لا يعني إلا شيئاً واحداً وقراءة واحدة، هو أن هناك جهة عليا ونافذة، أصدرت أوامرها لنواب السلطة، حتى يقبلوا هذا الإسلامي رئيساً لمجلسهم».



لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
TT

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)

يواجه لبنان جملة من التحديات السياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية، خصوصاً في مرحلة التحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة وترخي بثقلها على واقعه الصعب والمعقّد. ولا شك أن أهم هذه التحوّلات سقوط نظام بشّار الأسد في سوريا، وتراجع النفوذ الإيراني الذي كان له الأثر المباشر في الأزمات التي عاشها لبنان خلال السنوات الأخيرة، وهذا فضلاً عن تداعيات الحرب الإسرائيلية وآثارها التدميرية الناشئة عن «جبهة إسناد» لم تخفف من مأساة غزّة والشعب الفلسطيني من جهة، ولم تجنّب لبنان ويلات الخراب من جهة ثانية.

إذا كانت الحرب الإسرائيلية على لبنان قد انتهت إلى اتفاق لوقف إطلاق النار برعاية دولية، وإشراف أميركي ـ فرنسي على تطبيق القرار 1701، فإن مشهد ما بعد رحيل الأسد وحلول سلطة بديلة لم يتكوّن بعد.

وربما سيحتاج الأمر إلى بضعة أشهر لتلمُّس التحدّيات الكبرى، التي تبدأ بالتحدّيات السياسية والتي من المفترض أن تشكّل أولوية لدى أي سلطة جديدة في لبنان. وهنا يرى النائب السابق فارس سُعَيد، رئيس «لقاء سيّدة الجبل»، أنه «مع انهيار الوضعية الإيرانية في لبنان وتراجع وظيفة (حزب الله) الإقليمية والسقوط المدوّي لحكم البعث في دمشق، وهذا إضافة إلى الشغور في رئاسة الجمهورية، يبقى التحدّي الأول في لبنان هو ملء ثغرات الدولة من أجل استقامة المؤسسات الدستورية».

وأردف سُعَيد، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، إلى أنه «بعكس الحال في سوريا، يوجد في لبنان نصّ مرجعي اسمه الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني، وهذا الدستور يجب أن يحترم بما يؤمّن بناء الدولة والانتقال من مرحلة إلى أخرى».

الدستور أولاً

الواقع أنه لا يمكن لمعطيات علاقة متداخلة بين لبنان وسوريا طالت لأكثر من 5 عقود، و«وصاية دمشق» على بيروت ما بين عامَي 1976 و2005 - وصفها بعض معارضي سوريا بـ«الاحتلال» - أن تتبدّل بين ليلة وضحايا على غرار التبدّل المفاجئ والصادم في دمشق. ثم إن حلفاء نظام دمشق الراحل في لبنان ما زالوا يملكون أوراق قوّة، بينها تعطيل الانتخابات الرئاسية منذ 26 شهراً وتقويض كل محاولات بناء الدولة وفتح ورشة الإصلاح.

غير أن المتغيّرات في سوريا، وفي المنطقة، لا بدّ أن تؤسس لواقع لبناني جديد. ووفق النائب السابق سُعَيد: «إذا كان شعارنا في عام 2005 لبنان أولاً، يجب أن يكون العنوان في عام 2024 هو الدستور أولاً»، لافتاً إلى أن «الفارق بين سوريا ولبنان هو أن سوريا لا تملك دستوراً وهي خاضعة فقط للقرار الدولي 2254. في حين بالتجربة اللبنانية يبقى الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني المرجعَين الصالحَين لبناء الدولة، وهذا هو التحدي الأكبر في لبنان».

وشدّد، من ثم، على ضرورة «استكمال بناء المؤسسات الدستورية، خصوصاً في المرحلة الانتقالية التي تمرّ بها سوريا»، وتابع: «وفي حال دخلت سوريا، لا سمح الله، في مرحلة من الفوضى... فنحن لا نريد أن تنتقل هذه الفوضى إلى لبنان».

العودة للحضن العربي

من جهة ثانية، يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة عمّا كان الوضع عليه في العقود السابقة. ولا يُخفي السياسي اللبناني الدكتور خلدون الشريف، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن لبنان «سيتأثّر بالتحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة، وحتميّة انعكاس ما حصل في سوريا على لبنان». ويلفت إلى أن «ما حصل في سوريا أدّى إلى تغيير حقيقي في جيوبوليتيك المنطقة، وسيكون له انعكاسات حتمية، ليس على لبنان فحسب، بل على المشرق العربي والشرق الأوسط برمته أيضاً».

الاستحقاق الرئاسي

في سياق موازٍ، قبل 3 أسابيع من موعد جلسة انتخاب الرئيس التي دعا إليها رئيس مجلس النواب نبيه برّي في التاسع من يناير (كانون الثاني) المقبل، لم تتفق الكتل النيابية حتى الآن على اسم مرشّح واحد يحظى بأكثرية توصله إلى قصر بعبدا.

وهنا، يرى الشريف أنه بقدر أهمية عودة لبنان إلى موقعه الطبيعي في العالم العربي، ثمّة حاجة ماسّة لعودة العرب إلى لبنان، قائلاً: «إعادة لبنان إلى العرب مسألة مهمّة للغاية، شرط ألّا يعادي أي دولة إقليمية عربية... فلدى لبنان والعرب عدوّ واحد هو إسرائيل التي تعتدي على البشر والحجر». وبغض النظر عن حتميّة بناء علاقات سياسية صحيحة ومتكافئة مع سوريا الجديدة، يلفت الشريف إلى أهمية «الدفع للتعاطي معها بإيجابية وانفتاح وفتح حوار مباشر حول موضوع النازحين والشراكة الاقتصادية وتفعيل المصالح المشتركة... ويمكن للبلدين، إذا ما حَسُنت النيّات، أن يشكلّا نموذجاً مميزاً للتعاون والتنافس تحت سقف الشراكة».

يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة

النهوض الاقتصادي

وحقاً، يمثّل الملفّ الاقتصادي عنواناً رئيساً للبنان الجديد؛ إذ إن بناء الاقتصاد القوي يبقى المعيار الأساس لبناء الدولة واستقرارها، وعودتها إلى دورها الطبيعي. وفي لقاء مع «الشرق الأوسط»، قال الوزير السابق محمد شقير، رئيس الهيئات الاقتصادية في لبنان، إن «النهوض الاقتصادي يتطلّب إقرار مجموعة من القوانين والتشريعات التي تستجلب الاستثمارات وتشجّع على استقطاب رؤوس الأموال، على أن يتصدّر الورشة التشريعية قانون الجمارك وقانون ضرائب عصري وقانون الضمان الاجتماعي».

شقير يشدّد على أهمية «إعادة هيكلة القطاع المصرفي؛ إذ لا اقتصاد من دون قطاع مصرفي». ويشير إلى أهمية «ضبط التهريب على كل طول الحدود البحرية والبرّية، علماً بأن هذا الأمر بات أسهل مع سقوط النظام السوري، الذي طالما شكّل عائقاً رئيساً أمام كل محاولات إغلاق المعابر غير الشرعية ووقف التهريب، الذي تسبب بخسائر هائلة في ميزانية الدولة، بالإضافة إلى وضع حدّ للمؤسسات غير الشرعية التي تنافس المؤسسات الشرعية وتؤثر عليها».

نقطة جمارك المصنع اللبنانية على الحدود مع سوريا (آ ف ب)

لبنان ودول الخليج

يُذكر أن الفوضى في الأسواق اللبنانية أدت إلى تراجع قدرات الدولة، ما كان سبباً في الانهيار الاقتصادي والمالي، ولذا يجدد شقير دعوته إلى «وضع حدّ للقطاع الاقتصادي السوري الذي ينشط في لبنان بخلاف الأنظمة والقوانين، والذي أثّر سلباً على النمو، ولا مانع من قوننة ليعمل بطريقة شرعية ووفق القوانين اللبنانية المرعية الإجراء». لكنه يعبّر عن تفاؤله بمستقبل لبنان السياسي والاقتصادي، قائلاً: «لا يمكن للبنان أن ينهض من دون علاقات طيّبة وسليمة مع العالم العربي، خصوصاً دول الخليج... ويجب أن تكون المهمّة الأولى للحكومة الجديدة ترسيخ العلاقات الجيّدة مع دول الخليج العربي، ولا سيما المملكة العربية السعودية التي طالما أمّنت للبنان الدعم السياسي والاقتصادي والمالي».

ضبط السلاح

على صعيد آخر، تشكّل الملفات الأمنية والعسكرية سمة المرحلة المقبلة، بخاصةٍ بعد التزام لبنان فرض سلطة الدولة على كامل أراضيها تطبيقاً للدستور والقرارات الدولية. ويعتبر الخبير العسكري والأمني العميد الركن فادي داوود، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن «تنفيذ القرار 1701 ومراقبة تعاطيها مع مكوّنات المجتمع اللبناني التي تحمل السلاح، هو التحدّي الأكبر أمام المؤسسات العسكرية والأمنية». ويوضح أن «ضبط الحدود والمعابر البرية مع سوريا وإسرائيل مسألة بالغة الدقة، سيما في ظل المستجدات التي تشهدها سوريا، وعدم معرفة القوة التي ستمسك بالأمن على الجانب السوري».

مكافحة المخدِّرات

وبأهمية ضبط الحدود ومنع الاختراق الأمني عبرها، يظل الوضع الداخلي تحت المجهر في ظلّ انتشار السلاح لدى معظم الأحزاب والفئات والمناطق اللبنانية، وهنا يوضح داوود أن «تفلّت السلاح في الداخل يتطلّب خطة أمنية ينفّذها الجيش والأجهزة الأمنية كافة». ويشرح أن «وضع المخيمات الفلسطينية يجب أن يبقى تحت رقابة الدولة ومنع تسرّب السلاح خارجها، إلى حين الحلّ النهائي والدائم لانتشار السلاح والمسلحين في جميع المخيمات»، منبهاً إلى «معضلة أمنية أساسية تتمثّل بمكافحة المخدرات تصنيعاً وترويجاً وتصديراً، سيما وأن هناك مناطق معروفة كانت أشبه بمحميات أمنية لعصابات المخدرات».

حقائق

علاقات لبنان مع سوريا... نصف قرن من الهيمنة

شهدت العلاقات اللبنانية - السورية العديد من المحطات والاستحقاقات، صبّت بمعظمها في مصلحة النظام السوري ومكّنته من إحكام قبضته على كلّ شاردة وواردة. وإذا كان نفوذ دمشق تصاعد منذ دخول جيشها لبنان في عام 1976، فإن جريمة اغتيال الرئيس اللبناني المنتخب رينيه معوض في 22 نوفمبر (تشرين الثاني) 1989 - أي يوم عيد الاستقلال - شكّلت رسالة. واستهدفت الجريمة ليس فقط الرئيس الذي أطلق مرحلة الشروع في تطبيق «اتفاق الطائف»، وبسط سلطة الدولة على كامل أراضيها وحلّ كل الميليشيات المسلّحة وتسليم سلاحها للدولة، بل أيضاً كلّ من كان يحلم ببناء دولة ذات سيادة متحررة من الوصاية. ولكنْ ما إن وُضع «اتفاق الطائف» موضع التنفيذ، بدءاً بوحدانية قرار الدولة، أصرّ حافظ الأسد على استثناء سلاح «حزب الله» والتنظيمات الفلسطينية الموالية لدمشق، بوصفه «سلاح المقاومة لتحرير الأراضي اللبنانية المحتلّة» ولإبقائه عامل توتر يستخدمه عند الضرورة. ثم نسف الأسد «الأب» قرار مجلس الوزراء لعام 1996 القاضي بنشر الجيش اللبناني على الحدود مع إسرائيل، بذريعة رفضه «تحويل الجيش حارساً للحدود الإسرائيلية».بعدها استثمر نظام دمشق انسحاب الجيش الإسرائيلي من المناطق التي كان يحتلها في جنوب لبنان خلال مايو (أيار) 2000، و«جيّرها» لنفسه ليعزّز هيمنته على لبنان. غير أنه فوجئ ببيان مدوٍّ للمطارنة الموارنة برئاسة البطريرك الراحل نصر الله بطرس صفير في سبتمبر (أيلول) 2000، طالب فيه الجيش السوري بالانسحاب من لبنان؛ لأن «دوره انتفى مع جيش الاحتلال الإسرائيلي من جنوب لبنان».مع هذا، قبل شهر من انتهاء ولاية الرئيس إميل لحود، أعلن نظام بشار الأسد رغبته بالتمديد للحود ثلاث سنوات (نصف ولاية جديدة)، ورغم المعارضة النيابية الشديدة التي قادها رئيس الوزراء الراحل رفيق الحريري، مُدِّد للحود بالقوة على وقع تهديد الأسد «الابن» للحريري ووليد جنبلاط «بتحطيم لبنان فوق رأسيهما». وهذه المرة، صُدِم الأسد «الابن» بصدور القرار 1559 عن مجلس الأمن الدولي، الذي يقضي بانتخاب رئيس جديد للبنان، وانسحاب الجيش السوري فوراً، وحلّ كل الميليشيات وتسليم سلاحها للدولة اللبنانية. ولذا، عمل لإقصاء الحريري وقوى المعارضة اللبنانية عن السلطة، وتوِّج هذا الإقصاء بمحاولة اغتيال الوزير مروان حمادة في أكتوبر (تشرين الأول) 2004، ثمّ باغتيال رفيق الحريري يوم 14 فبراير (شباط) 2005، ما فجّر «ثورة الأرز» التي أدت إلى انسحاب الجيش السوري من لبنان يوم 26 أبريل (نيسان)، وتبع ذلك انتخابات نيابية خسرها حلفاء النظام السوري فريق «14 آذار» المناوئ لدمشق.تراجع نفوذ دمشق في لبنان استمر بعد انسحاب جيشها بضغط أميركي مباشر. وتجلّى ذلك في «الحوار الوطني اللبناني»، الذي أفضى إلى اتخاذ قرارات بينها «ترسيم الحدود» اللبنانية السورية، وبناء علاقات دبلوماسية مع سوريا وتبادل السفراء، الأمر الذي قبله بشار الأسد على مضض. وأكمل المسار بقرار إنشاء محكمة دولية لمحاكمة قتلة الحريري وتنظيم السلاح الفلسطيني خارج المخيمات - وطال أساساً التنظيمات المتحالفة مع دمشق وعلى رأسها «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين - القيادة العامة» - وتحرير المعتقلين اللبنانيين في السجون السورية. حرب 6002مع هذا، بعد الحرب الإسرائيلية على لبنان في يوليو (تموز) 2006، التي أعلن «حزب الله» بعدها «الانتصار على إسرائيل»، استعاد النظام السوري بعض نفوذه. وتعزز ذلك بسلسلة اغتيالات طالت خصومه في لبنان من ساسة ومفكّرين وإعلاميين وأمنيين - جميعهم من فريق «14 آذار» - وتوّج بالانقلاب العسكري الذي نفذه «حزب الله» يوم 7 مايو 2008 محتلاً بيروت ومهاجماً الجبل. وأدى هذا التطور إلى «اتفاق الدوحة» الذي منح الحزب وحلفاء دمشق «الثلث المعطِّل» في الحكومة اللبنانية، فمكّنهم من الإمساك بالسلطة.يوم 25 مايو 2008 انتخب قائد الجيش اللبناني ميشال سليمان رئيساً للجمهورية، وفي 13 أغسطس (آب) من العام نفسه عُقدت قمة لبنانية ـ سورية في دمشق، وصدر عنها بيان مشترك، تضمّن بنوداً عدّة أهمها: «بحث مصير المفقودين اللبنانيين في سوريا، وترسيم الحدود، ومراجعة الاتفاقات وإنشاء علاقات دبلوماسية، وتبنّي المبادرة العربية للسلام». ولكن لم يتحقق من مضمون البيان، ومن «الحوار الوطني اللبناني» سوى إقامة سفارات وتبادل السفراء فقط.ختاماً، لم يقتنع النظام السوري في يوم من الأيام بالتعامل مع لبنان كدولة مستقلّة. وحتى في ذروة الحرب السورية، لم يكف عن تعقّب المعارضين السوريين الذي فرّوا إلى لبنان، فجنّد عصابات عملت على خطف العشرات منهم ونقلهم إلى سوريا. كذلك سخّر القضاء اللبناني (خصوصاً المحكمة العسكرية) للتشدد في محاكمة السوريين الذين كانوا في عداد «الجيش السوري الحرّ» والتعامل معهم كإرهابيين.أيضاً، كان للنظام السوري - عبر حلفائه اللبنانيين - الدور البارز في تعطيل الاستحقاقات الدستورية، لا سيما الانتخابات الرئاسية والنيابية وتشكيل الحكومات، بمجرد اكتشاف أن النتائج لن تكون لصالحهم. وعليه، قد يكون انتخاب الرئيس اللبناني في 9 يناير (كانون الثاني) المقبل، الاستحقاق الأول الذي يشهده لبنان من خارج تأثير نظام آل الأسد منذ نصف قرن.